الضحية الأولى‏

الضحية الثانية‏

الضحية الأولى‏

الضحية الثانية‏

ضحايا العفاف

ضحايا العفاف

تأليف

ألكسندر ديماس

ترجمة

صالح جودت

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون . (آية 90 سورة النحل، قرآن شريف)

الضحية الأولى

المركيزة ده جنج

تكهن ساحرة

في ليلة من ليالي شهر ديسمبر عام 1657، رست عربة خالية من الزخرف الذي امتازت به عربات الأشراف في ذلك العصر أمام منزل من منازل شارع هوتفوي بباريس، وكان أمام ذلك الباب عربتان أخريان راسيتين، فترجل - حال وصول العربة القادمة - خادمها، واقترب من باب العربة ليفتحه لراكبيها، ولكن أوقفه رخيم صادر من داخل العربة يقول: انتظر لأرى هل هذا هو البيت المقصود!

ثم أطلت من نافذة العربة سيدة مقنعة ومرتدية برداء من القطيفة السوداء قد سترها حتى رأسها، فرفعت عينيها تنظر إلى المنزل الذي وقفت أمامه العربة كأنها تبحث عن علامة عليه، ثم ما لبث أن التفتت لرفيقتها التي كانت معها في العربة، وقالت لها: قد وجدنا ما ننشده، فهذا هو المنزل، وتلك هي اللوحة.

وعلى ذلك أمرت ففتح باب العربة، وترجلت السيدتان، فسارتا قليلا ثم رفعتا عينيهما إلى حائط المنزل، فرأتا اللوحة المنشودة، وهي معلقة على ارتفاع ستة أو ثمانية أقدام من الطريق تحت نوافذ الطبقة الثانية من المنزل، ومكتوب عليها الكلمات الآتية:

مدام فوازين، قابلة.

وولجت السيدتان باب المنزل، إذ وجدتاه مفتوحا نصف فتحة، فإذا هما في دهليز طويل يكاد يكون مظلما لولا ضوء قنديل ينير لسالكه السبيل، فسارتا في الدهليز حتى بلغتا درج المنزل فرقيتاه، وكانت إحداهما تتقدم الأخرى. ولم تقصد الزائرتان الطبقة الثانية التي علقت على نوافذها اللوحة، بل صعدتا إلى الطبقة التي فوقها.

ولما بلغتاها استوقفهما رجل من الأقزام أحدب غريب الزى قد كسي كسوة السخريين من أهل البندقية في القرن السادس عشر. وسألهما الأحدب عما تريدان، فقالت إحداهما، وهي ذات الصوت الرخيم: نريد أن نستشير الروح.

وكان في صوت المتكلمة بعض الاضطرابات، فقال لها الحارس ولصاحبتها: ادخلا وانتظرا.

ثم رفع بيده ستارا، وأدخل السيدتين في غرفة انتظار.

ولبثت السيدتان تنتظران، ومضت عليهما نصف ساعة لم تنظرا أو تسمعا فيها شيئا، وبينما هما على تلك الحال إذ أزيح ستار وفتح باب خفي، وسمعتا صوتا يقول: ادخلا.

فانتقلت السيدتان إلى غرفة كسيت جدرانها بالسواد، يضيئها مصباح ذو ثلاث فتائل، قد علق في وسط السقف.

وقفل الباب وراءهما ونظرا، فإذا هما في حضرة الساحرة.

وكانت الساحرة فتاة بين الخامسة والسادسة والعشرين، تميل بحركاتها وكلماتها إلى أن تظهر في سن أكبر من سنها الحقيقي - بعكس سائر بنات حوا - فكانت مرتدية لباسا أسود، مسترسلة الشعور ضفائر حول رأسها وعارية الجيد والأطراف، وكانت ممنطقة بمنطقة من الجلد ذات قفل محلى بحجر من العقيق.

وكانت الساحرة قائمة على منبر تنبعث منه روائح عطرية شديدة.

ولم تكن الساحرة بارعة في الجمال، بل كان جمالها عاديا، إنما كانت عيناها تظهران للناظرين أنهما واسعتان اتساعا غير عادي؛ لكحل كانت تكتحل به فتنبعث منهما بروق خلابة للأبصار، فكأنهما حجران من عقيق كالحجر الذي في منطقتها.

ولما دخلت الزائرتان وجدتا الساحرة ملقية برأسها على يدها وكأنها غارقة في لجة من الأفكار، فخشيتا أن تخرجاها مما هي فيه، فانتظرتا أن يروق لها أن تخاطبهما. ومضت عشر دقائق، ثم رفعت الساحرة رأسها ونظرت إلى القادمتين كأنها لم تتنبه لوجودهما إلا تلك اللحظة، وقالت تسألهما: ماذا تريدان مني؟ أفما قدر لي أن أستريح إلا في اللحد؟!

فقالت ذات الصوت الرخيم: عفوا يا مولاتي! إنما أريد أن أعلم ...

فقاطعتها الساحرة بصوت حافل قائلة: صه! لا أريد أن أعلم ما تريدين، فخاطبي الروح؛ فإن الروح غيورة حريصة على الأسرار، تحظر على كل حي أن يشاركها في معرفتها، أما أنا فليس لي إلا أن أدعوها وأطيعها فيما تأمر.

1

ثم نزلت الساحرة عن منبرها، ودخلت غرفة أخرى، وما لبثت أن عادت منها باهتة شاحبة اللون، وبيمناها موقد مشتعل، وبالأخرى ورقة حمراء. وفي تلك اللحظة تضاءل الضوء المنبعث من فتائل المصباح حتى كاد ينطفئ المصباح ، ولم يبق في الغرفة إلا ضوء الموقد المنبعث من لهيب النار، فتغيرت ألوان الأشياء، واكتسبت صبغة تؤثر على الأنظار فتجعلها كأنها تنظر إلى خيالات لا حقائق، فاضطربت الزائرتان وودتا لو لم تأتيا هذا المكان.

ووضعت الساحرة الموقد وسط الغرفة، وقدمت الورقة للسيدة التي كانت تخاطبها وقالت لها: اكتبي ما تريدين أن تعلميه.

فتناولت السيدة الورقة بيد ثابتة - على خلاف ما كانت تنتظر منها الساحرة - وكتبت عليها الأسئلة الآتية:

هل أنا فتاة؟ وهل أنا جميلة؟ أعذراء أنا أم ذات زوج أم أرملة؟ تلك أسئلتي عن ماضي.

هل قدر لي أن أتزوج؟ أم أترمل ثم أتزوج؟ وهل حياتي طويلة أم قدر لي أن أموت في سن الشباب؟ تلك أسئلتي عن مستقبلي.

ثم قالت السيدة للساحرة: ماذا علي أن أصنع الآن؟

قالت لها: اطوي الورقة حول هذه الكرة.

وقدمت لها كرة من الشمع واستمرت قائلة: ستلتهم النار الكتاب والكرة بحضرتك، وقد علمت الروح أسرار سريرتك، وسيصلك الجواب قبل انقضاء ثلاثة أيام.

فقذفت الطالبة بالكرة والكتاب في موقد النار، فقالت الساحرة: تم المراد.

ثم نادت: يا كوموس.

فدخل الأحدب فقالت له: رافق هذه السيدة حتى عربتها.

فخرجت الزائرة تتبع الأحدب بعد أن تركت على مائدة الساحرة كيسا مملوءا بالدراهم.

وسار الأحدب بالسيدة ورفيقتها، وما كانت رفيقتها إلا وصيفتها وأمينتها، فنزل بهما من درج غير الذي كانتا رقيتاه معد لخروج الطالبين وموصل للمنزل من طريق غير الذي أتيتا منه. وكان سائق العربة قد نبه إلى انتظارهما عند هذا الباب، فوجدتاه في الانتظار.

وصعدت السيدتان إلى العربة، وسارت بهما نحو شارع دوفين. •••

وفي اليوم الثالث من زيارة السيدة ذات الصوت الرخيم للساحرة، استيقظت السيدة فوجدت على المائدة التي في غرفتها خطابا بخط مجهول، ومعنونا بتلك الكلمات:

إلى البروفنسية الحسناء.

ففضت السيدة الخطاب؛ فوجدت فيه هذه الكلمات:

أنت فتاة وجميلة وأرملة، هذا عن ماضيك.

وستتزوجين بعد ترملك، ثم تموتين في شبابك مقتولة، هذا عن مستقبلك.

الروح

وكان الورق المسطر عليه الجواب من جنس الورقة التي كتب عليها السؤال.

فاضطربت السيدة، وانبعث من صدرها صوت ضعيف دل على رعبها، ورأت أن الإجابة عن ماضيها سديدة صادقة، فخشيت أن يصدق كذلك تكهن الساحرة عن مستقبلها.

البروفنسية الحسناء

إن السيدة التي قصدت الساحرة لتعلم ما خبئ لها في المقدور، كانت أجمل نساء عصرها وأشهرهن في الجمال، وإليك قصتها:

كانت السيدة تدعى ماري ده روسان، وكانت قبل زواجها تدعى مادموازيل شاتو بلان، باسم إحدى المزارع التي كانت لجدها - أبي أمها - يوانيس ده نوشير بمقاطعة بروفنسة، وكانت ثروة جدها تربو على خمسمائة ألف دينار، ولما بلغت ماري الثالثة عشر (عام 1649) تزوجت بالمركيز ده قسطلان، من كبار أشراف عصره، وسليل حنا ملك قسطلة ابن بطرس القاسبي من محظيته حنه ده كسترو.

وكان المركيز ضابطا في المدرعات الملوكية، فبادر بتقديم عروسه إلى حاشية الملك لويس الرابع عشر، فاحتفى بها الملك، وأدهشه جمالها الرائع، وكان الملك إذ ذاك في العشرين من عمره، وبلغ احتفاؤه بعروس تابعه أن رقص معها مرتين في ليلة واحدة، حتى بلغت غيرة السيدات منها مبلغا عظيما.

واتفق أن كانت كريستين ملكة أسوج ضيفة في بلاط لويس الرابع عشر إذ ذاك، فلما شاهدت ماري قالت: إنه لم تقع عيناها في جميع الممالك التي زارتها على امرأة يقاس جمالها بجمال هذه «البروفنسية الحسناء»، فأيد مديح الملكة مديح الناس، وتمت به شهرة المركيزة ده قسطلان، فلم تعد تعرف بين الناس إلا باسم «البروفنسية الحسناء».

واشتهر جمال المركيزة، وتحدث به الناس، فقصدها الرسام مينار أشهر مصوري زمانه، وطلب منها أن تسمح له بأن يصورها فسمحت، ولا تزال الصورة باقية ممثلة لهذا الجمال بعد أن فني هيكله.

وحيث إن هذه الصورة ليست حاضرة أمام عيون القراء، فسنجتهد في استحضارها لذهنهم بنقل أوصاف المركيزة كما جاءت في رسالة طبعت في روان عام 1667، وعنها نقل المؤلف أغلب الحوادث التي رواها في هذه القصة، قال الواصف:

كانت المركيزة ذات بياض ناصع مشرب بحمرة، وقد امتزج اللونان على بشرتها امتزاجا لا يتمكن أمهر مصور أن يؤديه على جماله الطبيعي، وكان بياض محياها يزيده بهاء ونورا سواد شعورها، وقد كللت جبينا كأنه اللجين. أما عيناها فكانتا نجلاوين وكأنهما شقتا في مرمر، وكانتا في لون شعورها، وينبعث منهما بريق لطيف يخترق القلوب؛ فلا يتمكن الناظر أن يطيل فيهما النظر. وقد أبى الله أن يخلق لفمها مثيلا؛ إذ دق الفم فكان كالخاتم، وارتسم الحسن بكل معانيه على شفتيها، فإذا ابتسمت انجلت الشفتان عن عقدين من اللؤلؤ. وكان أنفها جميلا، وقد صوره الباري فصور فيه معاني الرفعة والعظمة والشمم. وكان وجهها مستديرا كأنه البدر في ليلة تمامه، وقد تمثلت فيه الحياة والصحة والشباب بأجمل تمثيل، وأراد الله أن يكملها بالحسن، فجعل في كل حركة من حركاتها ونظرة من نظراتها ما يستميل أنفر القلوب وأبعدها عن التصديق بآية الحب. وكانت قامتها متممة بجمالها لجمال محياها. أما يداها وساعداها ووقفتها ومشيتها فما كانت إلا لتزيد جمالها جمالا، فلا يلبث رائيها أن يقر بقدرة الباري عز وجل؛ لإبداعه في شخص هذه المركيزة، أجمل مخلوقة في أكمل صفات الجمال.

ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا هذه المركيزة، لا تسلم من ألسنة الوشاة وأقوال الحساد في حاشية أحزابها تدبرها النساء، وللنساء فيها الكلمة الكبرى والقول المسموع، ولكن لم يبلغ الوشاة في المركيزة غرضا؛ لأنها كانت في جميع أحوالها، وخصوصا عند غياب بعلها عنها، حريصة على شرفها، أمينة على عرضها، محتشمة في أقوالها وأفعالها رغما عن رقة ألفاظها ولطيف نكاتها أو رشاقة حركاتها، ولما عجز الوشاة عن إصابتها في عرضها تعرضوا لصفاتها، فقالوا: إن جمالها غير جذاب، فكأنها صنم من الأصنام؛ وجه من مرمر، وقلب من رخام.

ولكن أبى الله إلا أن تخسر الوشاة، وتسود وجوههم؛ إذا أقبلت المركيزة على مجلس هم فيه، فتراهم سكنوا في حضرتها، وكذبت أقوالها وأفكارها مفترياتهم في وجوههم، فيقبل عليها الحضور يمتعون العين بجمال مرآها، والأذن برقة حديثها ورخامة صوتها، والقلب بعذوبة ألفاظها ودقة معانيها؛ فتستهوي القلوب وتجتذب الأفئدة، فيعترف كل من لم يكن رآها قبل ذلك أنه لم ير مخلوقا قربه الله من الكمال في كل شيء مثلها.

ولبثت المركيزة في قومها محبوبة محترمة الجانب، لا تصل إليها ألسنة الواشين، ولا يبلغ فيها كيد الكائدين، حتى بلغ القوم خبر غرق المدرعات الملوكية في مياه صقلية، وموت المركيز ده قسطلان أميرها وقائدها.

وما أثر هذا المصاب على ما امتازت به المركيزة من صفات التقوى؛ فظهرت في الناس صبورة على أحكام الدهر، راضخة لما قدر الله. وكان قد مضى على زواجها بالمركيز سبع سنين لم يتمتع بقربها فيها إلا قليلا، فلم يتعلق قلبها به تعلقا يورثها اليأس من بعده أو يفقدها الرشد لفقده، إلا أنها اعتزلت المحافل والمآدب عقب هذا المصاب، كما تقضي به الآداب، وآوت إلى زوجة أبيها مدام دمبوس، فأقامت لديها.

وأقامت المركيزة عند مدام دمبوس ستة شهور؛ فأرسل لها جدها المسيو يوانيس يستقدمها إليه بأفينيون لتمضي لديه أيام حدادها. وكان للجد منزلة ومحبة ثابتة في قلب حفيدته؛ لأنه رباها صغيرة وعني بأمرها كبيرة، فلهذا أسرعت في تلبية دعوته، وتجهزت للرحيل إلى بلدته.

وكانت ظهرت في تلك الأثناء فوازين الساحرة وشاع أمرها؛ فتحدث الناس بعلمها، وذهبت سيدات من صاحبات المركيزة إلى تلك الساحرة لتكشف لهن خفايا المقدور، فتكهنت لبعضهن تكهنا أظهرت الأيام صدقه، ولا ندري أخدمتها الصدف وساعدتها المقادير في صحة تكهنها، أم تمكنت بفراستها ومهارتها من تبين الغيب من صفات قاصديها لاستشارتها.

ودفع المركيزة حب الاطلاع إلى زيارة هذه الساحرة؛ لما سمعته عن علمها وقدرتها، فقصدتها كما رأينا في الفصل السالف، وكان ذلك قبل سفرها إلى أفينيون بأيام قلائل، وقد علمنا الإجابة التي أرسلتها لها الساحرة طي الخطاب.

ولم تكن المركيزة ممن يعتقدن بالكهانة، إلا أن تكهن الساحرة ترك في قلبها أثرا سيئا، وارتسم في ذاكرتها ارتساما ثابتا لم تتمكن من محوه رؤيا وطنها العزيز وقد عادت إليه، ولا ملاطفة جدها وحنوه وقد رجعت إلى أحضانه، ولم تتمكن من إزالة تلك الوساوس الملاهي والألعاب أو المقام الذي نالته المركيزة بآدابها وجمالها بين الناس. ولما عجزت عن صرف هذا الشاغل طلبت من جدها أن يأذن لها بالدخول إلى دير لتقضي فيه ما بقي لها من شهور الحداد.

آل جنج

ولبثت المركيزة بالدير أياما، سمعت في خلالها باسم رجل له من الشهرة بالجمال بين الرجال ما لها بين النساء، وهو السيد لونيد مركيز ده جنج بارون لنجدوك وحاكم سنت أندريه بأبرشية أوزيس، وكانت رفيقات المركيزة من الراهبات يقلن لها عندما يحدثنها عن هذا السيد: كأن الله خلقكما يا مولاتي ليكون أحدكما للآخر.

فما لبثت المركيزة أن اشتاقت لرؤيا ذلك الرجل، وودت لو تجمعها الظروف به.

وبلغ المركيز ده جنج عن مدام قسطلان ما بلغها عنه؛ فتاقت نفسه إلى رؤياها، فتحايل حتى حمله جدها رسالة إليها، فتوجه للدير الذي آوت إليه، وطلب أن يقابلها بقاعة الاستقبال، فحضرت إليه ولم تكن نبئت عن اسمه، إلا أنها عرفته عندما وقع نظرها عليه؛ لأنها لم تنظر في حياتها رجلا أجمل من زائرها ذاتا، فحدثها قلبها أنه هو الذي طالما حدثوها عنه، وأطنبوا في مديحه، ولم يبالغوا.

وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه، والمقدور لا بد من نفاذه، فما نظرت المركيزة المركيز حتى تبادل قلباهما الغرام.

وكانا في مقتبل الشباب، وللمركيز من جاهه وكرم أصله، وللمركيزة من مالها وجمالها ما جعل كلا منهما كفؤا لصاحبه، وجديرا بأن يصبح زوجه وأليفه، إنما روعيت لعقد القران واجبات الحداد؛ فأجل إلى انقضاء أيامه.

ثم احتفل بزواجهما في أوائل عام 1558، وكان سن المركيزة إذ ذاك لا يزيد عن العشرين، وعمر المركيز أكبر من ذلك بسنتين.

وكانت السنين الأولى لهذا القران سعيدة مباركة؛ فشعرت المركيزة بحبها لزوجها حبا لم تكن تشعر به نحو زوجها الأول. وأراد الله أن يتمم أسباب هنائها؛ فرزقها ولدا وبنتا طابت بهما نفسها وقرت عينها.

ونسيت المركيزة تكهن الساحرة، وكانت كلما خطرت ببالها تعجب لنفسها؛ كيف ساغ لها أن تصدقها أو تجزع لها.

وكأني بك أيتها المركيزة وقد جهلت أن هذه الدار شقاء، وأن ليس لسعادة فيها بقاء:

وسالمتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

فيا ليتك لم تستعذبي طعم الهناء؛ حتى لم تستعظمي مرارة الشقاء، بل ليتك لم تخطبي ود هذه الدار؛ فطبعها غدار، ويا ليتك قنعت بالعزلة في الديور، فما وراء معاشرة الناس إلا الويل والثبور، ولكن قدر الله فكان، وما لمخلوق أن يعاند ما قدره الرحمن.

ومل المركيز من سعادة تأتيه في المساء بما تأتيه في الصباح، وفطر الإنسان على حب التنقل حتى في السعادات، ألا قتل الإنسان ما أكفره! فأسف المركيز على لهو الشباب والتقلب في اللذات بين الأصحاب؛ فعاد إلى هواه القديم، ونسي أن بجانب زوجه النعيم المقيم.

ولا تلومن فتاة تركها زوجها إن تركته، أو أهمل شأنها إن أهملته؛ فإن المركيزة لما تولى حب زوجها الغير هجرته وقصدت المحافل والمآدب حيث يقدرها الناس قدرها ولا يهمل المعجبون بها أمرها؛ فثارت لذلك غيرة المركيز، ولكنه خشي أن يصبح أمثولة في الناس أن تعرض لزوجها في ائتلافها بهم؛ لأن مجالس النساء الأديبات كانت في ذلك الحين مجتمع أهل الفضل والآداب من العلماء والكتاب. فكتم المركيز أمره، ولكن لم يطق صدره أن يحمل سره، فصار كلما خلا إلى زوجته يوجعها بقارص الكلام ويذيقها من معاملته أشد الآلام، فحل الكدر محل الصفاء، وعقبه الهجر بعد الوفاق؛ فأصبحت المركيزة لا ترى زوجها إلا في ساعات معدودات لا مندوحة لهما فيها عن اللقاء. ثم ما لبث المركيز أن أصبح يحتج بأسفار تضطره للغياب، ثم صار يغيب دون أن تبدو لغيابه أسباب، وهكذا مضت على المركيزة تسعة شهور لم تر لبعلها فيها وجها أو تعلم له ميعاد أوبة.

وقد أجمع الكتاب على أن المركيزة صبرت على هجر زوجها وسوء عشرته صبر أولي العزم؛ فلم يبد عليها ملل أو انكسار، وقلما أجمع الجمهور على الشهادة بمثل ذلك على إحدى بنات حواء.

وكان المركيز لما مل من معاشرة زوجته دعا لمنزله شقيقين له أحدهما فارس والآخر راهب، وكان له أخ ثالث أميرالاي في فرقة لنجدوك، إلا أننا أهملنا ذكره في هذه القصة؛ لأنه لم يتداخل في حوادثها ، ولم يشترك في مكائدها.

ولم يكن الراهب في الحقيقة من رجال الكهنوت؛ إنما اتخذ هذا اللقب ليتمتع بما له من المزايا بين الناس، وكان به لمحة من الجمال، وقطرة من الذكاء، وله اشتغال في أوقات الفراغ بنظم الشعر وتسجيع الكلام، وكان إذا غضب انبعثت من عيونه بروق تدل على قساوة في الطبع وغلظ في القلب، وكان مع ذلك ميالا للذات مستعبدا للشهوات، لا يخشى منكرا ولا ينفر عن معصية، كأنه حقيقة من رجال الدين في ذلك الحين.

أما الفارس فكان له نصيب أيضا من هذا الجمال الذي اختصت به عائلته، إلا أنه كان عديم الإرادة خمول الذكر، من أولئك الناس الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يدرون أخيرا أم شرا يفعلون؟ وهكذا كان الفارس آلة في يد أخيه الراهب؛ يأتمر بأمره ويسمع لمشورته، ولا يستطيع أن يصرف نفسه عن اتباع أوامره، بل يعجز لضيق فكره أن يدرك مغزاها أو مرماها، فكان ينفذها كالآلة الصماء؛ ولذا كان ضرره أشد مما لو كان يدرك ويعقل.

وكان لإرادة الراهب سلطان على المركيز كما لها على أخيه، وكان الراهب صعلوكا لا مال له؛ لأنه ليس أكبر أولاد أبيه، وكان الميراث للأكبر في الأولاد شريعة ذاك الزمن، فرأى أخاه المركيز قد استولى على ثروة أبيهما، وضاعفتها ثروة زوجته، وعن قريب تضم إليهما ثروة جدها نوشير؛ إذ هي وريثته بعد موته. فطمع القس في ذلك المال واحتال للوصول إليه، فأفهم أخاه أنه لا بد له من معين في إدارة شئون بيته وأمواله، وقدم له نفسه مستعدا لهذه الخدمة، فتقبل المركيز هذا الاقتراح بالارتياح؛ خصوصا لملله الإقامة مع زوجته، وليس لديه في القصر رفيق.

وهكذا تمت للراهب أولى أمانيه؛ فحضر للقصر يرافقه أخوه الفارس مرافقة الظل أينما تسير يتبعك وأنت لا تهتم به ولا تفكر فيه.

وطالما أسرت المركيزة لصاحباتها أنه داخلها شيء من الفزع عند رؤية أخوي المركيز، ولو أن ظاهرهما يؤخذ منه ما يجعل لسوء الظن بهما سبيلا، إلا أنه عادت لها ذكرى تكهن الساحرة بعد أن كانت تناستها، وأبت أن تنصرف عنها.

أما أخوا المركيز فاندهشا لأول وهلة من جمال امرأة أخيهما؛ فوقف أمامها الفارس مبهوتا لحسنها معجبا به كرجل يعجب بتمثال من رخام لا يستطيع تحويل نظرة عنه؛ لإتقان صنعه، ولم يتعد إعجابه بها هذا الحد، بحيث لو تمهد له السبيل إليها لما زاد عن هذا الإعجاب شيئا، ولم يخف الفارس عن امرأة أخيه ما شعر به منها، فهنأها على ما أوتيت من اللطف والجمال.

أما الفارس فما كاد يقع نظره على امرأة أخيه حتى اشتهاها، وتمكنت منه هذه العاطفة الحيوانية، فعقد عليها نيته، لكنه أخفى - لخبثه ولؤمه - ما خالج فؤاده، وكان كتوما لعواطفه بقدر ما كان أخوه الفارس بائحا بها، فلم يلفظ في حضرة المركيزة إلا كلمات أوحى إليه بهن الرياء والدهاء، فلا فضح أمره ولا كشف سره، ولا جعل لامرأة أخيه سبيلا إلى الارتياب فيه، وخرج من حضرتها - لعنه الله - موطد العزم على اغتيال أقدس ما منحها الله: وهو شرف العرض.

أما المركيزة فقد علمنا ما خالج قلبها من الوسواس عند رؤية سلفيها، إلا أن مجاملات الراهب وجهل الفارس طمئناها نوعا؛ فأمنت جانبهما. وكانت المركيزة من أولئك الذين لا يتصورون ابن آدم قادرا على الشر لطيب قلبها، ويغترون بالظواهر فيظنون النفاق إخلاصا، ويترقبون ولو كلمة لتردهم إلى حسن الظن إذا شاب قلبهم الريب أو داخله الشك ممن يظنون فيه الصلاح، ولو كان من المجرمين.

مناصبة العداء

وعاد للدار البشر عند مقدم الأخوين؛ فابتسمت فيها الثغور، وأشرقت الوجوه، وعجبت المركيزة لما طرأ من التغير حتى في أحوال زوجها؛ فإنه عاد إليها مقبلا عليها كأنه نادم على ما فرط منه، وحسنت ألفاظه في محادثتها بعد أن كان يغلظ لها في القول، فطابت عشرته، وفرحت زوجته، ولم يكن قلبها في تلك الفترة تغير عليه، بل ما فتئت المركيزة مخلصة له الود، باقية على العهد؛ فقابلت هجره بالجلد والصبر، وقابلت إقباله عليها بالفرح والشكر، ومضى عليهما مؤتلفين ثلاثة شهور ذكرتهما بشهور القران السعيدة الأولى، بعد أن كادت تمحو الحوادث أثر ذكراها من قلب المركيزة الكليم.

وإذا ابتسم الدهر لامرئ في مقتبل العمر تعلق بالدنيا وأحب الحياة؛ فتراه فرحا طروبا يطلب المزيد من السرور، ولا يهمه في الحياة إلا أن يكون سعيدا. وكانت تلك حال المركيزة؛ فإنها رأت أن نجمها أشرق بعد الأفول، وأقبلت عليها السعادة، وصادفها القبول، فلم تهتم بالبحث عن الأسباب التي صفا بها عيشها وانصلح أمرها.

ودعيت المركيزة ذات يوم لتقضي بضعة أيام عند جارة لها ذات ضيعة، ودعي معها زوجها وسلفاها، فرافقوها إلى مكان الدعوة. وكانت صاحبة الضيعة قد جهزت معدات القنص إكراما لمدعويها، فما أقبل المدعوون حتى أخذوا يستعدون لما يقتضيه الصيد من أعمال.

وكان الراهب - لدهائه - قد تمكن من اجتذاب القلوب إليه، فصار في مقدمة المدعوين إلى كل حفلة أو مأدبة، فلما دعي إلى هذا القنص ووزعت الأعمال على المدعوين، طلب أن يكون رفيق المركيزة. ومن عادات الغربيين أن يلازم كل رجل منهم في الصيد سيدة؛ حتى لا تضل السبيل أو تعرض بنفسها إلى خطر إذا تفرق القوم عند مطاردة الصيد، فلما قدم الراهب نفسه لهذا الغرض لم يسع المركيزة - للطفها المعهود - إلا أن تقبله زميلا لها مبتسمة شاكرة، واختار كل من المدعوين زميلة له، ثم انطلق القوم إلى حيث تواعدوا على الملتقى. والصيد عند وجهاء الغربيين من ضروب اللهو التي تقام إكراما للزائرين، وقد يدعى إليه من لا يستطيع أن يصيد عصفورا أو أرنبا؛ فيحضر الصيد ولا يصطاد، بل تطلق الكلاب وراء الفريسة إذا لاحت، ويتبعها بعض غواة الصيد من الحضور، ويتفرق وراءهم القوم، فيقضون اليوم في مطاردة الوحوش والتجول في الفلوات أو الغابات.

وهكذا تم في الصيد الذي دعي له آل جنج، فأرسلت الكلاب، وتفرق الحضور في كل وجهة وطريق.

أما الراهب فلم يفارق المركيزة لحظة؛ لأنها زميلته، واحتال بدهائه حتى انفرد بها عن الناس، وكان ذلك ما يسعى وراءه منذ شهر ولا تيسر له المركيزة أسبابه. ولما أدركت المركيزة أن انفرادها مع الراهب كان حيلة منه، أرادت أن تفسد تدبيره بأن تطلق لجوادها العنان في طريق غير التي ساقها إليها الراهب؛ فأدرك قصدها، وأمسك بلجام الجواد.

ولم ترد المركيزة أن تقابل سلفها بالعداء، فصبرت وسكتت منتظرة أن يفاتحها الكلام، وتظاهرت أمامه بالكبرياء والشمم؛ لتظهر له بوقفتها احتقارها له، وتفهمه أنها ليست ممن تذل إلى مثله أو ممن تعالى إليها المطامع.

وساد بينهما السكوت لحظة، فقطع حبله الراهب قائلا: مولاتي، أسألك العفو إذا اتخذت هذه الوسيلة لأحدثك على انفراد، ولقد كنت أود بصفتي أخا لزوجك أن تيسري لي ذلك السبيل إذا طلبته، إنما وجدتك تتقينه وتقيمين دونه الحوائل، فرأيت أن خير واسطة لنيل هذا الغرض أن أسعى لتدبيره بنفسي، حيث لا تستطيعين أن ترفضيه إذ ذاك ...

فأجابته المركيزة قائلة: يلوح لي يا سيدي أنك ما ترددت في مفاتحتي على انفراد بالحديث الذي تريده، ولا عمدت إلى كل هذه الوسائل لتجبرني على سماعه إلا لأنك عالم أنه حديث لا يليق بي سماعه؛ ولهذا أرجوك أن تطيل التفكر والتأمل فيه قبل أن تفاتحني به. واعلم أنني حافظة حقي في إسكاتك، سواء كنا هنا أو في أي مقام، حينما أشعر أنك خرجت في حديثك عن حد الاحتشام.

فقال الراهب: أظن يا مولاتي أني حر أقول ما أريد، وأيا كان حديثي فستسمعينه لنهايته، ومع ذلك فليس حديثي مما يدعوك إلى هذا التحفظ والاحتراس؛ فالموضوع بسيط، وكل ما أريد معرفته منك هو: هل لاحظت تغيرا في سلوك زوجك نحوك؟

قالت: نعم، ولا يمضي يوم إلا أشكر فيه عناية الله على هذا التوفيق الذي عاد بيننا.

فتبسم الراهب ابتسام الجاحد، وقال - لعنه الله: لقد أخطأت يا مولاتي؛ فليس لله يد في هذا الأمر، فلك أن تشكريه على أنه حباك صفات الجمال وكملك في معاني الحسن؛ فكنت من أبدع ما خلق وصور، إنما لا تبخسيني حقي وتشكريه على فضل كان مني.

فأجابته المركيزة ببرود قائلة: إني لا أفهم ما تعنيه.

قال: إذن فسأفصح لك يا مولاتي العزيزة، فاعلمي أني أنا الذي تمت على يدي المعجزة التي تشكرين الله عليها اليوم، فاشكريني واعترفي بفضلك، أما الله فله منن كثيرة، فهو ليس في احتياج إلى مشاركة بعض خلقه فيما يعود لهم من الفضل والشكر.

فأجابته: أصبت يا صاح، فإذا كان هذا التوفيق قد تم على يديك - كما تقول - وكنت لا أعلم لمن يرجع هذا الفضل فأقدم لك واجب الشكر أولا، ثم أشكر الرحمن؛ إذ وفقك إلى هذا المسعى المشكور.

قال: نعم، إنما إذا كان الله وفقني إلى هذا المسعى المشكور ولا يمتعني بالثمرة التي أترقبها، فهو قادر على أن يوفقني إلى سعي غير مشكور.

فسألته المركيزة قائلة: وما معنى ما تقول؟

فأجابها: معناه أنه لم يجعل الله في أسرتي إرادة فوق إرادتي، ولا قدرة فوق قدرتي، وإن قلب أخوي في يدي أصرفه كيف أشاء، وإن امرأ قدر على النار أن يزكيها لقادر على أن يطفئها.

قالت: ما زدتني إلا غموضا فأفصح عما تريد.

قال: حيث سمحت يا مولاتي العزيزة بطلب البيان، فسأكون أبلغ في التعبير، وأفصح في اللسان، فاعلمي أن أخي إنما كان ابتعاده عنك وهجره إياك لشدة غيرته عليك، فأردت أن آتيك برهانا من سلطاني عليه، فرددته من أقصى الهجر إلى أدنى الحب، وأفهمته أن لا محل لغيرته عليك وسوء ظنه بك، فأنا قادر على أن أقصيه بعد الدنو، وما ذلك علي بعزيز، فأبدي له أنني إنما كنت مخطئا في اعتقادي بطهارتك وحكمي ببراءتك، ولست في حاجة يا مولاتي على إثبات ما أقول؛ فأنت تعلمين أني صادق الوعد والوعيد.

فسألته: وما همك من هذه المساعي؟

قال: أن أثبت لك أني قادر على أن أجعلك مسرورة أو حزينة، محبوبة أو مكروهة، سعيدة أو شقية. والآن فاعلمي أني أهواك.

فاحمر وجه المركيزة من الغضب وقالت لمحدثها: إنك لتهينني ...

ثم حاولت أن تستخلص من يديه عنان الجواد، فأمسك به الراهب وقال: لا تظني أن كلماتك تثنيني، فاعلمي أني امرؤ لا يهتم بالأقوال، وما عهدنا رجلا سب امرأة؛ إذ قال لها إنه يهواها، وقد يقدر الرجل على ألف حيلة يضطر بها المرأة إلى الإذعان لحبه، وما عليه من عار أن يعمد إلى حيلة منها مهما كبرت، إنما من العار أن يخيب أو يفشل فيها.

فسألته المركيزة وهي تبسم تبسمة احتقار وازدراء: وهل لي أن أعلم إلى أية حيلة عمدت؟

قال: إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن نجاحها مع امرأة ساكنة رزينة قوية الإرادة مثلك هو إقناعها بأن من مصلحتها الإذعان لهذا الحب.

فأجابته المركيزة وهي تحاول عبثا تخليص العنان من يد هذا اللئيم: حيث إنك تزعم معرفة صفاتي وخلالي التي ذكرتها، فسأزيدك علما بنفسي، وأريك كيف تعامل امرأة مثلي رجلا يفاتحها بمثل هذا الكلام، أما الآن فسأتركك لتسائل نفسك عما كان من الواجب علي أن أقابلك به من الألفاظ ردا على ألفاظك، وعما يجب علي أن أبلغه لزوجي.

فتبسم الراهب وقال: أنت حرة فيما تقولين يا سيدتي، فبلغي زوجك ما تريدين، بل أعيدي على مسمعه حديثنا كلمة كلمة، وبالغي ما شئت أن تبالغي، بل وزيدي في حديثك ما توحيه إليه ذاكرتك إن صدقا وإن كذبا، تجسيما لجريمتي في عينيه، ثم إذا أنت غيرت قلبه علي، وأبلغته مني، ووثقت أنه صدق حديثك وسينتقم لك، فسألقي عليه كلمتين تكذبان ما تقولينه وتهدمان ما تبنينه.

والآن قد تم حديثي، فلا أضطرك إلى البقاء؛ فتدبري فيما قلت، ولك مني إما حبيب مخلص وإما عدو لدود.

ثم ترك الراهب عنان الجواد، فوخزته المركيزة، وسارت به غير مسرعة؛ حتى لا يظنها الرجل هاربة منه أو خائفة، ثم تبعها الراهب، ووافيا القوم حيث يصيدون.

عدو جديد

صدق الراهب، وما كان قوله لغوا؛ أما المركيزة فطالما شاهدت ما لهذا الرجل من السلطة على زوجها، وقد رأت برهان ذلك مرارا، فسكتت ولم تبلغ زوجها شيئا مما دار بينها وبين أخيه، وظنت أخاه إنما كان يهددها فقط، وأنه لا تطاوعه مكارمه أن يفعل ما يقول، كأن لمثل هذا اللئيم مكارم أو فيه مروءة.

أما الراهب فأراد بعد افتراقه من المركيزة أن يعلم هل رفضت حبه لكراهة شخصية فيه أم لعفة صادقة فيها ، وكان أخوه الفارس جميلا كما أسلفنا القول، وله معرفة بآداب اجتماعية تعودها من معاشرة علية القوم، فنابت عنده مناب الذكاء، والجهول أقرب الناس للادعاء بالعلم، وأدناهم إلى التصديق بما يصفه به المنافقون من الفضائل التي ليست فيه، فعزم الراهب أن يقنعه بأنه - أي الفارس - يحب المركيزة، وأن حبه لها دليل على حسن ذوقه وإصابة اختياره، ولم يتعسر على الراهب إقناعه بذلك؛ فقد علمنا شدة التأثير الذي وقع على الفارس عند رؤيته المركيزة لأول مرة. وكان الفارس ملاحظا تمسك المركيزة بواجباتها لكرامة نفسها؛ فلم يتجاسر على أن يتقرب منها تقرب عاشق، بل أثر فيه جمالها وكمالها، فجعله لها من أخلص الخدم. ولاحظت المركيزة إخلاصه فقربته منها تقريب صديق، ونزعت من بينها وبينه التكليف إلى الحد الذي تسمح به درجة قرابته لها.

واختلى الراهب بأخيه الفارس على انفراد، وقال له: أخي، لقد قدر علينا - ونحن أخوان - أن نتعلق بهوى امرأة واحدة، وهذه المرأة هي زوجة أخينا، وإني أخشى أن يكون حبنا لها مجلبة للعداء بيننا، فأما أنا فقوي على نفسي قادر على كبح جماح شهواتي؛ فلذا تراني مستعدا أن أخلي لك المكان، وأتنازل لأجلك عن هذا الحب، خصوصا لعلمي أنك المفضل فينا عند فاتنتنا، والمقرب لديها؛ فاعمل إذن على مكانتك، وتعهد هذا الحب وارعه حتى يدوم لك، فإذا تم لك ما تشتهي أنجلي أنا إذ ذاك عن هذا الميدان. أما إن خفق مسعاك فأخل لي المكان لأعمل على خطب هذا الود المستعصي على الخاطبين، وأصيد هذا القلب النفور من الطالبين، وأتيقن هل هذا القلب من الجافين، أم أحيط - كما يقولون - بسياج العفاف الحصين.

وما خطر على قلب الفارس قبل حديث أخيه إمكان التطاول إلى المركيزة، ولكن لما حدثه الراهب عنها وقرب إلى ذهنه منالها، أوحى إليه فكره القاصر أنه قد يكون محبوبا لديها، وظن نفسه جديرا بأن يحب ويهوى؛ فحل في قلبه الزهو والطمع، وضاعف في عنايته بشئون المركيزة واهتمامه بها. ورأت المركيزة من زيادة اهتمامه دليلا جديدا على إخلاصه، ولم يخامرها من جهته ارتياب؛ فعظمت منزلته لديها بقدر ما صغرت في عينيها منزلة أخيه الراهب. فظن الفارس أن تقريبها له لشغفها به، فطرق الباب الذي طرقه أخوه من قبل؛ فاندهشت المركيزة وأوجست خيفة، ولكن تركته يفصح لها عن كل ما يضمره قلبه حتى تجلت لها مقاصده وعلمت غايته، فأوقفته عند حده كما أوقفت أخاه، وقرعته بكلمات من تلك الكلمات التي يوحي بهن للمرأة احتقارها للرجل، وبفصلها له، قبل أن يوحي بهن واجب الانتقام لعرضها وشرفها.

ولما أخفق الفارس فيما قصد، وكان ضعيف الهمة، تولاه اليأس؛ ففقد كل آماله، وعاد إلى أخيه يندب سوء حظه، وخيبة مسعاه، وضياع أتعابه، وشقاءه في هواه، وكان الراهب مترقبا لهذه النتيجة؛ ليتعزى بها أولا على ما ناله من الطرد والحرمان، وثانيا ليتخذها سبيلا لتنفيذ ما عزم عليه من المكائد، فما زال بالفارس يؤنبه على إخفاق مسعاه، ويستثير غضبه على المركيزة، حتى أوغر صدره عليها، وجعل منه عدوا لها ليكون له عونا عند الحاجة. ثم شرع الراهب في تنفيذ ما صمم عليه، فكان أول ما ظهر من نتيجة مكائده أن تغيرت أحوال المركيز على زوجته، وانصرف عنها قلبه، وكان السبب الظاهر في ذلك أن المركيزة كانت تحادث فتى في مأدبة وتصغي لحديثه؛ لذكائه واتساع مداركه، فاتخذ المركيز ذلك سببا للخصام، وآلم زوجته بقارص الكلام. ولكن فطنت المركيزة لليد المدبرة لهذا الشر، وعلمت أنها يد الراهب الفاجر، فلم يقربها هذا الإنذار منه، بل زادها ابتعادا عنه، وصارت لا تهمل فرصة تبدي له فيها شدة احتقارها له وازدرائها به.

ودامت هذه الحال بضعة شهور والمركيزة تشاهد زوجها يزداد كل يوم نفورا منها وهجرا لها، ورأت أن العيون مبثوثة عليها في كل مكان تستطلع حتى الخفي من شئونها الخصوصية.

أما الفارس والراهب فلبثا كما كانا، ولم يغيرا معاملتهما للمركيزة كما شاهدها أهل القصر منذ قدومهما، فأخفى الراهب ما أضمره وراء ستار من النفاق، وكمد الفارس غيظه لقلة حيلته وضعف إرادته.

ومات في هذه الأثناء المسيو يوانيس ده نوشير جد المركيزة ، مخلفا لها ثروة تنوف عن ستمائة ألف دينار، ضمتها إلى ثروتها الواسعة.

وكان من الأصول المرعية في الشريعة الرومانية المعمول بها في ذلك الحين بتلك البلاد أن مثل هذا الميراث يكون ملكا خاصا للمرأة؛ لأنه حادث بعد الزواج، فلا ينضم إلى المهر الذي آتته المرأة زوجها عند العقد، فللمرأة إذن حق التصرف المطلق في هذا المال، فلها أن تهبه أو توصي به لمن تشاء، ولها حق الانتفاع به، وليس لزوجها حق في ذلك، بل وليس له أن يدير شئون هذا المال إلا بتوكيل صادر له منها.

وعلم المركيز وأخواه أن المركيزة دعت لديها أحد الموثقين - والموثق موظف عمومي مختص بإجراء العقود الرسمية - فعلم زوجها أنها عازمة على أن تقرر بأن ما ورثته عن جدها خارج عن الأموال المشتركة بينها وبين زوجها، ورأى المركيز أن لا سبب يدعوها إلى هذا الإقرار إلا معاملته لها تلك المعاملة، التي طالما أنبأه ضميره أنه معتد عليها وظالم لها فيها.

الوصية

وذات يوم أعد المركيز وليمة، فكان مما قدم للمدعوين نوع من المأكول يعرف لدى الغربيين بالكريمة، وهو مصنوع من البيض واللبن والسكر، فانحرفت صحة كل من أكل من هذا النوع خصوصا المركيزة؛ فإنها كانت تناولت منه دفعتين. أما المركيز وأخواه فإنهما لم يصابا بشيء؛ لأنهما امتنعا عن هذا المأكول.

واشتبه الآكلون في الكريمة؛ فاحتفظوا على ما تبقى منها وأرسلوه للتحليل، فقرر الكيماويون اشتماله على جوهر سمي هو الزرنيخ، إلا أنه لاختلاطه باللبن وهو ضده قد فقد جزءا من مفعوله، ولم يحدث إلا نصف التأثير المنتظر منه.

ولم يعقب هذه الحادثة ضرر لأحد؛ فألقوا المسئولية فيها على خادم اتهموه بأنه خلط بين السكر والزرنيخ، ونسي القوم الحادثة أو تظاهروا بنسيانها.

وعاد المركيز عقب هذه الحادثة إلى الإقبال على زوجته والتودد إليها، ولكنها لم تغتر بهذه الظواهر الودية، وعلمت أن للراهب يدا فيها، وقد أصابت الظن، فإن هذا اللئيم أقنع أخاه بوجوب مداراته للمركيزة؛ ليكتسب رضاها طمعا في ميراث جدها الذي آل لها. فأخذ المركيز يتقرب لها متظاهرا بالحب؛ كيلا يخطر ببالها أن تحرر وصية تحرمه فيها من هذا المال.

وقد رأى أهل القصر عند حلول الخريف أن يذهبوا إلى بلدهم جنج؛ ليقضوا فيها هذا الفصل وتاليه، وجنج مدينة صغيرة في إقليم لنجدوك السفلي تابعة لأبرشية مونبلييه، وعلى مسيرة سبعة فراسخ من مدينة مونبلييه، وتسعة عشر فرسخا من مدينة أفينيون.

وكان المركيز بحق الوراثة سيدا لهذه المدينة، وله فيها قصر مشيد؛ فلا غرابة إذا ارتأى أهل القصر أن يقصدوا زيارتها أو الإقامة فيها، إلا أن المركيزة اعتراها انقباض عندما أنبئت بهذا العزم، وحضرت لديها حالا ذكرى تكهن الساحرة، ثم تذكرت شروعهم في سمها حديثا وكيف خاب قصدهم، وتفهت معاذيرهم؛ فازداد بالطبع خوفها وقوي رعبها.

ولم تتهم المركيزة سلفيها مباشرة بهذه الجريمة الأخيرة، إنما كانت واثقة بأن لها منهما عدوين زنيمين، ورأت أن رحيلها لتلك المدينة القصية، وإقامتها في قصر منقطع وسط قوم لا تعرفهم من قبل أمر لا يطمئن له الخاطر، ولا ينشرح له الصدر، لكنها رأت أن امتناعها عن السفر بلا عذر واضح موجب للتهكم عليها والاستخفاف بها، وإذا امتنعت فأي عذر تبديه دون أن تتهم زوجها وسلفيها فيه.

ولما حارت المركيزة في أمرها كتمت سرها في صدرها وسلمت أمرها لله، إلا أنها لم تشأ أن تترك أفينيون قبل أن تحرر الوصية التي طالما فكرت فيها عقب موت جدها، فدعت إليها سرا أحد الموثقين، وأملت عليه أنها توصي لوالدتها مدام ده روسان بمالها من بعدها، وعلى أمها أن توصي به بعدها لمن تختاره من ولدي المركيزة وتفضله على أخيه. وكان للمركيزة إذ ذاك ولدان من زوجها: غلام في السادسة من عمره، وابنة في الخامسة.

ولم تكتف المركيزة بما فعلت لما رسخ في مخيلتها من أن سفرها لن يكون إلا شؤما عليها؛ فدعت سرا في الليل قضاة أفينيون وجمعا من وجهائها، وقررت أمامهم بصوت جهوري أنها حررت بالأمس وصية، وطلبت منهم أن يعتبروا هذه الوصية آخر وصاياها، حيث حررتها وهي بكامل الصفات المطلوبة شرعا، بحيث إذا ماتت وقدمت لهم وصية أخرى بخطها أو ممضاة منها فلا يعتبروها صحيحة، وأكدت لهم أن كل ما يدعى بصدوره منها بعدها يكون إما مزورا أو تكون هي مرغمة عليه.

ثم تناولت المركيزة قلما وقررت كتابة ما قررته أمام الحاضرين شفهيا، وأمضت الإقرار وسلمته للحاضرين، واستودعتهم إياه وديعة لدى ذي شرف شهيد.

وحدا هذا الإقرار وكل هذا الاحتياط بالحاضرين إلى استطلاع سر الأمر، فطرحوا على المركيزة جملة أسئلة فلم تجاوبهم عليها بما يفيدهم أو يزيدهم علما بالأمر، وغاية ما أبلغتهم أن لديها أسبابا خصوصية لا تستطيع إبداءها تدعوها إلى فعل ما فعلت.

وبقي سر هذا الاجتماع مكتوما بعد أن تعهد كل من حاضريه للمركيزة أن لا يبوح بما سمعه منه أو رآه.

وفي الصباح، وهو اليوم السابق على يوم السفر إلى جنج، زارت المركيزة جمعيات أفينيون الخيرية وأماكنها الدينية، ووزعت فيها الصدقات الواسعة، طالبة من أهلها أن يقيموا الصلاة لأجلها ويستمطروا رحمة الله وبركاته عليها، حتى إذا ما ماتت تموت شهيدة مأجورة.

وفي المساء زارت جميع أصدقائها ومحبيها، وودعتهم والدموع تسيل على وجناتها وداع من لا يعود.

وقامت المركيزة ليلتها تصلي، ولما دخلت عليها وصيفتها لتوقظها عند الصباح وجدتها راكعة في المكان الذي تركتها فيه بالعشي.

وسافر آل جنج إلى مدينتهم دون أن يحدث حادث لهم في الطريق، ولما وصلت المركيزة إلى القصر وجدت فيه حماتها، فرأت منها سيدة كاملة نقية؛ فائتنست بوجودها، وهدأ لها روعها، ولم تعلم أنها لن تلبث في صحبتها إلا قليلا.

وأعد القوم للمركيزة أجمل غرفة في القصر، وكانت الغرفة في الطبقة الأولى منه، ومطلة على حوش لا منفذ له محاط من الخارج بإصطبلات القصر.

وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها في الغرفة عند الرقاد حتى عاد إليها روعها، فقامت تسبر جدران الغرفة وتبحث وراء أستارها وتحت فرشها بكل دقة وانتباه، فلم تدع مكانا للريب إلا فحصته.

ولم تمض بضعة أيام حتى بارحت القصر أم المركيز عائدة إلى مونبلييه. وفي اليوم الثالث لسفرها احتج المركيز بأعمال هامة تدعوه للسفر إلى أفينيون، فبارح القصر أيضا، وبقيت المركيزة في صحبة سلفيها وخوري يدعى بيريت، وهو رجل مضى عليه في خدمة آل جنج نيف وخمس وعشرون سنة، ولم يكن في القصر عدا من ذكرناهم سوى الخدم.

واهتمت المركيزة عند حلولها في المدينة بالتعرف بأهلها واستخلاص نخبتهم أصدقاء لها، وهان عليها الأمر؛ حيث كان لها من مركزها وآدابها ما يدعو كل إنسان إلى التقرب لها والتشرف بمعرفتها، فائتنست بأصدقائها الجدد، وزال عنها بعض الضجر من عزلتها في القصر.

وقد أحسنت المركيزة باتخاذها الأخدان؛ حيث تسلت بهم في وحدتها وساعدوها على قضاء أوقاتها، خصوصا بعد أن كتب لها زوجها بوجوب بقائها في جنج فصل الشتاء أيضا.

أما الراهب والفارس، فتظاهرا بنسيان ما مضى، وعاملا المركيزة باللطف والأدب؛ فاطمأنت من وجهتمها، وكان أخوهما لم يزل غائبا. ورغما عن كل الحوادث التي انتابت المركيزة لم يزل في قلبها بقية حب وحنان لزوجها، فمع اطمئنانها من جهة أخويه ما فتئ قلبها يذكره ويتألم لبعده.

ودخل الراهب بغتة ذات يوم على المركيزة، ففاجأها وهي تبكي قبل أن تتمكن من مسح دموعها، فعرف سرها، وهان عليه حملها على الاعتراف له بما يبكيها، فقالت له: إنها لن يزول همها وينكشف غمها ما دام زوجها يعاملها هذه المعاملة الدالة على البغض والعداء. فحاول الراهب أن يعزيها ويصبرها، وقال لها في كلامه: إنها الجانية على نفسها بنفسها؛ فإنها نفرت قلب زوجها من نحوها وأثرت في صداقته لها بعمل الوصية التي حررتها على يد موثق، فجاء إشهارها بهذه الكيفية مشهرا بزوجها، ثم أبلغها أن لا تنتظر لزوجها عودة ما دامت هذه الوصية باقية.

ودخل الراهب بعد بضعة أيام لدى المركيزة حاملا كتابا يدعي أنه أتاه من أخيه، وأن به أشياء يسرها إليه، فتناولت المركيزة الكتاب وقرأته، وإذا به شكوى من زوجها لسوء معاملتها له، وأسف لفقد ثقتها منه، وكان الكتاب مشحونا بعبارات تشف عن حبه الخالص لها وكدره لضياع حظه عندها؛ مما تؤثر على كل ذي إحساس قراءته.

وقد تأثرت المركيزة فعلا من قراءة هذا الكتاب، ورق قلبها، ولكنها عادت فرأت أنه مضى من يوم محادثتها للراهب المحادثة الأخيرة وبين تاريخ هذا الكتاب زمن يكفي لإعلام المركيز بنتيجة هذا الحديث، ولهذا أخفت المركيزة ما خطر لها فعله ريثما تتضح لها حقيقة الأمر بأجلى برهان، فترى هل العواطف التي تضمنها الجواب صادقة أم موعز بها توصلا إلى غاية يرجونها.

وأخذ الراهب يسعى لدى المركيزة محتجا بأنه يعمل على التوفيق بينها وبين زوجها، فيعطف في حديثه على ذكر الوصية، ويلح على المركيزة بإبطالها، وطال إلحاحه حتى ارتابت المركيزة من أمره، وعادت إليها مخاوفها القديمة، وزاد ضغطه عليها حتى إنها اضطرت أن تجيبه إلى طلبه؛ فتستريح من جهته وتأمن جانبه، ورأت أن الإشهاد الذي احتاطت ففعلته أمام رجال أفينيون قبل مبارحتها لها يبطل ما تقرره فيما بعد.

وعندما حضر إليها الراهب أعاد ذكر الوصية، فأجابته أنها مستعدة لإبطالها؛ إكراما لخاطر زوجها، وليكون هذا العمل دليلا جديدا على صدق حبها له، وسببا في تقريبه منها. ثم أرسلت فأحضرت أحد الموثقين وأملت عليه إقرارا في حضرة سلفيها توصي فيه بجميع مالها لزوجها من بعدها، وكان صدور هذا الإقرار بتاريخ 5 مايو سنة 1667؛ فأبدى سلفا المركيزة لها جزيل فرحهما بزوال سبب الشقاق الذي كان مستحكما بينها وبين أخيهما، وأكدا لها أن سيعود زوجها إلى أحسن مما كان عليه، ومضت على ذلك بضعة أيام والمركيزة تساورها الآمال وتتوسم تحسين الحال، ثم أتى خطاب من المركيز يبشرها بالصفاء، ويعدها بقرب العودة واللقاء.

الغدر والوقيعة

أثرت الحوادث في نفس المركيزة فاعتلت صحتها، ولم تشأ أن تتناول دواء يساعدها على الشفاء علها تنتهي من حياة كلها شقاء. ولكن لما طال عليها الحال - والنفس عزيزة على كل حال - عزمت على المداواة تخفيفا لما هي فيه، فأوصت الصيدلي أن يجهز لها من الأدوية ما لا يمجه الفم ولا تأنف منه الأنف، وأن يرسل لها ما يجهزه في الصباح، فأطاع الصيدلي الإشارة، وما كادت تشرق الغزالة حتى وافاها بالشراب المطلوب، إلا أنها نظرت إليه فرأته شرابا قد اسود لونه وغلظ قوامه، تأباه العين قبل الفم، وتعافه النفس قبل اللسان؛ فكتمت ما رأته، ورفعت الشراب فاستودعته خزانتها، وتناولت بعض حبوب سهلة التناول قد اعتادت عليها من قبل.

وما كادت تمر الساعة التي يجب على المركيزة أن تتناول فيها الشراب حتى أرسل الراهب والفارس يستفسران على صحتها، فأجابتهما أنها بخير، ودعتهما إلى وليمة خفيفة أعدتها عصرا لبعض صاحباتها، ومضت ساعة فأرسل الرجلان يسألان أيضا عن صحتها، فأبلغتهما أنها على أحسن ما ترجو، ولم تفطن إلى سبب اهتمامهما بها لهذا الحد، فظنته مجاملة ولطفا.

ولبثت المركيزة في فراشها تستقبل المدعوين ببشرها المعهود، ورأت في نفسها نشاطا وخفة لم تعهدهما من قبل، ودخل الراهب والفارس فانضما إلى الحضور، وصفت الموائد إلا أنهما لم يمدا لها يدا، بل أخذ الراهب مكانه من المائدة دون أن يذوق من ألوانها شيئا، واستند الفارس إلى قوائم السرير المضطجعة عليه امرأة أخيه، وكانت علائم الانشغال بادية على محيا الراهب، وكأن فكرة تساوره وهو يهتم في إبعادها عنه، إلا أنها ملكت ناصيته فأطرق طويلا مشغولا عن الحاضرين كأنه في حلم، حتى اندهش الحاضرون لحالته وما عهدوه في مثل هذه المحافل إلا ضحوكا طروبا.

أما الفارس فكانت عيناه لا تنصرفان عن وجه المركيزة، فلم يستلفت إليه - كأخيه - الأنظار، ولا بدع فقد كانت المركيزة ذاك المساء تستهوي بجمالها القلوب وتستوقف الأبصار. ولما تمت الدعوة أخذ الحاضرون في الانصراف فشيع الراهب السيدات إلى باب القصر، ولبث الفارس لدى المركيزة. ولكن ما كاد يختفي الراهب حتى حانت التفاتة من المركيزة نحو الفارس، فوجدته باهت اللون شاحبه لا يتمالك نفسه من الوقوف، وقد سقط على مقعد عند مؤخر السرير، فوجلت المركيزة عليه، وسألته عما به، وقبل أن يتمكن من الإجابة تحولت عنه أنظار المركيزة إذ استلفتها منظر مريع: رأت الراهب داخلا غرفتها شاحب اللون كأخيه بيده كأس وغدارة، فأغلق وراءه الباب بالقفل مرتين، فاستوت المركيزة على ركبتيها فوق السرير وقد ارتبط لسانها فلم يبد منها صوت، ولم تخرج من بين شفتيها كلمة، فاقترب منها الراهب وشفتاه ترتجفان وشعوره قائمة وعيناه يكاد يخرج منهما الشرر، فقدم لها الكأس والغدارة قائلا بعد سكوت رهيب: مولاتي، تخيري بين السم والنار.

ثم قال مشيرا لأخيه إذ سحب سيفه: وحد الحسام!

وبرق للمركيزة بارق أمل إذ رأت الفارس يستل حسامه فظنته يدفع عنها، ولكنها ما لبثت أن خاب ظنها فرأت نفسها بين عدوين، ضعيفة بين قويين، فهبطت من فوق السرير جاثية تخاطبهما: رباه! ماذا صنعت لكما؟ وبماذا أذنبت نحوكما حتى تحكما بإعدامي وقد كنتما حكمي، فكيف أصبحتما من أخصامي، ولا أرى لي ذنبا أتيته إلا صيانتي لواجباتي نحو زوجي، وهو أخوكما وشقيقكما.

ورأت المركيزة الراهب مغضبا عن كلامها، ووقفته وحركاته وأنظاره تدل على عزم ثابت ونية راسخة، فحولت أنظارها نحو أخيه قائلة: وأنت أيضا يا أخي، يالله! يالله وأنت أيضا، ألا فأشفق علي لوجه الله.

فضرب الفارس الأرض بقدمه، ووضع سن حسامه على صدر المركيزة قائلا: كفى أيتها السيدة كفى، فأسرعي باختيار ما تستهونين من أنواع المنون، وإلا فلنا الخيار ...

فالتفتت المركيزة نحو أخيه مرة أخرى فصادف فم الغدارة جبينها الطاهر، فعلمت أنها ميتة لا محالة، فاختارت أخف أسباب الموت حملا، وقالت لقاتليها: أعطياني كأس السم، وليغفر الله لكما قتلتي.

ثم تناولت الكأس ولكن لم تجسر على شربه؛ إذ وجدت فيه شرابا أسود غليظ القوام فمجته نفسها. وطمعت في استرحام عدويها؛ فحاولت أن تستلين قلبهما القاسي، فصاح بها الراهب صيحة وعيد، وأشار لها الفارس إشارة تهديد نزعا منها كل أمل في البقاء، فرفعت الكأس إلى شفتيها، وتمتمت قائلة: رباه يا مولاي ارحمني!

ثم تجرعت ما في الكأس وسقط أثناء انسكابه في فمها بعض نقط على صدرها العاري فحرقت بشرتها كأنها جمرة نار، وكأن ما تجرعته مزيجا من الزرنيخ والسليماني الأكال ممددا في ماء النار.

وظنت المسكينة أن ذلك كل ما يرجوه عدواها منها، فألقت الكأس من يدها، ولكن أسرع الراهب فالتقط الكأس، ونظر فيه فإذا به راسب ما زال لاصقا بقاعه، فتناوله على رأس سكين من الفضة وضمه إلى ما لصق بجدران الكأس فتكونت منه كرة صغيرة في حجم البندقة، فقدمها للمركيزة قائلا: هيا يا سيدتي وابتلعي مرشة الماء المقدس.

2

فصبرت المركيزة على أحكام القدر وفتحت فمها فتناولت الراسب من رأس السكين، ولكن لم تبتلعه، بل أخفته في فمها، واستلقت على السرير صارخة تعض بأسنانها في الفراش من شدة الألم، واغتنمت هذه الفرصة فألقت بما في فمها بين الوسائد على غفلة من قاتليها، ثم التفتت لهما قائلة ويداها مضمومتان إلى صدرها: ناشدتكما الله حيث عزمتما على إهلاك جسمي في الدنيا أن لا تفقداني أمل نجاة روحي في الأخرى، فأرسلوا إلي بقسيس معرف.

وكان الراهب والفارس قد سئما النظر إلى ضحيتهما وعوامل الموت والحياة تتنازع في صدرها، ورأيا أن مهمتهما قد تمت بتجرع المركيزة كأس السم وأنه لم يعد لها في الوجود إلا نفس معدود، فخرجا عند سماع رجائها الأخير وأغلقا وراءهما الباب.

وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها حتى تهيأ لها إمكان الهروب من هذا القصر المشئوم، فأسرعت نحو النافذة فوجدتها تعلو عن سطح الأرض اثنين وعشرين قدما، ورأت تحتها كوما من الأحجار والأنقاض، وكانت ملابسها قد انحلت فأصبحت بالقميص، فارتدت تنورة فوقه، وما كادت تنتهي من ربطها على خصرها حتى أحست بأقدام آتية نحو غرفتها، فظنت أن قاتليها عائدان إليها فأسرعت نحو النافذة كمجنونة، وعندما لمست قدماها حافتها فتح الباب فألقت المسكينة برأسها من النافذة دون أن تحسب لسقطتها حسابا، وكان الداخل خوري القصر، فلما رآها على حافة النافذة أسرع فتمكن من إمساكها من تنورتها عندما ألقت بنفسها، ولكن كان قماش التنورة خفيفا فتمزق في يدي الكاهن، وسقطت المركيزة، إنما تغير لهذه المقاومة وضع جسمها عند السقوط، فبدلا عن أن تنزل على قمة رأسها سقطت على قدميها فوق الأنقاض فأصيبت فيهما ببعض رضوض ليس إلا. ورغما عن دهشتها من السقطة ألهمت أن تنتقل من المكان الذي وقعت فيه، وكأنها شعرت بأن شيئا ألقي وراءها من النافذة، فقفزت قفزة من مكانها وإذا بالساقط جرة عظيمة مملوءة ماء ألقاها الخوري اللئيم وراءها ليسحق رأسها لما رآها قد فرت من يديه، ولكن قدر الله أن تسقط الجرة عند قدمي المركيزة فتتهشم دون أن تصيبها بسوء.

ورأى الخوري خيبة مرماه فقفل راجعا نحو الراهب والفارس ليعلمهما بهروب المركيزة من القصر.

أما المركيزة فما نالت قدماها الأرض حتى خطر لها خاطر أوحى إليها به ذكاؤها الحاضر، فأدخلت خصلة من شعرها إلى حلقها لتتقايأ ما تجرعته، وسهل عليها الأمر لأنها شربت السم بعد الأكل، ومنع الأكل السم أن يؤثر في جدران المعدة؛ لعدم مباشرته لها. وكان حلوفا منزليا على مقربة منها، فأسرع بابتلاع ما تقايأته فسقط في الحال يضطرب ويتقلص وما لبث أن نفق لوقته.

وقد ذكرنا في وصف القصر أن غرفة المركيزة مطلة على حوش مقفول الجهات، فلما ألقت المركيزة بنفسها من النافذة إلى ذلك الحوش ورأته بلا منفذ ظنت أنها إنما انتقلت من سجن إلى سجن، ولكنها ما لبثت أن رأت نورا يضيء من إحدى طاقات الإصطبلات المحيطة من الخارج بهذا الحوش، فأسرعت نحوها ونظرت فوجدت سائسا للخيل يهيئ مضجعه لينام فخاطبته قائلة: بربك يا صاح نجني، إنهم سموني ويريدون قتلي؛ فأرجوك أن لا تتركني وأشفق علي وارحمني، وافتح لي هذا الإصطبل لأخرج منه وأنجو بنفسي.

فلم يفقه السائس قصة محدثته إنما رأى أمامه امرأة تستنجده وهي محلولة الشعر ممزقة الثياب تكاد تكون عريانة، فرفعها بين يديه واخترق بها الإصطبلات ثم فتح لها بابا، فإذا هي في الطريق، وكانت امرأتان مارتين فدفعها إليهما السائس دون أن ينبئهما بخبرها؛ لعدم علمه به، ولم تجد المركيزة ما تحدثهما به غير قولها: بربكما خلصاني، إني مسمومة فنجياني.

ثم تركتهما فجأة، وأخذت تعدو في الطريق كالمجنونة، فرأت على بعد خطا منها باب القصر الذي خرجت منه، ورأت قاتليها ففرت من وجهيهما؛ فاندفعا وراءها وهي تصيح أنها مسمومة، وهما يصيحان أنها مجنونة، والناس في طريقهم لا يفهمون الخبر فيفسحون لهم السبيل.

وأكسب الخوف والجزع المركيزة قوة فوق قوتها، فصارت تعدو حافية تدمي قدميها الأحجار والصخور بعد أن كان ملبسها الخز والديباج، وصارت تستغيث بالناس، وما من مغيث؛ لأن كل من كان يراها وهي على هذا الحال محلولة الشعور ممزقة الثياب حافية الأقدام تجري في الطرقات لا يظن إلا أنها مجنونة كما يقول سلفاها.

وتوصل الفارس أخيرا إلى اللحاق بها، فجرها وهي تصيح إلى أقرب منزل منه، فأغلق وراءها الباب، ووقف الراهب حارسا عليه وبيده غدارة يهدد بها كل من يحاول الدخول أو الاقتراب.

وكان المنزل الذي جر إليه الفارس المركيزة لرجل يدعى ديبرا، وكان الرجل غائبا في ذلك الحين ولدى زوجته زائرات مجتمعات، فدخل الفارس والمركيزة يتقاتلان حتى وصلا إلى حيث اجتمع النساء، وكان من بينهن كثير من صاحبات المركيزة، فقمن لهذا المشهد مندهشات غاية الاندهاش يردن أن يخلصنها من يد هذا الوحش الضاري، فردهن الفارس قائلا: إنها أصيبت بالجنون، وكان من منظر المركيزة ما يحمل على تصديق هذا الافتراء، أما هي فأظهرت للقوم صدرها المحروق وشفتيها المسودتين من السم الذي تجرعته، وأخذت تصيح مكذبة دعواه وتعض ساعديها من الألم، وتقول: إنها مسمومة وإنها ستموت، وتلح عليهم بطلب لبن أو ماء ليطفئ اللهيب المتأجج في صدرها، فتقدمت إحدى الحاضرات وهي مدام برونيل زوجة أحد القسوس البروتستنت، فاقتربت من المركيزة ودست في يدها علبة بها لعوق، فتناولت منها المركيزة بعض قطع، وابتلعتها تلو بعضها بينما كان الفارس يلتفت وراءه، وقامت سيدة غيرها فقدمت لها قدحا من الماء، فالتفت الفارس عندما رفعت المركيزة القدح إلى فمها فكسره بين أسنانها، وقطعت إحدى شظايا الزجاج شفتيها؛ فأهاج هذا الفعل النسوة الحاضرات فقمن يردن الانقضاض على الفارس، لكن خشيت المركيزة أن يزدنه جراءة وأملت أن تضع من حدته فطلبت من الحاضرات أن يتركنها معه فتركنها بعد إلحاح ودخلن غرفة مجاورة للتي كن فيها، وكان هذا قصد الفارس.

وما كادت تختلي المركيزة بالفارس حتى ضمت يديها إلى صدرها وجثت أمامه على ركبتيها وقالت بصوت لين تسترحمه: أيها الفارس، بل أيها الأخ العزيز، أما بقي في قلبك ذرة من الشفقة علي، أنا التي كنت أخلص لك الود ولا أزال إلى هذه اللحظة أقدم دمي لآخر قطرة منه لخدمتك، أنت تعلم أني صادقة، فلماذا تعاملني بهذا العداء، وماذا يقول الناس عنك، أخي ما أشقاني إذ عاملتني بهذه القسوة، ومع ذلك فإذا أشفقت علي ووهبتني الحياة فأقسم لك أني أنسى ما مضى ولا أنسى فضلك، بل أعتبرك إلى الأبد مخلصي وصديقي الحميم.

ثم استوت المركيزة فجأة على قدميها صارخة ورفعت يدها إلى صدرها؛ ذلك لأن الفارس اللئيم اغتنم فرصة انشغالها باسترحامه فسل حسامه على غفلة منها وكان الحسام قصيرا كالخنجر فما كادت تتم حديثها حتى طعنها به في صدرها ثم أتبع الطعنة بأخرى في كتفها فمنعتها الترقوة أن تنفذ إلى داخل الجسم فحملت الطعنتين وأخذت تعدو نحو الغرفة التي انسحب إليها النساء صارخة: أغثنني، أغثنني، فقد قتلني.

وفيما هي تجري تمكن الفارس من طعنها بحسامه خمس طعنات في ظهرها، وأراد أن يزيد لولا أن انكسر السلاح في الطعنة الخامسة لشدة الضربة، وبقي طرفه غائرا في كتف المركيزة، فوقعت المركيزة على وجهها فوق الأرض مضرجة بدمائها، اندفعت ودماؤها تسيل من كل صوب حتى غمرت أرض الغرفة.

وظن الفارس أنه قضى عليها، ورأى النساء آتيات لنجدتها فترك الغرفة، ووافى أخاه بباب الدار فوجده مكانه والغدارة بيده، فجره من ساعده، فتوقف الراهب عن المسير، فقال له أخوه: هيا بنا فقد قضي الأمر.

فسار الراهب مع أخيه بضع خطوات، ولكن فتحت نافذة من المنزل، وأطلت منها النسوة يصرخن ويستنجدن؛ إذ نظرن المركيزة تحتضر، فوقف الراهب وأمسك بذراع أخيه قائلا: كيف تقول قضي الأمر أيها الفارس؛ فاستنجاد النسوة دليل على أنها لم تزل حية.

فأجابه الفارس: اذهب وتحقق الأمر بعينيك إن شئت، أما أنا فقد انقضى دوري، قال: صدقت وعلى هذا عزمت.

ثم عاد مسرعا للمنزل ورقي الدرج وهجم على الغرفة التي فيها النسوة، فوجدهن يتعاون على رفع المركيزة إلى الفراش، وهي لضعفها وكثرة ما فقدت من الدماء لا تستطيع القيام، فدفعهن الراهب وتقدم نحو المركيزة، ووضع فم الغدارة على صدرها، ولكن أسرعت مدام برونيل - التي مر بنا ذكرها - فرفعت ماسورة الغدارة عندما أطلق القاتل، فصعد العيار إلى السقف بدل أن يصيب المركيزة، فاغتاظ الراهب وأمسك الغدارة من ماسورتها وضرب بها مدام برونيل على رأسها ضربة كادت تفقدها الرشد فتسقط على الأرض، وأراد أن يثني لولا أن تكاثرت عليه النسوة، ودفعنه خارج المنزل تشيعه اللعنات والشتائم، ثم أغلقن وراءه الباب.

واغتنم القاتلان فرصة الليل فبارحا المدينة سرا، ووصلا إلى أوبيناس على مسير فرسخ من جنج نحو الساعة العاشرة مساء.

وفي أثناء ذلك كانت النسوة مهتمات بالمركيزة، فرفعنها إلى الفراش، وأردن أن يرقدنها، فحال دون ذلك نصل الحسام الغائر في كتفها، وحاولن أن يستخرجنه فلم يفلحن؛ لأنه كان ساكنا في العظم متمكنا فيه؛ فأرشدت المركيزة - على عظم ما بها - مدام برونيل إلى ما يجب عليها عمله، فجلست هذه السيدة فوق السرير وعاون النساء المركيزة على الوقوف بجواره، ثم أمسكت مدام برونيل بقطعة النصل بكلتا يديها واتكأت بركبتيها على ظهر المركيزة ثم جذبت النصل ورفعت المركيزة بقوة؛ فنجحت العملية وتمكنت المسكينة أخيرا من الاضطجاع فوق السرير، وكانت الساعة التاسعة مساء؛ أي مضت عليه ثلاث ساعات، فكانت في عذاب لم يعذبه أحد، من أمر ما مر على مخلوق.

شهيدة

وعلم حكام جنج بما تم فابتدءوا يصدقون أنها جريمة قتل دبرت ثم نفذت، فانتقلوا بأنفسهم ومعهم قوة من الجند إلى حيث آوت المركيزة، فلما نظرتهم جمعت قواها واستوت على فراشها ضامة يديها إلى صدرها تتوسل إليهم أن يأخذوها تحت حمايتهم؛ لأن خوفها كان عظيما، وكانت تتصور في كل لحظة أن أحد قاتليها داخل عليها فطمئنها ولاة الأمر وخرقوا الجنود المسلحة لتحرس الطرقات المؤدية للمنزل. ثم أرسلوا إلى مونبلييه حالا يستحضرون الأطباء والجراحين. ورفعوا تقريرا عن الحادثة إلى البارون «ده تريسان» حاكم لنجدوك العام، وأرسلوا له أسماء وأوصاف القاتلين، فبث وراءهما العيون والأرصاد، ولكنهما كانا قد أفلتا من يديه؛ إذ علم أن الراهب والفارس باتا ليلة الجريمة في أوبيناس وأخذا يعنفان بعضهما على سوء تدبيرهما وخيبة مساعيهما، وتطاولا في الكلام حتى كادا يقتتلان، ثم بارحا المدينة قبل الصباح فاستقلا ظهر البحر.

وكان المركيز ده جنج بأفينيون يحاكم أحد خدامه جنائيا على سرقته مائتي ريال، فبلغه خبر الحادثة فبهت لونه واضطرب عندما تلا الرسول على مسامعه القصة، واشتد به الغضب على أخويه فأقسم أن لن يقتلهما سواه، ورغما عن انشغاله على صحة المركيزة لبث بأفينيون إلى عصر الغد، وقابل فيها بعضا من أصحابه دون أن يكلمهم مطلقا في موضوع الحادثة.

ووصل المركيز إلى جنج وقد مضت أربعة أيام على الحادثة، فقصد منزل ديبرا، وطلب أن يقابل زوجته، وكان قد سبقه إليها قوم من الرهبان الصالحين، فصبروها على أمرها، وشجعوها لمقابلة زوجها؛ فلهذا أذنت له بالدخول لديها عندما بلغها قدومه، فدخل عليها والدمع يتساقط من عينيه وهو يقطع شعوره ويبدي أقصى علائم الحزن واليأس.

واستقبلت المركيزة المركيز استقبال زوجة محسنة لزوج مسيء، بل استقبال مؤمنة حضرها الموت لعدو تسامحه وتصفح عما جناه، فلم توجه له لوما على ما أتاه نحوها، بل عاتبته عتابا لطيفا على هجره، وكان المركيز قد اشتكى لبعض القسوس من تعنيف زوجته له على تركه إياها، فأبلغ القسيس شكواه للمركيزة، فدعت المركيزة زوجها وكان محاطا بالعواد، فاعتذرت له على رءوس الأشهاد عما فرط منها في حقه، واستسمحته، والتمست منه أن لا ينسب ما صدر منها إلا إلى ما قاسته من الآلام لبعده لا إلى نقص في درجة اعتباره لديها، أو تقصير في واجب احترامه المفروض عليها، فصدق عليها قول الشاعر:

إني له عن دمي المسفوك معتذر

أقول حملته في سفكه تعبا

ولما اختلى المركيز بزوجته أراد أن يغتنم فرصة انعطافها إليه ليدفعها إلى إلغاء الإشهاد الذي نطقت به أمام حكام أفينيون؛ لأن نواب هذه المدينة وقضاتها الذين حضروا ذلك الإشهاد رفضوا تسجيل الهبة التي حررتها المركيزة بجنج باسم زوجها بناء على إلحاح أخيه، وكان أخوه قد أرسلها له لتسجيلها عقب تحريرها، فرفضت المركيزة في هذا الموضوع طلب زوجها، وأفهمته أنها لن تغير عزمها؛ لأن هذه الثروة ثروة أولادها، فمن واجباتها المحافظة عليها، أما الإشهاد الذي نطقت به أمام رجال أفينيون فهو آخر وصاياها ولن تغير فيه حرفا.

ورغما عن هذا التصريح لبث المركيز لدى زوجته يحيطها بعنايته ويرعاها رعاية زوج مخلص ودود، وحضرت مدام روسان والدة المركيزة بعد يومين من حضور المركيز، فاندهشت لما رأته قائما بخدمة ابنتها، وكانت تعتبره - كما أشيع - أحد قاتليها، وكانت المركيزة لا تعتقد ذلك ولا تصدقه، فعملت على محو ما علق بذهن والدتها نحو زوجها من أقوال الناس، واضطرتها إلى تقبيله كما تقبل الوالدة ولدها، فتألمت مدام روسان أشد الألم؛ لتعامي ابنتها وإخلاصها هذا الإخلاص الأعمى لزوجها، ورغما عن كل حنوها عليها عزمت على تركها ولما يمض عليها لديها يومان. وألحت المركيزة عبثا على أمها بالبقاء فلم تستطع تغيير عزمها، وتركتها أمها على فراش الموت وسافرت.

وقد أثر في نفس المركيزة سفر أمها وأحزنها، فطلبت أن تنقل إلى مونبلييه، ولم يعد لها صبر على احتمال البقاء في المكان الذي أصيبت فيه؛ حيث تهيج رؤيتها له أشجانها، وطالما تصور لها فيه أنها ترى قاتليها يطاردانها فتقوم من رقادها مذعورة تصرخ وتستغيث، ولكن رأى الأطباء أن صحتها لا تساعدها على الانتقال، فقرروا أن الحركة تؤذيها وتزيد حالتها خطرا. فلما سمعت المركيزة قرارهم استسلمت له وصرفت عن فكرها السفر، وأخذت تهتم بما يهيئها لملاقاة ربها لتموت ميتة الأبرار كما عذبت في الحياة عذاب الشهداء. فأرسلت تستحضر الزاد الأخير «القربان المقدس»، ثم جددت لزوجها معاذيرها، وأعادت على مسامعه مسامحتها لأخويه على ما جنيا نحوها بلفظ عذب يسيل رقة كما يسطع وجهها نورا، فكانت في جمالها أشبه بالملائكة منها بالبشر.

ولما دخل الكاهن يحمل القربان تغيرت المركيزة، وارتسمت على وجهها علائم الرعب الشديد حيث عرفته، إنه ذلك اللئيم بيريت الذي أراد أولا أن يمنعها من الهرب من القصر، ثم قصد أن يسحق رأسها عندما ألقى وراءها جرة الماء لما أفلتت من يديه، ثم ذهب فأبلغ سلفيها أمر هروبها، وهو الآن يأتيها بالأشياء المقدسة التي تقربها من الله!

وكمدت المركيزة غيظها، ولما رأت الكاهن يقترب منها غير هياب لم تشأ أن تشهر أمره وتكدر صفو الساعة الرهيبة التي هي فيها بإظهار جرمه للناس، بل مالت إلى جهته، وألقت إليه هذه الكلمات: أيها الأب، ما أظنك إلا ذاكرا ما فات، فأتعشم أن تزيل ما بي من الشك بمشاطرتي في تناول هذا القربان.

فطأطأ الكاهن رأسه علامة الإيجاب، وتناولت المركيزة برشانة القربان فاقتسمتها معه مبرهنة له بذلك أنها سامحته كما سامحت شركاءه، وأنها ترجو من الله والناس أن يغفروا لها كما غفرت.

وانقضت الأيام وحال المركيزة على ما هي عليه، بل زادتها الحمى جمالا؛ فتوردت وجنتاها وأشرق وجهها، فقوي أمل الناس في شفائها. أما هي فكانت أدرى بحالها من غيرها فلم تغتر بظواهر الصحة الكاذبة التي تبدو عليها، وأيقنت أن ساعتها قريبة، فدعت إليها ولدها وكان قد بلغ السابعة، وألزمته جانب فراشها طالبة منه أن يطيل النظر إلى وجهها ليتذكره ما حيي ولا ينساها في صلواته، فبكى الغلام وعاهدها أن لا ينساها ولا ينسى أن ينتقم لها من قاتليها إذا بلغ سن الرجال، فراجعته أمه قائلة له: إن الانتقام بيد الله في السماء وبيد الملك في الأرض، وإنه يحسن بالمؤمن العاقل أن يكل أمره إليهما على كل حال.

وفي الثالث من شهر يونيو، وصل إلى جنج المسيو كتلان المستشار المنتدب من قبل برلمان تولوز لتحقيق واقعة المركيزة، وبصحبته الموظفون اللازمون لقضاء مهمته، لكنه لم يتمكن في مساء وصوله من رؤية المركيزة؛ لأنها كانت في دور إغماء طويل لبث بضع ساعات وعقبه استرخاء في أعصاب المخ لا يحتمل معها الوثوق في حديثها؛ فأجل القاضي مقابلتها إلى الغد.

وفي الغد انتقل المستشار إلى منزل «ديبرا»، فدخله بلا استئذان ولا سابقة إخطار، وقصد الغرفة التي بها المركيزة رغما عن معارضة القائمين على بابها له عند الدخول، فقابلته المركيزة وحادثته بذهن حاضر وتعقل تام، حتى ظن أن ما بلغه بالأمس عنها فرية يقصدون بها أن يمنعوه عن استجوابها .

وامتنعت المركيزة أولا عن حكاية الواقعة قائلة: إنها لا تريد أن تعفو وتتهم في آن واحد، ولكن أفهمها القاضي أن الواجب عليها قبل كل شيء احتراما للعدل أن لا تنكر شيئا مما حصل، وأن تذكر الحقيقة على وجهها؛ خشية أن يضل المحققون فيأخذون بجريرتها مظلوما أو يحكمون على بريء بدلا عن أن تنال يد العدالة المجرمين الظالمين، فاقتنعت المركيزة بهذه الحجة، وأخذت تشرح للقاضي وقائع الحادثة مفصلة، فلبثت مختلية معه ساعة ونصف ساعة أحاطته فيها علما بكل ما تم لها مع زوجها وأخويه.

وعاد القاضي في الغد فوجد المرض قد اشتد على المركيزة وتأكد بعينيه حالتها فتركها خشية أن يتعبها بالحديث، وكان قد حصل منها على كل ما تهمه معرفته فلم يطلب المزيد.

وابتدأت الآلام من ذلك اليوم تتناوب المركيزة فلم تطق صبرا على أمرها، وكانت تود أن تتظاهر بالصبر والثبات إلى آخر لحظة من حياتها فخانتها قواها، وصارت تصرخ من الألم صراخا قد اختلط بدعواتها، وانقضى عليها اليوم الرابع من شهر يونيو وصباح الخامس منه، وهي في هذه الحال، ثم فاضت نفسها في الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم، وكان يوم أحد، فارتدت الروح إلى بارئها تاركة دار الشقاء والفناء إلى دار النعيم والبقاء.

المحاكمة

وما كادت تسلم المركيزة الروح، حتى صدر الأمر بتشريح جثتها، فقرر الأطباء أنها ماتت بتأثير السم وحده؛ حيث لم تكن إحدى طعنات الحسام السبع التي طعنتها بالغة مقتلا منها، ووجد الأطباء معدة المركيزة وأحشاءها محترقة ومخها مسودا، وقد جاء في محضر التحقيق، كما روته إحدى الرسائل التي نشرت عن مقتل المركيزة، أنهم وجدوا كمية السم التي جرعتها كافية لقتل لبؤة في بضع ساعات، ومع ذلك قاومت المركيزة مفعول ذلك السم تسعة عشر يوما، كأنه كان عسيرا على الموت أن يختطف ذلك الجسم الجميل، وقد كان زينة الحياة.

ولما علم المسيو كتلان بوفاة المركيزة أنفذ سرية من الجند إلى قصر جنج، وأمرهم بالقبض على المركيز والراهب وخدم القصر جميعا عدا السائس الذي أعان المركيزة على الهروب. ووجد قائد السرية المركيز يتمشى في ردهة القصر الكبرى حزينا مضطربا، فأبلغه الأمر المكلف بتنفيذه، فلم يبد المركيز معارضة فيه؛ كأنه كان مترقبا له، وسلم نفسه إلى الجنود طائعا، قائلا إنه على كل حال يريد الذهاب إلى البرلمان لمحاكمة قاتلي زوجته. واستحوذ قائد السرية على مفاتيح القصر ومفتاح مكتب المركيز، ثم أمر بترحيل المقبوض عليهم، ومنهم المركيز، إلى سجون مونبلييه.

وما كاد يصل المركيز إلى هذه المدينة، وكان وصوله إليها ليلا، حتى شاع فيها خبر قدومه بأسرع من البرق، وتناولته الأفواه في أنحائها، فكنت ترى النوافذ تنفتح في طريقه ويطل منها القوم ينظرون إليه وهو سائر تحتاط به الجند، وحوله صبية في الطريق والسوقة يحملون المشاعل، فيضيء وجهه للناظرين، وكان المركيز والراهب على حصانين مهزولين تحتاط بهما الجنود، ولولا الجنود لفتكت بهما الناس؛ إذ كنت ترى الرجل يثير الرجل على هذين المجرمين ليقطعانهما إربا، ولولا دفع الجند لقضى الناس فيهما أربا.

ولما علمت مدام ده روسان بوفاة المركيزة، استحوذت على ما خلفت من مال وعقار، ثم انضمت إلى الدعوى الجنائية، وقالت: إنها لن ترجع عنها حتى تنتقم العدالة من قاتلي ابنتها.

وشرع القاضي في التحقيق، فاستجوب المركيز أولا، ولبث يناقشه إحدى عشرة ساعة، ثم استجوب الباقين، وأصدر قرارا بترحيلهم جميعا من سجون مونبلييه إلى سجون تولوز مقر البرلمان.

وقد قدمت مدام روسان إلى المحكمة مذكرة تتهم فيها صهرها، وتبدي فيها بأوضح بيان كيفية اشتراك المركيز مع القاتلين، إن لم يكن في الفعل ففي النية والعزم والتمهيد.

وكان دفاع المركيز بسيطا، قال فيه: إن ربه ابتلاه بأخوين لئيمين شرعا أولا في إصابته في عرضه، ثم أصاباه في نفس زوجة كانت عزيزة لديه، فأماتاها ميتة شنيعة، وما يدهشه إلا اتهامه في هذه الجريمة الفظيعة.

ورغما عن دقة التحقيق لم يتمكن المحقق من إيجاد أوجه إدانة قوية ضد المركيز، وكانت الشبه الموجهة إليه لا تكفي لإصدار الحكم بإعدامه.

وفي 21 أغسطس سنة 1667، صدر الحكم غيابيا ضد الراهب والفارس بأن تفصص أعضاؤهما وهما حيين ، وحضوريا ضد المركيز ده جنج بنفيه نفيا أبديا خارج المملكة، ومصادرة أمواله، وتجريده من ألقابه، وحرمانه من وراثة أولاده. أما الخوري بيريت فحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد أن جرد من ألقابه الدينية، وطرد من الطوائف المنتمي إليها.

وتحدث الناس بهذا الحكم وانتقدوه طويلا، ولم تكن الظروف المخففة معروفة في قانون ذلك الزمن، فأخذ القوم يقولون: إن المركيز إما شريك لأخويه أو غير شريك، فإن كان شريكا فالحكم الصادر ضده خفيف جدا، وإن لم يكن فالحكم شديد.

وكان الملك لويس الرابع عشر من رأي الجمهور في هذا الحكم، حيث لم ينس جمال المركيزة الفتان، حتى إنهم لما طلبوا منه العفو عن المركيز ده دنز المتهم بسم امرأته ظانين أن الملك نسي قصة آل جنج، أجابهم الملك قائلا: ليس المركيز في حاجة إلى عفوي، حيث إن قضيته منظورة أمام محكمة تولوز، فله من رأفة قضاتها ما يغنيه عن عفوي، كما استغنى عنه المركيز ده جنج.

مصير الظالمين

أما وقد علم القراء ما تم للمركيزة، فلعلهم يتساءلون عما تم لقاتليها، فلنرو لهم عنهم خبرا، فأما الخوري بيريبت فكان أول من ذهبت روحه منهم إلى سقر لتناقش الحساب عما جنته يداه؛ إذ مات وهو مقيد في الأغلال وسائر من تولوز إلى برست ليقضي عقوبته في ليماناتها كما سلف القول.

أما الفارس فقصد مدينة البندقية، وانخرط في سلك جنودها، وكانت جمهورية البندقية في حرب مع الأتراك، فأرسل مع من أرسل إلى كنديا «بجزيرة كريت»، وكان المسلمون محاصرين لها منذ اثنين وعشرين عاما. وبينما هو يتمشى ذات يوم بعد وصوله بأيام قلائل فوق أسوار المدينة ومعه ضابطان، إذ ألقيت قنبلة وانفجرت تحت أرجلهم فقتلت إحدى شظاياها الفارس ولم يصب رفيقاه بسوء؛ ولذا يرى الناس في هذه الحادثة يد انتقام من لا يغفل ولا ينام.

أما الراهب فحديثه طويل، وما تم له أعجب مما تم لأخيه؛ إذ ترك الراهب أخاه في ضواحي مدينة جنوة، وسافر مخترقا إيطاليا وسويسرا وألمانيا حتى أتى هولندا، فدخلها متنكرا، وسمى نفسه لا مارتليير. وتردد الراهب في اختيار البلد الذي يلقي إليه عصا ترحاله، حتى قر عزمه على أن يقصد مدينة فيان، وكان أميرها في ذلك الحين يدعى الكونت ده ليب، وتعرف فيها الراهب برجل من الأشراف توصل به إلى الأمير، فقدمه له الرجل بصفة غريب من الفرنساويين الذين أقصتهم الحروب الدينية عن بلادهم.

ورأى الأمير من ذلك الغريب الذي آوى إلى مملكته نابغة في العلوم والمعارف، وبحرا في الآداب، فعهد إليه بتربية ولي عهده، وكان غلاما في التاسعة من عمره، ورأى الراهب في ما أسند إليه السعادة والرفعة، فقبل الوظيفة شاكرا ممتنا.

وكان الراهب ده جنج ذا عزيمة لا تفل وذا سلطان على نفسه لا يغلب، فلما رأى سعادته بل حياته متوقفة على سيرته، اجتهد فأخفى ما به من رذيلة وسوء خلق، وتجلى في الناس متظاهرا بما ليس فيه من فضل ومن كرم.

وقد تقوم العزيمة مقام الفضيلة، بل كل الفضيلة في العزيمة، وقد توصل الراهب إلى تقوية إرادة تلميذه وتقويم أهوائه بما غرسه فيه من مبادئ العزم والحزم في الأمور، حتى جعله على صغر سنه كهلا في فن السياسة والإدارة، ورأى الأمير ليب ثمرة هذه التربية، فأراد أيضا أن يقتبس من جنيها، فصار يستشير معلم ولده في كل شأن من شئون ملكه، حتى أصبح «لا مارتليير» - الموهوم - روح هذه الإمارة ولما يمض عليه فيها حين طويل.

وكان لدى الأميرة - زوجة الأمير - ابنة عم فقيرة، لكنها ذات نسب رفيع، تربيها وتحبها محبة الولد، فما لبثت الأميرة أن رأت انعطافا من الفتاة نحو مربي ابنها، وميلا له لا يليق بمكانتها وشرفها، وكان الراهب قد توصل - بدهائه - إلى إلقاء الفتاة المسكينة في شرك حبه، فاستدعت الأميرة ابنة عمها إليها، وتحايلت حتى اعترفت لها الفتاة بحبها ل «مارتليير»، فقالت لها الأميرة: إنها وزوجها يقدران ذلك الرجل حق قدره وفي عزمهما أن يكافئاه على خدماته لابنهما وللمملكة بأن يرفعاه مكانا عليا، ولكن هذا الرجل ليس له لقب شريف يعرف به، ولا عائلة ظاهرة يفخر بالانتساب إليها، فما له أن يطمع في مصاهرة الأمراء والملوك. وزادت الأميرة قائلة: إنها لا تشترط أن يخطب ابنة عمها أمير من آل بوريون أو روهان، إنما لا تتنازل عن أن يكون خاطبها من الأشراف ولو كان فتى قرويا.

وأعادت الفتاة عن سمع حبيبها ما دار من الحديث بينها وبين الأميرة كلمة كلمة، وظنت أنه يتكدر له، لكنه أجابها قائلا: إن الأمر ممهد إن لم يكن إلا انتسابه العائق. وكان الراهب يظن أن إقامته ثماني سنين لدى الأمير أمينا لأسراره ومحفوفا بعنايته وإكرامه قد تجعل له مكانة لديه حتى إذا باح له باسمه لم يجد منه سخطا عليه، فطلب من الأميرة أن تسمح له بمقابلتها، فصرحت حتى إذا تمثل بين يديها طأطأ أمامها رأسه تحية واحتراما، ثم قال: مولاتي، أراني سعيدا إذ تشرفت باكتساب رضاء سموكم، ولكن مولاتي تحول دون إتمام أسباب سعادتي، فابنة عمها تنازلت بقبولي بعلا لها، ومولاي الأمير الصغير يعززني في آمالي ويصفح عن جراءتي، فما لمولاتي تعترض سبيل هذا القران؟ وهل أتيت ذنبا أؤاخذ عليه في السنين الثماني التي قضيتها في خدمة سموها؟

فأجابته الأميرة: إنك لم تأت شيئا تؤاخذ عليه يا سيدي، إنما أنا لا أريد أن أوافق على عقد قران تؤاخذني عليه الناس، وكنت أظنك ذا فكر وتبصر فلا تضطرني إلى تنبيهك إلى حدودك، فاعلم أن طلباتك مجابة ما لم تخرج عن حد اللياقة، فاطلب إن شئت ضعف ما تقتضي من المال يصرف لك، واطلب إن شئت مركزا أسمى مما أنت فيه تمنحه، لكن لا تطمح أنظارك إلى عقد قران لا تؤهلك مكانتك إليه.

فقال الراهب: ومن أنبأ مولاتي أن نسبي لا يسمح لي بالحصول على هذا الشرف؟

قالت مندهشة: أنت على ما يظهر لي، فإن لم ينبئني لسانك فقد أنبأني اسمك.

فأجابها وقد تجرأ: وإذا كان هذا الاسم غير اسمي وقد اضطرتني الحوادث إلى استعارته، أفلا تتنازل مولاتي بتغيير رأيها نحوي؟

فقالت الأميرة: لقد تقدمت في حديثك بما لم يعد لك أن تعدل عنه فأتمم حديثك، وأعلمني من أنت، وإني أقسم لك إن كنت من بيت كريم كما تلمح لي أني لا أخيب لك أملا، ولا تظن أن فقرك يحول دون إتمام أمنيتك.

فخر الراهب على ركبتيه أمام الأميرة وقال: آه يا مولاتي، إن اسمي مشهور ومعروف لديك، ويا ليت لي أن أفقد نصف دمي دون أن ألفظ به في هذه الساعة، ولكنك قلت: إنه لم يعد لي سبيل إلى العدول عن إتمام حديثي، فاعلمي يا مولاتي أني ذلك الراهب التعيس الذي بلغت مسامعك أخبار جرائمه ورآك تعيدينها على مسمع منه، فأنا ذلك الراهب ده جنج.

فصاحت الأميرة منذعرة قائلة: الراهب ده جنج، الراهب ده جنج؟! أأنت ذلك الراهب اللعين الذي تقشعر من اسمه الأبدان، وإليك عهدنا بتربية ولدنا الوحيد؟ ولكن لا، لا أظنك إياه يا سيدي، وأرجو أن تكون كاذبا فيما تدعيه؛ لأنني لو كنت واثقة أنك ذلك الراهب لأمرت الآن بالقبض عليك وإرسالك إلى فرنسا لتلقى فيها جزاء ما جنته يداك، والآن فاسمع: إن كنت صادقا فيما تقول فخير لك أن تبارح حالا هذا القصر، بل هذه المدينة، بل هذه الإمارة، وكفاني عذابا فيما بقي من أيامي أن أذكر أنه ضمني وضمك بيت واحد، فلبثت معك فيه سبع سنين لا أدري من أنت.

وحاول الراهب أن يجيب، ولكن علا صوت الأميرة على صوته، وكان الأمير الصغير واقفا بالباب مستعدا لمساعدة أستاذه في بلوغ مرامه، فلما رأى الجدال قد علا بينه وبين أمه دخل ليصلح ذات البين، ولكنه وجد أمه وقد بلغ منها الرعب مبلغا عظيما، حتى إنها عندما رأته داخلا جذبته إليها كأنما تحتمي به، فأخذ يلاطفها ويسترحمها، فلم يتمكن إلا أن ينال لمعلمه مفتاح النجاة بنفسه، حيث سمحت له الأميرة بالانسحاب إلى أية بلدة شاء من بلاد الأرض على أن لا يريها وجهه بعد هذا الحين.

وانسحب الراهب إلى مدينة أمستردام، واشتغل فيها بتعليم اللغات، ولحقت به في هذه المدينة حبيبته فتزوجته، وصار تلميذه يمده بالمال رغما عن علمه بحقيقة اسمه وسيرته. ولبث الراهب على هذا الحال حتى بلغت زوجته سن الرشد، فاستولى على مالها من عقار خاص بها وكان قليلا.

وسار الراهب في الناس سيرة مثلى، واشتهر بينهم بعلمه، فأدخله البروتستنت في مجمعهم، ولبث فيها إلى أن قبض مذكورا بالخير، وربك يعلم إن كانت استقامته في نهاية أيامه توبة صادقة أو نفاقا.

عاشق كنته

علمنا أن المركيز ده جنج قضي عليه بالنفي والتجريد، فرحلوه إلى حدود السافوا من فرنسا، وهناك تركوه، فقضى ثلاث سنين غريبا ريثما يتناسى القوم حديثه، ثم عاد إلى فرنسا متنكرا، وكانت حماته مدام ده روسان قد ماتت، فلم يبق من يهمه إبعاده. وعاد إلى قصره بجنج، فلبث فيه مختفيا، لكن علم المسيو ده بافيل حاكم لنجدوك بعودته من منفاه، فأراد أن يحاكمه على ذلك، لولا أن قيل له: إن المركيز منتصر للمذهب الكاثوليكي يجبر أتباعه على حضور القداس مهما كانت مذاهبهم، وكان ذلك العصر عصر اضطهاد ديني للبروتستانت، فرأى المسيو ده بافيل أن اهتمام المركيز بنصرة المذهب تكفر عن جرمه، فصرف النظر عن محاكمته، بل وراسله سرا، وضمن له بقاءه في فرنسا ما دام قائما بنصرة الكاثوليكية، ومضى اثني عشر عاما على هذه الحال.

وكان ابن المركيزة، وهو الذي رأيناه جالسا يبكي لدى أمه المركيزة وهي على فراش موتها، قد شب وبلغ في ذلك الحين العشرين من عمره، وأصبح غنيا بما ورثه عن والده من أملاكه المصادر فيها، وما ورثه مع أخته عن أمه بعد موت جدته، وكان المركيز الصغير قد تزوج بفتاة ذات حسب ونسب ومال وجمال تدعى «مادموازيل ده مواساك»، فلبث معها حتى دعي للخدمة العسكرية فسافر بزوجته إلى قصر جنج. وهناك عهد بها إلى أبيه وأوصاه عليها كل التوصية، ثم لحق الجيش تاركا لها تحت رعاية المركيز.

وكان المركيز ده جنج في الثانية والأربعين إلا أن ناظره لا يظنه جاوز الثلاثين، وكان من أجمل رجال عصره وجها وهيئة، فعشق زوجة ابنه، وأمل أن تبادله الغرام، فاحتال لذلك، وكان مع المركيزة الصغيرة فتاة ربيت معها في المهد، فابتدأ المركيز بإبعادها عنها محتجا بمخالفتها لها في المذهب الديني، وكانت المركيزة شديدة التعلق بهذه الفتاة فآلمها فراقها جدا، ولم تدرك له مغزى، وما كان حضورها لهذا القصر عن رضا بل اضطرارا؛ لعلمها بما ارتكب فيه من الفظائع التي رويناها، وساءها حلولها في الغرفة التي سقيت فيها حماتها السم، ورقادها على السرير الذي كانت عليه، ورؤيتها للنافذة التي ألقت بنفسها منها، وكانت كل هذه الأشياء تذكرها بهذه الحادثة المحزنة، وتشخص لها حوادثها المريعة مفصلة، وزاد رعبها وانقباضها لما انكشفت لها نوايا حميها، فرأت نفسها محبوبة من رجل كان مجرد اسمه يرعبها وهي طفلة، ورأت نفسها تخلو به ساعات من النهار، ولما سكنت ألسنة الناس عن اتهامه في مقتل زوجته. ولو كانت الفتاة في غير هذا القصر وهذا المكان لكانت شجعت نفسها وسلمت أمرها لله، ولكنها قالت في نفسها: إن الله قدر على هذا القصر وساكنيه بلاء متواصلا، فماتت المركيزة غدرا وهي من أجمل خلق الله وأطهرهم نفسا، ولم يمد لها الله يدا لدفع الكيد عنها كأن صواعق غضبه حاقت بآل جنج ومن يتصل بهم.

ولبثت المركيزة الصغيرة تحتاط لها المخاوف، وتزداد بمرور الأيام، فأصبحت لا تستطيع أن تخلو بنفسها، فكانت تجمع لديها في النهار سيدات أهل المدينة لتأتنس بوجودهن، ولكن كان بعضهن ممن شهدن مقتل حماتها، فكن يعدن على مسامعها تفصيل هذه الواقعة، وهي تستزيدهن علما بما تم لها، فما كان يزيدها قولهن إلا انزعاجا، أما لياليها فكانت تقضي معظمها جاثية بملابسها ترتعب لأقل حركة، وترقب انبثاق ضوء الصباح، حتى إذا لاح تقوم إلى فراشها لترقد رقادا مشوبا بمزعجات الأحلام.

وأصبحت وقاحة المركيز ظاهرة ونواياه الخبيثة مفتضحة، فلم يعد لكنته صبر على حالها، وصممت على أن تعمل بيدها على الخلاص منه، فخطر لها أن تكتب لأبيها فتخبره بأمرها وتطلب منه المعونة، ولكنها رأت أن أباها حديث الدخول في المذهب الكاثوليكي، وقد لاقى أشد العذاب لنصرة الإصلاح «مذهب البروتستنت»، فلا يبعد أن يحتج المركيز بدعوى المذهب عند ورود جواب أبيها، فيفضه ويطلع على ما فيه، فتكون كالساعية إلى حتفها بظلفها، فاختارت أن تكتب لزوجها وزوجها عريق في الكاثوليكية وضابط في الجندية فلا تفض كتبه، فكتبت له وشرحت له حالها، واستكتبت العنوان يدا غريبة، ثم أرسلت بالكتاب إلى مونبلييه حيث عهد به إلى البريد.

وكان ابن المركيز في مدينة ميس عند استلامه لكتاب زوجته، فثار غضبه، وتذكر قصة أمه، وتذكر عهده لها أن لا ينساها وهو غلام يبكي لدى سريرها وهي تحتضر، ثم رأى زوجته المحبوبة في موقفها بتلك الغرفة المشئومة تهددها الحوادث التي انتابت أمه من قبل، فلم يطق صبرا، وقام في الحال فركب البريد إلى قصر الملك لويس الرابع عشر بفرساليا، والتمس المثول بين يديه، فأذن له، فجثا لدى قدمي الملك وكتاب زوجته في يديه، والتمس منه أن يأمر بإعادة أبيه إلى منفاه، وأقسم أن يصله بما يكفيه.

وكان الملك يجهل أن المركيز ده جنج عاد من منفاه، فعلم ذلك بصفة لا تجعل للعفو سبيلا، فأصدر أمره بالقبض على المركيز أينما وجد بأرض فرنسا ومحاكمته بمنتهى الشدة.

وكان للمركيز أخ بفرنسا ذو منصب سام في بلاد الملك، ولم يشارك إخوته الآخرين في لؤمهم، فما كاد يبلغه أمر الملك حتى سافر من فرساليا مسرعا إلى جنج، فأعلم أخاه بالخطر الذي يتهدد حياته، وسافر به حالا إلى أفينيون، فوجد المركيز ابنته مدام دور فان، فحاولت إبقاءه لديها، فخشي أن تصل إليه يد الملك بأذى إن هو عصيه، فسافر من هذه المدينة إلى كونتينة فينسيك، وكانت هذه الكونتية من الأملاك البابوية بفرنسا ومعتبرة لذلك أرضا غريبة عن هذه المملكة، وآوى المركيز فيها إلى جزيرة ليل، وهي قرية صغيرة قائمة في وسط نهر السرج ذات ظلال وعيون ومنظر بهيج النواظر.

ولبث المركيز في هذه القرية، وانقطعت عن الناس أخباره من ذلك الحين.

قال المؤلف: زرت جنوب فرنسا في عام 1835، فحاولت أن أهتدي إلى ما تم للمركيز ده جنج بعد حلوله في هذه القرية، فلم أجد من ينبئني خبره، كأن الله أراد أن يموت هذا المركيز موتا خفيا بعد حياة اشتهرت بالمنكرات.

زوج لا كالأزواج

حيث ذكرنا اسم مدام دور بان ابنة المركيز، فلا مندوحة لنا عن أن نروي طرفا من قصتها لنختم بها سيرة آل جنج؛ فإن في قصتها عجبا، وقد قضى الله أن يجعل سيرة هذه العائلة موضوع أحاديث الناس بفرنسا نحو قرن من الزمن، لما احتوت عليه من العجائب والفظائع.

كانت ابنة المركيزة ده جنج في السادسة من عمرها عندما انتقلت والدتها إلى دار البقاء، فاحتضنتها جدتها والدة أبيها، فأقامت لديها حتى بلغت الثانية عشرة، فعقدت لها جدتها على المركيز ده بيرو خليلها في صباها، وكان المركيز شيخا قد ناهز السبعين، لكن لم يثنه سنه عن مغازلة الحسان، وكان مقربا عند الملوك الذين عهد دولتهم محبوبا لديهم. وكانت الفتاة لا عهد لها قبله بالرجال، فرأت زوجها رءوفا بها، فارتضت به وعدت نفسها سعيدة؛ إذ لقبوها باسمه، فأصبحت تدعى المركيزة ده بيرو.

وكان المركيز واسع الثروة وله أخ أصغر منه سنا قد خاصمه وعاداه واستحكم بينهما العداء، حتى إن المركيز لم يتزوج إلا ليحرم أخاه من ميراثه إذا رزق بمولود، لكن رأى المركيز أن الواسطة التي اتخذها لحرمان أخيه ضئيلة الجدوى؛ لكبر سنه، فانتظر سنة بل سنتين عسى أن يمن الله عليه بمعجزة كما من على زكريا من قبل، فأبى الله إلا أن تجري قدرته على أحكام العادة، وازداد بغض المركيز لأخيه، وخشي أن يموت بلا عقب، فعمد إلى طريقة وحشية هي أليق بالبهائم منها بابن آدم الراقي حسا ومعنى، ولكن هي النفس قد ترفع المرء إلى مقام الملائكة أو تضعه إلى منزلة الأبالسة. وقد كانت تلك الطريقة وسيلة قدماء أهل إسبرطة في الحصول على مولود من زوجاتهم بواسطة شخص غريب، إذا عجز الزوج عن الحصول عليه بنفسه.

ولم يجهد المركيز نفسه في إيجاد ذلك الشخص الغريب؛ إذ كان في قصره فتى ربيب بين السابعة والثامنة عشرة، وهو ابن أحد أصدقائه المتوفين عن غير مال، كان قد عهد به إلى المركيز ليربيه وهو على فراش موته. وكان هذا الفتى أكبر من حفيدته بعام وقريبا منها في أكثر الأوقات، فما لبث أن شغف بها حبا، وحاول أن يخفي هواه، فنمت عليه به أحواله، ولم يخف أمره عن عين المركيز النقادة، فوجم المركيز أولا لما شغل قلب الفتى وخشي على زوجته منه، ولكن لما خطر له خاطر الانتقام من أخيه بالوسيلة التي ذكرناها رأى في تعلق الفتى بزوجته تمهيدا لبلوغ مناه.

وكان المركيز لا يعزم إلا بعد تدبر طويل، فإذا صمم أسرع في تنفيذ عزمه، فلما تم له اختيار الوسيلة التي ارتآها استدعى ربيبه لديه، واستعهده كتمان ما يسره إليه، ووعده خيرا كثيرا إذا هو حفظ عهده وصان سره، ثم عرض عليه ما يرجوه منه، فظن الفتى أنها حيلة من المركيز ليعترف له بهواه، فاضطرب وكاد يرتمي على قدمي المركيز يقبلهما ويسأله الصفح، فأدرك المركيز ما يجيش بصدر ربيبه، فطمأنه وأقسم له «بشرفه» أنه صادق فيما يقول، ومصرح له أن يفعل ما يشاء للوصول إلى الغاية التي يرجوها، فما وسع الفتى «طبعا» إلا القبول، وأقسم لدى سيده أيمانا مغلظة أن لا يبوح بالسر الذي استؤمن عليه، وصرف له المركيز من المال ما يساعده على نوال المأمول، معتقدا أن المرأة مهما بلغت من الفضيلة لا تلبث أن يفتنها المال والشباب والجمال. ولكن خاب اعتقاده؛ إذ كانت زوجته ممن لا يهمهن إلا الشرف.

وما أسرع ما شرع الفتى في تنفيذ وصايا مولاه، فرأت منه المركيزة من أول يوم اهتماما بشئونها فوق ما كانت تعهده فيه من قبل، وإسراعا في تنفيذ أوامرها فوق ما تؤمل منه، فما كان يغيب عنها لحظة لقضاء حاجتها حتى يعود إلى جانبها. ولم تدرك المركيزة لهذا الاهتمام مغزى، فشكرت لبساطتها الفتى عليه. وبعد يومين تمثل لديها الفتى متحليا بأفخر اللباس، فأعجبت بحسن زيه، وامتدحت جميل ذوقه، وأخذت تتأمل في أجزاء ملبوسه قطعة قطعة، وتسأله عنها، وتقلبها بين يديها كأنها طفلة وكأنه «عروسة» تلهو بها، وكانت المركيزة تعامل ربيب زوجها معاملة الأخ، ولا تتكلف في حديثها معه، فما كانت معاملتها إلا لتزيد الفتى ولوعا بها، وكان مع فرط غرامه يهاب أن يفاتحها به؛ فيبقى أمامها خافق القلب ملجم اللسان. وكان يسأله مولاه كل ليلة عما وصل إليه، فيقول له الفتى: إنه لم يتقدم في يومه شيئا عن أمسه، فيؤنبه المركيز ويوبخه ويهدده بأخذ التحف والملابس التي أعطاه إياها وإخلاف الوعود التي وعده بها. ولما كاد أن ييأس منه أبلغه أنه إن لم يفعل ما أمره به يعهد به إلى غيره، وكفى بهذا التهديد الأخير إيقاظا لراقد همة الفتى؛ فتشجع وتجرأ ووعد المركيز أن يكون في ليله أجرأ منه في أمسه، فصار يتقرب للمركيزة ويروي لها أحاديث حب وغرام لينبه فيها عاطفة الميل إليه، فكانت تصغي المركيزة لأحاديثه بقلب طاهر ونية سليمة، ولا تفقه ما يرمي إليه الفتى. حتى إذا كان ذات يوم رأت المركيزة الفتى يطيل النظر في وجهها، فسألته عما به فاعترف لها بهواه، فوجمت في الحال وتبدلت سحنتها، ثم التفتت للفتى وأمرته بالخروج من غرفتها.

وأطاع المحب المسكين، فخرج من لديها قاصدا مولاه يبثه شكواه، فأبدى المولى تأثرا لحاله وصبره عليه، وقال له: إنه أخطأ في اختيار الفرصة التي كاشف فيها مولاته بهواه؛ فإن للنساء أوقاتا للقبول لا يرددن فيها الطالب، وأخرى تخيب لديهن فيها المطالب، فالسر في اختيار الأوقات التي تعرض فيها عليهن الحاجات. ونصح المركيز لربيبه أن ينتظر يومين ريثما تتناسى مولاته فيهما ما بدا منه وتتصالح معه، وأوصاه أن لا ييأس إذا انخذل أول مرة؛ فإن الفضل في الثبات. ثم أعطاه كيسا مملوءا بالذهب ليرشي به وصيفة المركيزة إذا اقتضى الحال.

واهتدى الفتى بنصائح المركيز التي أوحتها إليه خبرته، فتمثل لدى مولاته آسفا نادما، لكن المركيزة عاملته بالشدة مدة يومين، فشفعت فيه لديها وصيفتها وقالت لها: إن الشاب يعذر إذا رأى مثل جمال مولاته فعشقه، وله من حداثة سنه وطهارة حبه عذر آخر، فليس جرمه مما لا يقبل التوبة، وليست المركيزة ممن يرفض العفو؛ فخفضت المركيزة من شدتها، واستدعت الفتى لديها، فألقت عليه درسا من النصائح والآداب تلقاه وهو خافض الرأس مسبل العين، ثم مدت يدها وصافحته صافحة عنه، وعادت إلى سابق عهدها معه.

ومر عليهما في هذه الحال أسبوع لم يرفع الفتى فيه عينه إلى مولاته، ولم يفتح في حضرتها فاه، حتى تأسفت على ما كان منها نحوه.

وإذ كانت المركيزة ذات يوم في غرفتها منشغلة بزينتها، اغتنم الفتى فرصة انفرادها وقد تركتها وصيفتها فولج إلى الغرفة، وارتمى على قدمي المركيزة قائلا: إنه حاول عبثا كتم هواه فأصبح لا طاقة له بإخفائه، حتى لو قدر له أن يموت تحت قدميها مسخوطا عليه منها فلن يرجع عن أن يعترف لها بأن هواه عظيم، شغل قلبه وباله، وأصبح أقوى من كل عاطفة فيه، فأرادت المركيزة أن تطرده من حضرتها كما فعلت أول مرة، لكنه أبى الخروج، وعمل بوصية مولاه، فهجم على المركيزة وضمها إلى صدره؛ فصرخت المركيزة وصاحت، وقطعت حبال الأجراس فلم تجبها وصيفتها، ولم تحضر واحدة من الخادمات؛ لأن الوصيفة كانت قد صرفتهن عملا بأمر المركيز، فلما رأت المركيزة نفسها وحيدة لا مغيث لها عملت على دفع القوة بالقوة، فاجتهدت حتى تخلصت من أيدي الفتى وأسرعت نحو غرفة زوجها مختلة الهندام عارية الصدر محلولة الشعور وقد احمرت وجنتاها وثار غضبها، فزادت جمالا على جمال، ووجدت المركيزة زوجها راقدا فألقت بنفسها عليه تستغيث به من شر ربيبه وتشكوه حيث أهانه في عرضه وشرفه، ولكن أدهشها ما رأته من عدم اهتمام زوجها بالأمر؛ إذ قال لها ببرود: إن ما تروينه غير معقول، ولم ينفعل غيرة على عرضه، وزاد قائلا: إنه عهد هذا الفتى عاقلا كاملا فلا يبدر منه هذا الفعل، وإنه لا بد أن يكون لدى المركيزة أسباب تحملها على اتهامه ظلما سعيا لإخراجه من القصر، وإنه رغما عن حبه واحترامه لها لا يسعه طرد هذا الفتى؛ لأنه ربيبه وابن صديقه، فهو في منزلة ولده لديه. فخرجت المركيزة من لدى زوجها حائرة لا تدري بما تؤول أقواله، ورأت نفسها بلا معين فصممت أن تحتمي وراء ستار العفاف تقابل ربيب زوجها بالشدة حتى تفقده كل أمل في الوصول إليها.

وأصبحت المركيزة من ذلك الحين لا تعامل الفتى العاشق إلا بالصد والجفاء، ولولا أن مولاه وراءه يشجعه ويعشمه لمات الفتى كمدا؛ لفرط حبه وميل المركيزة عنه، وضجر المركيز لحرص زوجته على عرضها، وازداد همه كما يزاد هم امرئ شريف لا تحرص زوجته على عرضه.

ولما يئس المركيز من إذعان زوجته طوعا لحب فتاه، عزم أن يطرق سبيل الحيلة أو الإكراه، فأخفى الفتى في خزانة ملاصقة لغرفة المركيزة وزوده بتعليماته، ثم رقد بجانب امرأته، حتى إذا مضى ثلث الليل انسحب من مرقده بدون أن تشعر به وخرج من الغرفة بعد أن أغلقها بالمفتاح ينصت إلى ما يحدث فيها.

ومضت عليه عشر دقائق في موقفه، ثم سمع حركة كبيرة في الغرفة وربيبه يحاول إبطال صوتها، فتعشم المركيز أن ينتصر الفتى، لكن زادت الحركة؛ فعلم أن الحيلة التي دبرها قليلة الجدوى. وما لبث أن سمع صراخا من داخل الغرفة والمركيزة تستغيث وتنادي، وكان زوجها قد رفع الأجراس من مكانها؛ حتى لا تتمكن زوجته من قرعها استدعاء للخدم، ولما لم يحضر لإغاثتها أحد سمعها المركيز وقد وثبت عن سريرها وأسرعت نحو باب الغرفة وحاولت فتحه فوجدته موصدا، فأسرعت نحو النافذة فأدرك المركيز أن السيل قد بلغ الزبى وأن لم يبق في الأمر حيلة، ففتح الباب خاشيا أن يحدث حادث أو تبلغ أصوات المركيزة أحد المارين، فتصبح القضية في الغد حديث المتكلمين.

ولما رأت المركيزة زوجها داخلا عليها أقبلت وألقت بنفسها على صدره، وقالت مشيرة إلى ربيبه: لعلك مصدق بعينيك ما كذبته أذناك، فهل تأبى الآن إخراج هذا الفتى من القصر؟

قال: نعم، ما يصنعه هذا الفتى منذ ثلاثة شهور يصنعه بإذني بل بأمري.

فاندهشت المركيزة لهذا الجواب وخرست، وأخذ زوجها يشرح لها بحضور ربيبه سر الأمر، ثم رجاها أن ترضخ لما يرجوه عساها ترزق بمولود يتخذه ولدا، فأجابته المركيزة بعزة نفس وطلاقة لسان تستكبر على من كانت في سنها، فقالت له: إن القوانين جعلت حدا لسلطته عليها، فليس له أن يتعداه، وإنه مهما بلغت منها الرغبة في إرضائه فلن تطيعه فيما يمس بكرامتها وعرضها.

فاضطر المركيز وهو في السبعين أن ينصاع لقول زوجة لم تبلغ العشرين، وما الكبير كبير بسنه بل بقلبه وعقله. وصرف المركيز آماله عن الحصول على وارث له، ولم يخلف عهده مع ربيبه؛ إذ لا ذنب له، فأنجزه ما وعد واشترى له وظيفة سامية في الجيش، وصبر على حكم الله إذ ابتلاه الله بأطهر النساء ذيلا وأصونهن عرضا، وأراد الله أن لا يطول عذابه، فقبضه إليه بعد ثلاثة شهور من الحوادث التي سردناها، فمات بعد أن قص على مسمع صديقه المركيز دوربان سر أحزانه وسبب أشجانه.

فتنة وخديعة

وكان للمركيز دوربان ولد قد بلغ سن الزواج، فلم ير له زوجة أفضل من تلك التي زانها عفافها وقد تألبت عليها أسباب الفتنة؛ ألا وهي أرملة صديقه بيرو. فانتظر حتى انقضت أيام حدادها المحدودات، ثم تقدم لها يخطبها لولده، ورأت المركيزة خطيبها حائزا صفات الكمال؛ فارتضت به بعلا وتم لهما عقد القران.

وصادف السعد ابن دوربان فرزق من عروسه في ثلاثين شهرا بثلاث من الأولاد فكان أكمل حظا من سلفه وأتم نعمة، وأقام الزوجان لا تكدر صفو عيشهما الحوادث حتى قدم إلى أفينون فارس يدعى ده بوليون.

وكان هذا الفارس من دهاة عصره؛ فتى جميلا متصل النسب بأحد كرادلة روما ذوي السلطة والجاه في ذلك الحين، فكان معجبا بنفسه فخورا بنسبه، قد خلع العذار وترك الوقار وسار بين الناس سيرة الفساق حتى اهتزت لسيرته المجامع التي كان يتردد عليها، وخصوصا في دار «مدام منتنون» أديبة عصرها حيث كانت مجمع الظرفاء والأدباء.

وقال للفارس يوما أحد أصدقائه: إني أرى الملك مستاء منك، فلا ترد سيرتك حتى يكشر عن نابه.

وكان الملك لويس الرابع عشر قد بلغ عتيا في ذلك الحين، فتظاهر بالتقوى، وأصبح لا ترضيه سيرة الفساق، فقال لصاحبه: وإني لمستاء أن يكشر الملك عن الناب الوحيد الباقي له في فمه.

فسارت الكلمة في الناس وبلغت مسامع الملك، وعلم الفارس بعدها بقليل أن الملك ينصح له أن يسافر لتبديل الهواء في القرى؛ ففهم الفارس مغزى النصيحة، وسافر مفضلا أن يستنشق في القرى هواء الحرية عن أن يستنشق في الباستيل هواء الذل والحبس، وأتى الفارس إلى أفينيون تصحبه الخيلاء يظن نفسه سيدا حل في ضيعة فشرفها.

وكانت شهرة مدام دوربان بالعفاف في أفينيون تعادل شهرة الفارس بالفسق في باريس، فرأى منها الفارس خصما لا تطيق شهرته احتماله، فعزم على منازلتها حتى يفوز بها فيفوز عليها، فصار يترقب حضورها في كل مكان فيحضر فيه، ولا يدع فرصة تمر بدون أن يبدي نحوها انعطافا ويكشف لها عن حبه. وكان المركيز دوربان واثقا بطهارة زوجته وأمانتها على عرضها، فكان مطلقا لها الحرية تفعل ما تشاء وتذهب أنى تريد، وشاءت الأقدار أن تدق ساعة المركيزة ولا تدري أأعمتها الشهوات أم فتنها الفارس لهواه، فاستبدلت عزة الطهارة بذل الفحش، فهوت من عرش الصيانة إلى حضيض الابتذال.

وكانت غاية الفارس الاشتهار فأسرع بإعلان فوزه في المدينة، فكان الناس بين مصدق ومكذب، فأراد أن يقنع المكذبين؛ فأمر أحد خدامه أن ينتظره بعد نصف الليل على باب المركيزة بمشعل وجرس، وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل خرج الفارس من قصر خليلته يتقدمه الخادم بالمشعل يضيء له الطريق ويقرع بالجرس، فيهب القوم من مراقدهم لصوت الناقوس ولم يعهدوه، فيطلون من نوافذهم يتساءلون عن الخبر، فيرون المركيز سائرا وراء خادمه في الطريق الموصل بين بيته وقصر المركيزة، فيدركون المراد حيث أصبحت القصة أشهر من علم. وخشي الفارس أن يبقى في القوم منكر، فكرر هذا العمل ثلاث ليال متعاقبات حتى لم يبق في المدينة من لم يبلغه الخبر إلا المركيز.

وجرت العادة ألا يعلم الزوج بخيانة زوجته إلا آخر الناس، وهكذا علم المركيز من بعض أصدقائه أن اسمه أصبح مضغة الأفواه، فحرم على امرأته أن تلقى خليلها، ولما سمع خليلها القصة أخذ يحاول بزلاقة لسانه أن يوقع اللوم عليها قائلا: إن سوء تصرفها وتدبيرها فضح سرها، فظنت المسكينة أنها هي المخطئة، وأقبلت على عشيقها تبكي وتطلب السماح.

وبلغ المركيز في هذه الساعة - وكان قد بث على زوجته الرقباء - أن خليلها لديها، فأمر بغلق الأبواب وكمن له في ردهة الدار مع بعض الخدام ليقبض عليه وهو خارج، وكان الفارس مشغولا عن دموع خليلته بنجاة نفسه، فسمع قفل الأبواب وشعر في الدار بحركة غير معتادة، ففطن إلى أنهم يقصدونه بسوء؛ فهم من ساعته وفتح نافذة ووثب منها إلى الطريق، وكانت النافذة على ارتفاع ثلاثة أمتار منها فسقط ولم يصب بسوء، ولم يهتم بالقوم الناظرين والطريق مملوءة بالناس؛ إذ كان الوقت ظهرا، وعاد الفارس إلى بيته بقدم ثابت بطيء كأنه لم يفر من موت ولم ينج من كمين.

وأراد الفارس أن يذيع ما حدث له في الناس، فدعا جمعا من أصدقائه إلى مائدة وشراب أعدهما عند بائع حلوى وفطير شهير في المدينة يدعى لكوك (وتعريب لفظه: الديك).

وكان لكوك معروفا بحسن طعامه وجودة شرابه، فأعد لقاصديه مائدة جمعت أشهى الألوان وأغلى الخمور، وقام عليها بنفسه يسقي ويخدم، فأكل المدعوون وشربوا وطربوا ولعبوا حتى ولى الليل وأقبل الصباح، وكان الفارس قد أذاع فيهم ما أذاع.

ولما هم القوم بالخروج وقد لعبت برأسهم بنت الحان، لاحت منهم التفاتة، فوجدوا صاحب المكان واقفا يحييهم بالباب مشرق الوجه ضاحك السن، فاقترب منه الفارس وسكب له كأسا ودعاه أن يقرع معهم الكأس، فامتنع الخمار أدبا، فألحوا عليه؛ ففعل وشرب نخبهم شاكرا فضلهم وتنازلهم بمنحه ذلك الشرف، فقال له الفارس: إني أراك يا صاح مفرط السمن ويدعونك الديك ولا يكون الديك سمينا إلا أن يخصى، فمن الواجب أن أخصيك.

فهلل أصحاب الفارس لهذا الاقتراح الغريب، وكانوا قوما لا يهتدون بهدي وهم برشدهم، فكيف وقد ذهبت برشدهم بنت الكروم؟! فأمسكوا بالخمار المسكين وربطوه في المائدة وشرعوا بتنفيذ اقتراح صاحبهم، فمات الخمار بين أيديهم وهم لا يشعرون.

وسمع بعض الخدم صياح صاحب الحان فأسرع إليه؛ فوجده مضرجا في دمائه والسكارى حوله يضحكون، فتوجه في الحال وأبلغ الأمر لنائب الرسول البابوي حاكم المدينة، فأراد النائب أن يقبض على الفارس ليذيقه الجزاء الأوفى، ولكن رأى ما لعمه الكردينال من المكانة العليا بروما؛ فخشي أن يغضبه إن أساء إلى ابن أخيه، فرأى خيرا أن يأمر الفارس بالرحيل من المدينة قبل أن تمتد له يد العدالة وإلا أمر بالقبض عليه ومحاكمته، وكان الفارس قد بلغ من أفينيون ما أزهده فيها، فما كاد يبلغه الأمر حتى أوصى بإعداد المركبة والخيل.

وعرض للفارس قبل الرحيل أن يتزود بوداع خليلته، فقصد منزلها ولم يصادف عقبة في سبيل الوصول إليها؛ إذ كانت وصيفتها أمينة له بفضل درهمه. ولما رأت المركيزة الفارس مقبلا فرحت بمقدمه فرح المحب بلقاء حبيبه إذا حرم عليه لقاؤه، فرحبت به وأكرمته، ولكنه ما لبث أن قال لها: إنه يزورها زيارة مودع لا مقيم، وأخذ يشرح لها الأسباب التي اضطرته إلى الرحيل، فعجبت المركيزة وهي من بنات الأشراف كيف يهددون فتى شريفا لقتل رجل من صعاليك الناس!

وارتبك الفارس في ساعة الوداع فلم يدر ما يقول وليس في قلبه عاطفة ليعبر عنها، فخطر له أن يشتكي لبعده عن المركيزة ولما يتزود بما يذكره بها فيذكرها به، فأسرعت المركيزة وتناولت صورة لها كبيرة كانت معلقة على الحائط، فنزعت عنها بروازها ولفتها وأعطتها للفارس تذكارا منها، فترك الفارس الصورة على المائدة ولم يهتم بها عند الخروج. وانشغلت المركيزة عنها بوداعه، فلم تفطن إلى تركه إياها إلا بعد نصف ساعة من مبارحته لها، فتأثرت وظنت أن صاحبة الصورة شغلته عن الصورة، وتمثل لديها الفارس آسفا لنسيان هذا التذكار الثمين؛ فاستدعت أحد الخدم وأمرته أن يأخذ فرسا فيطير وراء الفارس ليعطيه الصورة، فأسرع الفارس وامتطى فرسا تسابق الريح، وما لبث أن رأى ركب الفارس عن بعد فصاح به وأشار له بالوقوف، فالتفت سائق العربة للفارس قائلا: إن رجلا يلحق بهم مطلقا لجواده العنان ويشير لهم بالوقوف، فظن الفارس أنه بعض رجال الشحنة، فأمر السائق أن يضاعف السير؛ فأسرع الركب، واندفع وراءه الخادم المسكين وقد ضاقت الأنفاس به من كثرة التعب، وما لبث أن لحق بالعربة بعد فرسخ ونصف من ذلك، فأوقف السائق وترجل ثم اقترب من باب العربة وأبلغ المركيز بكل أدب واحترام رسالة سيدته، وقدم له الصورة، فاطمأن الفارس لما علم غرض الخادم، وقال له: إنه لا يدري ماذا يصنع بالصورة، فخير له أن يعود بها لمولاته، فقال الخادم: إنه لا يستطيع أن يعود بها؛ إذ أمر مولاته صريح بتسليم الصورة له، فلما رأى الفارس إصرار الخادم أمر سائق العربة أن يحضر له حدادا كان كوره على مقربة منهم، فأمره أن يدق الصورة على مؤخر العربة بأربعة مسامير، ففعل الحداد ثم صعد الفارس إلى العربة، وسارت به وخادم المركيزة باهت ينظر ما آلت إليه صورة مولاته، ولا يملك ضرا ولا نفعا.

وكان من عادة البريد أن تغير خيله درجا له في كل محطة، فلما بلغ ركب الفارس المحطة التالية طلب السائق أجرته ليعود، فقال له الفارس: إنه ليس لديه دراهم ليعطيها له، فألح السائق فترجل الفارس ونزع صورة المركيزة من مؤخر العربة، ودفع بها إليه قائلا: إنه لو عرضها للبيع في أفينيون وروى قصتها لأتت له بضعف عشرة أمثال أجرته، فاضطر السائق أن يقتنع بالصورة، وعاد إلى المدينة فعرضها في الغد على باب دكان لأحد الباعة وذكر تحتها قصة وصولها إليه، فاشتريت الصورة قبل أن ينقضي النهار بخمسة وعشرين دينارا.

وذاعت القصة طبعا في المدينة، وفي الغد اختفت المركيزة ولم يعلم أحد بمكانها. واجتمع أهل المركيزة فقرروا فيما بينهم أن يسألوا الملك إصدار أمره بالقبض على الفارس وسجنه، وسافر مندوب منهم إلى باريس لهذا الغرض، ولكن لم يبلغ غايته؛ إما لتقصير منه في السعي أو لعدم التشهير بالمركيزة لدى الملك.

أما المركيزة فإنها قصدت بعض قريباتها فأقامت لديها، وسعت في الصلح لدى زوجها، فنجحت مساعيها، وعادت بعد شهر إلى قصر زوجها وقد صفح عما أتته.

أما أهل الخمار فكانوا قد رفعوا شكواهم إلى أولي الأمر ، فأرسل لهم الكردينال ده بوليون بمائتي دينار، فعادوا عن الشكوى مقررين بأنهم تسرعوا فيها وقد علموا بعد أن صاحبهم مات بالسكتة موتا فجائيا.

وأزال هذا الإقرار ما كان في صدر الملك من الفارس؛ إذ ظنه صدقا، وبذلك تمكن الفارس أن يعود إلى باريس بعد أن قضى سنتين يجوب البلاد ترويحا للنفس وسعيا وراء اللذات.

وهكذا تمت سيرة «آل جنج». وطالما تناولتها أيدي المؤلفين فكتبتها قصصا للناس أو عرضتها في المسارح على المتفرجين، لكنها اقتصرت فيها على حياة المركيزة سليلة آل روسان، فأراد إسكندر دوماس أن يتمها فضم إليها سيرة أفراد هذه الأسرة وولدي المركيزة، فتمت بذلك قصتهم وفيها عبرة للناس.

الضحية الثانية

بياتريس سنسي

تمهيد تاريخي

إذا قضى السائح من التجول في روما غرضه، فزار كنائسها الفخيمة، ومعاهدها القديمة، وميادينها الفسيحة، لا يلبث أن يهزه الشوق إلى زيارة ضواحيها؛ حيث يمتع النفس بالنسيم العليل الذي لا يتمتع به سكان المدينة، ويسرح النواظر في حدائقها النضرة تحت ظلال الأشجار وعلى ضفاف الأنهار، فيقصد ضاحية فيها تدعى بامفيلي، فيسير فيها تحت أشجار الصفصاف إلى أن يصل إلى طريق جميل ينتهي إلى يانيكول، فيجد في وسط ذلك الطريق عينا تدعى عين بولين ذات ماء كاللجين أقيمت عليها قبة؛ فصارت كالسبيل يقصده للارتواء ابن السبيل.

ويجد السائح بعد العين على هذا الطريق كنيسة للقديس بطرس يشرف منها على المدينة؛ لارتفاع موقعها، وبجوارها معبد صغير أقيم على الطرازين الإغريقي القديم والمسيحي الحديث، فيلجه فيجد في المصلى الأيمن منه صورة للمسيح عليه السلام من نقش «ديلبيوميو»، وفي المصلى الأيسر صورته عليه السلام وهو في قبره. ثم يسير به الدليل إلى صدر المعبد وفيه المذبح، فإذا دقق السائح البصر رأى في أسفل الدرج قطعة من الرخام مرسوما عليها الصليب، وفوقه كلمة

Orate

مكتوبة باللاتينية، فتحت هذا الحجر قبر «بياتريس سنسي» صاحبة القصة التي نرويها، وقد مرت عليها الأحقاب ولا يزال لها في صفحات التاريخ أثر لا يغيره الزمان. •••

كانت بياتريس ابنة فرنشسكو سنسي، وكان فرنشسكو من عتاة زمانه ، وإن صح قولهم: إن الرجال مرآة العصور، ففرنشسكو سنسي مرآة عصره: عصر الجبابرة الطغاة. ونرى قبل أن نلي ذكر الحوادث الفظيعة التي تمت في آل سنسي أن نذكر طرفا من تاريخ ذلك العصر، فنقول:

مات البابا إينوسان الثامن في الحادي عشر من أغسطس سنة 1492، وطال احتضاره أياما ارتكبت في خلالها بطرقات روما مائتان وعشرون جريمة قتل. ورقي العرش البابوي بعده رودريك لنزولي بوريا ابن أخت البابا كالست الثالث، فدعي إسكندر السادس، وكان له قبل ارتقائه العرش أربع بنين وبنت خلفتهم له محظيته روزا فانوتزا، فكافأها بتزويجها بفتى من أغنياء روما.

وإنه ليخجلنا أن نذكر هنا طرفا من تاريخ آل بوريا، وقد كان منهم خليفة من خلفاء الكاثوليكية؛ لما كان لهذه العائلة من الآثام والفظائع التي تقشعر منها الأبدان وينفر منها المجرمون، ولكن سجلها عليهم التاريخ وسطرها مؤلفو الإفرنج، فنحن نرويها كما رواها المؤرخون من قبلنا، ولا ننوي حطا من مقام الخلافة البابوية؛ فعرشها محفوظ الكرامة لا يدنسه اتصال القائم عليه بأسرة مجرمة، ولا يؤاخذ مؤرخ يسطر الحقيقة بسوء القصد، وما التاريخ إلا عبرة ولا تكون العبرة إلا في كبائر الأمور.

نعود إلى حديثنا فنقول: كان أبناء إسكندر السادس خمسة، وهم: فرنسيس، ولقب فيما بعد بدوق غنديا.

وقيصر، وكان أسقفا وكردينالا، ثم لقب بدوق فالنتينوا.

ولوكريس، وكانت خليلة أبيها وأخويها السالف ذكرهما. وقد تزوجت أربع مرات؛ الأولى: بحنا سفورزا صاحب بيزارو، وتركته لأنه عنين. والثانية: بألفونس دوق بيزيليا، وقد قتله أخوها قيصر. والثالثة: بألفونس دراغون، وقد طعن على درج كنيسة مار بطرس، ثم خنق بعد ذلك بثلاثة أسابيع؛ لأن احتضاره قد طال فعجلوا عليه الموت.

وابن إسكندر الرابع كان جفري الملقب كونت إسكيلاس، وليس له تاريخ مشهور.

والخامس لم يعلم المؤرخون عنه شيئا على الإطلاق.

وكان أشهر أولاد إسكندر قيصر بوريا؛ إذ كان من مطامعه أن يتولى ملك إيتاليا بعد موت أبيه، فاستعد لذلك استعدادا لا يشعر إلا بنجاح المسعى، واتخذ من التدابير ما لا يفسده إلا الله، وقد شاء الله أن يفسد ما دبره، فأتاه من حيث لا يحتسب ولا يدري، كما سيرى القراء.

وكان من عادة الباباوات أن ترث من يموت من الكرادلة، فأراد إسكندر السادس أن تئول إليه ثروة كردينال غني جدا من كرادلته يدعى أوريان، كما آلت إليه ثروة ثلاث من الكرادلة قبله، فدعاه إلى كرم له يدعى كرم بلفيدير، وأرسل لهما قيصر بوريا قنينتين من النبيذ المسموم مع رئيس السقاة، ولم يعلمه بما فيها، إنما أوصاه أن لا يستعملهما إلا متى أمره، وأراد الله أن ينصرف رئيس السقاة إلى بعض شئونه والموائد منصوبة والمدعوون حولها، فقام مقامه أحد الخدم ولا يدري ما خبئ في القناني، ففضها مثل أخواتها، وسكب منها للشاربين، فشرب البابا وقيصر بوريا والكردينال كورنيتو ولم يشرب الكردينال المقصود فلم يصب بسوء. ومات إسكندر السادس بعد بضع ساعات، ولازم قيصر الفراش لا يستطيع عنه براحا وقد تغير لون جلده، أما كورنيتو ففقد البصر والحواس، ولبث بين حي وميت حتى قضي عليه.

وتولى بيوس الثالث مكان إسكندر، فلبث فوق العرش البابوي خمسا وعشرين يوما، ومات مسموما في اليوم السادس والعشرين.

وكان لقيصر بوريا ثمانية عشر كردينالا من الإسبانيين مخلصين لا يعصون له كلمة؛ حيث إنه كان الواسطة في إدخالهم إلى مجمع الكرادلة المقدس. فلما رأى نفسه على فراش الموت لا يملك لنفسه أمرا ساوم «يوليان ده لاروفير»، على أن يكونوا له عند الاقتراع، وبذلك تم ليوليان الارتقاء على عرش روما ودعي يوليوس الثاني، وكان عصره عصر حكمة وإنصاف.

وقام بالأمر بعد يوليوس الثاني ليون العاشر، وفي عصره تولت المسيحية صبغة الصابئة؛ فكثرت الأصنام والتماثيل، وانتقلت تلك الصبغة من الفنون إلى الأخلاق ففسدت الأخلاق، إنما قلت الجرائم بمعنى أن النفوس مالت عن الأذى إلى الشهوات، وأطلق الناس للذاتهم العنان بلا رادع من الدين أو الآداب.

ومات ليون العاشر بعد أن حكم ثماني سنين وثمانية أشهر وتسعة عشر يوما، واشتهر عصره في العلوم والفنون، فكان أحد عصور التاريخ الأربعة الشهيرة؛ حيث اشتهر فيه ميكائيل إنج ورفائيل وليونارد وفنسي وتنيان وأريوست ومكيافيل، وغيرهم من رجال الفنون والآداب.

وترشح للخلافة بعده رجلان: يوليوس مدسيس وبومبيوس كولونا، وكانا داهيتين في السياسة والإدارة لا يفضل أحدهما الآخر في شيء، فانقسمت بينهما أصوات الكونلاف (مجمع الكرادلة لانتخاب البابا). ودام الانقسام طويلا دون أن يقر الرأي على واحد منهما، حتى مل الكرادلة وسئموا، فاقترح أحدهم ذات يوم - على سبيل المزاح - وقد ضايقه الانقسام أن يولوا العرش البابوي نائب ملك إسبانيا، وكان النائب في ذلك الحين رجلا يدعى أدريانوس وضيع النسب، قال بعضهم: إنه ابن حائك، وقال آخرون: إنه ابن صانع بيرة في أترخت، وكان قد صادفه السعد فتولى حكم إسبانيا باسم الملك شرلكان، وهكذا خدمته الصدف، فارتقى - بإجماع آراء الكرادلة وهم يمزحون - عرش الخلافة البابوية.

وكان أدريانوس فلمنكيا بحتا لا يدري كلمة من اللاتينية، فلما دخل روما ورأى التماثيل اليونانية الثمينة التي جمعها ليون العاشر في عاصمة الخلافة النصرانية، وصرف على جمعها المال الطائل، قال: «إنها الصابئة القديمة.» وأراد أن يكسر هذه الأصنام لولا أن منعوه. وكان منعقدا في ذلك الحين مجلس في حكومة «نورنبرغ» بخصوص الاضطرابات التي أولدها ظهور لوثر مؤسس البروتستانتية، فأرسل البابا مندوبا من قبله لذلك المجلس وزوده بتعلميات تمثل لك أخلاق ذلك العصر وما كان عليه، قال البابا لمندوبه:

أعترف بكل ثبات في ذلك المجلس أن الله إنما أراد هذا الانقسام في الدين وهذا العذاب الواقع على المسيحيين؛ لكثرة ما أتوه من الذنوب والخطايا، وخصوصا ما أتاه قسوسهم ورؤساء كنائسهم؛ لأننا نعلم ما تم فوق العرش البابوي المقدس من الآثام والفظائع.

وأراد أدريانوس أن يرد الرومانيين عن حياة البذخ والترف التي هم فيها، ويحبب إليهم القناعة وبساطة العيش التي امتاز بها رجال المسيحية الأولى، فمحا كثيرا من البدع التي أدخلت في الكنيسة، وكان لدى سلفه مائة من سائسي الخيل فصرفهم ولم يبق إلا اثني عشر قائلا: يكفي أن يزيد عدد سائسي اثنين عن عدد الكرادلة.

وقضى الله أن لا يكون رجل الإصلاح طويل الحكم، فاستاء القوم وفي مقدمتهم الكرادلة منه، فلم يتم سنته فوق العرش، ورأى الناس باب طبيبه صبيحة موته مزينا بالأزهار ومكتوبا تحتها: «إلى مخلص الوطن.»

ولما مات أدريانوس لم يجد الكرادلة أمامهم إلا يوليوس مدسيس وبومبيوس كولونا، فعاد الانقسام حتى ظن الكرادلة أنهم لا ينتهون إلا بتولية غريب كما فعلوا المرة السابقة، ولكن وفق يوليوس مدسيس إلى حيلة جميلة؛ إذ رأى أنه ينقصه خمسة أصوات، فعرض خمسة من أصحابه على خمسة من أصحاب كولونا أن يراهنوهم، فإذا عين يوليوس خليفة يعطي أصحابه عشرة آلاف دينار إلى أصحاب كولونا، وإذا لم يعين يعطي أصحاب كولونا لهم مائة ألف دينار. وبعد ذلك جمعت الأصوات وفرزت فأصاب يوليوس مدسيس الاقتراع، وانقطعت جهيزة كل خطيب، ولم يقل أحد إن يوليوس رشا أصحاب مناظره.

ورقي يوليوس مدسيس عرش البابوية في الثامن عشر من شهر نوفمبر سنة 1523، ودعي كليمنتوس السابع، فدفع دين أصحابه إلى أصحاب كولونا.

وفي حكم هذا البابا غزا روما جنود اللوثريين تحت قيادة الكونتابل ده بوربون، فمثلوا بالأشياء المقدسة أشنع تمثيل، ولبثوا سبعة شهور يبددون في روما ما جمعته الكاثوليكية في سنين.

وفي حكم هذا البابا ولد فرنشسكو سنسي الذي نروي قصة أسرته.

فرنشسكو سنسي وأولاده

كان فرنشسكو - ابن نقولا سنسي - أمين الخزائن الرسولية في عهد البابا بيوس الخامس، وكان هذا البابا مهتما بالأمور الدينية أكثر من اهتمامه بدنياه، فاغتنم الأمين فرصة غفلة مولاه، فجمع ثروة يبلغ إيرادها مليونين ونصف مليون من فرنكات الوقت الحاضر، وورث عنه هذا المال ابنه الوحيد فرنشسكو.

ونشأ فرنشسكو في عصر انشغلت فيه باباوات روما بما طرأ على الدين من الانقسام بظهور لوثر وأتباعه عن الالتفات لداخلية مملكتهم. وخلق فرنشسكو ميالا للشر قاسي القلب حقودا، فرأى من التساهل في الأحكام ما سهل له ارتكاب الآثام، وكان حاد الطبع كثير الشهوات قد زاده الشباب والحدة فسادا على فساد، فزج في السجن ثلاث مرات في صباه لهتك أعراض، وتوصل إلى الخلاص منه بفضل درهمه وديناره، وكانت الخزائن البابوية في حاجة إلى المال في ذلك الحين.

ولم يستلفت القوم فرنشسكو سنسي بأعماله وآثامه إلا من عهد جريجوار الثالث عشر؛ فقد كان عهده فوضى أبيح فيه القتل والإعدام لكل من قدر على إرشاء الحكام، وأصبح سفك الدماء وهتك الأعراض من عاديات الجرائم، حتى إن القضاة ما كانت لتهتم بها إلا إذا وجد من يسعى في قصاص الجاني ومحاكمته.

وكان فرنشسكو قد بلغ في ذلك الحين الخامسة والأربعين، أما صفاته فكان طويل القامة معتدلها قوي العضلات ذا عينين واسعتين تقرأ فيهما صحيفة قلبه، إلا أن الجفن الأعلى كان منسدلا عليهما قليلا. وكانت شعوره قد وخطها الشيب، وله أنف طويل وشفتان رقيقتان، وكان إذا تبسم لاح البشر على وجهه، وإذا عبس ظننته وحشا كاسرا، وكان إذا تأثر وغضب اضطرب جسمه وتولاه انفعال عصبي شديد. واشتهر فرنشسكو بقوة جسمه وركوبه الخيل؛ فكان يقطع المسافة بين روما ونابولي، وهي واحد وأربعون فرسخا، على ظهر فرسه يطلق لها العنان، إذا خرج من إحدى المدينتين فلا ينزل عنها أو يخفف سيرها إلا إذا بلغ المدينة الأخرى، ولا يخشى في طريقه بأس اللصوص التي كانت منتشرة إذ ذاك في الغابات بين المدينتين، بل كانت اللصوص تخشى بأس خنجره وحسامه، وكان إذا سقط جواده من التعب اشترى غيره في الطريق، وإذا أبى صاحب الجواد بيعه أخذه منه غصبا، فإذا قاومه الرجل طعنه بسيفه غير هياب ولا وجل.

وعرف فرنشسكو في البلاد البابوية بسخاء يده وقوة ساعده، فلم يتعرض لإرادته معترض، ولم يقف في سبيل رغائبه أحد؛ إما طمعا في نواله أو خشية من حسامه، وجعل - لعنه الله - إلهه هواه، فكفر بالحي المعبود وأنكر خالق الوجود، وكان إذا دخل إلى معبد دخل ليدنسه بكبائر الألفاظ، حتى اعتقد القوم أن هذا الكافر لا تردعه نفس عن ارتكاب الجرائم مهما كبرت إذا دفعه إليها هواه.

وتزوج فرنشسكو - وهو في ذلك السن - سيدة واسعة الثروة لم يذكر المؤرخون اسمها، فماتت بعد أن رزق منها بخمسة بنين وبنتين، فتزوج بعدها بلوكريزيا بتروني، وكانت ذات بياض ناصع تمثل الجمال الروماني في عصرها إلا أنه لم يرزق منها بأولاد.

وكأن الله لم يودع في قلب فرنشسكو عاطفة من تلك العواطف الطبيعية التي امتاز بها الحيوان قبل الإنسان؛ فلم يكن في قلبه ذرة حنان لأبنائه، بل كان يمقتهم مقتا، ولا يخفى استياءه من وجودهم على أحد. وروي عنه أنه كان يبني في قصره كنيسة - كما جرت عادة الأشراف في ذلك العصر - فقال للمهندس بعد أن رسم له مكان القبر منها: «هنا آمل أن أدفنهم جميعا، مشيرا إلى أولاده.» قال المهندس: فوجمت من قوله، ولولا ما يصيبني منه من طائل المال لامتنعت عن إتمام البناء.

وما كاد أولاد فرنشسكو أن يبلغوا أشدهم حتى أرسل بثلاثة منهم - وهم أكبرهم - إلى مدارس سلمنك الجامعة بإسبانيا، وكان الثلاثة يدعون جاك وكريستوف وروك، وظن أبوهم أنه يتخلص منهم إلى الأبد بإرسالهم إلى هذه الأقطار الغريبة البعيدة، فقطع عنهم الزاد والنقود، فلبث الغلمان الثلاثة يقاسون ألم الفقر والجوع شهورا، ثم اضطروا أن يبرحوا سلمنك، فعادوا إلى وطنهم سائرين على الأقدام حفاة عراة يسألون الناس طول الطريق، فاخترقوا على هذه الحال جبال البرينيه وبلاد فرنسا وجبال الألب وأرض إيتاليا، حتى بلغوا روما منهوكي القوى، وقد كادت تزهق منهم الروح.

وكان القائم على عرش البابوية إذ ذاك كليمنتوس الثامن، وقد اشتهر بعدله في الناس فقصده الغلمان الثلاثة، وسألوه أن يخصهم من ثروة أبيهم الواسعة بجزء يعيشون منه، فرأى البابا أحقية مطلبهم، فأمر أباهم أن يجعل لكل منهم ألفي ريال سنويا، فأراد هذا الطاغية أن يتخلص من تنفيذ هذا الأمر بكل الوسائل، فجبره البابا على تنفيذه، فأطاع حانقا مرغما.

وبعد ذلك بقليل سجن فرنشسكو لجريمة هتك عرض أيضا، فذهب أولاده إلى البابا وقالوا له: إن أبانا أهان شرف اسمنا وحط من كرامة أسرتنا، فلا تعفه من عقاب شديد يكون له رادعا، فرأى البابا أن ذلك المسعى من الأبناء عقوق، فطردهم من حضرته شر طردة، وتخلص أبوهم من سجنه هذه المرة كما تخلص من قبل؛ أي بفضل دراهمه.

ورأى فرنشسكو أن يديه لا تصل إلى أبنائه؛ حيث استقلوا عنه، واستغنوا بما خصوا به من ماله، فأنزل سخطه على بنتيه حتى أصبحتا من عذابه في جحيم. فلم تطق كبراهما صبرا وتمكنت رغما عن مراقبة أبيها الشديدة أن تبلغ البابا شكواها، وتشرح له ما هي فيه من العذاب، وتتوسل إليه أن يخلصها مما هي فيه، ولو بإدخالها أحد الديور. فأشفق البابا عليها، وأخرجها من بيت أبيها، وزوجها برجل من أشراف روما يدعى كارلو غابرييلي جوبيو، واضطر أباها أن يقدم لها مهرا قدره ستون ألف ريال، فكاد يجن فرنشسكو لضياع فريسته من يده، إلا أنه تعزى عنها بفقد ولديه في عام واحد روك وكريستوف، فمات أولهما مقتولا من يد جزار، وقتل الآخر رجل يدعى بول كورسو دي ماسا.

وفرح ذلك الأب الغشوم لمقتل ولديه وأبى أن يصرف شيئا لدفنهما، فأنذر القسوس أنه لا يدفع درهما لما يقام لهما من الطقوس والرسوم الدينية، فدفن الولدان كما تدفن صعاليك القوم، ولما رآهما أبوهما راقدين في لحد واحد، قال: إني لسعيد إذ تخلصت منهما، وقد كانا من شر الخلق، ولن تتم سعادتي إلا إذا ضممت لهما إخوتهما الخمسة الباقين، فأوقد النار إذ ذاك في بيت آواهم إعلانا لفرحه بالخلاص منهم.

واحتاط فرنشسكو حتى لا تتبع ابنته الباقية - بياتريس - خطة أختها، فشدد في مراقبتها.

وكانت بياتريس في ذلك الحين فتاة في الثالثة عشرة صبوحة الوجه جميلة المحيا يظنها رائيها ملكا من السماء لا بشرا من الأرض، وكانت ذات شعور ذهبية قل أن توجد في الرومانيات، حتى عدها روفاييل من متممات الجمال؛ فرسم كل عذاريه بشعور ذهبية، وكنت ترى شعرها فوق جبينها أو مسترسلا على كتفيها يموج، فتظنه ذهبا سكب على اللجين. وكان لبياتريس عينان زرقاوان إذا نظرت إليهما سرت نفسك إلى عالم الأرواح، فتنسى العالم السفلي، وتظن أنك بلغت السماء، وأنك في حضرة ملك كريم. أما قامتها فلم تكن بالطويلة ولا بالقصيرة، بل ناسب الله بين أجزائها فجاءت من أبدع ما خلق فصور، وكانت ضحوكة السن إلا إذا بكت استبكت القلوب ، وجاء في أمثال الفرنساويين - الدالة على رقيق عواطفهم - ما من شيء يؤلم النفس كرؤية جميل يتألم. وكنت ترى في نظرات بياتريس - حتى إذا بكت - ما يدل على قوة جنانها وثبات عزيمتها.

وأراد أبوها أن يستوثق منها، فسجنها في حجرة قصية من القصر، ولم يعهد إلى أحد بمفتاحها، وكان يحمل إليها بنفسه ما يقوم بأود حياتها، ولبث سنين يعاملها معاملة الأسير، بل معاملة السجان القاسي للسجين. حتى بلغت الفتاة الثالثة عشرة، فرأت أباها قد تلطفت معها طباعه؛ فرق حديثه وحسنت معاملته، فاندهشت لهذا الانقلاب كل الاندهاش، ولم تدرك أنها أصبحت فتاة بعد أن كانت طفلة، وأن ربيع حياتها قد أينع زهرة شبابها، فنظر لها أبوها نظرة فاسق، ألا رد الله طرفه خاسئا وهو حسير.

ولا يخفى أن فتاة نشأت كما نشأت بياتريس بعيدة عن مجتمع بني الإنسان، حتى عن إخوتها وامرأة أبيها، لا تستطيع التمييز بين الخير والشر، ولا تعرف الضار من النافع، فمن السهل أن يبلغ منها أربا من لا يرحم عبدا ولا يخشى ربا، ومع ذلك أراد فرنشسكو أن تتم نصرته - خذله الله - فيشرك معه عوامل النفس الطبيعية في الفتاة، فينال منها ما ينال عن شوق وطيب خاطر؛ فكانت تستيقظ الفتاة كل ليلة على صوت آلات طرب شجية ذات ألحان تصبي النفس، فتأتيها كأنها في حلم تظن أنها آتية من السماء، فسألت أباها عن مصدر تلك الألحان وإن كانت آتية من السماء حقيقة كما تظن، فثبتها الفاسق في ظنها وزاد قائلا: إنها إذا لم تعص له أمرا وتطيع ما يشير به، فإن الله يكافئها فيريها بعينيها ما تسمعه بأذنيها، ففرحت الفتاة؛ لبساطتها، وانتظرت أن يمن الله عليها فترى تلك السماء.

وبينما كانت الفتاة ذات ليلة مضطجعة على فراشها تشنف الأسماع بتلك الألحان الشجية؛ إذ فتح باب حجرتها فجأة، فاستنارت بأضواء زاهية وتعطرت بروائح زكية منبعثة من الحجر الأخرى، ورأت غلمانا وحورا لا تكاد تسترهم ملابسهم يسيرون في تلك الحجرات يلعبون ويمرحون، وكان هذا الجمع من جواري وموالي فرنشسكو يدعوهم كل ليلة فيغتنم معهم أوقات الأنس. وكان فرنشسكو غنيا لا يبخل على نفسه بلذة مهما كلفته تلك اللذة من المال، فكان لذلك كثير الندمان قد ملأ قصره من الجواري الحسان ومن حسان الغلمان.

ولما تمت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أغلق على بياتريس الباب، فاختفت عنها تلك المناظر المدهشة للألباب، وخلفتها مفكرة فيما رأت، معجبة بما سمعت وشاهدت.

وفي الليلة الثالثة رأت بياتريس ما رأته في الأولى، إنما أتى إليها في تلك الليلة أبوها عاري الجسم كيوم ولدته أمه، ودعاها إلى الاشتراك معهم في لهوهم، فنفرت الفتاة نفورا طبيعيا لا تدري له سببا، ورأت من نفسها مانعا عن قبول دعوته، فقالت له: إنها لا ترى بين هؤلاء النساء امرأة أبيها لوكريزيا؛ فلذا لا تجسر على الخروج بينهن وهي لا تعرفهن، فهدد فرنشسكو ورجا، ولكن رأى الفتاة قد التفت في غطاء الفرش، وأبت كل الإباء أن تتبعه؛ فعاد خائبا ساخطا ...

وفي الليلة الثالثة لم تنزع بياتريس عنها ملابسها، فانطرحت بها على فراشها، وفي الساعة المعهودة فتح عليها الباب، وظهر لها مشهد الليلتين السابقتين، فرأت من ضمن النساء زوجة أبيها قد مرت أمام بابها، وكان فرنشسكو قد اضطر زوجته إلى حضور حفلته، فأتت مرغمة تسيل دموعها على خديها، وقد احمرت عيناها من البكاء، ولم تلاحظ بياتريس ما بها؛ لكثرة الضوء وبعد المسافة، وأراها أبوها امرأته بين الجواري فلم تجد بدا من إطاعته إلى الخروج معهن، فخرجت تتعثر في مسيرها من الحياء وقد احمر وجهها خجلا مما تراه.

ورأت بياتريس في هذا المحفل من ضروب الفسق والتهتك ما يخجل القلم من تدوينه.

ولبثت الفتاة حريصة على طهارتها أمدا، وضميرها يحدثها بأن ما تراه منكر وضلال، ولكن لم ييأس أبوها من إفسادها، فكان كإبليس لا يزال بالمرء حتى يلهيه عن ربه وواجبه، فلما رأى أن تلك المناظر لم تحرك في الفتاة شهواتها الراقدة، استعان بفكره على إفساد أخلاقها، فقال لها: إن كل الأولياء والقديسين إنما وجدوا من اجتماع الأب بابنته، وهكذا قضى على طهارتها وهي لا تظن إثما ما تأتيه، بل ولا يخطر له أن فيه ما يستنكر.

ولما نال هذا الوحش ما تمنى أطلق لنفسه العنان، ولم يقف بمنكراته عند حد؛ فكان يرقد بين ابنته وزوجته، ويكره زوجته على ذلك، ويهددها بالقتل إن فتحت فاها للفتاة بما ينبهها إلى فظاعة ما تأتيه مع أبيها.

الانتقام

ومضى على هذا الحال ثلاث سنين، ثم اضطر فرنشسكو إلى سفر طويل مخليا الجو لنسائه، فأسرعت لوكريزيا، وأعلمت ابنة زوجها ما في علاقتها مع أبيها من المنكر، وكشفت لها عما تجهله من أمور الدنيا والدين، فاتحدت معها الفتاة على أن تشكيا الرجل للبابا؛ فحررتا له كتابا عرضتا عليه فيه ما تسامان من الذل والعذاب والضجر، ولكن لم يصل كتابهما إلى قداسته؛ لأن فرنشسكو كان قبل سفره قد احتاط لمثل هذا الحادث، فرشا حاشية البابا وبطانته حتى لا تصل إليه شكوى عنه، وحسب المرأتان أن البابا ناقم عليهما كما نقم على أولاد فرنشسكو: جاك وكريستوف وروك فطردهم من حضرته، فظنا أن الغضب لاحق أيضا بهما؛ فصبرتا على قضاء الله وسلمتا أمرهما إليه.

وفي هذه الأثناء اغتنم جاك فرصة غياب أبيه، فأتى لزيارة أخته وامرأة أبيه مع راهب من أصدقائه يدعى جويرا، وكان جويرا شابا بين الخامسة والسادسة والعشرين، ومن أشرف أسرات روما، ذا طبع حاد وعزيمة قوية وشجاعة معروفة وجمال تتحدث به النساء، فكان محياه وضاحا كمحيا الرومان، وله عينان زرقاوان تقرأ فيهما الدعة، وكانت شعوره طويلة ذهبية وله لحية كستنائية، وكان واسع العلم والاطلاع، فصيح اللسان، حلو الحديث، ذا صوت لطيف يستهوي القلوب والأسماع.

وما كادت العين أن تقع على العين حتى أحب جويرا بياتريس ومال قلب بياتريس إليه، وكان مباحا لرجال الدين الزواج في ذلك الزمن؛ حيث لم يكن أن انعقد مجمع ترنته الذي كتب عليهم الرهبنة، فاتفق جويرا مع آل سنسي أن يخطب بياتريس من أبيها عند عودته، وعلى هذا انصرف، ولبثت المرأتان تؤملان انصلاح الحال.

وغاب فرنشسكو نحو أربعة شهور لا يعلم أهله فيها بما تم له ثم عاد، فأراد من أول ليلة أن يختلي بابنته، فوجدها على غير ما تركها عليه؛ إذ رأى منها فتاة عرفت مقام العرض فهي تصونه، وقدرت قدر الشرف فهي لا تهينه، فرجا أبوها ووعد، وهدد وأوعد، وأرغى وأزبد، وهي لا تزال بعرضها عليه ضنينة، فسامها من العذاب ألوانا، وضربها الضرب المبرح، فلم تزد إلا إباء، فلما عجزت منها حيلته اتهم زوجته بإغرائها الفتاة، فأنزل عليها صواعق غضبه وضربها بعصاه ضربة وحشية تألمت لها المسكينة ولم تتأوه، بل أسرتها في قلبها لساعة الانتقام.

وبعد بضعة أيام تمثل جويرا لدى فرنشسكو خاطبا بياتريس، ومؤملا نجاح غرضه لدى أبيها؛ لما توفرت فيه من شروط الغنى والجاه والجمال والنسب، لكن رده الفاسق بالخيبة شر ردة فلم ييأس الراهب، وأعاد الطلب ثانية وثالثة مظهرا لفرنشسكو فوائد هذا القران ومزاياه، فلم يفلح في مسعاه، ومل الأب من إلحاح ذلك الخاطب المغرم، فانتهى بأن قال له: إن لديه سببا لا يسمح له بتزويج ابنته له ولا غيره، فسأله الراهب عن ذلك السبب فأجابه: «لأنها محظيتي.» فبهت الرجل لهذا القول، ولم يسعه تصديقه، لولا أن رأى مخاطبه يبتسم تبسمة لا تترك للريب مكانا، فاستعاذ بالله.

ولبث جويرا ثلاثة أيام لا يستطيع الوصول إلى بياتريس، ثم تمكن من الدخول إليها وهو يرجو أن تكذب بأقوالها ما يظنه افتراء من أبيها، لكنها اعترفت له بكل شيء، فرأى عظم الهاوية التي أصبحت تفصل بينهما، فكاد يقضى عليه من اليأس، وافترق العاشقان تسيل على خدهما الدموع، ولا يستطيع أحدهما أن يصرف قلبه عن حب أخيه.

ولبثت بياتريس وزوجة أبيها إلى هذا الحين لا يخطر ببالهما خاطر جنائي، وما كان ليخطر لولا أن دخل فرنشسكو ذات ليلة على ابنته، فنال منها بالإكراه ما لم ينله بالوعيد، فسجل هذا العمل عليه شقاءه، وعجل ساعة الانتقام منه.

وكانت بياتريس كما أسلفنا ذات عزيمة ماضية، ونفس قادرة على أن ترفعها إلى ملكوت السموات فتصير من الملائكة، أو تحط بها إلى الحضيض، فتكون من الأبالسة، فذهبت وأعلمت امرأة أبيها بما حدث لها، فذكرت لوكريزيا سوء معاملة زوجها لها، ورأت ساعة الانتقام قد حانت، فحرضت إحداهما الأخرى وتآمرا على فرنشسكو.

ودعت المرأتان جويرا لمشاركته في الرأي، فوجدتاه مملوءا بالغيظ مستعدا للانتقام، فتعهد بإبلاغ جاك سنسي ما أقروا عليه؛ لأن جاك كبير العائلة بعد أبيه، فاستصوب جاك فعلهم وانضم إليهم. وكان جاك حانقا على أبيه؛ لأن أباه قطع عنه المال لما تزوج، فتركه وزوجته وأولاده يعانون ألم الجوع والفاقة، واختار المتآمرون دار جويرا لتدبير المكيدة، وانتخب جاك لتنفيذها رجلا يدعى مارزيو، وجويرا آخر يدعى أولمبيو.

وكان مارزيو من أتباع جاك، وقد يسرت له خدمته عنده رؤية بياتريس مرارا، فأحبها الرجل حبا لا أمل وراءه، حبا يذهب بالمهج ولا تجسر الشفتان على النطق به، فلما علم الرجل أن الجريمة التي سيرتكبها تقربه من بياتريس وترضيها قبل بها منشرحا عن طيب خاطر.

أما أولمبيو فكان من أعداء فرنشسكو؛ لأن فرنشسكو سعى في طرده من خدمة الأمير كولونا، وتفصيل ذلك: أنه كان لكولونا قصر حربي في مملكة نابولي يقال لها: قصر روكابتريلا، فكان يذهب إليه فرنشسكو وآله لتغيير الهواء، فكان يكرمهم كولونا فيه كل الإكرام؛ لكثرة احتياجه للمال واقتراضه إياه من فرنشسكو وقت الحاجة، وغضب فرنشسكو يوما من أولمبيو - وكان حارس القصر - فسعى لدى كولونا في طرده، فأسرها أولمبيو في نفسه.

واتفق المؤتمرون على تدبير المكيدة الآتية لفرنشسكو، وكان قد اقترب اليوم الذي يذهب فيه فرنشسكو كعادته إلى قصر روكابتريلا، فقرروا أن يجتمع اثنا عشر شقيا من أشقياء نابولي تعهد بجمعهم أولمبيو، فيختفون في غابة على الطريق، حتى إذا علموا بالساعة التي يمر فيها عليهم فرنشسكو ينقضون عليه ويأسرونه هو وآله، ثم يساومونه على نفسه بمبلغ من المال، فيرسل بعض أولاده إلى روما لاستحضار الفدية، فيغيب الرسول، حتى إذا انقضى الأجل المحدود لعودته يقتلون فرنشسكو، وبذلك لا تقع الريبة على المؤتمرين، ولا توجه إليهم التهمة.

ولكن رغما عن ذلك التدبير فشلت المؤامرة؛ إذ ضل الرسول المرسل لإخطار الأشقياء الطريق، فقطعه فرنشسكو آمنا، ووصل إلى روكابتريلا بسلام، وكان الأشقياء قد لبثوا في انتظاره أسبوعا في الغاب، فلما نجا من أيديهم تفرقوا وعادوا من حيث أتوا.

وأقام فرنشسكو بقصر كولونا أياما بعد أن صرف ولده جاك وولديه الآخرين الصغيرين ليخلو له الجو فيعذب لوكريزيا وبياتريس ما شاء وشاءت طباعه الوحشية. وعاد ذلك الأب الغشوم إلى سالف عهده الفاسق مع ابنته، وأراها من أنواع الذل والعذاب ما صممت معه أن تنتقم لنفسها بنفسها ولا تكل أمر انتقامها إلى غيرها.

ورأت بياتريس يوما أولمبيو ومارزيو يطوفان حول القصر، فأشارت إليهما بأن لديها قولا تريد إبلاغهما إياه، فانتظر أولمبيو فرصة الليل، وتمكن - لمعرفته بدخائل القصر ومداخله - أن يلجه ليلا مع صاحبه، وانتظرتهما بياتريس في نافذة قريبة من حوش معزول، ودفعت إليهما بخطابين لأخيها جاك وحبيبها جويرا تطلب في الأول من أخيها أن يوافقها على قتل أبيها، وترجو في الثاني من حبيبها أن يعطي أولمبيو ألف قرش روماني نصف أجرته، أما مارزيو فكان لا يزال مخلصا لباتريس يرى في قبولها خدمته أوفى أجر وأكبر جزاء، فأهدته الفتاة رداء موشى بالذهب ليحفظه تذكارا لشكرها إياه. ووعدت الفتاة الرجلين أن تجزل لهما العطاء هي وامرأة أبيها إذا تم لهما ما يتمنيان من قتل الظالم والاستيلاء على ماله.

وسافر الرجلان، وانتظرت المرأتان عودتهما بفارغ الصبر، ولما انقضى الأجل المضروب عادا وقد أنقد أحدهما الألف قرش، وأتى الثاني من جاك بما يفيد موافقته لأخته على ما عزمت عليه، وبذلك تمهد السبيل لإنفاذ ذلك العزم، وحددت المرأتان اليوم الثامن من شهر سبتمبر لإخراجه إلى حيز الفعل، ولكن لاحظت لوكريزيا أن ذلك اليوم يوافق عيد ميلاد العذراء، فلم تشأ أن ترتكب فيه معصية فتضاعفها بأخرى، فاتفقت مع ابنة زوجها على تأجيل العمل لليوم التاسع.

وفي مساء 9 سبتمبر سنة 1598 جلس الشيخ والمرأتان على المائدة لتناول العشاء، فتأملته إحداهما، وسكبت في قدحه أفيونا، فشعر به دون أن يشعر بما فيه، وما لبث أن لعبت برأسه هذه المادة المخدرة؛ فاستولى عليه نوم ثقيل.

وكان أولمبيو ومارزيو مختبئين في القصر من الأمس، فأتت إليهما بياتريس في منتصف الليل، وأخرجتهما من مخبئهما، وقادتهما إلى حجرة أبيها، ففتحت لهما بابها، وأدخلتهما فيها، ولبثت مع زوجة أبيها تنتظران في حجرة مجاورة لها.

وبعد قليل خرج الرجلان باهتين منكسي الرأس، فعلمت المرأتان أنهما لم يفعلا شيئا، فصاحت بهما بياتريس قائلة: ويلكما ماذا جرى؟ وما يوقفكما؟

قالا: رأينا من العار أن نقتل شيخا في فراشه؛ وقد رأينا شبيبته فأخذتنا الشفقة عليه.

فهزت بياتريس رأسها هازئة، وقالت تقرعهما: عجبي لرجلين يدعيان الشجاعة والقوة ولا يجسران على قتل شيخ راقد، فما بالكما إذن لو كان قائما على قدميه، أأتيتما إذن لتستوليا على دراهمنا اختلاسا؟ تبا لكما ولجبنكما، ولكن حيث إنكما نكصتما ونكثتما العهود، فسأقتل أبي بيدي ولن تحييا بعده طويلا.

فخجل الرجلان من ضعفهما، وأشارا للمرأتين أنهما مستعدان لما تطلبان، ثم دخلا معهما إلى حجرة الراقد، وكان القمر قد أرسل بأشعته من خلال النافذة، فأضاء وجه الشيخ ولحيته البيضاء، فكانت له الهيبة التي أثرت على نفس الشقيين أول مرة، وكان مع أحد الرجلين مسامير غليظة كبيرة، ومع الآخر مطرقة، فوضع الأول مسمارا في عين الراقد، وقرع عليه الثاني بالمطرقة، فأدخله فيها، ثم دقوا له مسمارا آخر في رقبته، فزهقت روحه، وذهبت إلى سقر محملة بذنوبها وآثامها.

ولم تخلف الفتاة وعدها، فدفعت إلى القاتلين كيسا مثقلا بالدراهم بقية أجرهما، وصرفتهما.

ولما اختلت المرأتان بنفسهما نزعتا المسمارين من جثة القتيل، ثم درجتاه في غطائه، وجرتاه من حجرة لحجرة لتلقياه من شرفة على حديقة قاحلة في أقصى القصر، فتوهمان الناس أنه سقط من الشرفة خطأ فمات، ولكن ما كادتا أن تصلا به إلى آخر غرفة حتى فارقتهما قواهما من التعب، فجلستا تستريحان قليلا، وحانت من لوكريزيا التفاتة، فرأت أولمبيو ورفيقه لم يبرحا القصر وهما يتقاسمان المال الذي أخذوه، فدعتهما لمساعدتهما، فأطاعا وحملا الجثة إلى الشرفة، ثم أشارت لهما بياتريس على شجرة بيلسان، فألقياه فوقها؛ فتعلقت الجثة في أغصانها، ولبثت معلقة فيها.

ووجد أهل القصر جثة سيدهم في الغد معلقة في الشجرة تحت الشرفة، فظنوا جميعا أنه زلت قدمه وهو فوق الشرفة؛ والشرفة بلا دائر فسقط فمات، وكانت أغصان البيلسان قد مزقت ثياب المقتول وملأت جثته بالجراح؛ فلم ينتبه القوم بين هذه الجراح إلى أثر المسمارين، ولما أبلغت المرأتان الخبر خرجتا صارختين تندبان وتسكبان الدموع الغزيرة حتى رثى لهما كل ناظر، وما كان لأحد أن يتهمهما وهو يرى ما تظهرانه من علائم الحزن الشديد، إلا أن غسالة القصر تولتها الظنون عندما أتت لها بياتريس بغطاء أبيها لتغسله فوجدته ملطخا بالدماء، فسألتها عما فيه فقالت لها الفتاة: إنه أثر حيض أتاها بالأمس؛ فتظاهرت الخادمة بالتصديق ولم تنبس ببنت شفة، وانقضت معدات الجنازة، وتم المأتم وعادت بياتريس ولوكريزيا إلى روما مطمئنتين، فاعتزلتا فيها الناس، وبشرتا نفسيهما بحياة خير من الأولى على كل حال.

التحقيق

قد يكون المجرم مطمئن البال، لكن قلما يكون مطمئن الضمير، فإذا كان لا يخشى بأس الناس، فإن صوتا خفيا لا يزال ينذره بعقاب الله، وقد يظهر عقاب الله على أيدي الناس، وهكذا أراد الله أن يتضح الحق، فألهم قضاة نابولي إذ بلغهم موت فرنشسكو الفجائي أن لا بد أن يكون هذا الموت جنائيا، فأرسلوا مندوبا إلى روكابتريلا لاستخراج الجثة والبحث عن آثار الجريمة البادية عليها إن كانت الوفاة جنائية. ولما وصل المندوب إلى القصر قبض على كل ساكنيه وأرسلهم في الأغلال إلى نابولي، ولكنه لم يهتد إلى دليل ييسر له معرفة الحقيقة إلا قول الغسالة؛ حيث قررت أن بياتريس أتت إليها بغطاء ملطخ بالدم لتغسله، وادعت أنه دم حيض، فسألها القضاة إن كانت ذمتها ترتاح إلى تصديق قول الفتاة، فقالت: إنها لا تظن أن ذلك الدم كان دم حيض؛ لأنه كان أحمر قانيا زاهي اللون.

وأرسل القضاة ذلك الإقرار إلى محكمة روما، فلم تهتم به المحكمة؛ لقلة قيمته في باب الإثبات، فلم تأمر بالقبض على أحد من آل سنسي، وفي تلك الأثناء مات صغير هذه العائلة، فلم يبق من أولاد فرنشسكو الذكور إلا اثنان: جاك - الذي مر ذكره - وبرنار، فكان في استطاعتهما أن ينجوا بنفسهما في هذه الفرصة فيقصدا البندقية أو فلورنسا، ولكن لم يبرحا روما ولبثا فيها ينتظران ما تحكم به الأقدار.

وعلم جويرا أن رجال الشرطة بنابولي بلغهم أن أولمبيو ومارزيو كانا يطوفان حول القصر قبل مقتل فرنشسكو، فأخذوا في البحث عنهما للقبض عليهما؛ فخشي جويرا أن يبوحا بالسر الذي اؤتمنا عليه؛ فكلف رجلين من الأشقياء بقتلهما، فلحق أولهما بأولمبيو في مدينة ترني، وطعنه بخنجره طعنة كانت القاضية، أما الثاني فلم يصل إلى نابولي إلا وقد قبض رجال الشرطة على مارزيو وقرروه بواسطة التعذيب؛ فاضطر أن يعترف لهم بكل ما حصل، فأرسل اعترافه إلى محكمة روما، فصدر أمرها بإلقاء القبض على آل سنسي: جاك وبرنارد ولوكريزيا وبياتريس، وسجنوا أولا في قصر أبيهم ووكل بحراستهم الجنود، ولما قويت ضدهم الشبه نقلوا إلى قصر كورتي سافيلا، وهناك ووجهوا مع مارزيو، فأنكروا جميعا اشتراكهم في الجريمة بل ومعرفتهم القاتل، وطلبت بياتريس أن يواجهوها وحدها به، فلما وقفت أمامه كذبت في وجهه مدعاه بثبات جنان وقوة بيان أسراه، وأثر فيه جمالها وهواه، فعزم على أن يخلصها من هذه التهمة ولو ذهب هو فداءها، فقال: إنه كذب في كل ما قاله وافترى، وإنه يسأل الله أن يغفر له هذا الافتراء ويرجو بياتريس أن تصفح عن ذنبه، فأذاقه المحققون من أنواع العذاب ما يشيب الولدان، فلم يرجع عما قرره أخيرا، ومات بين أيدي معذبيه وقد أطبق فاه على سره حتى ظن آل سنسي أنهم ناجون.

ولكن أراد الله إلا أن تتم مشيئته فقبض على قاتل أولمبيو في جريمة أخرى، فاعترف القاتل بالجريمتين وقال: إن جويرا أوعز إليه بقتل أولمبيو؛ خشية فضيحة سر له عنده.

وعلم جويرا الخبر في حينه - وكان ذا حيلة لا تخيب - فلم يجزع ولم يرتبك في أمره، وكان لديه إذ وصله الخبر بائع فحم يحاسبه على ما ورده لمنزله، فأدخله إلى حجرته، وأنقده مبلغا وافرا على أن يكتم ما يفعله، ثم خلع عنه ثيابه وألقاها وارتدى بثياب الفحام القذرة بعد أن جز شعوره الذهبية الجميلة ولطخ وجهه ويديه بالفحم، ثم اشترى من الفحام حماريه بحملهما، وخرج هكذا من القصر يجوب طرقات روما وينادي: «الفحم يا طالب الفحم.» والجنود تسعى في أركان المدينة باحثة عليه. وما زال حتى بلغ المدينة فانضم إلى قافلة راحلة منها، فسار بصحبتها إلى نابولي، ومنها ركب البحر إلى حيث لا نعلم. وقال بعضهم: إنه قصد فرنسا وخدم في جيوش هنري الرابع، ولكن لا دليل على صحة ذلك القول.

ورأى القضاة من أقوال قاتل أولمبيو واختفاء جويرا ما أيد الشبهة ضد آل سنسي، فنقلوا من قصرهم إلى السجن، وأخذ المحققون في تعذيبهم حملا لهم على الإقرار، فلم يطق الولدان الألم واعترفا بذنبهما. أما لوكريزيا فابتدءوا بتعذيبها بواسطة شد أطرافها بالحبال، وكانت ممتلئة الجسم فلم تتحمل ذلك التعذيب، واعترفت بكل ما فعلت.

أما بياتريس فلم يجد المحققون إلى حملها على الاعتراف سبيلا، فوعدوا وأوعدوا وعذبوها ما شاءوا أن يعذبوا وهي لا تلين ولا تعترف، حتى عجب من ثباتها القاضي عولس موسكاتي، وكان من أشهر قضاة زمنه في التحقيق، فكان لا يتحصل على كلمة من فيها لا تريد أن تبديها، ولما يئس منها لم يشأ أن يتحمل مسئولية هذه القضية على عاتقه، فرفع أمرها إلى البابا كليمنتوس الثامن، وخشي البابا أن يكون جمال بياتريس أثر على نفس القاضي، فجعله يشفق عليها عند التعذيب والسؤال، فعهد بالقضية إلى قاض آخر مشهور بشدته وقساوته.

وأعاد القاضي الثاني التحقيق من بدئه، ورأى أن بياتريس لم تعذب إلا العذاب العادي، فأمر بأن تعذب العذاب العادي وغير العادي، وكان أشد هذا العذاب عذاب الحبل، وهو أغرب ما اخترعه ابن آدم، ونأتي هنا ببيان أنواع العذاب عند أهل روما في ذلك العصر من التاريخ، فنقول:

كان بروما طرق كثيرة للتعذيب أشهرها عذاب الأظافر، وعذاب النار، وعذاب السهر، ثم عذاب الحبل.

فأما عذاب الأظافر فكان أخفها، وكانوا يستعملونه عادة للمجرمين الأحداث والشيوخ؛ وبيانه: أنهم كانوا يدخلون بين أظافر المجرم وأصابعه قطعا من الغاب حادة الأطراف.

أما عذاب النار فكان استعماله شائعا قبل اختراع عذاب السهر، فكانوا يجعلون أقدام المجرم أمام موقع من النار المستعرة تلفحها بلهيبها.

أما عذاب السهر فكانوا يجلسون له المجرم على قائمة حادة الزاوية ويشدون إليها أطرافه، ثم يوكلون به رجلين يبدلون كل خمس ساعات، فينبهانه كلما استولى عليها النعاس، ويمنعانه بذلك من النوم، قال مخترع ذلك الصنف من العذاب وهو مارسيليوس: «ما شاهدت مجرما امتنع بعد هذا العذاب عن الاعتراف.» ولكن نقل فارنياتشي أنه لاحظ أن خمسة في المائة من المعذبين به يأبون الاعتراف، وكفى بذلك فخرا بل دليلا على قساوة مخترع هذا العذاب الجهنمي.

أما عذاب الحبل، فكان أشهر هذه الأنواع، وكان معروفا بفرنسا أيضا، وقد قسموه إلى ثلاث درجات: العذاب الخفيف والعذاب الشديد والعذاب الأليم.

فأما الدرجة الأولى منه، فهي التهديدية؛ حيث يقودون المجرم إلى غرفة العذاب، وينزعون عنه ملابسه، ثم يطرحون عليه الحبال كأنهم يريدون شد وثاقه بها، وكانوا يشدون الحبال فعلا إلى الرسغ فيؤلمون المعذب. وكانت هذه الدرجة كافية عادة لحمل النساء وضعاف القلوب من الرجال على الاعتراف.

أما الدرجة الثانية وهي العذاب الشديد، فكانوا يربطون لها يدي المجرم من رسغيها وراء ظهره، ثم بعد نزع ملابسه عنه يمرون الحبل من خلفه من سقف المكان، فيشد القائم بالعمل الحبل، فيرتفع المجرم عن سطح الأرض أو ينخفض حسب مشيئة المحقق، وكانوا عادة يتركونه معلقا مسافة تلاوة صلاة، فإن أصر على الإنكار ضاعفوا له الزمن، وكانت هذه الدرجة من العذاب لا تستعمل إلا إذا كان وقوع الجريمة محتملا لا مثبوتا، وإليها تنتهي درجات العذاب العادي.

أما الدرجة الثالثة، وهي العذاب الأليم وبداية العذاب غير العادي، فكانوا يتركون فيها المجرم معلقا بين الأرض والسقف مسافة تختلف بين ربع ساعة وساعة، ثم يهزونه وهو معلق أو يرخون الحبل فجأة فيسقط، ثم يشدونه فجأة قبل أن يصل جسم المجرم إلى الأرض، فإذا ما زال المجرم مصرا على الإنكار وقد انفكت مفاصله، وضعوا له أثقالا في قدميه ليزيدوه ألما وعذابا.

وكان هذا العذاب الأليم لا يعذبه إلا من كانت الجريمة ثابتة ضده، وكانت من الجرائم الفظيعة، كما لو كانت جريمة قتل، وكان المجني عليه فيها شخصا واجب الاحترام أو التقديس، كأن يكون أبا للقاتل أو كردينالا أو أميرا أو عالما.

وقد سبق لنا القول بأن بياتريس عذبت العذابين العادي وغير العادي، فلنأت هنا على صورة من محضر التعذيب منقولة من أوراق القضية المحفوظة بالفاتيكان:

ولما أنكرت «بياتريس» أمرنا جنديين فأخذاها إلى غرفة التعذيب، حيث حلقت شعورها ثم ربطت يداها وراء ظهرها، وعلقت في بكرة في سقف الغرفة المذكورة، ثم ربطت رجلاها إلى عجلة يديرها رجلان بأربعة من القضبان.

وسألناها قبل تعذيبها عن قتل أبيها، وقدمنا لها اعتراف أخويها وامرأة أبيها موقعا عليه منهم، فما زالت مصرة على الإنكار، وقالت: «شدوني وافعلوا بي ما شئتم؛ فقد قلت لكم الحق، ولن أقول غير ما قلت ولو قطعتموني إربا.»

وعلى ذلك أمرنا بشدها، فرفعت عن الأرض قدمين مسافة أن تلونا قطعة من الصلاة، ثم أعدنا سؤالها عن تفاصيل ذلك المقتل وظروفه، فلم تزد عما قالته وقالت: «إنكم تقتلونني، إنكم تقتلونني.»

وأمرنا فرفعت إلى أربعة أقدام وتلونا صلاة أخرى، ولكن ما كدنا نصل إلى نصفها حتى تظاهرت بأنه أغمي عليها، فأمرنا فسكب فوق رأسها وعاء من الماء، فلما أحست ببرودة الماء تنبهت، وصاحت قائلة: «رباه! لقد مت، إنكم تقتلونني، يا رباه!» ولم ترد أن تزيد شيئا.

فأمرنا فرفعت أيضا، وأخذنا في تلاوة مزمور من المزامير، فلم تتله معنا، وأخذت تتلوى وتصيح مرارا قائلة: «يا رباه! يا رباه!»

وسألناها بعد ذلك عن قتلها لأبيها، فلم تشأ أن تعترف لنا بشيء، بل قالت: إنها بريئة، ثم أغمي عليها في الحال.

فأمرنا بأن يصب على رأسها ماء، فأفاقت لنفسها وفتحت عينيها، وقالت: «ألا لعنة الله عليكم أيها الجلادون، إنكم تقتلونني إنكم تقتلونني.»

ولما رأيناها مصرة على العناد والإنكار أمرنا بهزها، فرفعها الجلاد إلى عشرة أقدام ونصحناها أن تقول الحق، ولكن كأنها فقدت الكلام أو لم تشأ أن تتكلم ، فأشارت برأسها أنها لا تريد أو لا تستطيع أن تقول شيئا.

فأشرنا إلى الجلاد فأرخى الحبل، فسقطت من ارتفاع عشرة أقدام إلى ارتفاع قدمين، ثم شد الجلاد الحبل، فانفك مفصلاها وانتقل ذراعاها إلى الأمام، فصرخت صرخة هائلة ثم سكتت، ولبثت كأنها مغشي عليها.

فأمرنا فصب على وجهها الماء، فأفاقت وقالت: «أيها القتلة اللئام لقد قتلتموني، وإني لست ناطقة لكم بحرف، ولو فصلتم ذراعي عن جسمي.»

فأمرنا فعلق في رجليها أثقال زنتها خمسون ليرة، ولكن في تلك اللحظة فتح الباب، وسمعت أصوات تقول: «كفى كفى! فلا تعذبوها طويلا.»

وكانت تلك أصوات أخويها وامرأة أبيها؛ إذ رأى القضاة أن يواجهوا جميعا لبعضهم لما رأوا إصرار بياتريس على الإنكار، وكان آل سنسي لم يجتمعوا ببعضهم منذ خمسة شهور. ولما رأى القادمون أختهم معلقة مفككة المفاصل تسيل دماؤها من يديها قال أكبرهم جاك: أختاه لقد ارتكبنا الجرم فتم الإثم، فلنعمل الآن على نجاة الروح ولنستقبل الموت عن طيب قلب، فلا تتركيهم يعذبونك هذا العذاب.

فأطرقت بياتريس رأسها كأنها تصرف عنها الألم، ثم قالت: إذن تريدون الموت، فليكن ما تريدون.

ثم التفتت إلى معذبيها قائلة: فكوا وثاقي وأعيدوا علي السؤال فسأجيبكم بالصدق عما تريدون.

فأنزلت من مكانها، وأتى حلاق فجبر لها مفاصلها، ثم قرءوا عليها الأسئلة التي وجهت إليها، فأجابت عنها معترفة كما وعدت بكل ما فعلت.

وبعد هذا الاعتراف طلب الإخوان أن يجعلوا جميعا في سجن واحد، فأجيبوا إلى طلبهم، ولكن في الغد صدر الأمر بنقل جاك وبرنار إلى سجون توردنيونا، وبقيت المرأتان في سجنهما.

الخاتمة

ولما قرأ البابا أوراق القضية واطلع على اعتراف المتهمين اندهش وذعر، وأمر بأن يعلق المجرمون في ذيول خيول جموحة تطلق بهم في طرقات المدينة، ولكن أهاج القوم هذا الحكم، وذهب قوم من الكرادلة والأمراء، فجثوا لدى عرش البابا، والتمسوا منه أن يعدل حكمه ويسمح لهؤلاء البؤساء أن يدافعوا عن أنفسهم.

فقال البابا: وهل تركوا لأبيهم أن يدافع عن نفسه عندما قتلوه غيلة وغدرا؟!

ولكن ألح القوم، فأجابهم البابا أخيرا إلى ما طلبوه، وحدد للمجرمين ثلاثة أيام للدفاع.

وأسرع كبراء المحامين بروما إلى الدفاع عن آل سنسي، فأخذوا يجهزون مذكراتهم ويجمعون آراءهم حتى اليوم المحدد للمرافعة، فاجتمعوا أمام خليفة العرش البابوي، فاندفع أولهم، وهو نقولا ديزانج، فاستهل دفاعه بمقدمة كان لها أعظم تأثير في نفوس السامعين، ورأى البابا أنه مهتم بالمتهمين أكثر من التهمة، فخشي شر ذلك التأثير، والتفت إلى المحامي، فخاطبه بغضب قائلا: فليقتل إذن أولاد الأشراف آباءهم ليجدوا بين المحامين رجالا يدافعون عنهم، إنا ما كنا لنصدق هذا أو نتوهمه.

فسكت القوم لصوت البابا إلا فارنياتشي المحامي؛ إذ قام بين أيدي قداسته عالما بقدر مهمة الدفاع التي عهد إليه بها، فقال بثبات وأدب: أيها الأب العالي القداسة، إننا لم نأت هنا لندافع عن المجرمين، إنما أتينا لنخلص البريئين؛ لأننا لو توصلنا بما نبديه من أوجه الدفاع إلى أن نبرهن لقداستكم أن بعض المتهمين إنما فعل ما فعل وهو يدافع عن نفسه دفاعا شرعيا، فلا شك أن قداستكم تلتمس له العذر فيما أتاه، وكما نصت الشريعة على الأوجه التي تجيز للأب أن يقتل ولده فيها؛

1

فإن هناك من الأوجه ما تجيز للولد أن يقتل أباه، وبناء على ذلك فنحن لا نتكلم إلا إذا راق لقداستكم أن تسمعنا.

فصرح البابا للمحامي بالكلام، فاستمر فارنياتشي في مرافعته قائلا: إن صلة البنوة التي كانت تربط بياتريس بأبيها قد انفصمت مذ أكرهها أبوها على ما أتاه معها، واستدل على ذلك الإكراه بالعريضة التي رفعتها الفتاة إلى قداسة البابا ولم تصل إليه، وهي تشرح فيها ما تقاسيه من الذل والعذاب، وتطلب فيها من قداسته أن يخلصها من أبيها كما خلص أختها من قبل، ولكن ضاعت هذه الشكوى رغما عن البحث الدقيق عنها في سكرتارية البلاط البابوي.

وأمر البابا المحامين أن يتركوا لديه مذكراتهم وينصرفوا، ففعلوا إلا أحدهم التييري، حيث بقي بعد خروجهم، فجثا لدى البابا قائلا: أيها الأب العالي القداسة! لم أستطع أن أرد نفسي عن المثول بين يدي قداستكم مدافعا في هذه القضية لأني المحامي عن البؤساء والمساكين؛ ولذا أطلب من قداستكم السماح.

فقال له البابا وقد مد له يده يرفعه: نحن لا نعجب منك إن دافعت عنهم، لكننا نعجب من قوم يتعصبون لهم ويحمونهم.

وأراد البابا أن يتخلص من هذه القضية فلم ينم ليلته، وقضاها ساهرا مع أحد كرادلته المدعي سان مارسيليو في الاطلاع على أوراقها، وكان ذلك الكردينال من علماء القانون وذا ذكاء مفرط، فعمل عن القضية ملخصا سر المحامين، فأملوا من ورائه الإبقاء على حياة المتهمين؛ لأنه وضح في ذلك الملخص أن الأولاد وإن كانوا قتلوا أباهم إلا أن أباهم ساقهم إلى ارتكاب تلك الجريمة بسوء معاملته لهم وتعديه سلطته الشرعية عليهم، حتى إن إحداهم وهي بياتريس ارتكبت الجريمة مرغمة؛ لكثرة ما لاقت من ظلم أبيها وفجره.

فعدل البابا عن رأيه، وأظهر بعض التساهل حتى آمل آل سنسي النجاة من الإعدام، بل أراهم البابا بارقة من هذا الأمل، ففرح أهل روما وشاركوا هذه الأسرة البائسة في سرورها. لولا أن حدثت بعد ذلك حوادث أطفأت نور ذلك الأمل، إذ غيرت عواطف البابا؛ ذلك أن إحدى شريفات روما - وهي تدعى المركيزة دي سنتا كروسي - قتلها ابنها وهي في الستين من عمرها، فطعنها نحو عشرين طعنة بالخنجر؛ لأنها لم تشأ أن توصي له بكل مالها من بعدها ثم هرب القاتل.

فلما بلغت هذه الجريمة مسامع البابا رآها أخت سابقتها، فخشي أن تكثر أمثال هذه الجرائم إن تساهل فيها، وكان مضطرا للسفر الغد إلى مونتي كافالو لتكريس كردينال، فدعا في الساعة الثامنة من صباح الغد، وكان العاشر من شهر سبتمبر سنة 1599، حاكم روما السيد تافرنا وقال له: أيها السيد، إنا عاهدون لك بقضية آل سنسي لتحكم فيها بما تقتضيه العدالة في أقرب حين.

فعاد الحاكم إلى قصره بعد أن ترك البابا، ودعا لديه قضاة المدينة، فأقروا جميعا على إعدام آل سنسي، وما لبث هذا الحكم أن أعلن، فعلم به القوم، وكان للمحكوم عليهم - كما أسلفنا - منزلة في القلوب، فخرج كثير من الكرادلة ليلا على خيولهم وعرباتهم يسعون لدى القضاة في تخفيف الحكم أو على الأقل في التنفيذ على المرأتين في السجن بدل إعدامهما علنا أمام الناس، ويسعى بعضهم لطلب العفو عن برناردينو حيث لا يد له في الجريمة، وهو غلام لم يتم الخامسة عشرة، وقد شملته النقمة التي حلت بأسرته، وكان أكثر الناس اهتماما بالأمر الكردينال سفورزا، لكنه لم يحصل على غاية بل ولا شبه وعد من البابا، واهتم فارنياتشي فأظهر لقداسته مبلغ الظلم من تضحية برناردينو بلا ذنب جناه، ولكنه لم ينل العفو عنه إلا بعد إلحاح كثير ورجاء طويل.

واستعد القوم لتنفيذ الحكم، واجتمعت الجموع على أبواب السجن، وفي الساعة الخامسة من صباح يوم السبت دخل الكاتب إلى سجن النساء، وكانت بياتريس وزوجة أبيها راقدتين فأيقظهما وتلا عليهما الحكم، ونصح لهما أن تتجهزا لمقابلة الملك الديان، فاضطربت بياتريس وخرست حتى عن التأوه، وأرتج عليها، فلم تدر ما تفعل فهبت من مرقدها دون أن ترتدي ثيابها، ووقفت وهي لا تملك نفسها كأنها ثملة، ثم ما لبثت أن انفكت عقدة لسانها فأخذت تصيح وتزأر، أما لوكريزيا فأصغت إلى تلاوة الحكم بثبات، ثم أخذت ترتدي لباسها لتحضر الصلاة في كنيسة السجن، وأخذت تصبر بياتريس على أمر الله فلم تطق الفتاة صبرا، وأخذت تعض في ذراعيها وتقرع رأسها في الحائط قائلة: «أأموت، أأموت، هكذا قضي علي أن أموت على حين غفلة، وأموت على المشنقة، على المجزرة، يا رباه، يا رباه!» ثم تولتها نوبة عصبية شديدة أفقدتها قواها. ولما أفاقت استولت الروح على الجسم، وعاد لها الصبر فكانت مثال الامتثال؛ إذ رضخت لأحكام الله بصبر واتضاع وحسن اتكال.

وطلبت بياتريس أن يأتوها بموثق تملي عليه وصيتها، فأتوها به فأملتها عليه بكل ثبات ودقة، وكان مما أوصت به خمسمائة ريال للراهبات، وخمسة عشر ألف ريال - وهو مهرها - لتزوج به خمسون فتاة، ثم ختمت الوصية قائلة: إنها ترجو أن تدفن جثتها تحت مذبح كنيسة القديس بطرس التي مر بنا ذكرها في بدء الرواية.

وتبعت لوكريزيا خطتها؛ فحررت وصيتها ، واختارت أن تدفن جثتها في كنيسة القديس جورج بفيلا برا، وأوصت بحسنات وهبات عديدة.

ولما أتمت بياتريس وزوجة أبيها الوصيتين اشتركتا معا في الصلاة، فلبثتا تعبدان الله حتى الساعة الثامنة من الصباح، ثم اعترفتا وحضرتا القداس وتناولتا القربان، ولاحظت بياتريس أنه لا يحسن بهما أن يصعدا إلى آلة الإعدام بملابسهما المنزلية الثمينة، فطلبت ثيابا كملابس الراهبات ساترة لكل أجزاء الجسم حتى أعلى الرقبة، وذات أكمام واسعة طويلة، فأحضرت الملابس ومعها حبال لتتمنطقا بها، وطلبت بياتريس أن توضع لها عمامة صغيرة لتستر بها رأسها فأجيبت إلى ما طلبت، ووضعت هذه الملابس بجانبها ريثما أتمت الصلاة.

ونبهت بياتريس وصاحبتها أن اقتربت الساعة الرهيبة. وكانت بياتريس جاثية تصلي، فالتفتت إلى زوجة أبيها قائلة وهي مطمئنة باشة الوجه: «يا أماه! دنت الساعة التي يكفر فيها عن ذنوبنا، فأظن أن الأولى بنا أن نستعد لها، فهل لك أن نساعد بعضنا على تغيير ملابسنا كما جرت عادتنا.»

وقامت المرأتان فارتدتا ملابس الراهبات وتمنطقا بالحبال ووضعت بياتريس عمامتها على رأسها ولبثتا تنتظران النداء الأخير.

وفي تلك الأثناء كان القارئ قد قرأ لجاك وأخيه حكمها، ولبثا ينتظران أن يساقا إلى ساحة الإعدام، ولما ناداهما المنادي خرجا فوجدا جمعا من أهل الطوائف الدينية قائما بباب السجن رافعا الصليب، فتقدم جاك وكان مرتديا لباسا أسود مكشوف الصدر، فجثا أمام الصليب وقبله، وكان الجلاد بجواره قابضا على قضبان من حديد محمية في النار ليكوي بها صدر المتهم طول الطريق، وكان على عربة السجن موقد مشتعل لتحمى فيه هذه القضبان.

وصعد جاك إلى هذه العربة بصحبة الجلاد، ثم خرج وراءه من باب السجن برناردينو أخوه الصغير، فما كاد يظهر للجميع حتى قام فيهم مندوب من لدن البابا يقول: «قد عفا سيدنا ومولانا البابا عنك يا برنار سنسي ووهب لك الحياة، إنما أمر أن تساق إلى آلة الإعدام وتجرى عليك الرسوم التي على إخوتك دون أن تموت، فعليك أن لا تنسى في صلواتك من كان قدر عليك أن تموت معهم.»

ولما سمع القوم هذا الخبر غير المنتظر ضجوا فرحا، وأقبلوا عليه ينزعون عن عينيه الرباط الذي كان أعد له ليخفي عنه نظر آلة الإعدام.

وأصعد الجلاد برناردينو إلى جنب أخيه بعد أن استلم صورة العفو عنه، ثم ألقى عليه رداء ثمينا موشى بالذهب، وعجب الناس من وجود هذا الرداء الثمين لدى الجلاد، ولم يعلموا أنه الرداء الذي أهدته بياتريس لمارزيو، وورثه عنه الجلاد بعد إعدامه، كما قضت عوائد ذلك العصر، وأثر على برناردينو نظر ذلك الجمع المحتشد فغشي عليه.

وسار موكب الأخوين تزفه الأغاني الدينية حتى سجن كورتي سافيلا، فوقف أمام بابه وخرجت بياتريس وامرأة أبيها، فسجدتا أمام الصليب وسارتا وراء الجمع ماشيتين على قدميهما إحداهما تلي الأخرى. وكانت لوكريزيا مرتدية الحداد وتبكي بكاء مرا وبياتريس لابسة ثيابا من حرير موشاة بالفضة، والسكون والصبر مرسومان على محياها.

وكانت كل منهما حاملة في إحدى يديها صليبا وفي الأخرى منديلها.

وسار الموكب حتى جسر سانتانج المقامة عند ميدانه آلة الإعدام. وقد نصبوها في الليل وكانت تلك الآلات القاطعة ذات نصل ثقيل ينزلق بين عامودين فيسقط على رأس المحكوم عليه وهو ممدد على لوح من الخشب، وقد أسندت رأسه إلى قائمة موازية للوح. ولما وصل الموكب إلى ذلك المكان أدخلت المرأتان إلى كنيسة قريبة، ثم أدخل الفتيان عندهما فلبثوا برهة معا، ثم أتى الجلادون، فأخذوا جاك وأخاه إلى الساحة، فلما علا الفتيان آلة الإعدام غشي على أصغرهما، فتقدم إليه الجلاد لينبهه، فظن القوم أنه يريد السوء فصاحوا به قائلين: «إنه معفي عنه.» فطمنهم الجلاد بإشار، وأجلس الفتى جانب القائمة، وجثا أخوه على جانبها الآخر.

وعاد الجلاد فأحضر لوكريزيا أولا، حيث قرر أن تعدم الأولى، فتقدم بها إلى أسفل آلة الإعدام فقد قميصها من صدرها، ثم صعد بها إلى حيث الفتيان، وكانت لوكريزيا ممتلئة الجسم فتعبت لصعود سلم الآلة، ولما استقر بها عليها المقام، قدم لها الجلاد صورة المسيح على صليبه فقبلتها ثم نزع عن رأسها غطاءها، فخجلت وقد انكشف للناظرين صدرها ورأسها، ثم التفتت فرأت القائمة التي أعدت لرقبتها، فارتجفت ارتجافا خفق له قلوب الحاضرين، وجالت الدموع في آماقها، فقالت بصوت جهوري: «رباه! ارؤف بي وارحمني، وأنتم يا إخواني صلوا لأجلي.»

والتفتت لوكريزيا إلى الجلاد تسأله عما تفعل، فقال لها أن تتمدد على بطنها على اللوح، ففعلت وهي تذوب خجلا من الأنظار الموجهة إليها، وتستيسر الموت عنها، ومنع ثدياها رقبتها أن تلمس القائمة فأتي بقطعة من الخشب رفعت بها القائمة، ولما تم ذلك الوضع أدار الجلاد لولب الآلة، فسقط النصل، وانفصلت الرأس فتدحرجت، وقد ضج القوم لذلك المشهد، وتناول الجلاد الرأس، فأراها للحاضرين، ثم لفها في خرقة سوداء، وأودعها مع الجثة تابوتا كان معدا لهذا الغرض.

وبينما الجلادون يعيدون آلة الإعدام إلى ما كانت عليه استعدادا لمقدم بياتريس؛ إذ سقط درج كان أقيم لجلوس المتفرجين، فمات تحته قوم وجرح آخرون.

وعاد الجلاد إلى الكنيسة ليأتي ببياتريس، فوجدها قائمة تصلي، فلما رأته مقبلا وفي يده الحبال التفتت له قائلة: «يريد الله أن ينتهي ذلك الجسم على يديك إلى الفناء وتقصد الروح دار الأبدية.» ثم قامت تتبعه إلى الساحة فقبلت الصليب، ثم خلعت نعليها، وارتقت سلم آلة الإعدام بخفة ونشاط، فلما بلغت سطحها، وكانت قد استعلمت قبل عما يتم عليها، قصدت اللوح وتمددت عليه، ووضعت رقبتها فوق القائمة حتى لا ينظر القوم كتفيها وهما عاريان، لكنها ما كادت تعلو اللوح حتى سمع دوي مدفع أطلق من قصر سانتانج، فاندهش الحاضرون واندهشت بياتريس نفسها فهبت تنظر الخبر، وكان البابا عالما بما جبلت عليه هذه الفتاة من حدة الطبع؛ فخشي أن ترتكب خطيئة بين الغفران والموت، فأمر بأن يطلق مدفع عندما تعلو آلة الإعدام فيسمعه وهو بمونتي كافلو قائم يصلي فيدعو الله ليغفر لها خطاياها.

وانتظر الجلاد نحو خمس دقائق بعد المدفع، حتى إذا ظن أن البابا قد أتم صلاة المغفرة وتأهبت بياتريس للموت أدار اللولب فسقط النصل.

ورأى الناس إذ ذاك أمرا عجبا؛ رأوا جسم الفتاة بعدما فارقته الرأس، وقد رجع القهقرى كأن يدا تدفعه إلى الوراء.

وأخذ الجلاد الرأس والجثة، وأراد أن يودعهما تابوتهما، ولكن تلقفهما منه الرهبان، فأفلت من أيديهم الجسم، وسقط في الأرض فتعرى وتلطخ بالتراب والدم، فاضطروا أن يغسلوه قبل أن يودعوه التابوت.

وأثر ذلك المشهد في نفس برناردينو، فغشي عليه لثالث مرة، ولم يستطيعوا أن يفيقوه إلا بإسقائه نبيذا.

وأتى دور جاك فهب وقد تلطخت ثيابه من دماء أخته وامرأة أبيه، واقترب منه الجلاد فنزع عنه رداءه فانكشف للحاضرين صدره، وفيه من كي النار آثار، والتفت جاك إلى أخيه قائلا: «برنار، لقد اتهمتك ظلما وعدوانا في إجابتي الأولى، ومع أنني كذبت ما قلت أخيرا إلا أنني أشهد الله الآن وأنا بين يديه أنك بريء، وأنهم ظلموك ظلما مبينا بإكراهك على أن تشهد مقتلنا.»

واقترب الجلاد من جاك فدعاه أن يجثو على ركبتيه، ثم ربط ذراعيه في عامودي الآلة، وستر عينيه، ثم ضربه على رأسه بدبوس، ثم ألقى جسمه وشطره أربع قطع على مرأى من الحاضرين.

ولما انتهى القوم من تلك المشاهد الوحشية انفضوا، وعادوا ببيرنار للسجن وقد تولته حمى محرقة، فأرقدوه على فراشه بعد أن فصدوا ذراعه.

وكان برنار (وتصغيره: برناردينوا للتمليح) على صورة أخته بياتريس في الخلقة، حتى إنهم لما صعدوا به إلى آلة الإعدام ظنه الحاضرون أختها.

وعرضت جثتا بياتريس وامرأة أبيها في تابوتهما تحت تمثال القديس بولس في مدخل جسر سانتانج إلى الساعة الرابعة مساء، وقد أوقدت حولهما الشموع، ثم رفع التابوتان في الساعة التاسعة، فزين تابوت الفتاة بالزهور، وسار في موكب حافل منه الرهبان والراهبات حتى ووريت حيث اختارت تحت مذبح كنيسة القديس بطرس بن مونتاريو، وحملت جثة لوكريزيا إلى كنيسة سان جورج كما أوصت.

وكان ذلك اليوم يوم حر شديد ازدحمت فيه العربات والناس في ساحة الإعدام حتى أغمي على بعضهم فيه من شدة الزحام، وأصيب قوم بالحمى، ومات قوم من لفحة الشمس، وقد لبثوا معرضين لأشعتها المحرقة ثلاث ساعات.

وسعت طائفة لدى البابا للإفراج عن برناردينو، فأمر بأن يطلق سراحه بعد أن يدفع غرامة قدرها ألفان وخمسمائة ريال رومانية للطوائف الدينية كما نصت عليه دفاترها. •••

وإلى هنا تمت قصة آل سنسي، وكلها حقائق تاريخية لا يكاد أن يكون لخيال الروائي فيها مجال، وإن من القصص الحقيقية ما هو أعجب من مخترعات الخيال.

Unknown page