وقد أثبتنا لك من هذه الكتب كتابه إلى أخيه المأمون وكتابه إلى أخيه صالح، في موضعهما من المجلد الثالث من هذا الكتاب؛ لما لهما من خطر في موضوع النزاع، فإنهما يدلان على أن الأمين لم يكن لينكث ما عقد من عهود ومواثيق، وإنما بطانة السوء هي التي زينت له أن يفعل ما فعل، فراجعهما ثمة، وتأمل طويلا فيما لبطانات السوء من وخيم العواقب بين الأشقاء والزعماء والأمراء، وما تجره على البلاد من انتثار العقد وتشتيت الشمل، وتشعث الألفة، وفرقة الجماعة، وسريان الفتن، وذيوع الفوضى، وانتشار الاضطرابات، واندلاع نيران الثورات، ومن ترجيح كفة الأشرار على الأبرار، إلى غير ذلك من شتى النتائج السيئة والعواقب المهلكة التي سنحدثك عنها، وستراها واضحة جلية في كلمتنا الآتية. (3) مبدأ النزاع وكيف تقلب ونتيجته
قد تطلب إلي، وفقك الله، أن تقف على ما كان لتلك الكتب من أثر في نفوس من أرسلت إليهم، وإني شاف غلتك، مجيبك إلى سؤلك، محيلك إلى الطبري في هذا الصدد إذ يقول:
لما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد ب «طوس» من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الرييع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدري ما يكون من أمره. وأمر الناس بالرحيل ففعلوا ذلك؛ محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.
أما المأمون، بعد أن انتهى إليه بمرو خبر نكث القوم للعهود التي أخذت عليهم وفرارهم إلى بغداد بما كان الرشيد أوصى بأن يكون له من جند ومال وسلاح، فقد اجتمعت كلمة الرواة على حسن تيقظه وسرعة مبادرته لشتى أموره، وأنه شد لها حيازيمه، وحسر لها عن ساقه. ويحدثنا التاريخ أنه قد جمع من معه من قواد أبيه وأخبرهم الخبر وشاورهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلحق القوم في ألفي فارس ويحول بينهم وبين ما أرادوا.
ولكن المأمون عمل بمشورة الفضل بن سهل الذي كان يثق به وبكفايته، ويؤمن بكياسته وحسن سياسته، ويقتنع بثقوب بصره وصدق نظره، فقد قال له الفضل: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجه إليهم فتذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين، وإن كتابك ورسلك تقوم مقامك فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بن صاعد، وكان على قهرمته، فإنه يأملك ويرجو أن ينال أمله، فلم يألوك نصحا، وتوجه معه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين، وكان عاقلا، فلم ير المأمون وهو الحاذق الفطن ندحة دون صدوره عن رأي ابن سهل، فكتب كتابا ووجه من أشار بهما الفضل إلى القوم، فلحقاهم بنيسابور، فقال الفضل بن الربيع لما وصله كتاب المأمون معتذرا متعللا: «إنما أنا واحد منهم!» وقد نال بعضهم من المأمون وأغلظ لرسوليه، ثم رجع الرسولان بالخبر.
وكان ممكنا بعد أن طوى المأمون كشحا على ما وقع من القوم من نكث للعهود، واغتصاب لما أوصى به الرشيد له من جند ومال وسلاح، وبعد أن أخذ يهدي إلى أخيه خير ما وصلت إليه يمناه من تحف خراسان ونفائسها، أن تسير الأمور في مجراها الطبيعي، وأن يستقر الأمر بين الأخوين على ما أراد الرشيد، لولا أن بطانة الأمين أوغرت صدره على أخيه، ولولا أن بطانة المأمون حفزته إلى مقابلة العدوان بمثله، وأفعمت قلبه ثقة بالغلبة والظفر، وإيمانا بالفوز والنجح.
وإن كلمة الفضل بن الربيع «لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدري ما يكون من أمره» فيها الغنية والكفاية في تفهيمنا الأساس الذي بنيت عليه تصرفاته بين الأخوين، فهو ينظر لمصلحة من بيده الملك اليوم، لا يحفل ببيعة ولا عهد، ولا يكترث لوحدة قومية، ولا يحفل بإحلال الوفاق بين العباد، ولا يعمل على مصافاة ولا وداد، وإنما همه الملك الحاضر، والإمعان في إرضاء الملك الحاضر.
كذلك كانت حال الفضل بن سهل في موقفه مع عبد الله المأمون، ومهما كانت صورة المأمون التي صورها لنا التاريخ بأنه المغلوب على أمره في النزاع الذي نشب بين الأخوين، وأن الأمين هو الناكث الغادر، ومهما كانت القلوب الإنسانية تحنو على المظلوم، وتعطف على المغلوب، مهما كان كل ذلك، مما يجعلنا نستسيغ تصرفات الفضل بن سهل مع المأمون، بل مما يدفعنا إلى الافتنان بها، وعزو الحصافة والأصالة والكياسة إلى صاحبها، وأن ليس هناك من هو أنهد منه في مثل مواقفه ولا أجزى، ولا أحكم من تدبيراته ولا أوفى، ولا أرهف غرارا من عزماته ولا أمضى، ولا أقدر منه في خططه ولا أغنى، بيد أنا مع ذلك إذا جردنا النفس الإنسانية من بعض صفاتها ونظرنا «ببرود» - على حد التعبير الإنجليزي - وبحيدة ونصفة منه وله، فإنا نقرر من غير أن نعدو الحق والواقع، أن الفضل بن سهل لعب مع المأمون ذلك الدور الخطير بذاته الذي لعبه الفضل بن الربيع مع الأمين، وأن كلا قد توكأ على أميره لغايته، واستغله في سبيل نجح سياسته، ودفع به إلى حيث يريد.
انظر إليه وقد عادت وفود المأمون من مقابلة الفضل بن الربيع ومن لحق به من جند وسلاح؛ تره يصارح المأمون عنهم بقوله: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك: إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه «المقنع» وهو يدعى الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع المعسكر بخروجه بخراسان، فكفى الله المؤنة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج أستاذ سيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور، فكفى الله المؤنة .
ولكن ما أصنع أكبر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال المأمون: «رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا»، فقال له الفضل : وكيف وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر وأنا أضمن الخلافة، قال المأمون: «قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به».
Unknown page