وسرعان ما تحقق صائب رأي أبي زيد، حين أجمعت مشورة قادة الهلاليين على الاستنجاد به قبل الإقدام على طرق طبول الحرب إيذانا بالرحيل الجماعي، ولكي يخرج أولا برفقة الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى أبناء السلطان حسن بن سرحان لاستكشاف الطريق وتأمين أخطاره عبر الأقطار والكيانات المتاخمة لنجد والجزيرة العربية عامة وصولا إلى المغرب العربي وتونس الخضراء، قبل الهجرة القارية الجماعية وما تستلزمه من دفاع وحرب.
هكذا رأت الجازية ووافقها الجميع، على أن من الأسلم زيادة الطريق وتعرف مخاطره قبل الخروج الجماعي.
وفي مثل تلك المعضلات التي تعترض الهلالية، فليس هناك أقدر من أبي زيد حنكة وذكاء وحرصا على أمن الجميع الصغير قبل الكبير، من قبائل وبطون بني هلال بمؤنهم ومواشيهم وسعيهم وبيوت وبرهم وعتاد حربهم.
حتى إذا ما حانت ساعة الرحيل لأبي زيد والفرسان الثلاثة، عمت مظاهر الوداع كل مضارب نجد المرية، وتزاحمت الجموع المودعة لأبي زيد ورفاقه وهم يعتلون صهوات خيولهم، مزودين بمؤنهم من زاد ودواء، وقلوب الجميع تخفق لفراقهم خاصة السلطان حسن والعالية زوجة أبي زيد وقائد المشورة والحرب الأميرة الجازية، التي قبلت الجميع في حنو الأم الكبرى: تصحبكم السلامة!
حتى إذا ما أطلقوا العنان لخيولهم إلى أن خبأ ترابهم وتواروا عن الأنظار، عرج بهم أبو زيد الهلالي فجأة مغيرا اتجاهه ساخرا منهم: هل تتصورون أننا سنرود الطريق؟!
هكذا على هذا النحو! واندفع يضحك صاخبا وهو يعدو بحصانه مسابقا الريح: اتبعوني أيها الشباب الذين ما زالت الخبرة والتجربة تنقصكم.
إلى أن انتهى بهم التجوال على مشارف تل مرتفع منعزل، أقيمت إلى جانبه واحدة من الأبنية الخلوية التي يعرف طرازها يونس: خلوة أبي زيد.
وما إن ترجل أبو زيد عن حصانه طارقا، حتى اندفع خادم أو تابع أبي زيد الشهير «أبو القمصان» فاتحا مرحبا بأبي زيد وهو يمازحهم قائلا: أهلا وسهلا بكم، سوف تدخلون هذه الخلوة محملين بالمال والثمين وتخرجون منها شحاذين!
وحين داعبه الأمراء الثلاثة مترجلين داخلين: ربنا يهديك يا أبا القمصان! اندفع عيار أبي زيد العجوز ومعلمه في الخدع ومكمن سره أبو القمصان يقودهم من قاعدة إلى ما يعقبها وهم شبه منومين مسحورين مما تقع عليه عيونهم من محتويات خلوة أبي زيد تلك، وهي أكداس لا نهاية لها من مختلف الأزياء الخاصة بالبدو والفلاحين وسكان الجبال، كثير من الأقنعة الملونة والشعور المستعارة والآلات الموسيقية الشعبية وأزياء الصيادين والصناع والنساء من مختلف الطبقات، ابتداء من الغواني وضاربات الودع والقابلات وانتهاء بالمحجبات من السيدات المحصنات، فضلا عن أزياء وأغطية رءوس للكهنة من أقباط مصر وروم وسريان ومجوس وهلينيين وأناضوليين وأحباش وغيرهم.
بالإضافة إلى ما احتوته قاعات خلوة أبي زيد العالية المترامية الأطراف والقاعات من أشياء حتى دعاها مرعي: بيت جحا كله مسالك!
Unknown page