وأول ما نجد من الصفات عند هؤلاء الشاذين مما يفتح بصيرتنا إلى تفهم حالتهم؛ أنهم مارقون في ذاتية مسرفة، فشعارهم: أنا، أنا، أنا، يبغون النجاح وأحيانا يتفوقون، وليس للغير أية مكانة في حسابهم، وهم على استعداد لأن يدسوه، وصفة أخرى تلازمهم هي الاندفاع وجحد العقل، وصفة ثالثة هي نقص الاتزان الأخلاقي الاجتماعي؛ فالقيم والأوزان الاجتماعية لا تحتل مكانها في نفوسهم، فلا يبالي الرئيس السيكوبائي أن يفصل الفراش من وظيفته؛ لأنه أهمل إهمالا بسيطا، وأولاد هذا الفراش وزوجته ليس لهم مكان في نفس هذا الرئيس، وصفة أخرى هي أن هؤلاء السيكوبائيين لا يعرفون هدفا للحياة، فهم يعيشون جزافا، وحاضرهم يغمر كل شيء، ليس للمستقبل عندهم قيمة كبيرة.
والآن اعتبر أيها القارئ هذه الصفات كلها: ذاتية مسرفة تقول في كل شيء: أنا ، واندفاع بلا تعقل، ونقص في الاتزان الأخلاقي الاجتماعي، وانعدام الهدف للحياة، وإيثار الحاضر على المستقبل.
اعتبر كل هذه الصفات ثم تأملها، ألست تجد أنها جميعا صفات الطفل المدلل الذي نشأ على أن يقول: أنا، في كل شيء، ولا يعرف المسئولية ولا يبالي الغير ولا يفكر في المستقبل؟
ولكن الطفل المضطهد أيضا، بل ربما أكثر، ينتهي إلى الشخصية السيكوبائية؛ لأنه في طفولته أهين وضرب وطرد وحرم، فاضطر إلى اتخاذ أسلوب من المكر والخبث والسرقة والوقيعة والغش كي يحمي نفسه إزاء الاضطهاد، ثم بقي معه هذا الأسلوب ورسخ فهو يعامل المجتمع به ويعود مجرما يعامل هذا المجتمع بالإجرام الخفي كما كان يعامل زوجة أبيه.
هذا التعليل يفتح بصيرتنا للفهم في مشكلة الشخصية السيكوبائية، ولكنه لا يوضح لنا كل شيء فيها.
ومع ذلك هذه الشخصية السيكوبائية قد لا تكون كلها سوءا؛ إذ هناك من السيكلوجيين من يفرض أن العبقرية قد تكون هي أيضا سيكوبائية؛ لأن العبقري كثيرا ما يتسم بسماتها، فلا يبالي المجتمع وقواعده، واستهتار الكثيرين من الأدباء والفنانين مشهور، ثم يتسم العبقري بالإسراف ويبيح لنفسه من الحرية والتفكير ما لا يبيحه لأنفسهم أفراد الجمهور، وهو أيضا مقلقل، وهذه القلقلة تحمله على غزوات فكرية مختلفة، والعبقري والسيكوبائي يتفقان في أن قالب المجتمع لا يصوغهما كما يصوغ الأفراد العاديين، وهذا فرض يستحق التفكير، ولنتوسع قليلا في الشرح: (1)
الطفل المدلل قد تعود الأنانية وكراهة التحمل للمسئوليات، والمجتمع يصدمه من وقت لآخر صدمات مؤلمة، فهو يثور عليه ويتخذ أساليب سرية في هذه الثورة عليه، والإجرام بعض هذه الثورة. (2)
الطفل المضطهد أكثر ثورة من الطفل المدلل، وأكثر مكرا أو ميلا إلى الأساليب السرية، فقد اضطهدته زوجة أبيه مثلا، فتعود - كي يعيش في بيت يكرهه - أن يحتال ويسرق ويغش ويمشي بالوقيعة؛ فإذا كبر بقيت فيه هذه الأساليب ضد المجتمع كما كانت ضد زوجة أبيه، فهو ثائر على المجتمع يقدم على الجريمة بلا مبالاة؛ لأنه - في أعماق كامنته - ينتقم من المجتمع الذي يمثل زوجة أبيه. (3)
كأننا نقول في هذين المثالين السابقين: إن التدليل والاضطهاد يحدثان ثمرة مرة في النفس تشبه الثمرة التي يحدثها مركب النقص، فنحن هنا إزاء حقد محتقن على المجتمع زرعت بذوره في الطفولة، ولكن مركب النقص يحدث ضررا فادحا واتجاها سيئا في أكثر من 90 في المائة من الحالات، ويحدث أقل من 10 في المائة من الأثر الحسن، كذلك التدليل والاضطهاد يؤديان إلى الضرر والسوء في نحو 90 في المائة من الحالات؛ أي: يؤديان إلى الشخصية السيكوبائية: شخصية الإجرام الخفي أو الجنون الخفي، ولكن في 10 في المائة قد يؤدي التدليل والاضطهاد إلى الشخصية العبقرية؛ لأن الذكاء قد يسعفه هنا فلا تكون الثورة على أوضاع المجتمع تنتقد في تعقل وتبرز عيوبها في إيضاح.
إحدى الشخصيات السيكوبائية
Unknown page