اهداء
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Unknown page
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
Unknown page
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
اهداء
مقدمة
الفصل الأول
Unknown page
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
Unknown page
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
Unknown page
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
دعاء الكروان
دعاء الكروان
تأليف
طه حسين
اهداء
إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
Unknown page
سيدي الأستاذ
أنت أقمت للكروان ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشا متواضعا في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة. تحية خالصة من صديق مخلص.
طه حسين
مقدمة
أتيح لهذه القصة أن تبلغ من نفس شاعرنا العظيم خليل مطران موضع الرضا، فأهدى إلي هذه القصيدة الرائعة، فضلا منه أتقبله فخورا شكورا، وأكره أن أؤثر به نفسي من دون الذين يحبون الشعر الرفيع، بل أكره أن يحملني التواضع الكاذب على إخفاء هذه المكرمة التي إن صورت شيئا فإنما تصور نفسا كريمة وقلبا عطوفا:
دعاء هذا الكروان الذي
خلدته في مسمع الدهر
له صدى في القلب والفكر من
أشهى متاع القلب والفكر
لكنه مشج بترجيعه
Unknown page
لما جرى في ذلك القفر
إذ تسكن البيداء وهنا فما
ينبض إلا مهج السفر
والليل في التيه السحيق المدى
يطبق جفنيه على وزر
والطائر المرتاع في جوه
ينذر بالمأساة في ذعر
يرن إرنان سهام رمت
حيث رمت بالشعل الحمر
أسال أدمعي خطب مطلولة
Unknown page
مقتولة في زهرة العمر
جنى عليها واهم أنه
يثأر للعرض وللطهر
وخامرتني حسرة خامرت
شهود ذاك المصرع النكر
أليس للأرواح في بثها
أواصر من حيث لا تدري
جوهرها فرد وإحساسها
مشترك في النفع والضر
حادثة في ريف مصر جرت
Unknown page
ومثلها في الريف كم يجري
قصت علينا قصصا شائقا
في كلم أنقى من القطر
مسرودة سردا على صفوه
أفعل في النفس من الخمر
يا لغة العرب التي كاشفت
طه بما صانت من السر
من أي روض يجتنى مثل ما
جناه من أزهارك النضر
من أي بحر والمنى دره
Unknown page
يصاد ما صاد من الدر
من أي تبر في غوالي الحلى
يصاغ ما صاغ من التبر
آيات طه نزلت بالهدى
فيم استعارت فتنة السحر
أحدث ما جاءت به طرفة
بديعة في أدب العصر
جلت خيال الشعر في صورة
أغارت الشعر من النثر
الفصل الأول
Unknown page
لم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص، ولكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ابتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر، فتراجع خطوات ثم قال في صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعي قليلا قليلا: ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت: لقد جاوزت ثلثه وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي، فما يدريني لعله يحتاج إلى شيء، قال وقد عاد إلى ثباته وهدوء نفسه واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة: ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة مقدمه إلى آخر الليل، لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أرى من سبقك في خدمتي، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد؛ فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات، قلت: قد أرحت سيدي من هذا الجهد، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم، فليأمر سيدي بما يريد، قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وددت لو استطعت قطعها، ولكني تراجعت حتى لا تبلغني: فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه.
ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في أثره. •••
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما زلت ساهرة أرقب مقدمك وأنتظر نداءك؛ وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك، وأسمع صوتك، وأستجيب لدعائك، ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل، وهدأ الكون، ونامت الحياة، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم، آمنة لا تخاف، صامتة لا تسمع!
إن صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صوتا لروح من هذه الأرواح ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة، وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع، ولا أن يجيب المغيث فيه لمن استغاث.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ادن مني إن كان من أخلاقك الدنو، وأنس إلي إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، واسمع مني وتحدث إلي، وهلم نذكر تلك المأساة التي شهدناها معا، وعجزنا عن أن ندفعها أو نصرف شرها عن تلك النفس الزكية التي أزهقت، وعن هذا الدم البريء الذي سفك.
فلم نزد حينئذ على أن بعثنا صيحات ترددت في ذلك الفضاء العريض لكنها لم تبلغ أذنا ولم تصل إلى قلب، وإنما صعدت إلى السماء على حين هوى ذلك الجسم الجميل الممزق في تلك الحفرة التي أعدت له إعدادا، ثم هيل التراب وسويت الأرض، وأنت تدعو ولا من يستجيب، وأنا أستغيث ولا من يغيث، وامرأة متقدمة في السن قد انتحت ناحية وجلست تذرف دموعها في صمت عميق، ورجل متقدم في السن قد قام غير بعيد يسوي الأرض، ويصب عليها الماء، ويردها كما كانت، ثم ينتحي قليلا ويزيل عن جسمه وثيابه آثار الدم والتراب، ثم يرتفع صوته آمرا أن هلم فقد آن لنا أن نرتحل.
منذ ذلك الوقت تم العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل حتى نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء، ثم نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن نظفر بالثأر، ليكون في ذكرنا إياها وفاء لهذه النفس التي أزهقت، ولهذا الدم الذي سفك، ورضا عن الانتقام وقد ألم بالآثم المجرم ورد الأمر إلى نصابه، وأراح هذه النفس التي ما زالت تطلب الري حتى تظفر بالثأر من الذين اعتدوا عليها.
لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! إنا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعني أقص أطرافا منه على الناس لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن تزهق، والدماء البريئة من أن تراق؟!
الفصل الثاني
Unknown page
لقد بعد صوت الكروان قليلا قليلا حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، واطمأن من حولي كل شيء، فما أسمع إلا هذه الدقات المنتظمة تصدر عن الساعة غير بعيد، وهذه الدقات المضطربة المختلفة تصدر عن هذا القلب الحزين ... وأنا آخذ نفسي بالهدوء لألائم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأنا أنظر إلى هذه الأشياء حولي في الغرفة فأرى ثراء ويسرا، وأرى ترفا وكلفا بالجمال والفن، وأنا أمد عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينا فتعود إلي بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنها لا تخلو من رواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحس شيئا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإني لأرى صورتي مرات ومرات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون!
لقد رأيت صورتي اليوم في غير عين من هذه العيون التي كانت ترمقني مسرعة، ثم تعود إلي مرة أخرى فتثبت في وجهي لا تكاد تنصرف عنه، وكنت كلما رأيت صورتي في هذه العيون يحيط بها الإعجاب والرغبة والشهوات الآثمة لا أنكر ما أرى، ولا أكره ما أجد من الشعور، ولا أرد نفسي عن هذا الغرور الذي يثيره في المرأة إعجاب الناس بها وتهالكهم عليها.
ثم أنا أنهض من مجلسي، وأمشي في غرفتي لحظة غير قصيرة، أذهب فيها وأجيء، وأقف عند ما يملأ هذه الغرفة من أدوات الترف والنعمة، فأطيل النظر إليه لا معجبة ولا مكبرة له، وإنما أسأل نفسي: أأنا صاحبة هذا كله؟ أأنا المالكة لهذا كله؟ أأنا صاحبة هذه الصورة التي تردها إلي المرآة، والتي كانت ترمقها العيون معجبة حين كنت أتناول الشاي في بعض مشاربه عصر اليوم؟!
ثم أنا أفكر غير طويل فإذا أنا أستطيع، وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، أن أمد يدي إلى زر كهربائي قريب، فلا أكاد أمسه حتى يطرق الباب، ولا أكاد أرفع صوتي بالإذن حتى تدخل علي خادم وضيئة، حسنة الشكل، جميلة الزي، ساهرة مهما يتقدم الليل لأني ما زلت ساهرة، ولأنها لا تستطيع أن تأوي إلى مضجعها حتى آذن لها بالنوم.
ثم أنا أمضي إلى هذه النافذة، فلا أكاد أفتحها حتى تمتلئ نفسي روعة وجلالا لهذه الأشجار النائمة، وهذه الأزهار المتأرجة، وهذه الأطيار التي تحلم في ثنايا الغصون، وكل هذا لي ملك خالص لا يشاركني فيه أحد، ولا يزاحمني عليه أحد، أستطيع أن أعبث به إن شئت، ومتى شئت، وكيف شئت، لا يسألني أحد عما أفعل!
فإذا اجتمعت في نفسي صور هذا النعيم كله أحسست راحة وأمنا وثقة، ثم لا ألبث أن أحس شيئا من الكبرياء الغريبة؛ لأني لا ألبث أن أرى صورتي منذ أكثر من عشرين عاما حين كنت صبية بائسة يائسة، قد شوه البؤس واليأس شكلها وألقيا على وجهها غشاء كئيبا من الدمامة والقبح، لا ألبث أن أجد هذا الحزن اللاذع العميق حين أذكر هذه المأساة التي كنت أتحدث بها منذ حين إلى هذا الطائر العزيز، والتي كان يتحدث بها منذ حين إلي هذا الطائر العزيز.
إن في أحداث الحياة وخطوبها لعظات وعبرا! إني لأتحدث الآن إلى نفسي حديثا ما كان يمكن ولا ينتظر أن تتحدث به إلى نفسها تلك الفتاة التي كان الناس يسمونها آمنة، والتي تسمى الآن سعاد لأنه اسم جميل يلائم المألوف من حسن الاختيار والتظرف في الأسماء.
لقد كانت آمنة تلك فتاة بدوية، انحدرت بها وبأختها امرأة من أهل البادية، أو من أهل هذا الريف المصري الذي يشبه البادية؛ لأنه منبث في أطراف الأرض الخصبة مما يلي الصحراء الغربية، أو مما يلي هذه الهضبات التي يسميها أهل مصر الوسطى بالجبل الغربي.
كانت زهرة أم آمنة وأختها هنادي امرأة بدوية ريفية، تقيم في قرية من هذه القرى المعلقة بهذه الهضاب، والتي لا يستقر أهلها فيها إلا ريثما يزيلهم عنها فوج من أفواج الأعراب الذين يقبلون من الصحراء ليتعلموا الاستقرار في الأرض، والحياة في أطراف الريف، ثم يدفعهم فوج آخر فإذا هم يمضون أمامهم مضيا بطيئا، ينتقلون في أناة ومهل من مكان إلى مكان، وهم يتقدمون نحو الأرض المتحضرة دائما حتى يبلغوا حدود البادية أو حدود هذا الريف المتبدي، وإذا هم على شاطئ القناة التي يسمونها البحر، ويزعمون أن يوسف هو الذي احتفرها في الزمن القديم، فإذا أتيح لهم أن يعبروا البحر، فقليل منهم يحتفظ ببداوته، وأكثرهم يفنى في طبقات الزراع ويضيع في عداد الفلاحين.
كانت زهرة أم هاتين الفتاتين تعيش مع زوجها الأعرابي وابنتيها في قرية من هذه القرى، قد اتخذت اسمها في أكبر الظن من بطن من بطون الأعراب أو قبيلة من قبائلهم؛ فقد كانت تسمى «بني وركان» وكان أهل القرية ومن حولها يميلون الألف قليلا ويذهبون بها نحو الياء، فما أسرع ما أصبح سبة وعارا يعاب به أهل القرية، وكيف لا وقد أصبح اسمها «بين الوركين» وما أسرع ما أصبح أهل القرية يستحيون من اسم قريتهم ويكرهون الانتساب إليها، ولا سيما حين كانت تدفعهم حاجة البيع والشراء إلى أن يهبطوا المدن، فقد كان اسم قريتهم لا يذكر إلا أضحك الناس وأجرى على ألسنتهم مزاحا كثيرا ثقيلا، محفظا لنفس البدوي الذي لم يتعود دعابة القرويين وأهل الحضر.
Unknown page
كانت زهرة تعيش مع زوجها وابنتيها عيشة متواضعة هادئة، فيها رخاء معتدل، وفيها عزة بهذه الأسرة الضخمة ذات العدد الكثير التي كانت أمنا تنتسب إليها، ولكن أبانا لم يكن صاحب حشمة ووقار وسيرة حسنة، إنما كان زير نساء يحب الدعابة والمجون، ولا يتحرج مما يتحرج منه الرجل المستقيم، وكانت له في القرية وفي القرى المجاورة خطوب كانت تخيف منه وتخيف عليه.
وكانت أمنا أشقى الناس بهذه الخطوب، تتأذى بها في ذات نفسها - فكم حرقتها الغيرة حين كان زوجها يغيب عنها اليوم الكامل أو الليلة الكاملة - وتشفق منها على زوجها هذا الماجن؛ فقد كانت تحبه على مجونه وفجوره، وكانت تعلم أنه يهيئ لنفسه عداوات خطرة في كل مكان بإلحاحه في المجون والفجور، وتخاف منها على حياة ابنتيها ومستقبلهما وآمالهما في العيش الهنيء.
وإنها لفي ما هي فيه من غيرة وإشفاق وفزع ذات ليلة، إذ جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، ثم يستبين الأمر قليلا قليلا، فإذا الرجل قد ذهب ضحية لشهوة من شهواته الآثمة، فليس له ثأر يطالب به، وليس من سبيل إلى استعداء السلطان على قاتليه، وإنما هو العار كل العار قد ألم بهذه المرأة البائسة وابنتيها التعيستين، وإذا الأسرة كلها تضيق بهؤلاء النساء، تكره مكانهن منها، وتنفيهن عن الأرض، وتزودهن بقليل من المال وكثير من الرحمة، وتكرههن على عبور البحر والاندفاع في أرض الريف يلتمسن حياتهن فيها يائسات شقيات، ليس لهن سند يعتمدن عليه، ولا ركن يأوين إليه؛ وإنما هي امرأة وحيدة لها حظ من جمال يطمع فيها الناس ويغري بها أصحاب المجون، وصبيتان بائستان لا تكادان تحسنان شيئا.
والخطوب تنتقل بهن من قرية إلى قرية، ومن ضيعة إلى ضيعة، يلقين بعض اللين هنا، ويلقين بعض الشدة هناك، ولا تستقر بهن الأرض في أي حال، حتى ينتهين إلى هذه المدينة الواسعة ذات الأطراف البعيدة والسكان الكثيرين، والتي تشقها الطريق الحديدية نصفين، ويمضي فيها هذا الشيء المروع المخيف الغريب الذي يبعث في الجو شررا ونارا، وصوتا ضخما، وصفيرا عاليا نحيفا، والذي يسمونه القطار، الذي يركبه الناس يستعينون به على أسفارهم، كما يستعين أهل البادية والريف بالإبل حينا، وبالحمير حينا آخر، وبالأقدام في أكثر الأحيان.
هنالك في طرف من أطراف هذه المدينة، استقرت هذه المرأة مع الصبيتين، لجأت إلى شيخ البلدة أو إلى شيخ العزبة فآواها يوما، ثم ابتغى لها ولابنتيها حجرة ضيقة حقيرة قذرة قد أقيمت من الطين، فأسكنها فيها على أن تدفع أجرها عشرة قروش كلما بدا الهلال، ثم قال لها شيخ العزبة: ما أكثر العمل هنا! فالتمسي حياتك وحياة ابنتيك في بيوت هؤلاء المترفين الذين لا يعملون في الزرع والحرث، وإنما يعملون في خدمة الحكومة، منهم من يخدم في معامل السكر، ومنهم من يخدم في المركز، ومنهم من يخدم في المحكمة الأهلية أو الشرعية، ومنهم مهندس الري، ومنهم مهندس الطرق، ثم عند هؤلاء التجار الذين لا يتاجرون فيما تخرج الأرض من الحب، فهؤلاء فلاحون أو كالفلاحين، وإنما يتاجرون في هذه الأمتعة والعروض التي لا تأتي من الريف ولا تصنع في المدينة، وإنما تأتي من مصر، هناك حيث الناس لا ينطقون كما ننطق ولا يعيشون كما نعيش.
عند هؤلاء التجار الذين يبيعون الأقمشة والأحذية والأثاث، يجلبونها من مصر ويبيعونها في المدينة وفي القرى، ويربحون منها الأموال الضخمة، ويعيشون في بيوتهم عيشة السادة والأمراء، لا يأكلون على الأرض وإنما يأكلون على الموائد، لا يأكلون الذرة، وإنما يأكلون خبز الحنطة، لا يأكلون في أطباق النحاس، وإنما يأكلون في أطباق من الخزف، لا يسمحون لنسائهم أن يخرجن متبذلات، وإنما يخرجن ملففات في هذه الثياب يتخذنها من الحرير، وعلى وجوههن هذه البراقع الصفاق، وعلى أنوفهن هذه القصبات من الذهب الخالص أو من الفضة المذهبة.
عند هؤلاء الموظفين، وعند هؤلاء التجار تشتد الحاجة إلى الخدم، والحياة في بيوتهم لينة ناعمة؛ فالتمسي لنفسك ولابنتيك بعض العمل في بعض هذه البيوت.
قال ذلك شيخ العزبة، ثم سمى لها أشخاصا ووصف لها بيوتا ووعدها بالمعونة، وانقضت أيام قليلة ولكنها ثقيلة، كانت أمنا تدور فيها بنفسها وبنا على البيوت تعرض نفسها وتعرضنا للخدمة، كما تعرض الإماء على السادة.
ولكن هذه الأيام لم تتصل، وما أسرع ما استقرت كل واحدة منا في بيت تعمل فيه بالنهار، وتنام فيه الليل، ونلتقي آخر الأسبوع، فنقضي ليلة سعيدة رضية في حجرتنا تلك القذرة الحقيرة، قد حملت كل منا ما أتيح لها حمله من الطعام، فنجتمع إلى طعامنا، ونتحدث عن أهلنا وقريتنا، ثم عن سادتنا وسيداتنا، حتى إذا تقدم الليل أغرقنا في نوم هادئ لذيذ، فإذا كان الصباح تفرقنا إلى حيث نعمل في بيوت التجار والموظفين.
الفصل الثالث
Unknown page
وكنت أحسن الثلاث حظا وأيمنهن طالعا، فقد قدر لي أن أخدم في بيت مأمور المركز، وكانت خدمتي غريبة أول الأمر ثقيلة على نفسي، ولكني لم ألبث أن أحببتها ووجدت فيها لذة ومتاعا، كلفت أن أصحب صبية من بنات المأمور كانت تقاربني في السن، ولعلها كانت أكبر مني قليلا.
كنت أرافقها في اللعب على ألا ألعب معها، وأرافقها إلى الكتاب على ألا أتعلم معها، وأرافقها حين يأتي المعلم ليلقي عليها الدرس قبل الغروب على ألا أتلقى الدرس معها.
كنت لها خادما، ألحظها من بعيد، وأجيبها إلى ما تريد، ولا أشاركها في شيء مما تعمل. ولكن «خديجة» كانت حلوة النفس، رضية الخلق، مشرقة الوجه دائما، مبتسمة الثغر دائما، وديعة النفس، رقيقة الحاشية؛ فلم يطل ما كان بينها وبيني من البعد، وإنما أشركتني في لعبها، واختصتني بأحاديثها وآثرتني بأسرارها، ولم تبخل علي حتى ببعض ما كانت تمنحها أمها من الحلوى، أو من النقد لتشتري به الحلوى.
وما هي إلا أن تزول بيننا الكلفة ونصبح رفيقتين صديقتين، وسيدة البيت تنكر ذلك أول الأمر، ولكنها تذعن له بعد حين؛ وإذا أنا أختلف مع الصبية إلى الكتاب فأتعلم كما تتعلم، وأتلقى مع الصبية درس المعلم فأستفيد كما تستفيد، وإذا ثياب الصبية تخلع علي فيقرب ما بينها وبيني من اختلاف الزي، وأختلس نظرات إليها، ثم أختلس نظرات إلى المرآة، فلا أكاد أحس بينها وبيني فرقا ولا اختلافا، لولا أنها كانت تتكلم لغة حلوة عذبة رقيقة هي لغة مصر، وكنت أتكلم لغة فجة خشنة غليظة هي لغة أهل الريف من «بني وركان»، وكنت أقلد في نفسي لغة خديجة فأحسنها وأجيدها، ولكني حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد فردعت عن ذلك ردعا عنيفا، ثم حاولت غير مرة أن أجهر بهذا التقليد حين كنت ألقى أمي وأختي فكانتا تضحكان مني ضحكا يخزيني ويردني إلى لغة الريف.
وأنفقت مع خديجة عاما وعاما لم ألق فيهما بأسا ولم أشك فيهما عناء، وإنما عرفت فيهما الترف والنعيم، وتعلمت فيهما غير قليل مما يعرفه الأغنياء، وبعد فيهما الأمد بعدا شديدا بيني وبين أمي التي كانت تعمل في بيت موظف من موظفي الدائرة السنية، معتدل الحال متوسط العيش، ولكنه أميل إلى حياة الريف، وأحرص على تقاليد الفلاحين، وبعد فيهما الأمد بيني وبين أختي التي كانت تعمل في بيت مهندس الري، ذلك الشاب الرشيق الأنيق ذو الوجه الوسيم، ذلك الشاب الذي كان يعيش وحيدا في دار واسعة، تحيط بها حديقة جميلة نضرة، ولا يعيش معه فيها إلا خادم ريفي، يحرس الدار ويعنى بالحديقة، وإلا أختي تنظف الدار وتعنى بمتاع الشاب، وكان الطعام يأتيه غزيرا موفورا من مطعم المدينة، فيصيب منه القليل، ويترك أكثره لخادميه.
وكنت أرى أختي تشب مسرعة، ويستدير جسمها استدارة حسنة، وتظهر عليها آثار النعمة وآيات من جمال، ولكنها ظلت كما أقبلت من ريفها المتبدي، ريفية بدوية، لا تقرأ ولا تكتب كما كنت أقرأ وأكتب، ولا تحسن من أمور الترف شيئا كما كنت أحسن منها أشياء.
وفي ذات يوم التقينا آخر النهار في حجرتنا تلك الحقيرة القذرة، وكنت قد أخذت أكره هذا اللقاء، وأضيق بهذه الحجرة، وأود لو أعفيت من هذا الاختلاف إليها كل أسبوع، ولو استطعت أن ألقى أمي وأختي من حين إلى حين حيث كانتا تعملان، ولكن أمنا كانت صارمة حازمة ملحة في الصرامة والحزم، لا تغير من عادتها شيئا، فكنا نلتقي آخر الأسبوع دائما، وكانتا تضحكان وتنعمان بهذا اللقاء، وكنت أتكلف معهما الضحك وأتكلف معهما النعيم.
فلما كان ذلك اليوم والتقينا مع المساء، لم أر بشرا ولا ابتساما، ولم أر بهجة ولا اغتباطا، وإنما أحسست صمتا عميقا مريبا، ورأيت وجهين كئيبين مظلمين، وخيل إلي أني أرى دموعا تضطرب في عيني أمنا ولا تستطيع أن تنحدر، وهممت أن أسأل عما أرى، فأعرضت أختي عني إعراضا، وأشارت إلي أمي أن لا تسألي.
وقضينا وقتا طويلا ثقيلا في هذا الهم الممض الذي لم أكن أفهمه ولا أتبين له مصدرا.
ثم انقطع هذا الصمت فجأة بجملة واحدة لم أسمع بعدها شيئا، ولم أصنع بعدها شيئا حتى كان الصباح، صدرت هذه الجملة عن أمنا فوقعت في قلبي موقع الصاعقة، ولقيتها أختي بوجوم غريب، رفعت عينيها إلى السماء، ثم مضت فيما كانت فيه من صمت وحزن وإعراض.
Unknown page
قالت أمنا: إذا كان الغد فسنرتحل عن المدينة المشئومة!
لقد هممت حين سمعت هذه الجملة أن أنكر، وأن أمتنع، وأن أناقش وأجادل، ولكن أمنا قالت هذه الجملة بصوت حزين بعيد محطم، فلم أستطع أن أقول شيئا ولا أن أظهر شيئا إلا الطاعة والإذعان.
وذكرت ما ألم بها من البؤس طول حياتها مع ذلك الزوج الماجن الفاجر، ذكرت ما حرق فؤادها من الغيرة، وما آذى نفسها من الذل، وما روع قلبها من الخوف.
ثم ذكرت ذلك الخطب الذي ألم بها فهدها هدا حين جاءها النبأ بأن زوجها قد صرع، وبأنه قد صرع فيما لا يشرف به صريع.
ثم ذكرت هذه الآلام التي لا حد لها، والتي غمرتها كما يغمر الماء الغريق، حين أنكرتها الأسرة إنكارا، وحين أخرجتها من القرية، ثم نفتها مع ابنتيها من الأرض.
ذكرت هذا فلم أستطع أن أنكر ولا أن أجادل، ولم أزد على أن أظهرت الطاعة والإذعان، والله يعلم أي ليلة قضيت ساهرة حائرة ثائرة، لا أطمئن إلى شيء ولا أسكن إلى رأي، حتى إذا كان الصباح نهضت أمنا فأمرت أن نستعد للرحيل، قلت: أفلا نؤذن سادتنا بهذا الرحيل؟ قالت في صوت هادئ حزين: إن كان يؤذيك فراقهم فأقيمي فسنرحل نحن، قلت باكية: إن فراقهم ليؤذيني لكني لن أستطيع أن أقيم، وإنما هبطت معكما هذه الأرض، وقد كنت أحب أن أرى خديجة قبل الرحيل.
قالت: فإنك إن رأيتها لم تعودي إلينا، أليس أبوها مأمور المركز؟ أفئن تعلقت بك وكرهت فراقك يخل بينك وبين الرحيل؟ قلت: إذن فلنرحل.
وما هي إلا ساعات حتى كانت أقدامنا قد تجاوزت بنا المدينة، وانتقلت بنا من قرية إلى قرية نحو الغرب، حتى إذا بلغ منا الإعياء أقمنا حيث كنا نستريح وننتظر الصباح.
الفصل الرابع
وينتهي إلي صوتك أيها الطائر العزيز، وأنا أسبح في نوم غير عميق، وأرى من الأحلام صورا قريبة مألوفة تمثل لي خديجة وهي تلعب وتدعوني إلى أن أشاركها في اللعب، وتمثل لي سيدة البيت وهي تأمر وتنهى، وتصعد وتهبط، وتذهب في تدبير بيتها وتجيء، وتمثل المأمور وقد أقبل مع الظهر فاضطرب لمقدمه البيت، ثم عاد إلى هدوء يوشك أن يكون السكون، ثم فرغ أهل البيت كلهم لهذا الرجل يعنون به ويتوفرون على خدمته، كأنهم لم يخلقوا إلا له، ولم يوقفوا إلا عليه.
Unknown page
وتمثل لي أمورا كثيرا مما كنت أراه في ذلك العهد السعيد القريب، ولكن صوت الطائر العزيز يبلغني فيخرجني من هذا النوم الحلو إلى يقظة مؤلمة لا أكاد أشعر بها حتى أحس غلظ المضجع وخشونة الفراش، وأين يقع هذا الوطاء الخشن من الصوف قد بسط على الأرض الغليظة بسطا، من ذلك الفراش الوثير الموطأ الذي كان يلقى لي غير بعيد من سرير خديجة في تلك الغرفة الجميلة المترفة من بيت المأمور!
لم أكد أحس بخشونة هذا الوطاء، وغلظ هذه الأرض، حتى ذكرت أننا ننام عند مضيفنا العمدة على سطح من سطوح الدار، لا يسترنا سقف وإنما تظللنا السماء، وتكاد تغمرنا ظلمة الليل لولا هذا الشعاع الرقيق الذي كان يترقرق فيها من ضوء القمر، وقد تقدم به الشهر غير قليل.
نعم! وذكرت كيف انتهينا إلى هذه القرية مجهودات مكدودات آخر النهار، نجلس إلى شجرات من التوت ساعة وبعض ساعة نستريح، لا تكاد واحدة منا تتحدث إلى صاحبتيها بشيء، حتى إذا طال علينا الصمت، وشقت علينا الراحة، وثقل علينا التفكير، قالت أمنا: ما أظن أننا نستطيع أن ننفق الليل جالسات إلى هذا الشجر، وما أرى أننا نستطيع أن نجد من يؤوينا أو يضيفنا في هذه القرية التي لا نعرف من أهلها أحدا ولا يعرفنا من أهلها أحد إلا العمدة، فيجب أن يكون بيته مفتوحا لكل غريب طارق بليل أو نهار، ثم نهضت متثاقلة ونهضنا معها، ومضت متباطئة ومضينا معها، حتى انتهت إلى دار العمدة، لم تسأل عنها ولم تستدل عليها، وإنما مضت إليها كأنما كانت تعرفها من قبل، هنالك رأينا جماعة من الناس قد جلسوا أمام الدار على مصطبة عظيمة، وتوسطهم رجل شيخ لا تكاد العين تقع عليه حتى تثق النفس بأنه عمدة القرية، فلما بلغنا مجلس القوم ولحظتنا أبصارهم، تقدمت أمنا إلى الشيخ الوقور وقالت في صوت هادئ متزن: غريبات قد طرقن القرية في هذه الساعة المتأخرة من النهار فآونا يا عمدة حتى يسفر الصبح. قال الرجل: على الرحب والسعة، ثم دعا فأقبل إليه غلام من داخل الدار، قال: خذ هؤلاء النسوة إلى دار الضيافة ومر بإكرام مثواهن.
ومضى الغلام ونحن نتبعه حتى انتهى بنا إلى دار الضيافة، فإذا بناء متواضع قد انبسط أمامه فناء عظيم، فأدخلنا إلى بعض حجراته وقيل لنا أقمن هنا حتى يأتيكن الطعام.
وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى اتصلنا بمن في الدار من أضياف وخدم، قد اختلط بعضهن ببعض فكأنهن جميعا أصحاب البيت، ثم اتصلت الأحاديث واختلطنا بمن وجدنا، فأمسينا وكأننا منهن.
وكان العشاء الغليظ، وكان السمر المضطرب المختلط، ثم كان التفرق إلى المضاجع، فمنا من آثر الهواء الطلق فاتخذ مضجعه على سطح الدار أو في فنائها، ومنا من أشفق من ذلك فأوى إلى الغرفات والحجرات.
وقد رغبت «هنادي» في السطح وشاركتها في هذه الرغبة ومضينا معا ننتظر النوم، وكنت أحدث نفسي بأن هذه الخلوة إلى أختي قد تكشف لي عن بعض ما يخفى علي من أمر.
ولكني لم أكد أجلس إليها أحاول أن أصل الحديث بينها وبيني حتى لقيتني بذلك الإعراض المثلوج الذي لقيتني به أمس، ثم أشاحت بوجهها ومضت في صمتها، وأقمت أنا إلى جانبها حائرة لا أدري كيف أقول.
ثم استلقيت وأرسلت نفسي في فضاء هذا الليل العريض تلتمس ما يلهيها عن هذه الهموم الغامضة المستغلقة التي لم أكن أعرف منها إلا ثقلها، ولكن هذه النفس لم تكد تمضي في ظلمة الليل حتى أدركها موج من هذا النوم اليسير فأخذت تسبح فيه، ولبثت كذلك حتى أخرجها منه هذا الطائر العزيز.
ذكرت هذا كله حين استيقظت، ومرت بي خواطره مسرعة في حين كنت أحاول أن أتبين أين أنا وكيف انتهيت إلى حيث أنا، وفي حين كنت أفتح عيني وأديرهما من حولي كأنما أريد أن أستكمل شخصي حين أتبين حقيقة المكان الذي أنا فيه، وفي حين كنت أمد ذراعي عن يمين وشمال، وأمد ساقي كأنما أريد أن أستمد لجسمي ما أفقده هذا النوم اليسير من نشاط، وكأنما كنت أمحو عنه ما تركت فيه هذه الأرض الغليظة من ألم.
Unknown page
ثم أستكمل شعوري وأجد نفسي كما كنت قبل أن يغمرني النوم، وأحس كأن شخصا قائما غير بعيد مني، فأتبين هذا الشخص فإذا هي أختي قائمة جامدة لا تكاد تأتي حركة، ولا تكاد تحس شيئا، وكأنها لا تكاد تفكر في شيء.
إنما هو شخص مائل ذاهل قد قام في شيء من الجمود المؤلم، ورفع رأسه إلى السماء كأنه كان ينتظر منها شيئا، وكأنما أبطأ عليه ما كان ينتظر منها فجمد في مكانه لا يستطيع منه انتقالا.
وأنت أيها الطائر العزيز تلقي في الليل العريض المظلم نداءك البعيد العذب، فيصل إلى نفسي فيحييها، ويوقظ فيها الذكرى ويبعث فيها الأمل ويشيع النشاط، وأختي ماثلة ذاهلة كأن صوتك لا يبلغها ولا ينتهي إليها، ومع ذلك فما عهدتها صماء، ولا عهدتها تحسن الحزن أو تجيد الاكتئاب، إنما أعرفها فرحة مرحة، تحب الضحك ولا تحتاج إلى أن تدفع إليه، وإنما تحتاج إلى أن تدفع عنه، أين هي؟ ما بالها جامدة هامدة لا تسمع ولا تحس؟ لعلها قد أرسلت نفسها كما أرسلت نفسي تسبح في هذا الليل العريض فأبعدت نفسها في المسعى وتركت جسمها ماثلا بلا روح.
نهضت من مكاني في هدوء، وسعيت إليها في أناة، حتى إذا بلغتها مسست كتفها مسا رفيقا، فإذا رعشة عنيفة تجري مسرعة في جسمها كأنها رعشة الكهرباء، وإذا هي تجفل كالخائفة، ثم تأمن وتسكن حين تسمع صوتي وأنا أقول لها: لا تراعي، فأنا أختك آمنة، ما وقوفك الآن على هذا النحو ماثلة ذاهبة النفس، كأنك الصنم؟ ماذا تنتظرين من الليل؟ وماذا تبتغين من السماء؟ قالت وقد هوت إلى الأرض كأنها البناء المتهدم وصوتها مضطرب ممزق، يتمزق له قلبي كلما ذكرته: لا أنتظر شيئا ولا أبتغي شيئا ...
ثم عادت الرعشة السريعة فهزت جسمها هزا، ثم انهمرت دموعها انهمارا، ثم احتبس صوتها فإذا هي تضطرب اضطرابا عنيفا، وتسفح دمعا غزيرا، وترسل أنفاسا عنيفة متقطعة، وأنا أجثو إلى جانبها وأضمها إلي وأقبلها، وأحاول أن أرد إليها الهدوء والأمن وسكون النفس ما وسعني ذلك، حتى إذا مضى وقت غير قصير سكن جسمها بعد اضطراب، وانطلقت أنفاسها بعد احتباس، ومضت دموعها تنهمر، وأوت إلى ذراعي كأنها الطفل قد استسلم إلى أمه الرءوم، واطمأن رأسها إلى كتفي، وقضت كذلك لحظة ما نسيت ولن أنسى عذوبتها، وما أرى إلا أنها أحست هذه العذوبة! فقد ثابت إليها نفسها وراجعها رشدها، ولبثت حيث كانت حتى بعد أن سكنت دموعها، كأنما أعجبها مكانها مني، وكأنما وجدت شيئا طالما كانت تتوق إليه فلا تجده ولا تظفر به، ثم سمعتها تقول بصوت خافت بعيد: لقد كنت أحب أن أكون بهذا المكان من أمي لا منك أنت أيتها الأخت الصغيرة؛ فإنك لم تخلقي لتدللي أختك وتمنحيها مثل هذا العطف والحنان.
يا لك من ليل مظلم عريض تضطرب فيه هذه الأضواء الضئيلة البعيدة التي تفنى، ويبسط عليه هذا السكون المخيف ظلالا لا حد لها، ثم يندفع فيه من حين إلى حين صوت هذا الطائر العزيز كأنه سهم مضيء ينطلق في بحر من الظلمات!
كل شيء هادئ مطمئن من حولنا حتى نفس هذه الفتاة التي كانت ثائرة منذ لحظة فقد اطمأنت وسكنت، وانتهت إلى حال تشبه النوم، وإني لآخذ نفسي بالهدوء وأكرهها على الاطمئنان، وألزم جسمي السكون في هذا الوضع الذي هو عليه ليبقى هذا الرأس البائس المحزون مستريحا إلى هذه الكتف الصغيرة الحنون.
ولكن الفتاة ترفع رأسها وتستوي جالسة، ثم تبسط ذارعها فتطوق بها عنقي ثم تضمني إليها، ثم تقبلني، ثم تقول: إياك أن تفعلي ما فعلت أو تخدعي كما خدعت أو تدفعي إلى مثل ما دفعت إليه، إنك إن تفعلي تري نفسك في مثل ما تريني فيه الآن من الجزع والهلع، ومن اليأس حتى من رحمة الله، ومن القنوط حتى من روح الله الذي لا يقنط منه إلا الكافرون.
قلت: وماذا فعلت إذن؟ وما هذا الشر الذي دفعت إليه؟ وما هذا اليأس الذي تغرقين فيه؟ وما هذا الهم الثقيل الذي صب علينا صبا ولم نكن ننتظره ولا نتوقع له مقدما؟ قالت وهي تقبلني: لست أدري أأحدثك بذلك أم أكتمك إياه؛ إني لأعتدي على سنك إن تحدثت إليك: وإني لأعرضك لمثل ما أنا فيه إن كتمتك الحديث.
قلت: فإن صمتك لن يغني الآن شيئا؛ فقد عرفت أن هما ثقيلا ألم بنا، وأن حزنا ممضا يمزق قلبك وقلب أمنا، وأن يأسا مهلكا قد استأثر بنفسك استئثارا، وما أنا بمقلعة عن السؤال والبحث والتفكير حتى أعلم علم هذا كله، وإني لحمقاء إن قبلت أن أنزع من ذلك العيش الناعم السعيد الذي كنت أستمتع به دون أن أعلم لماذا أنزع منه نزعا، فحدثيني حديثك، فمن يدري لعل فيه لي عظة ولك عزاء.
Unknown page
الفصل الخامس
وارتفع الضحى من الغد فإذا ضوءه المتدفق يغمر فتاتين معتنقتين قد أغرقتا في نوم عميق، لا يوقظهما منه حر الشمس المحرقة، ولا مس الأرض الغليظة، ولا اضطراب الدواجن من حولهما وهن يزدحمن على ما ينثر لهن من حب، ويختصمن فيما يصب لهن في الصحاف من ماء، ويخفقن بأجنحتهن في الهواء مقبلات مدبرات، واقعات طائرات، ينادين ويتناجين ويتناغين، قد ملأهن إشراق الصبح مرحا، فملأن الجو حياة ونشاطا وحبا.
وكأن هذا كله كان يدعوني دعاء ملحا من أعماق النوم الذي كنت مغرقة فيه، ويدنيني قليلا قليلا من اليقظة، وإذا أنا أتلقى الحياة دون أن أتمثل الحياة، وأستقبل النشاط دون أن أشعر بالنشاط؛ ثم أحس كأن شيئا خفيفا رشيقا قد مس كتفي مسا يسيرا، فأنتبه، ولا أكاد أفتح عيني وآتي بعض الحركة حتى أرى حمامة مذعورة قد ارتفعت غير مسرفة في الارتفاع، ولم تكد تطير حتى وقعت في رشاقة وظرف غير بعيد، فأستوي جالسة وألقي نظرة إلى أختي وقد ثاب إلي حديثنا كله مرة واحدة فملأ قلبي إشفاقا وحبا وحزنا، وتقع عيني عليها وقد استراح جسمها المتعب، واستقر قلبها المضطرب، وهدأت نفسها الثائرة، وزالت الراحة عن وجهها ذلك الغشاء المظلم الكئيب، فبدت نضرته حلوة مشرقة شائقة، كأنها نضرة الزهر وقد تفتح لضوء الصبح وقطر الندى، وإذا في هذا الوجه الهادئ النضر جمال للعين، وفتنة للعقل، ومتعة للقلب، وإذا أنا أنظر إليه فلا أكاد أحول عيني عنه، مستريحة معجبة مكبرة، ولكني أسمع من ورائي صوتا خافتا يملؤه الحنان والحزن ويقول كأنه يتحدث إلي: انظري ... انظري ... وأطيلي النظر! ألست ترينها حسناء رائعة الحسن؟
فألتفت وإذا أمنا جالسة تنظر إلى الوجه الذي أنظر إليه، وما أشك في أن نفسها كانت تستعرض خواطر كالتي تختلف على نفسي، وفي أن قلبها كان يتأثر بعواطف كتلك التي كانت تملأ قلبي، فأسألها: ما جلوسك هنا في هذه الشمس المحرقة؟ فتجيب: لقد كنت أملأ عيني بمنظركما الجميل ... ثم تنهض مولية في شيء من الإسراع وهي تغالب شجى يريد أن ينفجر، وتحرص هي على أن يظل دفينا.
وأقيم أنا في مكاني ذاهلة أو كالذاهلة، أنظر إلى أختي التي لم تستيقظ بعد، وإلى أمي التي تسرع مولية تريد أن تهبط أسفل الدار، وأفكر في هذه الفتاة اليائسة وفي هذه المرأة البائسة، وأسأل نفسي : أيهما أحق بالعطف وأجدر بالرثاء؟ وأسأل نفسي: أيهما أحق مني بالمعونة والنصر وبالتعزية والتسلية؟ فكلتاهما في حاجة إلى العون، وكلتاهما في حاجة إلى العزاء ...
هذه الفتاة البريئة لم تعرف بؤس النفس قبل الآن، وهي تستقبل الشقاء الآن مظلما قاتما ثقيلا ملحا، لم تدعه ولم تسع إليه، وإنما أكرهت عليه إكراها وأغريت به إغراء، ثم دفعت إليه دفعا، وهي الآن غريق مشرفة على الموت، تريد أن تقاوم وتجاهد الموج ما وسعها الجهاد، لا تجد ما تعتمد عليه أو تتعلق به.
وإنها لفي ذلك إذ ساق القدر إليها من أختها الصغيرة ثمامة تستطيع أن تستمسك بها وتستبقي فضلا من أمل، وحظا من رجاء.
وهذه المرأة التي لم تبلغ الشيخوخة بعد ولكنها قد فرضت على نفسها حياة الشيوخ: حرمان متصل، وانصراف عن كل ما في الحياة من لذة، وإعراض عن كل ما في الحياة من متاع، واكتفاء بما يقيم الأود ولا يدني من الموت، ونظر متصل إلى هذا الماضي القريب الذي يملؤه الحزن ويفعمه الأسى، وتضطرم فيه هذه النيران التي تحرق قلب المرأة حين تحب، فلا يسعفها الحب، ولا تلقى ممن تحب إلا خيانة وخداعا وغدرا.
وإنها لفي ذلك محزونة لأمسها، يائسة من غدها، معرضة عن يومها، وإذا الحياة تتكشف لها عن خطب جديد ثقيل، ليس أقل نكرا ولا أهون أمرا من تلك الخطوب التي بلتها في حياتها الماضية، فهي تنظر وراءها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر أمامها فلا ترى إلا ظلمة، وتنظر عن يمين وشمال فلا تجد عونا ولا نصيرا.
لقد أنكرتها الأسرة وجفاها الأهل ونفتها القرية، وأصبحت وحيدة تعول ابنتين بائستين، وإذا هي تنكب في إحداهما لأمر لا تعلمه وقضاء لم تكن تنتظره، كلتاهما بائسة، وكلتاهما شقية، وكلتاهما خليقة أن تجد من الأخرى ما تحتاج إليه في هذا كله، ولكن هذه النكبة الملمة، والكارثة الملحة قد باعدت بينهما، فالأم محنقة على ابنتها، والفتاة نافرة من أمها، لا يتصل بينهما حديث ولا تثبت عين إحداهما في عين الأخرى، إنما تتفاهمان بالإشارة أو الجمجمة، فإذا التقت أعينهما فما أسرع الإطراق إلى رأسيهما! ثم ما أسرع ما تدعو حاجة مرتجلة منتحلة إحداهما إلى أن تولي مدبرة لتنأى عن صاحبتها فلا يكون بينهما نظر ولا حديث.
Unknown page
هل أستطيع أن أرد ما بينهما إلى طبيعة الصلة بين الأم البائسة والابنة المحزونة؟ بل هل أستطيع أن أعيد الأمر بيننا إلى شيء مما كان عليه قبل هذه الكارثة من هذه المودة السهلة التي لا تكلف فيها ولا تصنع ولا رياء؟ بل هل أستطيع قبل كل شيء أن أعلم أين نحن وإلى أين نمضي، وماذا تريد بنا أمنا هذه التي تأمر وتنهى في لهجة حازمة صارمة وإيجاز مقتصد لا يقبل حوارا ولا جدالا؟ ذلك أجدر أن أفكر فيه، وأحرى أن أسعى إليه، فلأتبعن أمي إذن ولأتلطفن لها، ولأسألنها في أناة ومودة ورفق حتى أعلم علمها، ثم أنظر بعد ذلك فيما آتي، أو فيما يمكن أن نأتي من الأمر.
كل هذه المعاني تضطرب في نفسي، وعيني لا تكاد تفارق هذا الوجه الهادئ الذي يدل هدوءه على أن أختي ما زالت في تلك الأعماق البعيدة التي كنت فيها منذ حين، لم يبلغها ضوء الشمس وحرها، ولم يؤذها مس الأرض وغلظها، ولم يصل إليها اضطراب الدواجن وما تملأ به الجو من نشاط ومرح وصياح.
فأنهض متثاقلة مترفقة حتى أهبط فناء الدار ألتمس أمنا، وما كان أيسر الوصول إليها! فقد اعتزلت غير بعيد من السلم وجلست منحنية تعبث في الأرض بأصابعها عبثا يدل على شيء من الذهول، كأنما كانت تناجي هما ثقيلا أو تتبع خاطرا بعيدا؛ حتى إذا بلغتها مسست رأسها بيدي وسألتها مداعبة: ما هذه اللعبة التي تلعبين؟ وهلا دعوتني لأكون شريكتك في اللعب؟! فإن مثل هذه اللعبة لا تستقيم إذا انفردت بها لاعبة واحدة ...
قالت وقد رفعت إلي رأسا حزينا: أترينني ألعب يا ابنتي؟ قلت: فما عسى أن تفعلي بهذا التراب الذي تذهب فيه أصابعك وتجيء؟
ثم أنهضتها فلم تمتنع علي، ومضيت بها إلى ناحية من الفناء لا يكثر فيها اضطراب الأضياف، ونظرت إليها فإذا هي تنقاد إلي مستسلمة، وإذا حزنها العميق وحنانها القوي قد فاضا على وجهها الشاحب فألقيا عليه مثل وداعة الأطفال.
هنالك أحسست من نفسي قوة، وشعرت كأني أنا الأم «زهرة» وكأنها هي الفتاة «آمنة»، فاتخذت صوتها ولهجتها وألقيت عليها في غير تكلف هذه الأسئلة: ماذا تريدين؟ وماذا تصنعين؟ وأين تذهبين بنا؟
قالت وقد انحدرت دموعها: لا أصنع شيئا، ولا أدري أين أذهب بكما، وإنما أريد أن أنأى بكما عن هذه المدينة الموبوءة، قلت: ولكن إلى أين؟ قالت: سنرى، قلت: ومتى نرى؟ قالت: لا أدري، قلت: فقد ينبغي أن تدري؛ فما يحسن بثلاث من النساء أن يهمن في الريف على وجوههن، تلفظهن قرية وتتلقاهن قرية أخرى، يؤويهن هذا العمدة وقد يردهن ذاك، قالت: فبماذا تشيرين؟ قلت: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين تلك الدور التي كنا نحيا فيها حياة أمن وهدوء ...
وهنا أخذتها رعدة قوية وقالت في غضب وحدة: أي أمن وأي هدوء! إنك إذن لم تعلمي، قلت: بل علمت، قالت: وقد اجترأت البائسة على أن تلقي إليك هذا الحديث! ألم يكفها ما اقترفت من الإثم، وما انغمست فيه من الدنس حتى أرادت أن تكوني لها شريكة! قلت في رفق: دعيها وما هي فيه الآن وعودي بنا إلى ما كنا فيه: أما إذ كرهت المدينة وباعدت بيننا وبين ما كنا نستعين به على الحياة من عمل، فإني أرى أن نلتمس العمل في قرية من هذه القرى عند غني من هؤلاء الأغنياء، قالت: لقد فكرت في هذا، ولكني أرى أن ليس إليه من سبيل! فإن المرأة لا تستطيع أن تعيش ولا أن تأمن، ولا أن تستقيم أمورها إذا لم يحمها أب أو أخ أو زوج، قلت: فليس لنا أب ولا أخ ولا زوج! قالت: بل لنا من يحمينا، وقريتنا التي نفينا عنها أحق بنا ونحن أجدر أن نعود إليها، ولئن بلغناها ليعلمن الذين جفونا ونفونا أن من العار أن تنفي الأسر نساءها وكرائمها! فالمرأة عورة يجب أن تستر ، وحرمة يجب أن ترعى، وعرض يجب أن يصان.
قلت: فأنت تريدين إذن أن تعودي إلى تلك الحياة البائسة التعسة التي كنت تحيينها بين قوم لا ينظرون إليك إلا شزرا، ولا يعطفون عليك إلا كرها، ولا يتحدثون عنك إلا في سخرية، ورحمة شر من السخرية؟! قالت: نعم! فكل هذا أهون مما لقينا، وكل هذا أهون مما يمكن أن نلقى إن مضينا في هذه الحياة الهائمة التي لم نخلق لها ولم تخلق لنا، ولقد انقطعت تلك الأسباب التي كانت تدعو إلى جفاء الأسرة وإعراض ذوي القربى وسخر الأعداء ورثاء الأصدقاء، لقد انقطعت تلك الأسباب وبعد بها العهد، ولئن بلغنا قريتنا ليذكرن الناس بعض أمرنا حينا من الدهر، ثم لا يلبثون أن ينسوه وأن ينسونا، ولا نلبث نحن أن ننغمس في حياتنا الأولى ونعيش بين أهلنا بائسات، ولكن آمنات ...
قلت: وتريدين أن نبلغ هذه القرية ساعيات على أقدامنا، نتنقل من ريف إلى ريف، ونستضيف هذا يوما وذاك ليلة، وقد أعجلتنا بالرحيل عن كل أمرنا، فتركنا متاعنا وما اجتمع لنا عند من كنا نعمل عندهم! قالت: سترين، فلن ينالكما جهد، ولن يمس حياءكما أذى، سنقيم هنا حتى يأتي من يحملنا إلى قريتنا ويبلغنا مأمننا بين الأهل والأصدقاء.
Unknown page