Dar Qawl Qabih
درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح
Investigator
أيمن محمود شحادة
Publisher
الدار العربية للموسوعات بيروت
Edition Number
الأولى
Genres
أمّا من حيث التفصيل، فنقول: إِن عَنيتَ أنّ ما نهى اللهُ عنه ليس منه، بمعنى أنّه كَسَبَه، أو باشَرَه، أو أَمَر به، أو أَحبّه، فكلّ ضلك صحيحٌ. وإن عَنَيتَ أنه لم يُقدره، ولم يَقضِ به ولم يخلقه بواسطة الداعي الذي يجب الفعلُ عقيبه، فلا نُسلِّم؛ وهو محل النزاعِ.
قوله، "لأنّه لا يَرضى ما يَسخَط". قلنا: إِن عَنَيتَ أنّه لا يرضاهه عبادةً وقُربَةً إِليه، ولا يؤثِره إِيثارَ الطاعاتِ، فصحيحٌ. وإِن عَنَيتّ أنّه لا يرضاه واقعًا في الوجود والملكوت، فلا نُسَلِّم. وقد خَلَقَ إِبليسَ وجنودَه، وهو يَسخَطهم ويَسخَط عليهم. وخَلَقَ الحيواناتِ المؤذية، كالهواّم ذوات السُموم والسباع القاتلة، وهو يَسخط ما يَصدُر منها من الفسادَ وإِهلاك العِباد؛ لكنّه رَضي إِيقاعَ ذلك في الوجود، لحِكمةٍ عَلِمَها.
وعلى هذا التقرري، لا تَنافي بين سَخَطه للشيء لذاته، أو لأمرٍ صادرٍ عنه، وبين رضاه وقوعَه في الوجود؛ ولم يَمنعه؟ وإِلاّ، لكان كلّ واحدٍ مِن خلقِه أقدر منه، حيث غَلَبَت قدرتُه وإِرادتُه قدرة البارئ وإِرادَته، فأوقَع في ملكوت الله ما يَكرَهه اللهُ مراغَمَةً. فكذلك يجوز أن يَسخط الشئ ويخلقه؛ لأنّ خَلق القبيحِ وتَركَ مَنعِ وقوعِه، مع القدرة عليه، سواءٌ في حقيقة القُبحِ بالضرورة عند العقلاء. ألا تَرى أنّه لا فَرق في استحقاق مُسمَّى "القُبح" و"الذّم" بين من يزني ويظلِم الناس، وبين من يَرَى زَنًا أو ظلمًا، ويمكن إِزالتُه، فلا يَفعل؟ وحينئذٍ، تَنَافى بين سَخَطه للمعصية وخلقِها؛ كما لا تنافي بين سخطها وتَركِ المنعِ منها، لاستوائهما في القُبحِ شاهدًا. ولم يَقبُح الأخيرُ مِن اللهِ سبحانه، باتّفاقٍ؛ والأوّل مِثله؛ وحُكمُ المثلين واحدٌ.
والسر فى هذا المقام هو أنّ كلّ مالكٍ سوى الله سبحانه، فإِنما له فى مُلكِه التصرُّف الأمرِيّ؛ نحو "افعَل! "، "لا تَفعَل! " والله سبحانه له في خَلقِه التصرُّف الأمرِيّ، كما ذكرناه، وهو التكليفيّ، والتصرُّف التكويني الاستقلاليّ المقتضى عَدَمَ الاعتراضِ عليه بالكلّيّة. وهذا التصرُّف من خَوَاصّه سبحانه، لم يُشارِكه فيه غيرُه؛ لأّنه سبحانه اختَصّ بتكوين الكائنات ذاتًا وصفةً. فتَصرفه بذلك تَصرُّفٌ وراء التصرُّف الأمريّ. فلذلك، جاز أن يُكلِّف بالطاعات ويَنهى عن المعاصي بما استحقه من تصرفه الأمر؛ وجاز أن يَصرِف عَبدَه عمّا كلَّفَه بفِعلِه، ويخلق فيه خلافَه بما استَحَقَّه مِن تَصرُّفِه الكونيّ
1 / 214