Charles Darwin
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
Genres
إنني منشغل للغاية، وأنا رجل عجوز ومريض ولا يمكنني أن أبذل وقتي في الإجابة عن أسئلتك بنحو كامل، وهي أسئلة في واقع الأمر لا يمكن الإجابة عنها. ليس للعلم أي علاقة بالمسيح، باستثناء أن طابع البحث العلمي يجعل المرء حذرا في الإقرار بصحة الأدلة. أما عن نفسي، فأنا لا أعتقد أنه كان هناك أي وحي على الإطلاق. وأما عن وجود حياة تالية، فيجب على كل امرئ أن يختار لنفسه من بين الاحتمالات الغامضة المتعارضة.
والفقرات التالية هي مقتطفات، مختصرة بعض الشيء، من جزء من السيرة الذاتية التي كتبها أبي عام 1876، وهو يوضح فيها تاريخ آرائه الدينية:
على مدى هذين العامين [من أكتوبر 1836 إلى يناير 1839] اتجهت إلى التفكير كثيرا بشأن الدين. على متن «البيجل»، كنت متدينا إلى حد ما، وأتذكر أن العديد من الضباط كانوا يسخرون مني بشدة، (بالرغم من أنهم أنفسهم كانوا متدينين)؛ ذلك أنني كنت أستشهد بالإنجيل بصفته حجة دامغة في القضايا التي تتعلق بالأخلاق. أعتقد أن حداثة النقاش هي ما كان يمتعهم. لكن بحلول هذا الوقت؛ أي الفترة بين 1836 و1839، بدأت أرى تدريجيا أنه لا يمكن تصديق العهد القديم أكثر مما يمكن تصديق الكتب الهندوسية المقدسة. وقد ظلت هذه المسألة تشغل ذهني ولا تبرحه: أيعقل أنه إذا كان الإله قد أنزل وحيا للهندوس، أن يسمح له بأن يكون له علاقة بالإيمان بفينشو وسيفا وغيرهما، مثلما أن المسيحية لها علاقة بالعهد القديم؟ وقد بدا لي أن هذا الأمر لا يعقل على الإطلاق.
وبالمزيد من التفكير في أن البراهين الواضحة ستكون ضرورية لأي شخص عاقل لكي يؤمن بالمعجزات التي تؤيد المسيحية، وأنه كلما زادت معرفتنا بقوانين الطبيعة الثابتة، بدت المعجزات أمرا لا يصدق بدرجة أكبر، وأن الرجال في ذلك العصر كانوا جاهلين وسريعي التصديق بدرجة نكاد ألا ندركها على الإطلاق، وأنه لا يمكن إثبات أن الأناجيل لم تكتب بالتزامن مع الأحداث، وأنها تختلف فيما بينها في العديد من التفاصيل المهمة، التي قد بدت لي أنها مهمة للغاية بحيث لا يمكن أن نعزوها إلى الدرجة المعتادة من عدم دقة شهود العيان؛ من خلال مثل هذه الأفكار، والتي لا أذكرها على أساس أنها مبتكرة أو قيمة وإنما لأنها قد أثرت في ، بدأت تدريجيا في عدم الإيمان بالمسيحية بصفتها وحيا إلهيا. وقد كان لحقيقة أن العديد من الأديان المزيفة قد انتشرت في أجزاء كبيرة من الأرض كالنار في الهشيم، تأثير كبير علي.
غير أنني كنت عازفا تماما عن التخلي عن إيماني، وأنا واثق من هذا؛ إذ يمكنني أن أتذكر جيدا أنني كثيرا ما كنت أتخيل أحلام يقظة عن خطابات قديمة بين الشخصيات الرومانية البارزة، وعن مخطوطات تكتشف في بومبي أو غيرها، وتؤكد بوضوح قاطع كل ما ورد في الأناجيل. بالرغم من ذلك، فقد كنت أجد صعوبة أكبر، مع تحرير نطاق عقلي، في أن أجد أدلة تكفي لإقناعي؛ ومن ثم، فقد تسلل إلي عدم التصديق بالدين ببطء شديد، لكنه اكتمل في النهاية. وقد كان تسلله بطيئا للغاية حتى إنني لم أشعر بأي جزع.
وبالرغم من أنني لم أفكر كثيرا في وجود إله شخصي حتى فترة متأخرة بدرجة كبيرة نسبيا من حياتي، فإنني سوف أذكر هنا النتائج المبهمة التي توصلت إليها. إن الحجة القديمة المتمثلة في مسألة التصميم الذكي، والتي قال بها بيلي، وكنت أجد أنها حجة حاسمة فيما سبق، قد سقطت الآن بعد اكتشاف قانون الانتقاء الطبيعي؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكننا أن نجادل الآن بأنه لا بد أن كائنا ذكيا هو الذي صنع المفصلة الجميلة في ذوات الصدفتين، مثلما أن الإنسان هو الذي يصنع مفصلة الباب. يبدو أن قابلية الكائنات العضوية للتباين وفعل الانتقاء الطبيعي، لا ينطويان على تصميم بأكثر مما تنطوي عليه الرياح في هبوبها. غير أنني قد تناولت هذا الموضوع في نهاية كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، وأعتقد أن الحجة الواردة هناك ليس لها تفنيد حتى الآن.
لكن مع غض الطرف عن أساليب التكيف الرائعة اللانهائية التي نجدها في كل مكان، يمكن أن يطرح السؤال التالي: كيف يمكن تفسير الترتيب الخير بوجه عام للعالم؟ إن بعض الكتاب متأثرون بالفعل بشدة بحجم المعاناة في العالم، حتى إنهم يشكون فيما إذا كنا سنجد سعادة أم شقاء أكبر إذا نظرنا إلى جميع الكائنات الواعية في العالم، ومما إذا كان العالم في مجمله جيدا أم سيئا. أما عن رأيي، فأنا أعتقد أن السعادة هي التي تسود قطعا، غير أنه من الصعب جدا إثبات ذلك. وإذا سلمنا بصحة هذه النتيجة، فإنها سوف تتناغم تماما مع ما يمكن أن نتوقعه من آثار الانتقاء الطبيعي. فإذا كان جميع أفراد أي نوع معين يعانون عادة بأقصى درجة؛ فإنهم سوف يحجمون عن الإكثار من نوعهم، وما من سبب لدينا يجعلنا نعتقد أن ذلك حدث على الإطلاق، أو حتى كان يحدث غالبا على الأقل. وإضافة إلى ذلك، فإن بعض الاعتبارات الأخرى تقودنا إلى الاعتقاد أن جميع الكائنات الواعية، قد تشكلت لكي تستمتع، بصفة عامة، بالسعادة.
إن جميع من يعتقدون مثلما أعتقد أن جميع الملكات الجسدية والذهنية (باستثناء تلك التي لا تمثل ميزة ولا عيبا لمالكها) في جميع الكائنات قد تطورت من خلال الانتقاء الطبيعي أو من خلال البقاء للأصلح، سواء من خلال الاستخدام أو العادة، سيتقبلون أن هذه الملكات قد تشكلت حتى يتمكن مالكوها من النجاح في المنافسة مع الكائنات الأخرى؛ ومن ثم، يزدادون عددا. والآن، قد يتجه أحد الحيوانات إلى اتباع المسار الذي يكون الأكثر نفعا للنوع؛ إما من خلال المعاناة، مثل الجوع والعطش والخوف، أو من خلال المتعة، مثل الطعام والشراب وتكاثر النوع وما إلى ذلك، أو من خلال الجمع بين الوسيلتين معا، كما في البحث عن الغذاء. لكن إذا استمر الألم أو المعاناة من أي نوع لفترة طويلة، فإن ذلك يتسبب في اكتئاب الكائن ويقلل من قوة حركته، لكنه يجعل الكائن قادرا على حماية نفسه ضد أي أخطار كبيرة أو مفاجئة. أما المشاعر الممتعة، على الجانب الآخر، فيمكن أن تستمر لفترة طويلة دون أن تولد أي مشاعر اكتئاب؛ فهي على العكس من ذلك، تحفز النظام بأكمله لزيادة الحركة؛ ومن ثم، يتضح من هذا أن تطورت معظم الكائنات الواعية أو كلها بهذه الطريقة من خلال الانتقاء الطبيعي، والتي تكون مشاعر المتعة فيها بمثابة أدلة التوجيه المعتادة لهذه الكائنات. ونحن نرى هذا في المتعة التي نستمدها من الإجهاد، وحتى أحيانا من الإجهاد الكبير للجسد أو الذهن، وكذلك في المتعة التي نستمدها من وجباتنا اليومية، وعلى وجه الخصوص في المتعة التي نستمدها من التواصل الاجتماعي وكذلك من حب عائلاتنا. ومحصلة مثل هذه المشاعر الممتعة، والتي تحدث عادة أو تتكرر باستمرار، توفر لمعظم الكائنات الواعية، وأنا لا أشك في ذلك، سعادة يفوق قدرها ما يجدونه من شقاء، بالرغم من أن بعضها يعاني كثيرا في بعض الأحيان. وتتوافق هذه المعاناة مع الإيمان بالانتقاء الطبيعي، والذي لا يكون مثاليا في فعله، غير أنه يفيد في أن يجعل كل نوع من الأنواع ناجحا بأكبر قدر ممكن في معركة الحياة مع الأنواع الأخرى، في ظل مجموعة من الظروف المتغيرة والمعقدة بنحو مدهش.
إن أحدا لا ينكر وجود قدر كبير من المعاناة في العالم. وقد حاول البعض أن يفسروا ذلك فيما يتعلق بالإنسان بتصور أنها تساعد في تحسين وضعه الأخلاقي، لكن عدد البشر لا يقارن على الإطلاق بعدد الكائنات الواعية الأخرى، وهي التي كثيرا ما تعاني دون أي تحسين أخلاقي. ويبدو لي أن هذه الحجة القديمة المتمثلة في وجود المعاناة في مقابل وجود سبب أول ذكي هي حجة قوية، غير أن وجود هذا القدر الكبير من المعاناة، يتفق، كما أوضحنا، مع الرؤية القائلة بأن جميع الكائنات العضوية قد تطورت من خلال التباين والانتقاء الطبيعي.
في الوقت الحاضر، تستمد الحجة الأكثر شيوعا لوجود إله ذكي من القناعات والمشاعر الداخلية العميقة التي يختبرها معظم الأشخاص.
Unknown page