ولم تكن المركيزة ممن يعتقدن بالكهانة، إلا أن تكهن الساحرة ترك في قلبها أثرا سيئا، وارتسم في ذاكرتها ارتساما ثابتا لم تتمكن من محوه رؤيا وطنها العزيز وقد عادت إليه، ولا ملاطفة جدها وحنوه وقد رجعت إلى أحضانه، ولم تتمكن من إزالة تلك الوساوس الملاهي والألعاب أو المقام الذي نالته المركيزة بآدابها وجمالها بين الناس. ولما عجزت عن صرف هذا الشاغل طلبت من جدها أن يأذن لها بالدخول إلى دير لتقضي فيه ما بقي لها من شهور الحداد.
آل جنج
ولبثت المركيزة بالدير أياما، سمعت في خلالها باسم رجل له من الشهرة بالجمال بين الرجال ما لها بين النساء، وهو السيد لونيد مركيز ده جنج بارون لنجدوك وحاكم سنت أندريه بأبرشية أوزيس، وكانت رفيقات المركيزة من الراهبات يقلن لها عندما يحدثنها عن هذا السيد: كأن الله خلقكما يا مولاتي ليكون أحدكما للآخر.
فما لبثت المركيزة أن اشتاقت لرؤيا ذلك الرجل، وودت لو تجمعها الظروف به.
وبلغ المركيز ده جنج عن مدام قسطلان ما بلغها عنه؛ فتاقت نفسه إلى رؤياها، فتحايل حتى حمله جدها رسالة إليها، فتوجه للدير الذي آوت إليه، وطلب أن يقابلها بقاعة الاستقبال، فحضرت إليه ولم تكن نبئت عن اسمه، إلا أنها عرفته عندما وقع نظرها عليه؛ لأنها لم تنظر في حياتها رجلا أجمل من زائرها ذاتا، فحدثها قلبها أنه هو الذي طالما حدثوها عنه، وأطنبوا في مديحه، ولم يبالغوا.
وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه، والمقدور لا بد من نفاذه، فما نظرت المركيزة المركيز حتى تبادل قلباهما الغرام.
وكانا في مقتبل الشباب، وللمركيز من جاهه وكرم أصله، وللمركيزة من مالها وجمالها ما جعل كلا منهما كفؤا لصاحبه، وجديرا بأن يصبح زوجه وأليفه، إنما روعيت لعقد القران واجبات الحداد؛ فأجل إلى انقضاء أيامه.
ثم احتفل بزواجهما في أوائل عام 1558، وكان سن المركيزة إذ ذاك لا يزيد عن العشرين، وعمر المركيز أكبر من ذلك بسنتين.
وكانت السنين الأولى لهذا القران سعيدة مباركة؛ فشعرت المركيزة بحبها لزوجها حبا لم تكن تشعر به نحو زوجها الأول. وأراد الله أن يتمم أسباب هنائها؛ فرزقها ولدا وبنتا طابت بهما نفسها وقرت عينها.
ونسيت المركيزة تكهن الساحرة، وكانت كلما خطرت ببالها تعجب لنفسها؛ كيف ساغ لها أن تصدقها أو تجزع لها.
Unknown page