فلما سمعت أسماء ذلك قالت: «خسئ النذل!» وأصاخت بسمعها فأتم الرجل كلامه وقال: «فأجابه سيدي محمد: «يا ابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا!» ...»
فلم تعد أسماء تستطيع صبرا على سماع تتمة الحديث وقالت: «وماذا جرى؟!»
قال: «سمعت ابن حديج يقول له: «أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار» ...»
فصاحت أسماء والدمع يتساقط من عينيها وهي تتشدد وتتجلد: «خسئ ابن اليهودية! إنه لا يجسر على ذلك.»
فقال الرجل: «فلما سمعت قول ابن حديج أسرعت إليك بالخبر، لأني رأيت الشر باديا على وجوه القوم.»
فالتفتت أسماء وراءها فرأت الكوخ بعيدا ولا سبيل لها إلى الرجوع إليه لتمتطي جوادها، ولم تعد تطيق الصبر عن المبادرة إلى محمد فسألت: «هل يبعد المكان من هنا؟!» قال: «إنه قريب». فقالت: «هلم بنا إليه!» ومشت وهي لا تدري كيف تنقل قدميها لعجلتها ولهفتها، والرجل لا يستطيع اللحاق بها لأنه كان لا يزال تعبا وليس في قلبه ما في قلبها من نار تتعجل خطواتها. ومضت ساعة وهما سائران دون أن تدرك المكان، فندمت لمجيئها ماشية وقد كانت تظن المسافة أقصر من ذلك.
ثم أشرفا على ساحة فقال الرجل: «كانوا في هذه الساحة، ويلوح لي أنهم ساروا إلى الفسطاط»، فمشت حتى أتت المكان الذي كانوا فيه فرأت آثار دم وكأن شيئا قد جروه جرا، فارتعدت فرائصها وجمد الدم في عروقها وصاحت: «ويلاه! إنهم قتلوه! نعم قتلوه! آه يا محمد يا حبيبي!» فقال لها الرجل: «وكيف عرفت ذلك؟!»
قالت: «أما ترى الدم وآثار جر الجثة؟!» ثم لطمت وانحدر الدمع على خديها، ومشت تتبع آثار الجر وعيناها لا تريان الطريق لما يغشاهما من الدمع، فلم تمش قليلا حتى اشتمت رائحة شواء فمسحت عينيها وتطلعت فرأت دخانا يتصاعد من خربة، فأيقنت أنهم قتلوه وأحرقوه في جوف الحمار كما قالوا.
فهرولت إلى الخربة لا تلوي على شيء، فرأت هناك جيفة حمار حولها النار موقدة وجوفها مشقوق فتفرست في ذلك الشق فرأت من خلال اللهيب رأس محمد مغمض العينين كأنه في سبات عميق، فصاحت: «محمد! آه يا حبيبي! لقد صح قولهم وفعلوا ما أرادوا، قتلهم الله!» وهمت بأن تلقي نفسها في النار فأمسكها الرجل من ثوبها. فلطمت وحلت شعرها وأخذت في الندب والعويل وهي تمسح عينيها كل لحظة وتنظر إلى جثة محمد من خلال اللهيب، فتراه لا يزال نائما فتناديه فلا يجيب، فتهم بأن تلقي نفسها فوقه والرجل يمسكها.
فضاقت بها الحيل فجعلت تدور حوله وتندبه وتندب نفسها وتقول: «يا لشقائي! آه يا حبيبي يا محمد! إنك لم تلق حتفك إلا من سوء طالعي، فلو لم أحبك لم تمت! ويلاه! ويلاه! ماذا أعد من النحوس المحدقة بي؟! لا ريب أني ولدت شؤما على نفسي وعلى كل من هم حولي. نعم، عاكسني الدهر ولكنه لم يصب مني مقتلا لأن آمالي كانت عالقة بحبيبي محمد، وقد صبرت في مصائبي أملا في لقائه، ورضيت من الدنيا أن أكون بقربه. ولكن آه! آه! لولا هذه الآمال لم تقتل يا محمد! لقد قتلت ليتم شقائي، فأنا سبب القتل! ولكن كيف تموت هكذا؟! كيف يختلط جسدك بالتراب؟! بل كيف تموت هذه الميتة وأبقى أنا حية؟! كلا ثم كلا!»
Unknown page