بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة]
الحمد لله الذي لا حاكم في الوجود سواه، ولا هادي ولا مضلّ لمن أضلّه وهداه. قضى على إبليس بالضلالة فأغواه، وقدَّر على آدم المعصيةَ فعصاه. الحليم الذي لا يَعجَل على العصاة، العليم الذي أحاط بكلّ شيءٍ علمًا وأحصاه. امتحن الملائكة في حضرة الملكوت، فأوقع في المحنة منهم هاروت وماروت. وقدر على ذي النون فالتقمه الحوتُ، وابتلي داودَ بسؤاله فلم يمكنه السكوت. سبحانه هو الحيّ الذي لا يموت، القادر الذي مطلوبه لا يُعجِز ولا يفوت. أحمده على جميل آلائه، وأعوذ به من وَبيلِ بلائه، حمدَ من استسلم لقدَره وقضائه، وعلِم أنْ لا مضاء لحكمٍ قبل إمضائه في أرضه وسمائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً مؤمن بالقدَر، موقنٍ أنّه إذا أراد أمرًا، غلب عليه وقهَر. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيّد البشر، وصفيّه المجتبى من ربيعة ومضر، صلى الله عليه وعلى آله السراة الغُرر، وأصحابه المؤثرين بجهادهم في الدين أحسن أثرٍ، وسلِّم تسليمًا وأكثر. أمّا بعد.
فإن الله سبحانه أحسنَ خَلْقَ الإنسان بما ركَّب فيه من العقل وعلَّمه من البيان. ثم كلَّفه بما وجّه من التكاليف إليه. وجعل عقلَه سببًا إلى فهم ذلك، وعونًا عليه. فوظيفةُ العقل في الوجود الإرشادُ، لا الحكم على الرب والعباد. وبه يُعرَف الحَسَنُ عُرفًا وشرعًا من القبيح، لا أنّه موجبٌ للتحسين والتقبيح.
لكنّ الله سبحانه أوهم بعضَ الخلق ذلك. وهو سبحانه القاضي بالنجاة والهلكة على كل ناجٍ وهالك. فأوّل من وقع في هذه الشُّبهة الملائكةُ الكرام - عليهم الصلاة والسلام - حيث قالوا، لَمَّا أخبرهم الله أنّه جاعلٌ في الأرض خليفةً: "ليخلق اللهُ ما شاء؛ فلن يخلق خلقًا أكرم عليه منَّا". كأنهم أخذوا ذلك من قربهم من الله، ودأبهم في الطاعة، وأنهم سكَّان السماء، فهم أشرف ممن يكون في الأرض. أو علموا أنّ الخليفة يُخلَق مِن الأرض، وهي جوهرٌ كثيفٌ، ففضّلوا عليه الجوهرَ اللطيفَ.
ثم وقع فيها إبليسُ - عليه اللعنة والتنكيس - حيث قال في اعتذاره عن معصية ربّ
1 / 67
العالمين: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾. فإنّه نظر إلى لطافة النار وتصاعدها وإشراقها، وغفل عن طيشها وشرّها وإحراقها. ونظر إلى ثقل الطين وهبوطه وكثافته، وغفل عن ثباته عن الطيش ورزانته. فلا جرم، عاد كلٌّ منهما إلى طبيعته: إبليس إلى كِبره وافتتانه، وآدمُ إلى حِلمه وثباته. فصار إبليس شقيًّا لعينًا طريدًا، وآدم متدارَكًا بالرحمة سعيدًا.
ثم وقعت فيها الملائكةُ مَرَّةً ثانيةً: حيث عابوا على بتي آدم معاصيهم، ولم ينظروا في النفوس والشهوات الآخذة بنواصيهم. وقالوا: " ربنا لو كلَّفتنا بما كلَّفتهم، لَمَا عصيناك؛ ولكنّا بالطاعة قد أرضيناك". فركَّب الباري سبحانه فيهم الشهوات ساعةً من نهارٍ، فاستقاموا، وطلبوا الفرارَ. وقامت لبني آدم عندهم واضحاتُ الأعذار. فأخذوا في الدعاء لهم والاستغفار. إلَّا هاروت وماروت، أقدما على كِبْر الامتحان. فكانا ممَّن آنَ هلاكهُ، فحانَ.
ثم تتابع بنو آدم في التحسين والتقبيح. فما منهم إلا مَن هو للشيطان ذبيحٌ أو جريحٌ. فمنهم مَن عَبد الفَلك لارتفاعه وعمومه وإشراق دَراريّه ونجومه. ومنهم مَن عَبد الشمس وإشراق أنوارها. ومنهم مَن عَبد ما استَحسن، فأساء وما أحسنَ. فإذن، مدارُ كثيرٍ من الضلالات على الأصل المذكور منذ خُلِق آدمُ، وحتى يُنفخ في الصور.
وكان أشدّ الناس اعتمادًا عليه أهلُ الفلسفة والاعتزال؛ فتزلزلت قواعدهُم أعظم الزلزال. وغالبُ مذهبهم مبنيٌّ عليه، آي عند التحقيق إليه. وقد وضعتُ هذا الكتاب لأبيّن فيه فسادَ ذلك الأصل، وما بُني عليه من الأصول، وأنّ لا حاصل له ولا محصولٌ. وبتوفيق الله أتكلَّم وأقول، وبقوَّته أُجاولِ وأصول، وبفضله أرجو الوصولَ إلى مقام القبول، إنه هو البرّ الوَصول.
وفيه مسائل.
1 / 68
[أولًا: في العقل، وفي أصل التحسين والتقبيح]
الأُولى: في لفظ العقل
اعلم ضأنّ مادّة ع- ق- ل ترجع إلى معنى المنع والحبس. فمن ذلك عِقَال البعير، وهو الحبل الذي يُربَط به ساقُه إِلى ركبته لئلاّ يشرد. يُقال: "عَقَلْتُ البعيرَ، أَعْقِلُه عَقْلا"، إذا فعلتُ به ذلك. ثمّ سُمّي إِعطاءُ القاتل وأقاربه ديَة القتيل، ونفسُ الإِبل المدفوعة في الدنيا عقلًا، "، تسميةً بالمصدر المذكور، المجاورة والملابسة؛ لأنّ الإِبل تُعقَل بالعقال.
وذلك لأنّ القاتل كان يأتي بديَة القتيل، فيعقلها بفناء أوليائه ليسلّمها إِليهم. وكأنهم كانوا يفعلون ذلك ليكون القاتلُ في موقف سؤال القبولِ. ومن ذلك سُمّيت العَصًبةُ "عاقِلةً".
ومنه المعاقِل، وهو الحصون. واحدها مَععْقل؛ لأنّه يمنع العدو مِن الوصول. وفي الحديث، "ليعقِلن هذا الدين من الحجاز مَعِل الأروية (يعني بقرة الوحش) من رأس الجبل (أي يتحصن به ويمتع فيه) ويعود الدين إِلى الحجاز كما بدأ منه".
ومنه اعتقال الرمحِ. وهو أن يجعله الفارسُ تحت فخذه، ويجر آخرَ وراءه على الأرض؛ لأنّه ذلك يمنعه من السقوط. و"اعتقل الشاة"، إِذا جَعل رجلَها بين رجِله وفخذِ ليحلبها و"فلانٌ معتقَلٌ"، أى محبوسٌ.
ومنه والعُقال (بضم العين، وتشديد القاف وتخفيفها)، اسمُ فرس كان للنبي ﵇. وهو أيضًا فرسٌ من فحول الجاهلية المشهورة، جاء في شعر حمزة بن عبد المطلب، ﵁:
1 / 69
ليس عندي إلاّ السلاح ووردٌ ... قارِح مِن بناتِ ذى العُقَّالِ
تقي دونه المنايا بنفسي ... وهو دوني يَلقى صدورَ العوالي
والعُقّال رداءٌ يكون في رجلِي الدابّة، فيَعقلها، أي يمنعها عن الحركة. وأُضيفَ إِليه هذا الفرسُ، إِمّا تفاؤلا له بالنشاط، على عادتهم في التفاؤل بالعكس؛ كقولهم للّديغ "سليمٌ" مفازةٌ، وللبرءِ "اندمالٌ". أو مبالغًة في شدّة جريِه ونشاطِه؛ كذلك كقولهم للغراب "أعور" لحدّة بصرِه، أتو دفعًا لعين السوء عنه.
ومنه في حديث الدجّال: "ثمّ يأتي الخضبُ فيُعَقِّل الكرمَ"، أي يخرُج العُقَّيلى (بضمّ العين، ونشديد القاف، مقصورًا) وهو الحصرم. قلتُ: لأنّه يمتنع بحموضته عن أن يؤكَل على صفته غالبَا.
ومن ذلك، العقلُ الذي في الإنسان الذي هو مناط التكليف. سُمِّى بمصدر "عَقلَ يَعْقِل عَقْلًا"، إِذا مَنع؛ لأنّه يمنع العاقلَ مِن فعلِ ما لا يليق. وإِلى هذا المعنى ترجع فروعُ هذه المادّة جميعها.
المسألة الثانية: في حقيقة العقل
وقد اختُلف فيها. فقيل: هو قوّةٌ غريزيّةٌ توجَد في الإِنسان مِن أوّلِ وجوده. ثمّ تتزايد بتزايد بدنه تَزايُدًا تدريجيًّا، حتى يبلغ سنَّ التكليف، فتكون قد بَلَغَت أوّلَ درجات كمالها. ثمّ تنتهي زيادتُها إلى سبعٍ وعشرين سنةً، كما رُوي عن أمير المؤمنين عليِّ رضى اللهُ عنه: " يحتلم الغلامُ لأربع عشة، وينتهي طولُه لإحدى وعشرين، وينتهي عقلُه لسبعٍ وعشرين. إِلاّ التجاريب، فإِنّه لا غاية لها". هذا في العقل الغريزي. أمّا التجربيّ، فلا يزال في زيادة ما دام العاقل حيًّا؛ كما قالى عليٌ.
وعند الحكماء، العقل جوهرٌ بسيطٌ. لأنهم أدخلوه في تقسيم الجهر، حيث قالوا: "الجوهر إمّا محلُّ، وهو الهيولي (يعني المادّة المهيّئة لقبول الصورة؛ ومِن لفظِ "التهيؤ"
1 / 70
اشتُقّ لفظُ "الهيلوي"، فكأنّه أعجميُ معرّبٌ)؛ أو حالٌ في المحلّ، وهو الصورة؛ أو مركّبٌ منهما، وهو الجسم؛ أو لا محلٌ ولا حالٌ ولا مركبٌ منهما، وهو إِمّا أن يتعلّق بالجسم تَعلُّق التدبير، وهو النفس، أو لا ينعلّق بها كذلك، وهو العقل".
وبعض الفلاسفة يزعم أنّ العقل مِن المجادات الغنيّة عن المحلّ والموضوع. فهو لا داخل البدن ولا خارجه، ولا متّصلٌ به ولا منفصلٌ عنه. وأعلم أنّ دعوى تجرُّده ممكنةٌ بناءً على أنّه روحانيُّ. أمّا عدم دخوله وخروجه واتّصاله وانفصاله، فهو غير معقولٍ؛ لأنّ النقيين لا يرتفعان.
وقال الأستاذ أبو إِسحق: "العقل معنًى يُتمكّن به مِن الاستدلال على ما وراء المحسوسات".
وقال قومٌ: "هو ما لا يخلو العاقلُ عنه عند التذكّر، ولا يشارِكه فيه مَن ليس بعاقلٍ".
وحُكي عن المعتزلة أنّه ما يُعرَف به حُسنُ الحَسَنِ وقُبحُ القبيحِ. وعن الجبّائي أنّه الداعي إِلى الحَسَنِ، الصادّ عن القبيح. وهو بناءٌ على أصلهم الذي نحن بصدد إِبطاله. والتعريفان قبله مَدخولان، لإِجمال الأوّل، وتعريف العقل في الثاني بنفسه.
وقال قومٌ: "هو ما يُعرَف به خَيرُ الخيرَين وشرُّ الشرَّين". وهو شديد الإِجمال أيضًا.
وقالت الخوارج: " العاقل مَن عقل عن الله أمرّه ونهيَه". وهو فاسدُ، لتعريفه بنفسه.
والذى وقَع عليه اختيار المحقِّقين أنّ العقل ضربٌ من العلوم الضروريّة. وهو العلم بوجوب الواجبات واستجالة المستحيلات وإمكان الممكنات. لأنّه لو لم يكن من قبيل العلوم، لصحّ انفكاكُ أحدهما عن الآخر وهو باطلٌ، لاستحالة وجود عاقلٍ لا يعلم شيئًا البتّة، أو عالمٍ بجميع الأشياء، فليس علمًا بالمحسوسات؛ لحصوله في البهائم والمجانين؛ وليسوا عقلاء. فهو إِذن مِن العلوم الكّليّة. ثمّ ليس من العلوم النظريّة؛ لأنها مشروطةٌ بالعقل
1 / 71