ولننتقل الآن إلى الكلام عن الحرب العملية التي تلت هذه الحرب الكلامية، كما هو المنتظر، إن التاريخ يحدثنا أن الأمين ورجال الأمين بدءوا في تعبية الجنود، كما بدأ المأمون ورجال المأمون في حشد الكتائب، وإنا لنرتاب كثيرا في صحة ما ذكره الرواة من أن طاهر بن الحسين، القائد العام للجيوش المأمونية، كان في جيش عدته ثمانمائة وثلاثة آلاف، بينما كان علي بن عيسى بن ماهان، القائد العام للجيوش الأمينية، في زهاء أربعين ألفا، ونرجح كثيرا أن الرواة قد نقصوا عدد الجنود المأمونية ليظهروا للناس مبلغ كفاية طاهر، وأنه استطاع بجند قليل عددهم أن ينازل جيوشا جرارة ويغلبها على أمرها؛ لأنهم كثيرا ما يجنحون إلى الإغراق والمبالغة في مثل هذه المواقف من مظاهرتهم للأقوياء وانتقاصهم للضعفاء، كما أسلفنا.
نشك في صحة ذلك كثيرا، ونشك كذلك فيما يروونه من أن الجيوش المأمونية قد عثرت في عسكر ابن ماهان على سبعمائة كيس، في كل كيس ألف درهم، وأنها عثرت كذلك على صناديق عدة فيها خمر سوادي وقناني عدة!
قد يكون أمر الأموال صحيحا، ولكننا نميل إلى الافتراض بأن أمر الصناديق العدة إن لم يكن مكذوبا في جملته بقصد الزراية بالجماعة الأمينية، فهو مغالى فيه كثيرا.
ويذهب ابن الأثير في بيان غرور علي بن عيسى بن ماهان إلى أنه لما قرب من الري ظن أن طاهر بن الحسين، قائد القوات المأمونية، لا يثبت له، وأن عليا قال: «ما طاهر إلا شوكة من أغصاني وشرارة من ناري، وما مثل طاهر يؤمر على جيش، وما بينه وبين الأمين
4
إلا أن تقع عينه على سوادكم، فإن السخال لا تقوى على نطاح الكباش، والثعالب لا تقوى على لقاء الأسد»، وأن علي بن عيسى بن ماهان قال لابنه لما أشار عليه بأن يبعث طلائع ويرتاد موضعا لعسكره: «ليس طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر يؤدي إلى أمرين: إما أن يتحصن بالري فيثب به أهلها ويكفونا مئونته، أو يخليها ويدبر»، فقال له ابنه: «إن الشرارة ربما صارت ضراما»، فأجابه: «إن طاهرا ليس قرنا في هذا الموضع، وإنما تحترس الرجال من أقرانها».
ونحن نقول: إن من الجائز أن يكون شيء من هذا قد وقع، ومن الجائز أن يكون بعلي بن ماهان زهو وغرور وقصر نظر وسوء تدبير، وقد يكون علي حين المقارنة والموازنة أقل شأنا من منازله وخصمه طاهر بن الحسين، ولكنا مع ذلك نحس إحساسا لا يعدو الواقع كثيرا أن هذا الحديث المعزو إليه من قبيل الروايات المنحولة، والقصص المخترعة التي كثيرا ما تخترع وتنحل في مثل تلك الظروف.
على أنا مع ذلك نقرر أن الجيوش المأمونية كانت على أتم تعبية، وأكمل كفاية، وأدق نظام، وأحسن حال، وأن خديعة طاهر وقواد طاهر من حمل صورة البيعة على أسنة رماحهم
5
تعيد إلى الأذهان ما كان بين جند معاوية وجند علي من حمل جند معاوية المصاحف على الرماح.
Unknown page