251

Diwan

ديوان عبد الرحمن شكري

Genres

وجاء بسمارك في ألمانيا فأتم تأليف وحدتها بعد أن شاعت في ولاياتها مصنفات ليسنغ وهردر وجيتى وشيلر وهيني ورفقائهم، فكان الألمانيون أمة ذات أدب واحد قبل أن يكونوا أمة ذات دستور واحد.

وأقرب من ذلك شاهد إلينا، الدولتان الأموية والعباسية، بل أقرب منهما هذا الذي نشاهده من إقبال ناشئة مصر على الأدب واشتغالها بصوغ الشعر وحفظه، فإنه - ولا شك - عنوان النهضة المرجوة لمصر، ودليل على تفتق الأذهان وسريان النبض في مركز الشعور. وفي الأمة نفر ممن يتعاطون صناعة الطب الاجتماعي يزعمون أن البلد في غنى عن الأدب، وأنه ليس بحاجة إلى غير مباحث الاقتصاد وما شاكلها. قالوا ذلك؛ لأن الثروة قوت الأمة، ومصر لا تنتفع إلا بقوتها ولا يمرأها الدم في شرايينها، وهو قول - كما يرى القارئ في حديث الطب - يقضي بأن لا يجوز الكلام مع الممعود في غير الأطعمة الدسمة والكينا وسلفات الصودا ... ولا غرابة فالطب تجارب!

على أن كثرة الكلام في المال ليست هي التي توجد المال متى كانت الهمم راكدة والنفوس باردة.

فالشعر لا تنحصر مزيته في الفكاهة العاجلة والترفيه عن الخواطر، لا، بل ولا في تهذيب الأخلاق وتلطيف الإحساسات، ولكنه يعين الأمة أيضا في حياتها المادية والسياسية، وإن لم ترد فيه كلمة عن الاقتصاد والاجتماع، فإنما هو كيف كانت موضوعاته وأبوابه مظهر من مظاهر الشعور النفساني، ولن تذهب حركة في النفس بغير أثر ظاهر في العالم الخارجي.

خدع بعض الباحثين ولا سيما من كان منهم من علماء الطبيعيات، فقالوا: إن الناس اليوم في دور العلم والتحقيق، وإن آباءنا كانوا ينظرون إلى العالم بعين الشعر أيام الجاهليات الأولى، وكان يحيرهم في تلك الأزمات المظلمة ما يدركونه الآن من أسرار الطبيعة وخفايا نواميسها، فيذهبون في تأويلها مذاهب الحدس والتخيل، وإنما غشيت أصحابنا العلماء مادية العصر فرأوا ذلك الرأي، ولست أدري كيف يخطر لأولئك العلماء الجهلاء أنه يجيء يوم على الإنسان يقف فيه جامدا بين يدي هذا الوجود مهما حصل من العلم وأحاط بأسراره، وهل يؤثر علم النباتي العارف بأجزاء الأشجار على خيشومه وبصره فلا يدعه يتنشق رائحتها ويبتهج بألوانها؟ وهل علمي بنواميس الطبيعة يعصمني من الانفعال بمؤثراتها ويذود عني الخوف مما يدعو فيها إلى الخوف ، أو الطرب إلى ما يطرب من بدائع مشاهدها؟

اللهم إنه علم يفقد الإنسان حواسه، ويا لله ما أضعف الإنسانية! فإن الفرد منها لتملكه العاطفة، فلا يكاد يبصر إلا بنورها أو يسمع إلا بصوتها، وإن الإنسانية بأسرها لتغلب عليها حالة من الأحوال الطارئة في بعض الأجيال، فلا تكاد تتوهم أنها تنتقل من تلك الحالة إلى سواها. ظهرت أميركا بمناجمها، واخترعت الآلات التي تصنع الواحدة منها صنع الألوف من العمال، وأعلنت الحرية فألقي حمل كل طبقة على عاتقها، وتوجهت الطبقات المختلفة إلى العمل لنفسها والسعي في طلب رزقها، فحدث من جراء ذلك جميعها تهافت غير مألوف على الذهب، فما هي إلا سنوات مضت في مقدمات هذه الزوبعة قد ملأت الدنيا غبارا، ثم أصبحنا لا نسمع إلا سياسة المال وعلم المال وقوة المال وعصر المال. نسي الناس كل شيء إلا أنهم في عصر المال، ونسوا أيضا أن الإنسان لم ينفض عنه في عصر المال عنصره القديم، وأنه إن كان قد انتقل من فترة إلى فترة، فإنه لا يزال في مكانه من الطبيعة، ولا يزال يهتز بنبراتها ويجري مع طياراتها. ولسوف يمضي عصر المال هذا فلا تسمع عنه الأجيال القادمة إلا كما نسمع نحن عن أخبار العصور الخالية، وكذلك لا يبقى إلى الأبد إلا الأبد نفسه.

أقول ذلك ولا أعني بما قلت كل الشعر، ولكني عنيت منه المطبوع الأصيل؛ إذ ليس لشعر التقليد فائدة قط، وقل أن يتجاوز أثره القرطاس الذي يكتب فيه، أو المنبر الذي يلقى عليه، وشتان بين كلام هو قطعة من نفس، وكلام هو رقعة من طرس.

فالشاعر العبقري معانيه بناته، فهن من لحمه ودمه، وأما الشاعر المقلد فمعانيه ربيباته، فهن غريبات عنه وإن دعاهن باسمه. ولا يثمر شعر هذا الشاعر مهما أتقن التقليد، كالوردة المصنوعة يبالغ الصانع في تنميقها، ويصبغها أحسن صبغة، ثم يرشها بعطر الورد فيشم منها عبق الوردة، ويرى لها لونها ورواؤها، ولكنها عقيمة لا تنبت شجرا ولا تخرج شهدا، وتبقى بعد هذا الإتقان في المحاجر زخرفا باطلا .

ألا وإن خير الشعر المطبوع ما ناجى العواطف على اختلافها، وبث الحياة في أجزاء النفس بأجمعها كشعر هذا الديوان. •••

فإذا تلقى قراء العربية اليوم هذا الجزء الثاني من ديوان شكري، فإنما يتلقون صفحات جمعت من الشعر أفانين، قد سمح بها قلم سخي وقريحة خصبة.

Unknown page