فذلك ما لا فخر فيه لإنسان على إنسان، وأحسب لو أن الناس كلهم كانوا فجرة خسرة، وكان لا يجوز منهم إلى فردوس الأبرار إلا رجل واحد، لكان هذا الرجل التقي أشد عذابا بتقواه وأسوأ جزاء من كل جناة الجحيم وعصاته. وكأني بذلك الرجل، وقد طاف في الجنة حتى بليت نعلاه، ثم نظر إلى ما حوله نظرة الكاره الزاهد، فطرح بنفسه في الكوثر هربا من هذا النعيم الأعجم، أو صاح بهم ليحملوه إلى جهنم، فيصلى النار فيها وهو واجد من يقول له: إن عذاب النار أليم، خير من أن يبقى في جنة لا يرى فيها من يقول له: ما أرغد هذا النعيم!
ويقيني أنه لو نزع الحسد من الناس يوما ما، لاشتراه أولو النعمة وفرقوه على الناس مجانا ليحسدوهم على ما بهم من نعمة؛ فإن السعادة أنثى لا يكتمل سرورها حتى تستجلي مثالها في المرآة، وسواء لديها أكان رافع تلك المرآة لها شانئا حسودا أو صديقا مخلصا، ومن أجل ذلك يرتاح العاشق إلى من يناجيه بأسرار حبيبه ونكايات عذوله، ويحيط الغني مجلسه بحاشية ينفق عليها لتقول له إنه رب عيشة راضية، وهناءة محسودة.
ولا تصدق أن أحدا يصل به احتقار الناس أن لا يبالي بهم قاطبة، ولكنه ربما احتقر جيلا منهم وهو ينتظر النصفة من جيل سواه، أو يهزأ بالفئة التي يعاشرها، ولكنه يعتقد أن هناك فئة لو لقيته ولقيها لأرضته وأرضاها، وإلا فلو احتقر المرء ما مضى من الناس وما سيجيء منهم، لما كلف نفسه مشقة أن يقول ذلك بلسانه.
كذلك خلق الإنسان عضوا من جسم تدب حياته في عروقه، فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والتخلي عن عاطفته النوعية ما دام داخلا في اسم الجنس الذي يشمل الإنسان بأجمعه.
فإذا كان هذا شأن التعاطف، فاعلم أن الشعر شيء لا غنى عنه، وأنه باق ما بقيت الحياة، وإن تغيرت أساليبه، وتناسخت أوزانه وأعاريضه.
وإذا كان الناس في عهد من عهودهم الماضية في حاجة إلى الشعر، فهم الآن أحوج ما يكونون إليه؛ فقد باتت النفوس خواء من جلال العقائد وجمالها، وخلا جانب من القلوب كانت تعمره، فإن لم تخلفها عليه خيالات الشعر وأحلامه، كسر اليأس القلوب، وحطمتها رجة الشك واضطراب الحيلة. وها هو القرطاس القديم بين أيدي الشعراء، فليخطوا فيه رسم الفردوس الجديد، وليجعلوه في الأرض أو في السماء، وليكن معاده المثل الأعلى، أو خلود الذكر، أو وحدة الإخاء؛ فإن الإنسانية لا تعيش بغير رجاء.
هذا ولو أن ما ألمحنا إليه من تعاطف الأرواح وتآلف المشارب، كان أول ما يستفاد من الشعر وآخره، لما كان الشعر جديرا بالعناية من عصر المادة الذي نحن فيه، ولكن ثمرة الشعر على ما بها من النعومة والجزالة، وما لها من ذكاء المشم وحلاوة الطعم، تشبع المعدة وتملأ الفم، ولو أمكن إرجاع كل حركة إلى مصدرها الأول من النفس، لما عسر علينا حساب فضل الشعر بالدرهم والدينار، وإحصاء قواه المعنوية بما تحصى به قوة الكهرباء والبخار.
فمما لا مشاحة فيه أن كل نهضة من النهضات التي تشحذ عزائم الأمم وتحدوها في نهج النماء والثراء، لا تكون إلا بعد فترة يتيقظ فيها الشعور، وتتحرك العواطف، وتعتلج نوايا النفوس ومنازعها، وفي هذه الفترة ينبع أعاظم الشعراء وتظهر أنفس مبتكرات الأدب، وما الشعر من تلك العواطف إلا مناطها الذي تتعلق به، بل هو ناقوسها المنبه لها، وحاديها الذي يأخذ بزمام ركبها.
وهذه إنكلترا نهضت في تاريخها نهضتين بلغت في كلتيهما أسمى ما تحلم به أمة من العظمة والمجد؛ كانت أولاهما في القرن السابع عشر؛ أي عقب ازدهار الأدب الإنكليزي في عهد شكسبير، فتحركت في ذلك القرن عوامل الحياة في الأمة الإنكليزية، ووضع عهدئذ أساس إنكلترا الجديدة، وها هي الآن في إبان نهضتها الثانية تقبض على صولجان الدنيا، وتطالب كل فئة منها بقسطها من الحياة والعمل. وما جاءت نهضتها هذه إلا مسبوقة بنهضة أدبية كبرى، ظهرت في أثنائها أكبر الأسماء المعروفة في الأدب الإنكليزي، وأعني بهم أمثال: شلي وبيرون وسكوت وكيتس ووردزورث وكولوردج وسوذي وماكولي، وغيرهم ممن لم يقرضوا الشعر ولكنهم كتبوا في النقد والأدب.
وهذا شبيه بما حدث في فرنسا، فإن جمهوريتها ليست إلا نفحة من نفحات تلك النهضة الأدبية التي كان يشرف عليها لويس الرابع عشر، وما كان يدري ذلك الملك المتجبر، وهو يمد يديه بالحباء إلى زعماء تلك النهضة، أنه يزلزل بيديه قوائم العرش الذي يجلس عليه، ومن حقق تاريخ القرن الثامن عشر في فرنسا ولم ير في ثورته يدا لكورنيل وراسين وموليير وبوالو وشينيه وأمثالهم، فهو قاصر النظر، ومثله في ذلك كمثل من تقول له: إن المد والجزر من فعل القمر، فيقول لك: أين السماء من الماء؟! ثم تتابعت بعد ذلك ثورات كان يقوم على رأس كل ثورة منها رجال من أهل الخيال، الذين يظن بعض كتاب التاريخ أنهم أبعد الناس عن التأثير في عالم الجد، وقد جهلوا أن الأمم تدأب في حياتها بين عاملي الحاجة والأمل. فإن كانت المادة تحكم حيز الحاجة من نفوسها، فالخيال صاحب السلطان على حيز الأمل، وهو أشد العاملين حثا وأعذبهما نداء.
Unknown page