على أنه إذا صدق الرواة فيما يروونه لنا من أن الفضل بن سهل قال للمأمون في حديثه معه: «لأصدقنك أن عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كان أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلي محبتك، وترى رأيك في»، وصدقوا في أن الفضل بن سهل لقي هؤلاء الزعماء في منازلهم، وذكر لهم البيعة التي في أعناقهم، وما يجب عليهم من الوفاء، وأن الخيبة كانت نصيب دعوته لهم وتذكيره إياهم، وأنها مع ذلك لم تصدفه عن قصده الذي نهد إليه، ولم تحل بينه وبين مضيه قدما في سبيل غايته التي تأدى بها بأداته، وتذرع لها بذرائعه، وأخذ لها عدته، وأرهف لها عزمته، وأنه قال للمأمون: «لقد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحق والعمل به، وإحياء السنة، ونقعد على اللبود وترد المظالم»، وصدقوا حقا في أن المأمون والفضل فعلا ذلك، وأنهما بعثا إلى الفقهاء وأكرما القواد والملوك وأبناء الملوك، وصدقوا في أن الفضل كان يقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، وصدقوا في أنهما كانا يدعوان كل قبيلة إلى نقباء ورؤساء الدولة كاستمالتهم الرءوس، وصدقوا في أن المأمون والفضل قد حطا عن خراسان ربع الخراج حتى حسن موقع ذلك من الخراسانيين وسروا به وقالوا: «ابن أختنا وابن عم نبينا
صلى الله عليه وسلم »، وصدقوا في أن المأمون تواترت كتبه إلى أخيه محمد الأمين بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان، من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح، حتى أوائل سنة أربع وتسعين ومائة التي عزل فيها الأمين أخاه القاسم عما كان أبوه ولاه من عمل قنسرين والشام والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، والتي أمر فيها بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة، وحتى مكر كل واحد منهما بصاحبه وظهر بينهما الفساد - إذا صدق الرواة في كل ذلك - فإنا نرى من النصفة العلمية والتاريخية أن نقرر حينئذ أن الفضل بن سهل كان دهيا حقا، وممعنا في الديبلوماتيقية، وكان موقفه لا يقل عن موقف «وارن هاستنج» و«كليف» في الهند، وغيرهما من جهابذة السياسة وأقطاب الدهاء، وربما كانت مكانته أسمى منهما وأرفع وأخلق بمقارنتها بمن يشار إليه بالبنان من ساسة هذا الزمان.
ولننظر معا - وهبنا الله وإياك الجلد والأناة، ووفقنا إلى ما نرومه من تمحيص وتحقيق، وتفهم وتدقيق - في حوادث سنة أربع وتسعين ومائة؛ لنكون ملمين بتحول النزاع الذي شجر بين الأخوين، ولنؤمن الإيمان كله أن البطانة قد لعبت دورا شنيعا في إشعال جذوة الحقد والسخيمة بينهما، وعملت على إضرام أوارها، وسعت جهدها في توسيع مسافة الخلف بين الأخوين حتى كان ما كان، نجد أن الفضل بن الربيع، فيما يرويه لنا المؤرخون، سعى بعد مقدمه العراق على محمد منصرفا عن «طوس» وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي لم يبق عليه، وكان يترقب في ظفره به عطبه - سعى جهده في إغراء محمد به، وأعمل قريحته في حثه على خلعه، وزين له، بما في مقدوره، أن يصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك في رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه، فيما ذكر الرواة عنه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل به الفضل بن الربيع يصغر في عينيه شأن المأمون، ويزين له خلعه، حتى قال له: «ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة لك كانت متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد!»
قال ذلك ابن الربيع وضم إلى رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته.
ومن المعقول أن تفترض أن الفضل مضى في الإيقاع على هذه النغمة ثنيا بعد ثني، ومرة إثر أخرى، وقدح في ذلك قريحته، واستخدم شتى وسائل أمثاله ونظرائه حتى أزال محمدا عن رأيه، وقد ذكر المؤرخون أن أول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له، وللمأمون والقاسم بن الرشيد.
والآن، بعد أن وقفت على تصرف محمد وجماعة محمد مع المأمون وجماعة المأمون، لك أن تستنبط ما يفعله الفريق الآخر إجابة على تصرف الفريق الأول، ولك أن تنتظر من المأمون أن يدبر أمره تدبير من يرى أن أخاه يدبر عليه خلعه، ولك أن تنتظر مثل ذلك من جماعة المأمون وأنصاره.
وهكذا تنبئنا حوادث السنة نفسها؛ إذ ينبئنا الطبري أن فيها قطع المأمون البريد عن محمد، وفيها أسقط اسمه من الطرز، وفيها لحق رافع بن الليث بالمأمون، وهو من سلالة نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون، وحسن سيرته في أهل عمله، وإحسانه إليهم، فيما يرويه المؤرخون، أو سعي المأمون ورجالات المأمون كهرثمة وطاهر في إصلاح ما بينه وبين المأمون، وطلب الأمان له؛ ليكون عدة وظهيرا للحزب المأموني، كما نستسيغه نحن ونستخلصه، وفيها ولى المأمون هرثمة رياسة الحرس، ولهرثمة مكانته وشهرته، وله سيرته ونجدته، ولرافع بيته وأنصاره، وكتائبه وفرسانه، كما أن لطاهر بن الحسين حزمه وشجاعته وفروسته ومرانه، ولابن سهل بلا ريب حذقه في تصرفاته التي بمثلها ترد الأهواء الشاردة، وتستصرف الأبصار الطامحة، وعلى رأسهم أو إلى جانبهم إن شئت المأمون، وقد تسربل بالثوب الذي نصح إليه بلبسه، فأضحى محمود الشيم، مرضي الخلال، وهو باستعداده ونزعته ذلك الرجل السياسي المعتدل المزاج، الهادئ الأعصاب، السديد التصرف، السمح الأخلاق ، اللين العريكة، الكريم المهزة، مع أناة وجلد وعزم وحزم ونفاذ ومضاء.
ومن المعقول أيضا أن ينكر الأمين ذلك من ناحيته أيضا، والمعقول أن يبدأ بالتدبير على المأمون ليصدف عنه قلوب رجاله، وأن تتسلسل الحلقات وتستطرد الإجراءات المحتومة الوقوع في مثل هذه الحالات.
وربما كنا على حق إذا قلنا: إن النزاع أضحى بين الفضلين؛ ابن سهل وابن الربيع، وانقلب عنيفا أعظم العنف، فقد كان بين كفايتين لا يعرفان الونية والتضجيع،
2
Unknown page