ولو طبقنا هذا المبدأ على أفعال الإنسان الإرادية وعلى عملياته العقلية، وجدنا ألا خلاف بيننا على معنى «الجبر» أو «الضرورة» حين نستعمل هذه الكلمة في هذا المجال، وأنه إذا كان بيننا خلاف فهو على معنى كلمات كهذه ، لا على الموضوع نفسه الذي أطلقت عليه تلك الكلمات.
69
ففيما يختص باطراد الوقوع في الحوادث المتشابهة، نلاحظ بين الناس اتفاقا عاما على أن الأفعال الإنسانية فيها اطراد إلى حد كبير، مهما اختلف الزمان الذي عاش فيه الإنسان، أو اختلفت الأمة التي ينتسب إليها؛ إذ الطبيعة الإنسانية تظل على حالها من حيث المبادئ وطرائق السلوك؛ فدوافع معينة تؤدي دائما إلى أفعال معينة؛ وحوادث معينة تتبع دائما أسبابا معينة؛ فالطموح والجشع وحب النفس والغرور والصداقة والكرم والإيثار ... هذه كلها عواطف يمتزج بعضها ببعض بدرجات متفاوتة وتنتشر في أفراد المجتمع وتصبح - كما كانت منذ نشأة الإنسان - هي الدوافع التي تدفع الناس إلى السلوك الذي يسلكون؛ فهل تريد - مثلا - أن تعرف شيئا عن اليونان أو الرومان من حيث عواطفهم وميولهم ومجرى حياتهم؟ إذن فأمعن النظر في هذه الجوانب عند الفرنسيين اليوم أو الإنجليز؛ ولن تزل في خطأ كبير إذا ما نسبت لأولئك معظم ما قد شاهدته في هؤلاء؛ فبنو الإنسان على مقدار كبير جدا من التشابه؛ بغض النظر عن مكانهم وزمانهم، حتى ليكاد التاريخ لا يحدثنا بشيء جديد في هذا الصدد، والفائدة الرئيسية التي نستفيدها من دراسته هي اكتشافنا لمبادئ الطبيعة البشرية وإنها لمبادئ تعم وتطرد؛ وذلك بأن نستعرض الناس في شتى صنوف المواقف والظروف فندرك إلى أي حد تتشابه أفعال الإنسان وسلوكه إذا ما تشابهت الدوافع؛ فلا فرق بين العالم حين يستدل علمه بالنبات أو المعادن أو غيرهما مما يشاهده في أشياء الطبيعة، وبين السياسي أو الأخلاقي حين يستدل سلوك الإنسان مما يطالعه به التاريخ عن الأسلاف في حروبهم ودسائسهم وانقساماتهم وثوراتهم، فالتراب والماء وغيرهما من عناصر الطبيعة التي بحثها أرسطو وهبقراط من فلاسفة اليونان وعلمائهم، ليست بأشد شبها بما نراه اليوم من هذه العناصر نفسها، أقول إنها ليست بأشد شبها مما بين رجال الأمس كما وصفهم «يوليبيوس» و«تاسيتوس» وبين رجال اليوم؛ فلئن احتفظت عناصر الطبيعة بخصائصها فكذلك يحتفظ الإنسان بخصائصه.
70
إنه لو عاد إلينا رحالة من رحلة له في بلد بعيد ، ليقص علينا من أنباء الناس هناك ما يجعلهم على أتم اختلاف عن الناس كما ألفناهم، فيروي عنهم - مثلا - أنهم ناس خلت طبيعتهم خلوا تاما من الجشع والطموح والانتقام، لا يعرفون من ألوان المتعة إلا متعة الصداقة وكرم النفس والإيثار، لحكمنا من فورنا على مثل هذا الرحالة بالكذب، كما نحكم بالكذب على من يزعم لنا إنه وجد هناك الغيلان والوحوش الخرافية التي تنفث اللهب وما إلى ذلك؛ فلو أردت أن تكذب خبرا رواه لك التاريخ، فليس لديك حجة أقوى من أن تقيم البرهان على أن سلوك الناس كما يصفهم هذا التاريخ الذي تعارضه، يختلف عما تجري به الطبيعة البشرية، افتراضا منك بأن للإنسان طبيعة ثابتة دائمة، يؤدي فيها الدافع المعين إلى نوع معين من السلوك؛
71
ولو لم يكن سلوك الإنسان مطردا - اطراد الظواهر الطبيعة - لاستحال علينا أن نحكم على أحد، لأن خبراتنا الماضية عندئذ لا تجدي شيئا في توقع ما سيكون عليه سلوك الناس في المواقف المقبلة؛ لكننا نتعلم بالخبرة شيئا كثيرا عن طبيعة الإنسان، وذلك لاطراد تلك الطبيعة وثباتها، تماما كما يتعلم المزارع من خبرته الماضية في فلاحة أرضه، لاطراد فعل الشمس والمطر والتربة في إنبات الزرع.
غير أنه لا يجوز لنا أن نفترض بأن هذا الاطراد في أفعال الإنسان عندما تتشابه الظروف اطراد شامل كامل لا ينحرف قيد أنملة عن خطه المرسوم؛ دون أن نحسب حسابا لتنوع الشخصيات الإنسانية في ردها على مؤثرات البيئة؛ فمثل هذا الاطراد الذي لا ينحرف قيد شعرة في أية تفصيلة من التفصيلات، لا وجود له في الطبيعة بأسرها؛ فنحن إذ نلاحظ سلوك الناس، إنما نلاحظ تنوعا في سلوكهم حتى في الظروف المتشابهة، فننتهي من ذلك إلى مجموعة من مبادئ تجرى على نسقها أفعال الناس، بدل أن ننتهي إلى مبدأ واحد؛ لكن هذه المبادئ الكثيرة المنوعة التي ننتهي إليها، هي في حد ذاتها دليل على أن الطبائع البشرية على درجة من الاطراد تسمح لنا باستخراج تلك المبادئ، ولو كانت تلك الطبائع من التنوع بحيث تخلو من كل اطراد، لاستحال علينا أن نفهم حالة على أساس فهمنا لحالة أخرى.
إننا - مثلا - نلاحظ اختلافا في سلوك الناس باختلاف عصورهم وبلادهم فهل نستنتج من ذلك ألا اطراد؟ كلا، بل نستنتج قاعدة عامة عن أثر العادة والتربية في تشكيل سلوك الإنسان؛ وكذلك لو لاحظنا اختلافا بين سلوك الرجل وسلوك المرأة في الظروف المتشابهة، أو لاحظنا اختلافا في سلوك الفرد الواحد في مراحل عمره المختلفة، فذلك كله أدعى إلى استخراج القواعد العامة منه إلى الظن بأن الأمر فوضى يجري على غير قاعدة؛ وإذا لم يكن في شخصية الفرد الواحد اطراد، لتعذر علينا أن نعامل الناس، فأنت في تعاملك مع زيد من الناس أو عمرو، ترجح لمن تعامله صورة معينة في سلوكه تتصرف معه على أساسها، فإن كان بخيلا أو كريما، شجاعا أو جبانا، علمت أنه سيظل على بخله أو كرمه، وعلى شجاعته أو جبنه، لأنك تفرض فيه ما تفرضه في ظواهر الطبيعة نفسها من ثبات على طبيعة واحدة.
نعم إنه لا شك في أن بعض أفعال الإنسان يجيء وكأنما هو مقطوع الصلة بكل ما قد عهدناه من الأفعال التي تصدر عن دوافع معلومة لنا، حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن المألوف والخروج على الاطراد المعروف؛ لكنها في حقيقة أمرها شبيهة بحوادث الطبيعة التي تختلف عن المجرى المعتاد لوقوع الحوادث حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن قوانين الطبيعة، فإذا ما بحثنا الأمر بدقة وجدناها تندرج تحت قوانين أخرى غير القوانين التي تندرج تحتها الحوادث المألوفة.
Unknown page