شخصيات الرواية‏

مراجع رواية عذراء قريش‏

1 - سر ذاهب إلى القبر‏

2 - عثمان بن عفان‏

3 - نائلة بنت الفرافصة‏

4 - الفتنة وأسبابها‏

5 - أسماء ومحمد ومروان‏

6 - أسماء في دار الخليفة‏

7 - مقتل عثمان‏

8 - مبايعة علي بالخلافة‏

9 - المطالبة بدم عثمان‏

10 - طلحة والزبير‏

11 - عبد الله بن عباس‏

12 - الفتنة والحرب‏

13 - أسماء في الأسر‏

14 - عود إلى السر‏

15 - وقعة الجمل‏

16 - معاوية وعمرو بن العاص‏

17 - أسماء في السجن‏

18 - موقعة صفين‏

19 - الهدنة والتحكيم‏

20 - حكم الحكمين‏

21 - عمرو يعود إلى القاهرة‏

22 - مقتل محمد بن أبي بكر‏

شخصيات الرواية‏

مراجع رواية عذراء قريش‏

1 - سر ذاهب إلى القبر‏

2 - عثمان بن عفان‏

3 - نائلة بنت الفرافصة‏

4 - الفتنة وأسبابها‏

5 - أسماء ومحمد ومروان‏

6 - أسماء في دار الخليفة‏

7 - مقتل عثمان‏

8 - مبايعة علي بالخلافة‏

9 - المطالبة بدم عثمان‏

10 - طلحة والزبير‏

11 - عبد الله بن عباس‏

12 - الفتنة والحرب‏

13 - أسماء في الأسر‏

14 - عود إلى السر‏

15 - وقعة الجمل‏

16 - معاوية وعمرو بن العاص‏

17 - أسماء في السجن‏

18 - موقعة صفين‏

19 - الهدنة والتحكيم‏

20 - حكم الحكمين‏

21 - عمرو يعود إلى القاهرة‏

22 - مقتل محمد بن أبي بكر‏

عذراء قريش

عذراء قريش

تأليف

جرجي زيدان

شخصيات الرواية

عثمان بن عفان:

ثالث الخلفاء الراشدين.

علي بن أبي طالب:

رابع الخلفاء الراشدين.

عائشة أم المؤمنين:

زوجة النبي

صلى الله عليه وسلم .

نائلة بنت الفرافصة:

زوجة الخليفة عثمان.

محمد بن أبي بكر الصديق:

أخو عائشة.

عذراء قريش:

أسماء بنت مريم.

مريم أم أسماء:

من سبايا فتح مصر.

مروان بن الحكم:

ابن عم عثمان بن عفان.

معاوية بن أبي سفيان:

أول ملوك الدولة الأموية.

عمرو بن العاص، أبو موسى الأشعري:

الحكمان في الخلاف بين علي ومعاوية.

مراجع رواية عذراء قريش

هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:

معجم ياقوت.

السيرة الحلبية.

قاموس الإسلام.

صفوة الاعتبار.

أسد الغابة.

الأغاني للأصفهاني.

العقد الفريد.

تاريخ الخميس.

صحيح البخاري.

مراصد الاطلاع.

نهج البلاغة.

كتب تاريخ: ابن الأثير - المسعودي - الدميري - أبو الفداء - ابن خلدون - ابن هشام.

الفصل الأول

سر ذاهب إلى القبر

«قباء» قرية على بعد ميلين من المدينة المنورة «يثرب»، اشتهرت بعد الهجرة بنزول صاحب الشريعة الإسلامية بها في أثناء هجرته إلى المدينة وبنائه فيها مسجدا هو أول مسجد في الإسلام.

وكانت قباء قد اشتهر أمرها وعرفت بمكانة مسجدها في خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبعد اتخاذ المدينة عاصمة، وقد عني الخلفاء بتحسين ذلك المسجد وبخاصة الخليفة عثمان، إذ وسعه وزاد فيه وخصص نفرا لخدمته. على أن ذلك لم يزد كثيرا في سكان قباء نفسها.

وكان لذلك المسجد في أواخر خلافة عثمان خادم طاعن في السن اسمه «عامر» شهد بناء المسجد، ورأى صاحب الشريعة يوم نزل هناك وأمر ببنائه، فأقام عامر بقباء هو وعياله، يقضي نهاره في خدمة المسجد وتنظيفه، فإذا فرغ من ذلك خرج بأولاده يرعى إبل أحد أغنياء المدينة في بعض الأودية الكثيرة في تلك المنطقة.

ففي مساء يوم من أيام سنة 35 من الهجرة خرج الشيخ لرعاية الإبل فأوغل في بعض الأودية حتى اقترب الغروب، فأسرع بالرجوع راكبا ناقته وقد أرخى لها الخطام، وأخرج مسلة مغروسة في شعر رأسه المتلبد ووخز بها الناقة بين جنبيها استحثاثا لها على المسير فطارت به. وكان أولاده يتبعونه على بقية النوق، وقد ركب أصغرهم ناقة عارية، ووضع آخر أمامه على ناقته أخشابا جمعها من غصون الشجر المتساقطة ليوقدوا نارهم بها، وكانت النوق كلها مطلقة الزمام. والشيخ أعجل الجميع خشية أن تغيب الشمس ويحين وقت صلاة المغرب قبل وصوله، ورأى الشمس كأنها تسرع في الغروب فخيل إليه أنها تسابقه فجعل يستحث ناقته، غير عابئ بجمال الصحراء في تلك الساعة، إذ امتدت الظلال حتى اختلط بعضها ببعض فلم يفرق بين ظلال النخيل وظلال غيرها من الشجر وبين ظلال الآدميين. وكذلك غفل الشيخ لعجلته ولهفته عن الشذا المنبعث من نبات الصحراء، ولم يستوقف سمعه شدو الطيور ولا نقيق الضفادع. على أنه لم يكد يشرف على قباء حتى سمع رغاء الجمال وصهيل الخيل، ولما قارب المسجد رأى هناك ركبا معهم الجمال والأحمال فلم يستغرب ذلك إذ تعود أن يرى كثيرا من أمثاله كل عام، لأن القوافل كانت تمر بقباء في طريقها إلى المدينة فتقف للراحة والاستقاء، فازداد رغبة في العجلة ليقوم بخدمة القادمين، والتفت خلفه ونادى أحد أولاده وقال له: «أسرع إلى البيت وعد إلي بجرة الماء لعل في الركب من يحتاجون إليه.» •••

وظل الشيخ مسرعا، وكلما اقترب من المسجد وتوقع أن يتبين الوجوه حجبها عنه تكاثف الشفق، حتى وصل فإذا الركب بضعة رجال وفتاة ومعهم خيل وجمال، وقد تجمعوا بحنو ولهفة حول هودج عليه الأستار وفيه مريض يحاولون إخراجه إلى مقعد في خيمة نصبوها بالقرب منه. وما إن استخبرهم حتى علم أنهم قادمون من الشام إلى المدينة، فعجب لمرورهم بقباء وهي ليست في طريقهم إليها. ونظر إلى كبيرهم فإذا هو كهل عليه لباس عرب الشام من القباء والرداء والعمامة، وبجانبه شاب حسن البزة عليه عباءة من الصوف وسيفه مرصع، ووراءه خادم يحمل له الرمح والنبال، وعلى مقربة منهما فتاة غضة الشباب مشرقة ممتلئة صحة ونشاطا على رأسها عقال، وزاد في إشراق وجهها ما اكتسبه من التورد على أثر التعب وركوب الجواد أياما في الصحراء. فلما رآها الشيخ استرعى انتباهه ما آنسه فيها من شدة الاهتمام بأمر المريض، ورآها ترشدهم كيف يحملونه وينقلونه ويعتنون به. فترجل الشيخ عن ناقته وصاح: «أهلا بوجوه العرب»، ثم تقدم لمساعدتهم وتفرس في المريض فإذا هو امرأة في حدود الأربعين قد بلغت منتهى الضعف حتى يحسبها الناظر إليها ميتة. وأشارت إليه الفتاة ألا يدنو من المريضة لأنهم يريدون حملها بأنفسهم، فتنحى وأمر أولاده أن يساعدوا الخدم في نصب الخيام وإنزال الأحمال وسقي الجمال والخيل وغير ذلك، وسار هو إلى المسجد للأذان والصلاة.

واستمر الرجال في نقل المريضة، وكانت الفتاة واسمها «أسماء» لا تني في إعداد كل وسائل الراحة لها، ولا عجب فالمريضة أمها وقد شبت على حبها. أما الكهل فزوج المريضة واسمه «يزيد»، وكان قليل العناية بأمرها إلا بما توحيه إليه الفتاة. وأما الشاب فاسمه «مروان»، وكان الزهو ظاهرا في وجهه لقرابته من الخليفة عثمان بن عفان.

ولما حملوا المريضة إلى فراشها، جلست أسماء بجانبها وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهها وهي غائبة عن الصواب، وكانت الدموع تملأ عيني الفتاة ولكنها كانت تتجلد لئلا يغلبها البكاء فتسمعه أمها فيزداد تألمها، وكانت تمسح دموعها خلسة ونظرها لا يتحول عن وجه المريضة لحظة.

ولما أرخى الليل سدوله جاءهم عامر بمصباح أدخلوه الخيمة، والفتاة لا تفتأ تنظر إلى أمها لعلها تفتح عينيها أو تحرك شفتيها أو تلتمس أمرا فتقدمه لها، غير عابئة بالكهل زوج أمها ولا بذلك الشاب الذي قطع البراري والقفار في خدمتها عساه أن ينال حظوة في عينيها. وكان الشاب قد طلب الاقتران بها منذ كانوا في الشام، فلم ترض به هي ولا أمها وإن رضي به يزيد رغبة في الدنيا وطمعا في منصب يناله، ولم يكن يعطف على الفتاة لأنها ليست ابنته ولا يعرف لها أبا، إذ كانت أمها حين تزوجها سبية من سبايا مصر يوم فتحها عمرو بن العاص سنة 18 للهجرة، وكانت هي في الثانية من عمرها حينذاك، وبعد فتح الإسكندرية عاد بهما إلى الشام فأقام فيها مع ذوي قرباه من بني أمية.

وكان يزيد كهلا أشيب الشعر، قصير القامة، خفيف العضل، متجعد الوجه، غائر العينين، يحب المال حبا جما، وكان إلى ذلك سيئ الخلق. واعتقد أهل الشام أن أسماء ابنته، وإن عجبوا لاختلافهما خلقا وخلقا، فقد كانت على جانب عظيم من المهابة والجمال، جمعت بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، وكان الناظر إليها لا يسعه إلا أن يحترمها، فإذا خاطبها آنس منها رقة وأنفة ودعة وأريحية. وكانت ربعة ممتلئة، حنطية اللون، سوداء العينين حادتهما، طويلة الأهداب، مقرونة الحاجبين، دقيقة الفم، سهلة الجبين، تغضي العيون مهابة التفرس في وجهها. اشتهرت بين أهل الشام بكل خلق حسن، وأحبها مروان وجعل يتقرب منها وهو يحسب تقربه منة وكرما، وأنها لا تلبث أن تطير فرحا لأنها من عامة الناس وهو ابن عم الخليفة عثمان. وكان الخليفة يؤثر ذوي قرباه من بني أمية ويقدمهم في مناصب الدولة ويفتح لهم أبواب الرزق، الأمر الذي أدى إلى قيام المسلمين عليه حتى تحدثوا في عزله وكانت الفتنة المشهورة. وظل مروان يتردد على منزل يزيد وكلاهما من بني أمية، فيحتفل يزيد به ويود لو يتزوج أسماء فيحظى من الخليفة بمنصب، فلما خاطبه مروان في ذلك أكد له أنه نائل الفتاة لا محالة، اعتمادا على أن القول قوله في أمر زواجها.

ولكنه ما إن خاطب امرأته في الأمر حتى رأى منها إعراضا وإباء، وكلما ألح بشدة عليها راحت تماطله. وأدركت الفتاة ما بينهما من أجلها فاشتد نفورها من مروان، لأنها لم تكن تعتد بزخارف الدنيا ولكنها كانت تهوى الشهامة وكرم الأخلاق، فلم يقع مروان من نفسها موقع القبول. ولما ازداد إلحاح يزيد خشيت الأم أن يستعمل العنف في تنفيذ مأربه واستولى عليها القلق حتى نزل بها الداء ووهنت قواها فخافت الموت، وطلبت أن تحمل إلى المدينة على أن تجيب طلب مروان هناك.

وسر بذلك مروان إذ حدثته نفسه بأنه إذا جاء المدينة كان بالقرب من ابن عمه الخليفة عثمان، فلا تعود الأم إلى التردد خشية غضبه. وكان السفر سببا في اشتداد مرض الأم وأسماء لا تعلم سر ذلك الانتقال حتى خلت ذات يوم إلى أمها وعاتبتها على ما حملت نفسها من المشقة، فأسرت هذه إليها أنها تنوي الاستجارة بعلي بن أبي طالب لعله ينقذها لما اشتهر به من إغاثة المظلومين، ولما له من المكانة عند الخليفة والمسلمين.

وما زال المرض يشتد بالأم يوما بعد يوم، وزوجها ومروان يودان لو قضت نحبها قبل الوصول إلى المدينة لأنهما عرفا شيئا عن حقيقة غرضها، فكانا يطيلان مدة السير ويقودان القافلة في طرق طويلة حتى مروا بقباء وهي في الجنوب الشرقي من المدينة. •••

كانت الأم المريضة - واسمها «مريم» - بيضاء، تحبو إلى الأربعين من عمرها، رومانية الملامح، كبيرة العينين، وقد زادهما الضعف جحوظا، وكانت منذ نقلوها إلى الفراش في سبات عميق وأسماء بجانبها تمرضها ولا تأذن لأحد أن يأتي بحركة لئلا يزعجها. ولكنها لخوفها على أمها لم تكن تستطيع النظر إلى ذلك الوجه الممتقع وتينك العينين الغائرتين والعنق المستدق وقد غطاه من الجانبين شعر أسود يخالطه بعض الشيب بلله عرق الحمى فتجمع خصلا متلاصقة. وأشد ما كان يخيفها أن صدر أمها كان غائرا لفرط الضعف، وأن فمها اتسع واستطال حتى برز فكاه، فلم تكن أسماء تتأمل في ذلك المنظر حتى يختلج قلبها وتخاف الموت على والدتها في تلك البرية. وكلما أمسكت بيدها لتعرف مدى حرارتها أحست العرق البارد يبلل أناملها، ومما زادها بلاء وشقاء أن يزيد ما برح منذ نزولهم معتكفا في خيمة مروان، ولا يدخل خيمة امرأته إلا قليلا، متظاهرا بالاهتمام بها، بينما المكر والرياء ظاهران في وجهه. وأما مروان فكان إذا دخل الخيمة دخل متبخترا لا يدنو من الفراش ولكنه ينظر إلى أسماء ويبتسم كأنه يداعبها، وهي لا تستطيع الابتسام ولا تطيق النظر إليه.

فلما كان العشاء حركت النائمة رأسها وفتحت عينيها وحولت حدقتيها إلى أسماء وقد بهتتا من شدة الضعف، فهبت الفتاة واقفة وسألتها عما تريد، فأشارت تطلب الماء فأسرعت إلى القدح وأدنته من شفتيها فشربت منه قليلا، وانبسطت لذلك أسارير أسماء وعاودها الأمل، ووقفت تنتظر ما تطلبه منها، فلما لم تقل شيئا انحنت على جبينها وقبلته وأمسكت يدها بلطف وقالت لها: «هل تريدين شيئا يا أماه؟»

فأجابتها بصوت ضعيف وعيناها شاخصتان إليها: «لا، لا أريد شيئا إلا سلامتك، ولكنني قد لا أستطيع الوصول إلى المدينة، ولا أظنني أعيش إلى الغد فقد شعرت بدنو الأجل.» قالت ذلك والدموع تتساقط من عينيها فتختلط بعرقها، فاقشعر بدن أسماء وخفق قلبها، ولكنها تجلدت وتظاهرت بالابتسام وقالت: «لا سمح الله بسوء يصيبك يا أماه! فإنك ستصبحين في خير فنركب معا إلى المدينة بإذن الله.»

فتبسمت الأم تبسما يمازجه البكاء، وقالت: «اسمعي يا بنيتي، ما أنا آسفة على هذه الدنيا، ولكن في نفسي أمر أود قضاءه قبل الوفاة.»

قالت أسماء: «وما هو ذلك الأمر يا أماه؟»

قالت: «هو أن ألتقي بعلي بن أبي طالب فأكلمه دقيقتين قبل الموت.»

قالت: «غدا نلتقي به في المدينة.»

قالت: «قلت لك إنني لا آمل أن أرى صباح الغد يا بنيتي.»

فهمت أسماء بتقبيلها وهي تحاول حبس الدمع، فضمتها مريم إلى صدرها بقوة لم تكن أسماء تعهدها فيها وعانقتها، فتساقطت دموع أسماء برغم إرادتها ثم أحست بدموع أمها تتساقط على عنقها سخينة تمازج ذلك العرق البارد، وأشفقت بعد ذلك عليها فنهضت وتجلدت وقالت: «لا بأس عليك يا أماه! فهل تطلبين عليا لتكلميه في شأني؟»

قالت: «نعم، وفي شأن آخر هو سر حرصت على كتمانه أعواما، وقد آن لي أن أبوح به.»

فقالت: «ما العمل إذن؟» قالت: «استقدموه إلي، قولوا له إن امرأة على فراش الموت تلتمس لقياك لتنبئك سرا وتشكو إليك أمرا.»

فخرجت أسماء إلى صحن الخيمة فرأت يزيد ومروان واقفين بإزاء نخلة كأنهما يتساران، فلما رأياها أسرعا معا وقالا: «كيف حال أمك؟ لعلها في خير»، قالت: «إنها أفاقت وطلبت أن ترى عليا بن أبي طالب.»

قال يزيد: «وكيف تراه الآن وهو في المدينة؟»

قالت: «لقد طلبت استقدامه إليها بإلحاح.»

قال مروان: «استقدامه؟! ومن يستطيع ذلك؟!»

قالت: «لا أراه يأبى المجيء إذا قيل له إن امرأة تحتضر تلتمس مقابلته، فإنه على خلق عظيم.»

قال: «لا شك في عظم خلقه، ولكنه الآن في شغل شاغل بأمر المسلمين واختلافهم في شأن الخليفة!»

ولما لاحظ استغرابها ما ذكره، أخذ في توضيح الأمر فقال: «سمعت قبل خروجنا من الشام أن أهل الأمصار ناقمون على عثمان إيثاره ذوي قرابته فيولي العمال منهم ويعزل الذين ولاهم أسلافه، كما علمت أن أهل مصر خرجوا يلتمسون المدينة ليشكوا أمرهم إلى علي لعله يحكم فيما بينهم وبين عثمان، وكذلك أهل البصرة وأهل الكوفة. وأظنهم وصلوا إلى المدينة الآن، فلا يستطيع علي تركهم والمجيء إلى هنا.»

قالت وقد ملت الجدل: «إن أمي تطلب عليا بإلحاح فما علينا إلا أن نبعث في طلبه.»

قال: «سأرسل في ذلك أحد رجالي، ثم أذهب أنا في أثره أستعجله.» قال ذلك وأمر أحد الأتباع بالذهاب إلى المدينة، ثم ذهب هو على أثره.

عادت أسماء إلى والدتها فإذا هي في غيبوبة، فمكثت ساعة في انتظار الرسول، ولما استبطأته خرجت من الخيمة وتوجهت بنظرها إلى المدينة والظلام حالك فلم تر أحدا، فصعدت إلى مرتفع أشرفت منه على أبنية المدينة فلم تر منها إلا المسجد النبوي والأنوار تشعشع في بعض جوانبه. ولو أنها لم تصعد إلى ذلك المرتفع ما استطاعت رؤية المدينة، لأنها قائمة في منبسط من الأرض تحدق بها جبال تنحدر منها السيول على أثر الأمطار، فيصبح السهل المجاور لها مستنقعات وآبارا تجتمع فيها المياه على مدار السنة، وتنمو حولها أشجار الصفصاف والبيلسان والنخيل وكثير من الأعشاب. فلما أطلت أسماء على المدينة راعها منظر ما بينها وبين قباء من المياه المتجمعة التي انعكست على سطحها أشعة الكواكب، غير أن ذلك لم يكن ليشغلها عن مرض والدتها فعادت مسرعة إلى الخيمة، فرأت أن يزيد قد توسد الأرض خارج الخيمة ونام، فأسفت لما رأت من فقده المروءة والشعور، ولكنها لم تستغرب ذلك لأن أمها كانت قد قالت لها غير مرة إن هذا الرجل ليس أباها، ولكنها كتمت عنها اسم أبيها وظلت تعدها بأن تنبئها به. فلما رأت ما بلغته والدتها من الضعف في تلك الليلة خافت إن أصابها سوء أن يبقى أبوها مجهولا عندها، فدنت من فراشها وهي ما برحت غائبة، فأمسكت يدها الباردة ولمست جبينها المبلل بالعرق فاضطربت جوارحها وخافت على والدتها في ذلك القفر، واستنكفت أن تخاطب يزيد في الأمر احتقارا له، فهمت بالخروج لاستقدام خادم المسجد لعلها تجد عنده امرأة تستأنس بها، فرأت أمها تحرك رأسها وترفع يدها كأنها تشير إليها أن تدنو منها، فدنت وهمت بها فقبلتها وقالت: «ماذا تريدين يا أماه؟»

قالت: «ألم يأت علي؟» قالت: «لم يعد رسولنا بعد.»

قالت: «أخاف ألا يعود وقد نفد صبري وخارت قواي، استقدموا عليا قبل فوات الفرصة.»

فقالت: «لا يلبث علي أن يأتي. ألا تبوحين لي بما تريدين أن تقوليه له، ألم يأن لي أن أعرف من هو أبي؟»

قالت: «ستعرفينه متى جاء علي» ثم تنهدت وقالت: «آه ...!» •••

فلما سمعت أسماء ذلك اشتد حزنها وقلقها ، ولا سيما أنها خشيت أن يكون ذهاب مروان في أثر الخادم سببا في تأخير قدوم علي، فعزمت على المسير بنفسها وهي لم تكن قد دخلت المدينة قبل الآن، ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل مرضاة أمها ورغبتها في استطلاع ذلك السر. فشدت عقالها حول رأسها وتلثمت حتى لم يبق ظاهرا من وجهها إلا عيناها، وتزملت بالعباءة فوق ثيابها فأخفت رداءها النسائي، وركبت جوادها وكان لا يزال مسرجا، وأيقظت يزيد وأوصته بوالدتها خيرا. وهمت بالخروج فلم يطاوعها قلبها خوفا على أمها فوقفت متحيرة، ثم تذكرت خادم الجامع فسارت إليه وكان قد فرغ من الصلاة، فسألته عن امرأته فقال: «هي في خدمتكم»، وناداها فجاءت فإذا هي عجوز ولكنها نشطة سمحة الوجه، فأوصتها بأن تساعد يزيد في السهر على أمها في أثناء غيابها. وخرجت ولم تخبر أمها لئلا تمنعها من الذهاب واتخذت أنوار المسجد النبوي قبلتها، وهمزت الجواد وكان من أصائل الخيل فجرى وهو تارة يغوص في منخفض وطورا يصعد على أكمة، وهي لا ترى شيئا لفرط قلقها واضطرابها إلا أشباح النخيل والبيلسان، حتى دنت من سور المدينة واهتدت إلى بابها فدخلت منه إلى أسواق ضيقة متعرجة لا يكاد يمر بها الجواد، ولكنها على ضيقها مزدحمة بالناس وأكثرهم من الغرباء، فعلمت أن ما قاله مروان صحيح. فسألت رجلا يبيع التمر عن منزل علي فدلها عليه وهو يحسبها رجلا، فهمزت الجواد وأسرعت فلم تبلغ باب المنزل حتى كبا جوادها فسقطت وكادت تلقى حتفها، ولكنها لم تبال بل نهضت وتلمست باب المنزل، ولم تكد تدركه حتى سمعت صريره فوقفت تنتظر فتحه، فخرج إليها شاب طويل القامة لم تتبين وجهه لشدة الظلام، وكان قد سمع كبوة الجواد فأسرع نحوه فرأى فارسه قد وقف وهو لا يزال ملثما، فاستقبله وسأل عن خبره وهو يظنه رجلا.

فقالت أسماء: «لعل مولانا عليا في المنزل؟» قال: «كلا، ليس هو هنا الآن، ماذا تبغي منه فإني أرى لهفتك وعجلتك؟»

قالت: «نعم، جئت في أمر مهم، ولكنني لا أقوله إلا لعلي نفسه .»

قال: «إنه خرج في الغروب إلى المسجد، وقد مضت صلاة الغروب وصلاة العشاء ولم يعد، فهل تذهب معي للبحث عنه هناك؟»

قالت: «نعم، هلم بنا.»

ثم انطلقا وكل منهما يريد الوصول إلى باب المسجد ليرى وجه صاحبه على الضوء لعله يعرفه، وكان الشاب أكثر رغبة في ذلك لأنه استغرب صوت أسماء ولم يتبين شيئا من وجهها أو ثيابها. أما هي فمشت تقود جوادها وراءها حتى بلغا الجامع، فإذا هو مزدحم بالناس بين جاث وواقف ولم يبق به موقف لطفل، وكلهم صامتون وقد تكاثفت أنفاسهم وانبعثت من باب الجامع حرارة ممتزجة بروائح أجسامهم وأثوابهم، حتى لقد يشعر المار بالازدحام وإن لم ير الناس. فلما وصل الرفيقان إلى الباب واستنارا بمصابيح الجامع نظر كل منهما إلى زميله، فرأت أسماء رفيقها رجلا حسن اللباس يظهر من حاله أنه من الصحابة أو بعض أولادهم، أما هو فلم ير غير اللثام فاستغرب تلثمها ومنعه الحياء من التحري.

الفصل الثاني

عثمان بن عفان

وهمت أسماء بالدخول إلى الجامع فامتنع عليها لكثرة الناس وهيبة الاجتماع، فوقفت بالباب وهي على مثل الجمر، ووقف صاحبها إلى جانبها فارتاحت لما آنسته من رقة شعوره، وعلمت أن الدخول إلى علي يستحيل إذ ذاك. فلما دعاها إلى الاستراحة على البطحاء، وهي مقاعد من الحجر أو الخشب أنشأها عمر بن الخطاب خارج الجامع يجلس عليها الناس للاستراحة أو المحادثة أو المناشدة؛ لم تستطع أسماء جلوسا لعظم قلقها، ولكنها التمست مكانا تربط فرسها فيه إذا اضطرت لدخول الجامع، فأمر رفيقها غلاما ممن يلتقطون النوى في أسواق المدينة وهم كثيرون أن يمسك الفرس، فأمسكه وسار به إلى مرابط الخيل بين الأشجار هناك.

أما أسماء فنظرت إلى صدر المسجد، فرأت على منبره رجلا ربعة ليس بالطويل ولا القصير، حسن الوجه لولا ما عليه من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، وقد خضبها بالحناء، أسمر اللون، أصلع الرأس، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، وكان واقفا على المنبر وقد توكأ على سيف وأجال نظره في الحضور وهم بالكلام . فنظرت أسماء إلى رفيقها مستفهمة، فقال: «هذا عثمان بن عفان يخطب في الناس.»

فقالت: «لعل هذا الجمع من أهل المدينة؟» قال: «كلا، هم وفود أهل مصر والبصرة والكوفة، وقد جاءوا يشكون عثمان ويتذمرون من أعماله، وقد شكوه من قبل هذا إلى علي بن أبي طالب فأنبه علي، فدعاهم إلى المسجد ليخطب فيهم، وأظنه سيلتمس لنفسه عذرا، فلنسمع ما يقوله.»

فنظرت أسماء إلى الخليفة وعيناها لا تقفان عليه لتضعضع حواسها، فرأت بجانبه رجلا عرفت أنه مروان فقالت في نفسها: «بئس الشاب هو! لقد جاء إلى ابن عمه ونسي المهمة التي جاء فيها.» وجالت بنظرها في الجمع متفرسة لعلها ترى عليا، غير أنها لم تكن تعرفه فقالت لرفيقها: «ألا ترى عليا بين الناس؟» قال: «أظنني رأيته، نعم، أراه جالسا بقرب المنبر وقد أطرق يفكر.» فنظرت إليه فإذا هو فوق الربعة، ضخم العضل، جميل الخلقة، وقد خطه الشيب فلم يخضب شعره. وآنست منه على شدة هواجسه ابتساما ظاهرا في وجهه، فشعرت عند رؤيته بارتياح واستأنست بطلعته وحدثتها نفسها أن تخترق الجماهير إليه فأوقفها الحياء، ولبثت تنتظر انتهاء الخطيب من خطابه وهي في قلق شديد.

وانتصب عثمان ويمناه على السيف وهي ترتعش لعظم تأثره، ثم مسح لحيته بيساره ومشط شعرها بأصابعه والاضطراب ظاهر عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: «يا أهل الأمصار، قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي، فإن صاحبي اللذين توليا قبلي (يريد أبا بكر وعمر) قد ظلما أنفسهما، وإن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

كان يعطي قرابته. وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. وأما ما تريدونه من الفتنة أو الخلع فإنكم قد أسرعتم فيما عزمتم، ووالله لئن فارقتكم لتتمنون أن لو كان عمري عليكم مكان كل يوم سنة! لما سترون من الدماء المسفوكة والإحن، والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.»

وكان علي في أثناء الخطاب مطرقا مصغيا لا يبدي حراكا، حتى أتى عثمان على الفقرة الأخيرة فحرك علي حاجبيه وحنى رأسه تصويبا لقوله: «لما سترون من الدماء المسفوكة ... إلخ.»

وأما أسماء فلا تسل عن قلقها ومللها، وكان رفيقها واقفا إلى جانبها وقد شغل عنها بما ثار من عواطفه عند سماعه كلام عثمان، ومال إلى إفهام رفيقه الملثم جلية الخبر تشفيا من عثمان. ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف من هو، ثم تنسم من لهجتها صوتا نسائيا ولكنه استبعد أن يظهر في النساء مثل هذه الهمة، فصبر حتى انتهى عثمان من خطبته وقال لها: «أراك يا سيدي خالي الذهن من مغزى كلام الخليفة، ولكي تتفهمه أوضحه لك باختصار: إن خليفتنا هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة منذ بضع عشرة سنة، وحالما تولاها عزل الولاة الذين كانوا قبله ممن ولاهم الخليفة عمر، وولى مكانهم رجالا من بني أمية أي من أقاربه، ووسع أبواب الرزق لأهله وضيقها على سواهم، فثار المسلمون في الأعمال (الولايات)، وهم أهل مصر والكوفة والبصرة. أما أهل الشام فإنهم على دعوة عثمان، لأن عاملهم هو معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة، وأما أهل الأمصار الثلاثة الباقية فنقموا على هذا الرجل وجاءوا في رجالهم يطلبون خلعه وتولية غيره مكانه، ولا يليق بالخلافة بعده إلا علي بن أبي طالب فإنه ابن عم النبي

صلى الله عليه وسلم

ووصيه. ولكن بين الذين يطمعون في الخلافة الآن اثنين من الصحابة هما طلحة والزبير. فالخلافة إذا خلع عثمان بين الثلاثة علي وطلحة والزبير، ووفد مصر يريدونها لعلي، ووفد الكوفة يريدونها للزبير، ووفد أهل البصرة يريدونها لطلحة، ولكنهم متفقون جميعا على خلع عثمان. وأما علي فلا رغبة له في الخلافة، ولكنه يخاف الفتنة بين المسلمين بسبب ذلك الخصام.»

وكانت أسماء تسمع كلام رفيقها وهي لا تفهم منه شيئا لعظم اضطرابها، ولكنها لم تر بدا من الصبر لأنها رأت عثمان عاد يتكلم. وما أتم عثمان كلامه حتى ضج الناس فعلمت أنهم خارجون، فحمدت الله على فراغه، فتنحت ريثما يخرج الجمع وقد زاغت عيناها وهي تتفرس في الجماهير لعلها ترى عليا خارجا معهم فخرج الكل ولم تره بينهم، فتحولت نحو الجامع وكان رفيقها قد سبقها إليه فوقفت تنتظره، فعاد وحده فلما استقبلها سألها: «هل رأيت عليا؟» فذكرت أنها لم تره، فجعل يبحث بين الناس ولكنه لم يجده. •••

عاد إلى الجامع وقد خلا من المصلين وأخذ الخدم في إطفاء المصابيح، فخافت أسماء أن يمنعوها من الدخول، ولكنهم لما رأوا رفيقها وسعوا لهما فعلمت أنه من كبار القوم. فدخلا إلى المسجد فرأت المكان خاليا، ووقف الرجل ووقفت وجعلا يفكران، وبعد برهة قال الرجل: «أظنه دخل حجرة امرأته فاطمة بنت النبي

صلى الله عليه وسلم

فإنها مدفونة في حجرة بإزاء هذا المسجد، وكثيرا ما كنا نراه يدخلها لزيارة ذلك الأثر الشريف، فلا بد من الانتظار ريثما يخرج.»

فقالت: «لا صبر لي يا مولاي على الانتظار، دعني أدخل إليه وأخاطبه فإن الأمر الذي جئت من أجله يقتضي العجلة، وهب أنني أسأت الأدب في استعجاله فإنه سيعذرني متى عرف السبب، دعني أدخل الحجرة.»

فأجابها بصوت خافت: «تمهل يا صاح لنثق من دخوله إليها.» ومشيا الهوينى وهما حافيان لا يسمع لمشيهما وقع حتى انتهيا إلى الحجرة من باب صغير، وهي بناء مربع واطئ في وسطه ضريح السيدة فاطمة. فدخلا الحجرة والرجل ممسك بيد أسماء وقد ساد السكوت والظلام ذلك المكان المهيب، فوقفا لحظة لعلهما يسمعان حركة أو نطقا أو يريان شبحا فلم يسمعا شيئا ولم يريا شيئا، فهالهما الموقف ولم يتجرأ أحد منهما على الكلام ولكنهما تفاهما بالإشارة على الرجوع. وفيما هما يسيران سمعا صوتا عميقا كأنه خارج من القبر فاقشعر بدنهما ووقف شعر رأسيهما والرجل لا يزال قابضا على أنامل أسماء، فلما سمعا الصوت شعر بارتعاش تلك الأنامل شعورا امتد إلى كل جوارحه، فأومأ إليها أن تنصت فأنصتا فإذا الصوت خارج من حجرة الرسول بالقرب من حجرة فاطمة وبينهما حائط، وأصغيا فإذا هو صوت علي بن أبي طالب يناجي الرسول بصوت يتخلله تحرق وزفير، فوقفا وقلباهما يخفقان وهما يمسكان أنفاسهما كأنما يخافان أن يختلط زفيرهما بما يسمعان. وإليك ما سمعاه:

قم يا رسول الله تعهد أمتك وانظر إلى ما آلت إليه حالها من بعدك، لقد بعثك الله نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، وقد كانوا على شر دين في شر دار، يشربون الكدر ويأكلون العشب، ويعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويقطعون الأرحام. فسقت الناس حتى بوأتهم محلتهم، وبلغتهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم، وجعل الله الإسلام أمنا لمن علقه، وسلما لمن دخله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، ونورا لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل. فقام بنصرته قوم دعوا إلى الإسلام فلبوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، قوم لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون بالموتى. مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. قد كنت يا رسول الله تأكل على الأرض، وتجلس جلسة العبيد، وتخصف نعلك بيدك، وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري. ولقد يكون الستر على بابك عليه التصاوير فتقول لإحدى أزواجك: «غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.» وكنت يا رسول الله إذا احمر البأس وأحجم الناس، تقدم أهلك فتقي بهم أصحابك حتى قتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة. هذه هي سنتك وتلك هي قدوتك. فلما فارقتنا خلفك شيخ (أبو بكر) حارب المرتدين، وأيد الدين القويم، وخلفه رجل فتح الأمصار ودون الدواوين، وشاد للعدل منارا، فاعتز به الإسلام، وامتدت رايته على العراق وفارس ومصر والشام، وفر من وجهه كسرى وقيصر، والناس يومئذ مجتمعون حول الدعوة آخذون بناصرها بقلب واحد. حتى تولاهم عثمان وهو شيخ صادق الإسلام، ولكنه استأثر بالسلطة وآثر أهله على سائر المسلمين، فقاموا عليه قومة رجل واحد، وتجمعوا على نبذ طاعته وأقروا على خلعه، لا ترهبهم خلافته ولا يخشون سطوته. كأن الناس إنما أذعنوا لأهل السابقة من الصحابة لما كانوا فيه من الذهول والدهشة لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال واستفحل الملك أنفت نفوس المسلمين من غير قريش وهان عليهم نبذ طاعة الصحابة حتى بلغ من جرأتهم التمرد على الخليفة. فعظمت الفتنة وخفت ما خوفتنيه يوم سألتك عن الفتنة فقلت لي: «يا علي، إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون لسطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية.» آه يا رسول الله! لقد طالما نصحت لهذا الخليفة ألا يكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمرها عليها ويثبت الفتن فيها. ولكنه انصاع إلى شاب من أهل قريته (مروان بن الحكم) يسوقه حيث شاء بعد جلال السنين وتقضي العمر.

ولما بلغ علي إلى هذا القول زفر زفرة سمعتها أسماء وصاحبها، كما سمعاه يبكي بكاء تقطع له قلباهما، وهما لا يكادان يصدقان أنهما يسمعان عليا يبكي، فبهتا وهما يحسبانه يهم بالنهوض، ثم سمعاه يقول:

هذه هي حال أمتك يا رسول الله. فإني أشكو إليك قوما افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فكل منهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، حتى أصبحت الأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. أما أنبأتك صفيتك (فاطمة) النازلة بجوارك بتضافر أمتك على هضمها؟ وإني أخاف أن ألحق بكما والحال على ما وصفت، فأستحيي أن أحمل إليك خبر هذه الفتنة التي أخافها أن تفرق كلمة الإسلام. فادع لنا ربك أن يجمع كلمتنا ويلم شعثنا ويأخذ بناصرنا فنعلم مكان الخلافة منا. والسلام عليك حتى نلتقي.

وسمعت أسماء وصاحبها عليا وهو يقرأ الفاتحة فعلما أنه يتأهب للنهوض، فأسرعا في التقهقر حتى خرجا من الحجرة إلى المسجد وخرجا منه إلى البطحاء وقد خف الازدحام لتفرق الناس إلى منازلهم، فوقفا ينتظران عليا فقال الرجل: «أظنه لا يخرج من هذا الباب، فلنقف له بالباب الآخر.» فناديا الغلام قائد الفرس فتبعهما ومشيا وقد نفد صبر أسماء وأنهكها الملل، ولم يمشيا قليلا حتى لقيا عليا خارجا من باب الجامع ومنديله لا يزال في يده يمسح به عينيه، ثم جعل يصلح عمامته ويسرح لحيته بأنامله ويمشي الهوينى كأنه عائد من سفر طويل.

فتقدم الرجل إليه وحياه فقال علي: «مرحبا بابن أبي بكر، أهلا بك يا محمد. ما الذي جاء بك؟» فعلمت أسماء أنه محمد بن أبي بكر وكانت تسمع به. قال: «لقد جئتك بقادم غريب قد أنهكه البحث.» قال: «لماذا لم تنزله في دار الأضياف؟ أين هو؟»

فتقدمت أسماء وألقت التحية وهي لا تزال ملثمة وقد التفت بالعباءة، فنظر علي إليها فعلم أنها متنكرة لأمر ذي بال فقال لها: «ما غرضك يا أخا العرب؟»

قالت: «لقد جئت أدعوك لغوث امرأة مريضة في خطر شديد، تلتمس أن تراك لتبث لك سرا ضنت به علينا جميعا.»

فقال: «ومن تكون هذه المرأة؟» قالت: «هي أمي، وأما زوجها فهو من بني أمية. وقد جئنا بها من دمشق فتحملت مشاق السفر والمرض على أمل أن تبلغ المدينة فتطلعك على ذلك السر، فاشتد عليها المرض حتى لم تعد تستطيع الوصول.»

قال: «أين هي الآن؟»

قالت: «هي في قباء على مقربة من هذا المكان.»

قال: «هيا بنا إليها. هل ترافقنا يا محمد؟»

قال: «إني في خدمتك حيثما سرت، وإذا رأيت أن أقوم بهذا الأمر دونك لما أنت فيه من المشاغل الكثيرة فعلت فتبقى أنت هنا.»

قال: «لا بأس من ذلك، ولكنني أخشى أن يكون مجيئي إليها واجبا وهي امرأة في مرض شديد تجب علينا إغاثتها.» قال ذلك ومشى نحو البيت يلتمس فرسه، ومشى الاثنان في أثره ومحمد ينظر إلى أسماء خلسة لعله يستطلع شيئا من أمرها، وهي تطلب إلى الله أن يعجل علي في الخطى، ولكنه لم يمش قليلا حتى لقيه رجل مهرول وعليه أمارات البغتة، فقال له: «ما وراءك يا غلام؟»

قال: «لقد عاد المصريون إلينا بعد خروجهم.»

فقال: «وكيف عادوا وقد عهدناهم راضين بما وعدهم به الخليفة من الإصلاح؟»

قال: «لا أدري إلا أنهم عادوا إلينا غضابا، وهم ينتظرونك في فناء دارك.»

فقال علي: «لا حول ولا قوة إلا بالله!» وسار وهو يهز رأسه وينظر إلى محمد، وكان هذا في مثل حاله من العجب لما سمعه. فقال علي: «ما بال هؤلاء القوم لا يريحون لنا بالا؟! إني أرى مشكلتهم هذه لا تنحل إلا بفتنة تئول إلى الفشل، فوالله إنهم ليرومون أمرا عظيما أخشى منه اختلال الحال»، فقال محمد: «لا يخلو رجوعهم من أمر ذي بال.»

وأسرعا حتى أتيا بيت علي فرأيا الناس عند بابه زرافات ووحدانا بين فارس وراجل وقد علت ضوضاؤهم. فلما أشرف علي عليهم ترجل الراكبون وهرول الواقفون نحوه، وفي مقدمتهم رجل لا يزال بثياب السفر فحيا عليا فرد التحية وقال له: «ما الذي عاد بكم إلينا وكنا قد فضضنا بينكم وبين عثمان ووعدكم خيرا؟»

قال: «إنه لم يعدنا إلا خداعا.» قال ذلك ومد يده فأخرج أنبوبة من الرصاص فتناولها علي ومشى إلى مصباح مضيء عند باب الدار، ونظر فرأى فيها صحيفة من جلد أخرجها وقرأ، فإذا كتاب من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيها بجلد زعماء المصريين الذين قدموا المدينة لمطالبته، وحبسهم وحلق لحاهم وصلب بعضهم، فبغت علي لذلك وتأمل الصحيفة فإذا في ذيلها خاتم عثمان وكان يختم كتبه بهذه العبارة: «لتصبرن أو لتندمن.» فتحقق أنه خاتمه فقال: «وما الذي أظفركم بهذا الكتاب؟»

قال: «برحنا المدينة أمس على ما وعدنا هذا الرجل من الإصلاح وصدعنا بأمرك، فلم نكد نخرج حتى لقينا غلام عثمان على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الأنبوبة وفيها هذه الصحيفة.»

فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ما بالنا لا نكاد نرتق فتقا حتى نرى غيره؟! ما الذي غير عثمان وحمله على هذا العمل؟!»

فقال محمد بن أبي بكر: «إنها فعال مروان بن الحكم ابن عمه، فقد كان غائبا في الشام ولم يأت المدينة إلا في غروب هذا اليوم، ونظنه هو الذي أغرى عثمان بذلك.»

فتأفف علي وقال: «تبا لهذا الشاب! إنه لا يدل إلا على الشر.»

فلما سمعت أسماء ذكر مروان عرفت أنه هو طالبها ورفيق سفرتها، فازدادت كرها له وقالت في نفسها: «قبحه الله! إنه لا يزال عثرة في طريقنا»، وأيقنت أن ذلك سيكون سببا في عدول علي عن المسير معها فخاطبت محمدا في الأمر، فقال: «لا تخف يا صاح، إننا منجدوك.» وخاطب عليا في ذلك فقال له: «إني أخاف إذا برحت المدينة في هذا الليل أن يقع ما نندم عليه. سر يا محمد مع هذا النزيل وافعل ما تراه وقم عني في كل خير يرجونه، ثم عد إلي بالخبر.»

فلم تعد تتجرأ أسماء على الإلحاح فقنعت بما وقع مخافة أن يقع ما هو شر منه، فالتفتت إلى فرسها فإذا بالغلام يقوده وراءها فتهيأت للركوب، وبعث محمد فاستقدم فرسه. وركب الاثنان ومحمد ينظر إليها وهي تركب لعله يرى بعض ثيابها تحت العباءة في أثناء الركوب، فلمح من ثوبها شيئا أحمر اللون يشبه ثياب النساء، ولكنه ما زال مستبعدا مثل هذه الجرأة من امرأة.

وسار الاثنان يلتمسان قباء لا يكلم أحدهما الآخر، ولكن محمدا كان شديد الميل إلى معرفة حقيقة رفيقه بعدما اشتبه فيه من أمره، فخرجا من المدينة والظلام حالك. وبعد هنيهة أشرفا على قباء، فلما أطلت أسماء على خيمة أمها عرفتها من النار المضيئة خارجها، فخفق قلبها مخافة أن يكون قد وقع في أثناء غيابها ما يوجب حزنا، فهمزت الجواد فطار بها حتى سبق جواد محمد بثباتها على متنه. ولم يدركا الخيمة حتى خرجت امرأة خادم الجامع لاستقبالهما، فترجلت أسماء عند باب الخيمة وترجل محمد، ثم دخلت وهي تحل عقالها وتنزع العباءة عن كتفيها ودنت من سرير أمها، فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها ونظرت إلى أسماء بلهفة وعيناها تنظران إلى باب الخيمة كأنها كانت تتوقع دخول أحد، وقالت: «أين علي؟»

فخافت أسماء إذا أخبرتها الحقيقة أن تحدث لها حدثا فيزيد مرضها، فقالت لها: «إنه آت يا أماه.» واغرورقت عيناها بالدموع.

وذهب محمد في أثر أسماء يتفرس فيها على نور المصباح فلما نزعت عقالها رأى شعرها من الوراء طويلا مسترسلا، ثم نزعت العباءة فبان رداؤها الأرجواني اللامع وهو عبارة عن قفطان من الديباج عليه منطقة من جلد عريضة تعودت لبسها في السفر فتحقق أنها فتاة، فشعر بإعجاب غريب. ولم يبق بعد ذلك إلا أن ينظر إلى وجهها، فأسرع في أثرها حتى دنا من السرير فاعترضه منظر والدتها، وحالما وقع نظره عليها هاله نحولها وفرط سقمها وامتقاع لونها وشخوص عينيها، ولكنه التفت إلى أسماء فإذا فيها فضلا عن الجمال هيبة وجلال كأنما هي ملكة وجبار معا، فلم يتمالك عن الإعجاب بها والانعطاف إليها وأحس بإحساس غريب نحوها. •••

أما هي فقد كانت في شاغل عن حاله بما هي فيه من القلق على أمها، وكانت قد اطمأنت قليلا لما رأتها منتبهة وقد ندمت على عودتها بغير علي، ولكنها أيقنت أن مجيئه لم يكن ممكنا والناس في انتظاره عند منزله على تلك الصورة. ثم حولت وجهها نحو محمد وعيناها شاخصتان إليه لا تتحركان إلا تكلفا فلم تتفرس فيه إلا قليلا حتى تساقطت دموعها على خديها. فلما رآها محمد تبكي انفطر قلبه، فخاطب المريضة قائلا: «كيف أنت يا خالة؟»

فقالت: «ابن أبي بكر؟»

فلما سمع قولها اقشعر جسمه، وابتدرها قائلا: «أجل إني هو، ماذا تأمرين؟»

قالت: «أين هو علي؟» قال: «قد بعثني لأنوب عنه لأنه في شاغل مهم، فأمري بما تريدين.»

قالت: «لا أريد أحدا غير علي، أدركوني به. لا أريد أحدا سواه.» قالت ذلك وظهر الكدر في وجهها.

فعجبت أسماء لما سمعت أمها تقول «ابن أبي بكر»، وشعرت عندما سمعت اسمه من فمها بارتياح إليه، ولكنها تململت لإصرارها على استقدام علي فقالت لها: «ألا تزالين تطلبين عليا؟»

قالت: «نعم لا أزال أطلبه، أدركوني به فإن في نفسي سرا لا أبوح به إلا له، أدركوني به قبل انقضاء أجلي.»

فنظرت أسماء إلى محمد نظرة استحثاث أثرت فيه تأثيرا غريبا، وشعر كأن نظرها اخترق صدره حتى وقعت سهامه في قلبه فنهض للحال وقال لأسماء: «إذا لم يكن بد من استقدام علي فإني ذاهب لاستقدامه.» وخرج فامتطى جواده وهمزه نحو المدينة وعزم على ألا يعود إلا بعلي.

وخرجت أسماء تنظره فسمعت وقع أقدام جواده يخترق السهل، وتذكرت يزيد فبحثت عنه فإذا هو نائم في خيمة أخرى لا يبالي شيئا فلم تكترث له.

وعادت إلى سرير والدتها وقلبها يخفق خوفا عليها، فإذا هي قد غيرت وضعها فتحولت إلى جنبها الآخر وأطبقت أجفانها بعض الإطباق أو هي أرختها، وعيناها مفتوحتان على كيفية لم تعهدها فيها من قبل، ورأت حدقتيها قد جمدتا وشخصتا فخافت من منظرها ونادت العجوز وكانت قد خرجت لحاجة فقالت لها: «ما بال أمي قد غيرت وضعها؟ وما لي أرى عينيها شاخصتين جامدتين؟!»

فبغتت العجوز وقد أيقنت أن المريضة في حالة النزع وبخاصة حين رأت كتفها يختلج وتنفسها يسرع، فامتقع لون العجوز وظهر الخوف عليها، فأدركت أسماء خوفها فصاحت بها: «ما بالك خائفة، لعل أمي في خطر؟!»

فقالت: «عسى ألا يكون خطر يا ابنتي، والاتكال على الله.» وخرجت مسرعة.

فاضطربت الفتاة وأمسكت بيد والدتها فجستها فإذا هي باردة جافة، ونظرت إلى عينيها وقد غارتا في تجويفهما وذهب لمعانهما، فارتعدت فرائصها وخافت خوفا شديدا وأسرعت إلى باب الخيمة لتستقدم العجوز.

وفيما هي تتحول شهقت أمها شهقة عنيفة، فأجفلت وعادت إلى السرير وهي تحسبها تتكلم فانحنت عليها وقبلتها في جبينها فإذا هو بارد جاف، فاقشعر جسمها وازداد خفقان قلبها واصطكت ركبتاها، ولم تكن رأت ميتا قبل ذلك الحين، فنادت العجوز فأتت، فجعلت أسماء تنظر إليها وتتبين عواطفها فرأتها في وجل فازداد خوفها. فأعادت النظر إلى وجه والدتها فإذا هي فاتحة فاها وقد برز فكاها واتسع شدقها وسكن اختلاج صدرها وبرز أنفها واستطال واصفر لونها، فنظرت أسماء إلى العجوز فرأتها قد خرجت من الخيمة فتبعتها فإذا هي تنادي يزيد وصوتها مختنق، فتحققت وقوع القدر.

فعادت إلى السرير وصاحت: «أماه! أماه!» ولا من مجيب، فدقت يدا بيد ولطمت فإذا بالعجوز عائدة وهي تلطم وتقول: «حلي شعرك يا ابنتي إن أمك ماتت! وا حسرتاه!»

فحلت أسماء شعرها وأخذت تصيح وتلطم وجاءتها العجوز برماد لطخت به رأسها، وكان يزيد قد أفاق فجاء وأخذوا في العويل والنوح، فتجمع أهل القرية على صياحهم وعلا البكاء. ولم يفعل أحد منهم فعل أسماء فإنها كادت تقتل نفسها لفرط البكاء والندب واللطم، وعبثا كانوا يخففون عنها فكم ألقت نفسها فوق والدتها وتوسدت جثتها وأخذت في تقبيلها وهي تقول: «لمن تركتني يا أماه؟! ولمن أشكو همي بعدك؟! ومن يخبر عليا عن السر؟! ومن يحمينا من غدر الخائنين؟! آه من الزمان! لعل أجلك قد ساقنا إلى هذه الصحراء لتدفني فيها، ما النفع من بقائي بعدك وقد أصبحت وحيدة يتيمة لا سند لي ولا معين؟!»

وأما يزيد فكان يتظاهر بالبكاء ولا تذرف له دمعة.

وفيما هم في ذلك سمعتهم أسماء يقولون: «جاء علي»، فصاحت صيحة ارتج لها المكان وقالت: «لقد أبطأت يا أبا الحسن، إن أمي ماتت ومات سرها معها!» ثم نظرت إلى أمها وكانوا قد غطوها بالملاءة وقالت لها: «قومي يا أماه احسري نقابك فقد جاء علي، قومي إليه وأطلعيه على سرك، وقومي وأشفقي على ابنتك!»

أما علي فترجل وقد شغله أمر الفتاة عن الالتفات إلى الميتة، وكانت أسماء قد توردت وجنتاها وذبلت عيناها وتكسرت أهدابهما لما انسكب منهما من الدموع. ومما زادها هيبة ووقارا استرسال شعرها الأسود على ظهرها وصدرها وحول كتفيها وقد غطى معظم وجهها، ناهيك بانكسارها وذلها من الحزن واليأس فإنهما يزيدان الجمال جاذبية. وكان أكثر الناس تأثرا من منظرها محمد بن أبي بكر، فإنه لم يتمالك نفسه عن البكاء لما لقيه من الفشل في مهمته، وقد أنهك جواده سوقا واستحث عليا على القدوم رغم ما كان فيه من المشاغل ووعده بالاطلاع على سر عظيم، وظن نفسه قد عاد ظافرا فرأى الفشل ينتظره.

وحالما وقع نظر علي على أسماء شعر بانعطاف نحوها وتوسم في طلعتها ملامح ارتاح إلى التفرس فيها، فحمل ذلك الانعطاف على محمل الشفقة لما رآه من تعاسة تلك الفتاة، وندم ندما شديدا لتقاعده عن المجيء معها وأحس بأن عليه مواساتها جهد طاقته، فوقف وقفة معتبر لمصير الإنسان ثم أجال بصره في الناس وهم سكوت يسمعون وقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن بصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته. انظروا إلى هذا الميت فقد قبض بصره كما قبض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله لا يسعد باكيا ولا يجيب داعيا. اعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قضى قبلكم ممن كانوا أطول أعمارا وأبعد آثارا، فأصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وديارهم خالية وآثارهم فانية، وأقاموا بمنازل شيدت بالتراب، أهلها لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى؟!»

وكان علي يتكلم والدموع تتساقط من عينيه هادئة تنحدر على لحيته، فأعجب محمد لما آنسه من ذلك البطل من الحنان، وأشد الحزن ما يبكي الرجال.

أخذ علي يخفف عن أسماء وكانت جالسة الأربعاء فاقترب منها وأمسك بيدها وقال لها: «اصبري يا بنيتي، إن الحزن والبكاء لا يجديان، إن أمك قد سبقتنا إلى دار اللقاء الأخير. وأما ما تذكرينه من اليتم فلا تخافيه لأن الله كفيل باليتامى، واتخذيني لك أبا وألقي همك بعد الله علي، واصبري إن الله مع الصابرين.»

فنهضت أسماء وقد سقط منديلها من يدها، فمسحت دموعها بكمها المسترسل من معصمها فعلقت أزراره بشعرها فانحسر بعضه عن وجهها فأطرقت خجلا، وأجابت عليا وصوتها مختنق وقالت: «شكرا لك يا رجل المسلمين ووصي خاتم النبيين على مواساتك، وسمعا وطاعة في مرضاتك. وإن أمي هذه (قالت ذلك وأشارت إليها وقد خنقتها العبرات) فاضت روحها وهي تذكر عليا وتناديه وفي صدرها سر أبت أن تبوح به إلا له، فها قد ذهب سرها معها ويا ليتها باحت به، أو ليتني ألححت عليك بالقدوم! ولكن ما الحيلة وقد قضي الأمر؟!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء متهيبة مجلس علي.

أما محمد بن أبي بكر فلا تسل عما خالج قلبه، وما أحس به من الميل الشديد إلى أسماء، حتى شعر بأن المصيبة واقعة عليه، ولم يدر كيف يعزيها أو يخفف عنها، وتمنى لو بقي معها لمواساتها إلى ساعة الدفن. وإذا بعلي يناديه فلباه، وقال له علي بعد أن انتحى به ناحية: «لا أرى ثم ما يدعو إلى بقائي هنا وقد ماتت حاملة السر»، فقال: «أجل يا عماه، إنك مشغول بأمر الخليفة. وقد أسفت على مجيئك بلا فائدة»، فقال علي: «إني إذن ذاهب. وأوصيك بأهل هذه الميتة خيرا، وانظر فيما يحتاجون إليه، فإذا تم الغسل والدفن فأوصل الفتاة وأباها ومن معها إلى مقرهم، وإذا رأيتهم في حاجة إلى الإنفاق فادفع إليهم ما يحتاجون إليه. على أني لا أرى أبا الفتاة حزينا إلا بالانقياد!»

فقال محمد: «سر في حراسة الله! إني فاعل كل ما تأمرني به، ولكنني آسف لضياع السر فإنه لا يخلو من أمر»، فقال علي: «إني أفكر في ذلك ولا أرى بابا لحله.»

ثم التفت إلى يزيد وناداه، فجاء ووقف بين يديه وهو لا يستطيع النظر إليه إلا خلسة، فلما رأى علي مسارقته النظر ورفرفة أجفانه وتردد بصره كأنه يرى ما يبهره تحقق أن الرجل مراء يضمر غير ما يظهر، لأن من سلمت سريرته وأخلص نيته كان بصره ثابتا صافيا مثل قلبه، وأما المرائي المخاتل فلا يستطيع تثبيت نظره في مخاطبه كأنه يفكر في حيلة يخترعها. ونظر علي إلى يزيد فعرف أنه أموي فقال له: «اصبر يا أخا أمية، إنك بليت بما يبلى به كل ابن أنثى ولا حيلة إلا الصبر.»

فتظاهر يزيد بالبكاء، فقال علي: «لقد أوصيت بكم محمدا ليتولى قضاء حوائجكم ويواسيكم، وإذا نزلتم المدينة نزلتم في حمانا.»

فشكر يزيد وأثنى وهم بتقبيل يده. ثم تقدم علي إلى أسماء وهي تبكي فعزاها وقال لها: «إن محمدا باق لمواساتكم»، فأجهشت ولسان حالها يشكره. فخرج علي وهو يقول لمحمد: «إني لأعجب مما بين هذه الفتاة وأبيها من البون الشاسع فكأنها ليست ابنته!» ثم امتطى جواده وودع وسار قاصدا المدينة.

أما محمد فأمر خادم الجامع بإحضار من تقوم بالغسل والدفن، ثم افتقد يزيد فلم يجده بين الناس فعجب لغيابه، وظنه بادئ ذي بدء قد ذهب لحاجة له، فلما طال غيابه ارتاب في أمره حتى إذا انفلق الصبح رآه بين الناس، فلم يسأله عن سبب غيابه لئلا يكون في السؤال تطفل. ثم غسلوا الميتة وصلوا عليها ودفنوها، وأسماء لا تنفك عن البكاء والنحيب. •••

فلما عادوا من الدفن اقترب محمد بن أبي بكر من يزيد وسأله عما يحتاج إليه، فبالغ هذا في الثناء والشكر، فسأله محمد: «أتريدون الذهاب إلى المدينة فتنزلوا علينا، فإن عليا أوصانا بكم خيرا؟»

قال: «لقد تفضلتم علينا بما لا طاقة لنا على شكره، ولا نشك في كرم مولانا أبي الحسن وحسن وفادته، ولكن لنا أهلا في المدينة لا بد من النزول عليهم، نخشى إذا نزلنا على غيرهم أن يعدوا ذلك منا امتهانا لهم، ولكننا في حمى أبي الحسن أنى ذهبنا.»

فعجب محمد لما آنسه من تلطفه، وكاد يحسن ظنه به فسأله: «وأين يقيم أهلكم يا عم؟»

قال: «يقيمون بقرب الزوراء سوق المدينة.»

وكانت أسماء أثناء الحديث جالسة تسمع ما يقولان وهي مطرقة حزنا وانكسارا وقد غطت رأسها بخمار أسود زادها هيبة وجمالا، فلما ذكر أبوها محل إقامته قال محمد وهو ينظر إلى أسماء: «إذن عسى ألا تنسونا، ومهما يعن لكم من الأمور فإني رهن إشارتكم لأن عليا حفظه الله أوصاني بكم خيرا.» وتطلع إلى أسماء فرأى الدمع يقطر من بين أهدابها وينحدر وهي مطرقة، فازداد عطفا عليها وحنوا.

قال يزيد: «إننا أبدا عبيد إحسانكم، فإذا أصابنا شر لجأنا إليكم ذاكرين حسن صنيعكم العمر كله.»

فقال محمد: «ألا تحتاجون إلى دواب تحمل أمتعتكم؟»

قال: «إن دوابنا ما زالت عندنا، وقد بعث إلينا أقرباؤنا خدما يساعدوننا في الحمل والنقل.»

ثم نهض محمد فنهض يزيد وأسماء لتوديعه، وتذكرت أسماء أن أمها عرفته وذكرت اسمه على فراش الموت، فنظرت إليه والدمع يتلألأ في عينيها وقد ذبلتا وتكسرت أهدابهما وتنهدت ولم تجب، فحياها وتحول إلى جواده فركب وعاد إلى المدينة وقد علق ذهنه بأسماء واشتغل قلبه بها.

أما ما ظهر في حديث يزيد من الرقة فقد اصطنعه تنفيذا لتعاليم مروان، وكان قد ذهب إلى المدينة خلسة ليستشير مروان فيما يصنعه إذا طلب إليه النزول في جوار علي، وأبدى خشيته من أن يكون هذا عقبة في سبيل زواجه من أسماء بعد أن توفيت أمها التي كانت عونا لها على رفض هذا الزواج. وقد لقي مروان في منزل الخليفة عثمان فأنبأه بوفاة مريم، واستشاره فأوصاه أن يحتال في التخلص من محمد، وعلمه كيف يشكر ويعتذر بالنزول عند أقاربه.

وكانت أسماء خالية الذهن من كل ذلك لسلامة نيتها واشتغالها عن الدنيا بأحزانها، ولكنها شعرت بارتياح إلى علي ومحمد وبأنهما سند عظيم لها إذا آنست من مروان أو يزيد ما لا يرضيها.

ولم يكد محمد يتوارى عن قباء حتى أمر يزيد عبيدا كان مروان قد أرسلهم لخدمته فقوضوا الخيام وحملوا الأمتعة، وسار الركب إلى المدينة بعد أن ودعت أسماء قبر أمها وأكرمت خادم الجامع وامرأته فوق ما أكرمهما به محمد فودعاها وهما يبكيان.

فلما أشرفوا على المسجد تذكرت أسماء لقاءها عليا هناك، وما كان من اضطرابها وقلقها في الليل الغابر، وتاهت في بحار التأمل، ولم يهمها شيء من ضوضاء أهل المدينة وتجمهرهم في أسواقها. وقبل وصولهم إلى المسجد مروا بأحجار الزيت، وهي موضع صلاة الاستسقاء بقرب الزوراء، فرأوا الناس هناك جماعات متكاتفين وهم أخلاط من أهل مصر والكوفة والبصرة، وفيهم الأمراء والفرسان والعبيد والخدم على اختلاف أزيائهم، وكل حزب في شاغل وحديث وجدال. وبلغوا دارا وراء الجامع فناؤها واسع يحيط به سور منيع، ولها باب ضخم في وسطه باب صغير، وكان الباب مغلقا والحراس واقفون به، فعلمت أنها دار عثمان. ولم يتجاوزوها حتى وصلوا إلى باب وقفوا عنده، فترجل يزيد هناك فعلمت أنه المنزل المقصود، فترجلت وقد أنهكها التعب والنعاس لما قاسته من المجاهدة والبكاء والحزن. ولكنها لم تكد تدخل المنزل حتى لقيها مروان، فلما رأته استعاذت بالله وندمت على مجيئها، على أنها لم تر بدا من النزول مع يزيد. فلما رآها مروان وقد تسربلت بالثوب الأسود وبدا تحته وجهها وقد زاده انكسار الحزن جمالا وإشراقا، ازداد تعلقه بها فتقدم نحوها مسلما ومعزيا، فردت عليه ردا فاترا، أما هو فبالغ في إكرامها وسار في خدمتها إلى داخل الدار، وكان بعض نساء المنزل قد جئن لاستقبالها فدخلن بها حجرة ويزيد معها، وهي لا تنطق بكلمة وإذا كلمها أحد لم يكن جوابها إلا البكاء. ولما خلت إلى يزيد سألته عن أهل ذلك المنزل فقال: «هؤلاء آل حزم.»

ورأى مروان من الحكمة أن يتركها لتستريح فخرج يتدبر وسيلة لاسترضائها بالحسنى، فخطر له أن يوسط بينه وبينها نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة، وكانت نائلة ذات مقام رفيع لزواجها بالخليفة، على أنها لم تكن من قريش بل قحطانية من بني كلب، وكان والدها من الفرافصة نصرانيا يقيم بالكوفة. وكانت عاقلة حسنة الخلق، ولم تكن ترتاح إلى مروان لنزقه وطيشه، وكثيرا ما كانت تخالفه فيما يشير به على عثمان زوجها حتى انتهرته مرارا ونصحت لزوجها بألا يصغي إليه، ولكنها لم تكن تبالغ في جفائه احتراما لقرابته منه.

فسار مروان إليها وكان في اضطراب عظيم لما أحاط بزوجها من الأخطار، فلما رأته قالت: «ما وراءك يا مروان؟» قال: «ما ورائي إلا الخير يا خالة، إني أراك في وجل من أمر هؤلاء الناس الذين يحاولون نزع الخلافة من أيدينا، ورأس ذي النورين عثمان إنهم لن ينالوا ذلك! فقد كتبنا إلى معاوية في الشام، وإلى عامر ورؤساء الأجناد من بني أمية نستقدمهم إلى نجدتنا، فإذا جاءوا لم يستطع المصريون أو الكوفيون أو البصريون مناوأتهم، فيتفرقوا أيدي سبا.»

فتنهدت نائلة وقالت: «لا أظنهم يصلون إلينا يا مروان إلا بعد أن تنفد الحيلة، والتبعة كلها عليك فإنك وسعت الخرق بطيشك.»

فضحك مروان وقال: «سوف ترين بعينك يا خالة مساعي مروان، وسوف تعلمين مدى فشل هؤلاء الأعداء المغرورين. فلا تجزعي ولا تخافي، إننا نحن الفائزون بإذن الله.»

قالت: «دعنا من الهزل يا مروان، إن الأمر جلل.»

قال: «بل هو أهون مما تظنين، وما أنا حاسب له حسابا، ومما يدلل على ذلك أني بسبيل البناء بعروس جميلة جئت بها إلى هذا المكان.»

قالت: «وأية عروس؟» قال «أسماء بنت يزيد الأموية، إنها على جانب عظيم من الجمال وقد كانت في دمشق، وكانت أمها راغبة عن تزويجها وقد ماتت في قباء. وجئت بالعروس وأبيها اليوم وأنزلتهما في دار بني حزم، وهي الآن نائمة تستريح من وعثاء السفر، فأرجو منك إذا جاءتك غدا أن تقنعيها بأني كفء لها.»

فقالت: «أين نحن من الزواج يا غلام؟»

قال: «لا تقولي يا غلام وأنا شاب بطل كما تعلمين! وأستحلفك برأس أمير المؤمنين أن تسترضيها، وهي لا شك ستقتنع بكلامك، فإذا فعلت ذلك فديتك وفديت عمي الخليفة بروحي.»

فسكتت نائلة وهي تعجب لنزق مروان، ولكن استخفافه بمناهضي الخليفة طمأنها وبرد قلبها. وما زال مروان بها حتى وعدته باسترضاء أسماء.

فتركها وخرج إلى يزيد فأخبره بما عزم عليه، ففرح وقال: «حسنا فعلت، وأرى أن آتي بها أنا إلى نائلة فيكون ذلك أقرب إلى نجاحنا.»

فقال مروان: «وهب أنها لم تقنع باسترضاء نائلة لها، فإني أحمل الخليفة على تزويجي بها قسرا، وما أنا براجع عن عزمي فإنها فتاة تعرف ما ينفعها وما ينفع أباها.» وقد أراد مروان بذلك أن يؤكد آمال يزيد بمنصب يناله بواسطة تلك المصاهرة.

فأبرقت أسرة يزيد وقال: «طب نفسا يا بني، فإني لن أجعلها إلا ما أريد.»

فودعه مروان وخرج، وباتت أسماء تلك الليلة لا تدري بما بيتاه لها.

الفصل الثالث

نائلة بنت الفرافصة

وفي الصباح التالي أفاقت أسماء وقد رأت أمها في الحلم فبكت بكاء مرا، ولم تكد تجلس بفراشها حتى دخل يزيد وهم بتقبيلها والرياء ظاهر في وجهه، فلم تطاوعها نفسها على تقبيل يده فلبثت في الفراش صامتة كئيبة لا تبدي حراكا.

فقال لها يزيد: «انهضي يا ابنتي واغسلي وجهك وهيا بنا لتحية مولاتنا نائلة زوجة أمير المؤمنين، ولا ريب أنها ستعزيك في أحزانك.»

فقالت: «دعني وحدي وأغلق الباب فليس في الدنيا ما يعزيني.»

قال: «انهضي يا حبيبتي فإن الحزن يضنيك ولا خير فيه، وهبي أنها لا تستطيع تعزيتك فالذهاب إليها فرض لأننا في حماها»، وما زال بها حتى أنهضها. وفيما هي تتحفز للقيام دخل رجل فاستقبله يزيد قائلا: «أهلا بأبي الجراح»، فبغتت أسماء لرؤيته فابتدرها يزيد قائلا: «إنه مولى مولاتنا أم حبيبة وأظنه جاء في طلبك»، فقال أبو الجراح: «إن مولاتنا تدعوك إليها وقد علمت بما أصابك وبنزولك عند آل حزم، فبعثتني وجارية حبشية لنأتي بك إليها.»

فعجبت أسماء لهذه الحفاوة وشكرت تلك العناية ونهضت فلبست ثوبها وسرحت شعرها وعقصته وأرسلته إلى الوراء وأرخت الخمار على رأسها وتزملت بالرداء الأسود، وخرجت والجارية معها ودخلت من باب موصل بين الدارين حتى بلغت دار عثمان، فرأت فيها ما يليق ببيوت الخلفاء من الطنافس والأستار ونحوها، ولقيت في باحتها كثيرا من الجواري والغلمان فمشت حتى أتت حجرة نائلة.

فلما سمعت نائلة وقع أقدامها تحفزت للقائها، فلما دنت أسماء تنسمت رائحة الطيب، وسمعت وسوسة أساور نائلة ودمالجها وعقودها وهي تتهيأ للوقوف، فدخلت واستقبلتها نائلة وقد أعجبت بجمالها وهيئتها، فهمت بها وضمتها إلى صدرها وهي تقول: «أهلا بضيفتنا، أهلا بابنتنا العزيزة.»

فلما سمعت أسماء ذلك غلب عليها البكاء ولكنها تجلدت وقبلت يدها وجلست إلى جانبها، وخرجت الجارية وبقيتا في الغرفة وحدهما وأسماء لا تتكلم.

فهمت نائلة بمداعبتها فقالت: «أهلا بابنتنا الجديدة، ومرحبا بها.»

فشرقت أسماء بدموعها وقالت: «دعيني يا مولاتي أبكي أما حنونا فقدتها وارفقي بحالي.»

فأثر هذا الكلام في نائلة تأثيرا عظيما وترقرقت الدموع في عينيها وقالت: «إني شريكتك في أحزانك يا حبيبتي، أما ترضينني بدلا من أمك؟»

فأجابت: «إن في هذا أكبر تعزية لي على مصابي.» وتأوهت نائلة لتأوهها وقالت: «اصبري يا بنيتي على مصابك ، فالحزن لا يجديك.» ثم أمرت بالمائدة فمد السماط فاعتذرت أسماء عن الطعام، فألحت نائلة عليها فتناولت منه شيئا، ثم أخذت نائلة تحادثها في شئون شتى حتى هدأ روعها، وجعلت تتأملها وتعجب لجمالها فإذا هي لا تشبه أباها في شيء وكانت قد رأته عندما جاء معها.

وكانت أسماء في أثناء ذلك مطرقة غارقة في بحار الهواجس، فقالت نائلة: «ما بالك صامتة؟ تكلمي يا أسماء واشغلي نفسك عن الحزن لعلك تتعزين.»

قالت: «لا أرى شيئا يعزيني في هذه الدنيا يا مولاتي، ولا يحلو لي الكلام، وأحمد الله لما لقيته من مواساتك فقد استأنست بك كثيرا وشعرت بحنوك حنو الأم على ولدها.» قالت ذلك وهي تمسح دموعها وتشهق بالبكاء.

فتأثرت نائلة وأبقت الحديث في شأن مروان إلى فرصة أخرى، وأحبت أن تسليها عن الحزن فدعتها لمشاهدة ما في بيتها من الأثاث، وأكثره من الطنافس والسجاد والأواني مما غنمه القواد في فتح الشام والعراق من قصور الملوك والبطارقة وأغنياء الروم والفرس، وفيها أسلحة مرصعة وأعلام ودروع وآنية من الفضة والذهب من غنائم المدائن عاصمة الفرس على عهد عمر بن الخطاب، وبينها تاج كسرى مرصع بالجواهر، وثيابه ووشاحه وكلها من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجواهر، ودرع هرقل، ودرع خاقان ملك الترك، ودرع داهر ملك الهند، ودرع النعمان بن المنذر، وكثير من الأسياف المرصعة، وأدركت أسماء من تكومها بعضها على بعض بلا تنظيم أنها لم توضع لأجل الزينة. ثم خرجت نائلة بها إلى غرفة صغيرة رأت فيها أريكة وعليها جواد من ذهب فوقه سرج من فضة، وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد وعلى الجواد فارس من فضة مكلل بالجواهر. وبالقرب من الجواد ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب. فانبهرت أسماء لتلك التحف التي لم تر مثلها ولكنها علمت لأول وهلة أنها ليست من صنع بلاد العرب.

فقالت: «ومن أين هذه التحف يا سيدتي؟»

قالت: «إنها من غنائم المسلمين مما فتحوه من بلاد الفرس، وهي من متاع بيت المال وإنما نقلناها إلى هنا لأمر اقتضى ذلك وسنعيدها إليه، فأحببت أن أريكها لأنها من أبدع ما صنع ولا نظن الزمان يأتي بمثلها.»

فقالت أسماء: «لقد عرفت فائدة التيجان والسيوف والدروع، ولكنني لم أفهم فائدة هذا الجواد والناقة؟»

قالت نائلة: «أخبرني بعض من شهد فتح المدائن من أمرائنا أنهم لما فتحوها ودخلوا إيوان كسرى رأوا في صدر الإيوان الأريكة التي كان تاج هذا الملك قائما فوقها، وعلموا أنه كان مركزا على أسطوانتين من المرمر المذهب وعلى قمة إحدى الأسطوانتين هذا الجواد وراكبه، وعلى قمة الأسطوانة الأخرى هذه الناقة وراكبها، وكان الفرس قد نزعوا هذه وحاولوا الفرار بها فظفر بهم المسلمون وأخذوها منهم.»

فأعجبت أسماء بما رأت إعجابا عظيما، وبينما هي تنظر إلى صحن الدار لمحت مروان مارا فأجفلت وانقبضت نفسها وأرادت أن تعود إلى حجرتها متظاهرة بالحاجة إلى الراحة، فودعت نائلة ورجعت فدخلت الغرفة وأغلقت الباب وتوسدت الفراش وغرقت في بحار الهواجس.

أما مروان فكان قد علم بمجيء أسماء إلى نائلة، فأراد أن يعلم ما جرى بينهما فجاء متظاهرا بالرغبة في لقاء الخليفة ثم تحول إلى غرفة نائلة فرآها وحدها، فسألها عما جرى فأخبرته أنها لم تفاتحها في شيء وأنها ستذهب إليها في الغد وترى ما يكون، فألح عليها أن تستطلع ضميرها وتقنعها، فوعدته بأنها ستدعوها في الغد إلى الإقامة عندها. •••

وفي صباح اليوم التالي بكرت نائلة إلى غرفة أسماء، فوجدت الباب مغلقا ففتحته بلا استئذان، فرأت أسماء نائمة وقد أغمضت جفنيها وتوسدت إحدى ذراعيها، وجعلت الأخرى فوق رأسها فانحسر كمها عنها فبان زندها وبانت عروقه مخضرة كأنها خطوط متعرجة رسمها الجمال تحت تلك البشرة الناعمة الغضة، ونمت على كل زند عضلاته واستدارت حتى يخيل إلى ناظره أن الصحة تتدفق منه. وكانت الشمس قد أشرقت فأرسلت أشعتها من نافذة فوق رأس أسماء، فمرت الأشعة حتى اجتازتها ولم تقع عليها، ولكنها جعلت لزندها ظلا خفيفا وقع على محياها فأخفى ظل أهدابها الطويلة. فوقفت نائلة تتأمل ذلك الجمال المحلى بالصحة وهي تحاذر أن توقظها، فلمحت على معصمها وشما على شكل الصليب فاستغربت ذلك لعلمها أنها مسلمة ولا يتخذ ذلك الوشم غير المسيحيين، فتأملت فيه فإذا هو رسم صليب لا ريب فيه، ثم دنت من رأسها فرأت العرق قد كلل جبينها وزادها بهاء وجمالا.

وكأن أسماء أحست بوقوف نائلة إلى جانبها، فغيرت وضعها ورفعت يدها عن جبينها واستلقت على ظهرها فانشق صدر ثوبها، فبان من تحته قلادة من فضة تدلت منها تميمة صغيرة عليها رسوم مسيحية أيضا، فازداد تعجب نائلة واشتد ميلها إلى استطلاع السر. وبينما هي في ذلك إذ رفعت أسماء يدها إلى عينيها فمسحتهما فرأت نائلة واقفة عند رأسها، فخجلت لنومها بين يديها ونهضت بعد أن أرسلت كمها فوق معصمها وأطبقت صدرها، فحيتها نائلة فردت التحية وهي تمسح عرقها وتهم بالوقوف، فأقعدتها وقالت: «استريحي يا ابنتي، إني لا أريد إزعاجك ولم آت إلا التماسا لراحتك.»

فأثنت أسماء على معروفها ودعتها إلى الجلوس، فجلست نائلة على جانب السرير وهي ممسكة يد أسماء تنظر إلى رسم الصليب فيها ثم قالت: «لقد استغربت هذا الرسم على معصمك وعهدي بك مسلمة، فهل رسمته على سبيل الزينة؟»

قالت: «لا أعلم، ولا أذكر يوم وشمه لأني كنت طفلة، وقد سألت أمي عنه فلم تجبني.»

قالت: «وما هذه التميمة التي في عنقك؟»

فمدت أسماء يدها إلى التميمة فأخرجتها من بين ثوبها وقالت: «لا أدري من ألبسني هذه أيضا»، قالت نائلة: «ولكنها تميمة مسيحية.»

قالت: «لعلها كذلك، وقد لبستها طوعا لأمر أمي فقد أوصتني أن أحتفظ بها منذ طفولتي.»

فلم تعرف نائلة شيئا، وازدادت رغبتها في البحث فقالت: «ألا أخبرتني يا أسماء كيف وصلت إليك هذه التميمة، وكيف رسم على يدك هذا الصليب! أخبريني ولا تخافي فإن النصارى أهل ذمة عندنا، ثم إني ولدت في بيت مسيحي أنا أيضا وكان والدي نصرانيا، فأخبريني أمرك وأنا أعلم أن أباك يزيد مسلم أموي.»

فتذكرت أسماء أمها وكتمانها اسم أبيها الحقيقي فتنهدت وصمتت، فعجبت نائلة لسكوتها وتسترها وقالت لها: «ما بالك صامتة؟! بوحي لي بسرك ولا تخافي فإنك بمنزلة ابنتي عندي.»

قالت أسماء: «بماذا أبوح وأنا لا أعلم من هذا السر شيئا؟ وأعترف أني كنت منذ حداثتي أرى هذا الصليب وهذه التميمة ولا أعلم من أمرهما شيئا.»

قالت: «كيف يكون ذلك؟»

قالت أسماء: «هذا هو الواقع يا مولاتي، ولا أعلم من أمرهما و...» وصمتت.

فقالت نائلة: «قولي يا أسماء ولا تخفي سرك علي.»

قالت: «ماذا أقول وأنا لا أعرف شيئا غير ما ذكرت؟»

قالت: «يظهر لي من ترددك أنك تخفين شيئا آخر.»

فتنهدت أسماء تنهدا عميقا ونظرت إلى نائلة والدموع ملء عينيها، وحاولت الكلام فخنقتها العبرات فسكتت.

فضمتها نائلة إلى صدرها وقبلتها وهي تزداد إعجابا بإشراق طلعتها وقالت: «قولي يا بنيتي، قولي ما في نفسك وثقي أني حافظة سرك عن كل إنسان.»

فمسحت أسماء دموعها، وتنفست الصعداء وقالت: «ماذا أقول لك يا خالة؟ إن سؤالك جدد أحزاني وأذكرني أمي المسكينة!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.

فمسحت نائلة دموعها وقالت: «رحم الله تلك الأم الحنون! فإنها قد خلفت لنا ملاكا كريما. قولي ما هو سرك.»

قالت: «إن سري يا سيدتي قد ذهب إلى القبر مع أمي.» قالت ذلك وأوغلت في البكاء.

فقالت نائلة: «هل كانت أمك تخفي السر عليك وماتت قبل أن تبوح به؟»

قالت: «نعم، ماتت وخلفت لنا حرقة فراقها، وزادت تلك الحرقة لوعة بكتمانها سرا ذهب معها إلى القبر، ولكنها ...»

قالت: «ولكنها ماذا؟» قالت: «ولكنها أخبرتني أن يزيد الذي يزعم أنه أبي ليس هو كذلك في الحقيقة.»

فبغتت نائلة، وتذكرت أنها حدست ذلك مذ رأته فقالت: «لقد شككت فيه، فأخبريني عما تعلمينه من تاريخ حياتك لعلي أستنتج شيئا.»

فقالت: «لقد ربيت في دمشق الشام منذ طفولتي، وقد كفلتني أمي المسكينة وزوجها يزيد هذا معها، وكنت أظنه أبي ثم علمت أنها تزوجته في مصر على أثر قدوم عمرو بن العاص إليها، وكان يزيد في جنده يوم الفتح، فكانت أمي نصيبه من الغنيمة، وكنت أنا يومئذ في العام الأول من عمري. هذا كل ما أعلمه، وقد ألححت على والدتي أن تصدقني الخبر فوعدتني ثم سبقها أجلها.»

فبهتت نائلة وظلت صامتة برهة تفكر وأغلق الأمر عليها.

وفيما هما في ذلك إذ سمعتا وقع أقدام مسرعة أمام الباب، فالتفتتا فإذا يزيد قد دخل مسرعا وعلى وجهه أمارات البغتة، فلما رأى نائلة تأدب في وقوفه وحياها، فقالت: «ما وراءك يا أخا أمية؟»

قال وعيناه لا تستقران وأجفانهما ترف: «ما ورائي إلا الخير يا مولاتي.»

قالت: «قل ما وراءك؟»

قال: «خرجت في هذا الصباح في شأن لمروان، وعدت الآن فلم أستطع الدخول إلى المنزل إلا خلسة!»

فنهضت نائلة وقد خفق قلبها وحدثتها نفسها بسوء كانت تتوقعه وقالت: «ما الذي منعك من الدخول؟!»

قال: «عصبة تجمهروا على منزل أمير المؤمنين بخيلهم ورجلهم وقد علا ضجيجهم، ولا أدري ما يبيتون.»

فبغتت نائلة وقالت: «وماذا يبغون يا يزيد؟ قل»، قال: «لا أدري يا سيدتي، ولعلهم يضمرون الشر.»

فخرجت نائلة مهرولة وبدنها يترجرج لضخامة فخذيها وأسماء في أثرها وقد نسيت حزنها واشتدت عزيمتها، حتى دخلتا دار عثمان وتحولتا إلى أول حجرة تشرف على الطريق، فأطلتا فرأتا الناس جماعات وقد تجمهروا بأسلحتهم وخيولهم وعلا صياحهم، فاضطربت نائلة وامتقع لونها وأخذ الخوف منها كل مأخذ.

أما أسماء فبقيت رابطة الجأش وجعلت تشجعها وتقول لها: «لا تخافي يا سيدتي، فإنهم لا يستطيعون الدنو من الدار فهي محاطة بهذا السور العالي، وإذا هم هموا بتسلقه فإننا نرميهم بالنبال والحراب.»

فعجبت نائلة من شجاعة أسماء ورباطة جأشها، وكأنما سرت إليها عدواها فأمسكتها وتوجهت تقصد غرفتها.

وبينما هما في صحن الدار إذ سمعتا لغطا ورأتا هناك نفرا من المهاجرين يهمون بالدخول إلى الدار، وحالما وقعت عينا نائلة عليهم همست في أذن أسماء كلاما يتخلله ارتعاش وقالت: «هؤلاء كبار الصحابة قد أتوا، ولا أدري غرضهم من أمير المؤمنين!» ونظرت أسماء إليهم فرأت عليا بينهم فحدثتها نفسها بأن تكلمه، فجذبتها نائلة وسارت بها إلى أقرب حجرة هناك التماسا للحجاب، وأغلقت الباب فإذا هما في حجرة بينها وبين مجلس عثمان باب مقفل، ونائلة ممسكة بيد أسماء فأحست هذه بارتعاش أناملها فقالت لها: «ما الذي أخافك يا خالتي؟»

قالت نائلة بصوت متهدج: «أخافني مجيء هؤلاء، فإنهم قلما جاءونا إلا لتأنيب أو تهديد»، قالت: «ومن هم؟»

قالت: «علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وهم وجوه الصحابة ومن الطامعين في الخلافة وكل يريدها لنفسه، وما زلنا منذ تولاها أمير المؤمنين لا يهدأ لنا بال مما يتهمونه به من الأعمال. أرأيت إلى الناس المحيطين بمنزلنا الآن؟ هؤلاء أهل الكوفة والبصرة جاءوا يطالبون الخليفة بأمور ما أنزل الله بها من سلطان.»

الفصل الرابع

الفتنة وأسبابها

قالت أسماء «بماذا يتهمونه؟» فدنت نائلة من أذن أسماء وهمست: «يزعمون أنه استأثر بالأمر وآثر آله بمناصب الدولة فولاهم الأعمال دون سواهم، وأنه غنم الأموال الطائلة واقتنى المماليك، وأنه يختص ذوي قرباه بالمال. هذا ما يزعمونه، وما كانوا صادقين.» فنظرت إليها أسماء كأنها تستوضحها.

قالت: «وما هي الحقيقة إذن؟» قالت نائلة: «أما استئثاره بالسلطة فذلك لأنه أمير المؤمنين له الإمامة والسلطان، وأما إيثاره أقاربه فله أسوة بالرسول فقد كان يعطي قرابته، وأما إحراز الأموال والتوسع في المعيشة فإنهما من مقومات هذا المنصب. ثم إن أمير المؤمنين يطعم الناس طعام الأمراء، وأما هو فوالله لقد رأيته يأكل الخل والزيت، أتعدين من يفعل ذلك طامعا في الدنيا؟»

قالت أسماء: «إذن فلماذا هذه الفتنة؟»

فتنهدت نائلة وقالت: «إنهم فعلوا ذلك حسدا، وإني أعرف من زعماء هذه الثورة قوما عاشوا في نعم أمير المؤمنين أعواما ثم وسوس لهم الشيطان. وقد أخبرني ثقة أن الذي حرضهم على ذلك رجل يهودي اسمه عبد الله بن سبأ أسلم حديثا وأخذ يتنقل في الحجاز والبصرة ثم الكوفة والشام، يريد إضلال الناس فلم يصغوا له وأخرجوه من الشام، فأتى مصر وأقام فيها فلقي هناك آذانا صاغية، فجعل يقول لأهل مصر: «العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع!» فوضع لهم بدعة يسمونها «الرجعة» فقبلوا ذلك منه . وقال لهم: «كان لكل نبي وصي، وإن عليا وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله؟» وزعم أن أمير المؤمنين عثمان وثب على وصي الرسول وأخذ الخلافة بغير الحق فقال لهم: «انهضوا بهذا الأمير، ابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.» وبث دعاته، وكاتب أشياعه في الأمصار وكاتبوه، وبثوا دعوتهم في الخفاء وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعون فيها من أقدار ولاتهم، وتوسعوا في دعايتهم فبدأ الفساد من ذلك الحين، فثار المسلمون في كل الأنحاء إلا أهل الشام والمدينة فإنهم ثبتوا على الولاء للخليفة. هذا هو سر الأمر يا ابنتي.»

فتأثرت أسماء واقتنعت بما قالته نائلة، ومالت كل الميل إلى نصرة عثمان. ومشت الاثنتان نحو الباب المقفل بينهما وبين مجلس الخليفة، فنظرت أسماء من شق فيه فرأت عثمان جالسا في صدر المجلس على وسادة مزركشة وقد علته البغتة وامتقع لونه وآثار الجدري لا تزال ظاهرة فيه، وتأملته جيدا فرأته مشرف الأنف عظيم الأرنبة، وقد أدار نظره نحو الدار ويده اليسرى على لحيته يمشطها بأصابعه يتشاغل بها عن قلقه، وخاتم الخلافة في إحدى أصابعه، وفي يده اليمنى قضيب الخلافة، وكان قد نزع عمامته فبانت صلعته. وسمعت في بعض جوانب الغرفة رجلا يقرأ القرآن ولم تره، ورأت بين يدي الخليفة جماعة من أمية لم تعرفهم، ثم سمعت خفق نعال عند باب المجلس وإذا بعثمان يضع العمامة على رأسه ويقف تكريما للقادمين، وكان أول من دخل منهم علي بن أبي طالب فحيا عثمان بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» ثم دخل بعده رجل ربعة أميل إلى القصر، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعا، ضخم القدمين، حسن الوجه أبيضه، مشرب بالحمرة، كثير الشعر ليس بالغزير ولا بالخفيف وقد شاب أكثره فلم يصبغه، فحيا وجلس إلى جانب علي. فالتفتت أسماء إلى نائلة وسألتها عنه فقالت: «هذا طلحة بن عبيد الله.» ثم دخل في أثرهما رجل أسمر اللون خفيف اللحية معتدل العضل، فقالت أسماء: «ومن هذا؟» قالت: «الزبير بن العوام.» ولما استتب بهم المقام قالت نائلة: «اجلسي يا ابنتي لنسمع ما يدور بينهم فعساهم أن يكونوا قد جاءوا لخير.»

فجلستا تنظران وتسمعان ولا يراهما أحد.

بدأ علي الكلام في المجلس قائلا لعثمان: «أتدري لأي شيء جئناك يا أمير المؤمنين؟»

قال عثمان: «الله أعلم»، قال: «يعلم الله أننا جئنا نريد بك خيرا، إنك يا أمير المؤمنين ابن عم الرسول الأعلى، وقد تزوجت باثنتين من بناته، وتلك كرامة لم يحزها أحد سواك. وأنت يا أبا عبد الله من السابقين الأولين، فقد صليت إلى القبلتين، وهاجرت الهجرتين، وأنت أول من هاجر إلى الحبشة، وتوليت الكتابة للرسول، وجمعت القرآن. فأنت يا أمير المؤمنين من خير الصحابة، وقد توفي رسول الله وهو عنك راض وبشرك بالجنة، فلا نرضى أن تكون الأمة ناقمة عليك ولا أن يهموا بخلعك أو قتلك، ونحن نعلم أنهم إذا فعلوا كانت الفتنة نعوذ بالله منها! فتقسم الأمة وتكون العاقبة وبالا عليها.» وكان علي يتكلم وعثمان مطرق يقلب في صفحات مصحف بين يديه، فلما أتم كلامه رفع عثمان رأسه وقال: «إني عالم بكل ذلك يا أبا الحسن. بم يقتلونني وقد سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم

يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق»، وما فعلت شيئا من هذا. وإني أتقدم إليكم أن تشيروا علي.»

فقال علي: «نرى أن تخاطب الناس فإنهم هاجوا وأحاطوا بدارك ناقمين، فقم إليهم وعدهم خيرا.»

قال عثمان: «لقد طالما وعدتهم وأمهلتهم فلم يقنعوا.»

قال علي: «وعدتهم ثم أخلفت، ولا نعد ذلك إخلافا منك ولكنك أصغيت لابن عمك مروان، وهو غلام لا يفقه شيئا، فإذا نحن خرجنا من بين يديك جاءك وأعظم استرضاءك المسلمين وقد فاته أن في استرضائهم قطع دابر الفتنة، فقم إليهم وكلمهم.»

وكانت أسماء تسمع فراقها انصياع عثمان واستبشرت خيرا، ولكنها لما سمعت ذكر مروان اقشعر بدنها.

أما عثمان فقال: «سأقوم وأخاطبهم ولا بأس من هذا، ولكن ما الذي حملهم على هذه الثورة؟ أخبروني إن كنت مخطئا استغفرت لذنبي وأذعنت.»

فابتدره الزبير قائلا: «يقولون إنك استأثرت بالإمارة وجعلتها لنفع أقاربك، وجمع الأموال والاستكثار من الخدم والضياع، فإنك تملك نحو مائة وخمسين ألف دينار وألف ألف درهم نقودا، ومثلها من الضياع، وقد اقتنيت الخيل والإبل، وقد كان الفاروق عمر بن الخطاب يرقع ثوبه بالجلد. وهذا ابن عم الرسول يقول: يا بيضاء ويا صفراء غيري غيري.»

فالتفت عثمان إلى الزبير وقد نشط كأنه شعر بأن الحق في جانبه وقال: «أأنت تقول ذلك يا ابن العوام؟! أتحسبون حشد الأموال ذنبا يستوجب القتل ونحن فيه سواء؟! ألم تستكثر أنت من الأموال؟! ألا تملك خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وألف أمة ما عدا الدور والضياع؟! وهذا طلحة أيضا فإن غلته من العراق ألف دينار في اليوم وعنده ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وهذه داره في الكوفة وتسمى الكناس، وهذا زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من الصحابة عندهم الأموال الوافرة. لعلكم ورثتموها عن آبائكم، أم هي مال حلال لنا جميعا غنمناها في الجهاد بنعمة الإسلام؟»

ثم توجه بقوله إلى الجميع وقال: «إننا نعرف بعضنا بعضا في الجاهلية، وقد كنا نسكن أرضا غير ذات زرع ولا ضرع، وكان فينا أناس يأكلون العقارب والخنافس ويفاخرون بأكل وبر الإبل يموهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه، حتى أنارنا الله بالإسلام واجتمعت عصبية العرب على الدين وطلبنا ما كتب الله لنا من الأرض بوعد الصدق، فابتززنا ملكهم واستبحنا دنياهم. أليس ذلك مالا حلالا لنا؟ فكيف نستحق القتل أو الخلع عليه؟! وأما إعالتي أقاربي فقد كان رسول الله يعطي قرابته. ولكني أراكم قد غرتكم مقالة ابن سبأ.» قال ذلك وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما حتى رقصت لحيته.

فلما سمع علي مقالته أغفل الإشارة إلى ابن سبأ لأنها تتعلق به وقد تسبب نفورا، ولكنه قال: «يخيل إلي يا أبا عبد الله أن سبب هذه الفتنة إنما هو ما ذكرت من استكثار المال فإنه يفرق بين الأب وابنه، وهذا ما حملني على كرهه حتى قلت: «يا صفراء ويا بيضاء، غيري غيري»، فها إنها قد غرتكم. ولكن ما لنا ولهذا الجدال؟! فقد جئنا نطلب حسم الخلاف وهو لا يكون إلا بأن تخطب هؤلاء الناس المحيطين بالدار، ولا آمن أن يجيء ركب آخر من الكوفة والبصرة فتقول: «يا علي، اركب إليهم»، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك.»

فقال عثمان: «إني أول من اتعظ ولا أحب أن يهرق بسببي محجب من الدم.» قال ذلك ونهض وهو يصلح عمامته ويمكن برده على كتفيه والقضيب بيده، وخرج وتبعه علي ورفاقه.

قالت أسماء: «بورك في علي! فإن به صلاح هذه الأمة. وكم أحب أن أسمع الخليفة يتكلم!»

قالت نائلة: «اتبعيني فإن في حجرتي نافذة تطل على المكان الذي يقف فيه أمير المؤمنين.»

فنهضتا ولبثتا برهة ريثما خرج الناس، ثم خرجتا إلى غرفة نائلة وأطلتا من النافذة بحيث تريان وتسمعان ولا يراهما أحد. فرأتا عثمان وقد أشرف على الجموع، فلما رآه الناس علا ضجيجهم ونظروا إليه فقال وصوته يتلجلج: «أيها الناس، إني أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه فمثلي من نزع وتاب. فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا في رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبدا لأستن بسنة العبيد، ولأذلن ذل العبد! وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينكم الرضا، ولأنحين مروان وذويه ولا أحتجب عنكم!»

ولم يتم كلامه حتى اختنق صوته وترقرقت الدموع في عينيه، فبكى كل من سمعه.

وكذلك بكت نائلة وأسماء، وبينما هما خارجتان سمعتا وقع أقدام آتية إلى الغرفة، ثم رأتا عثمان داخلا وقد امتقع لونه واضطرب. فلما رأته أسماء همت بالخروج حياء فدعتها نائلة للسلام عليه، فتقدمت إليه وهي مطرقة إجلالا وهمت بتقبيل يديه فحياها وهو يتأمل جمالها وهيبتها، ثم نظر إلى نائلة مستفهما فقالت: «إنها ضيفة عندي يا أمير المؤمنين، وأحمد الله على أن قدومها كان خيرا فقد قضي الأمر.» فتنهد وهو يبحث عن وسادة يجلس عليها، فلما جلس دعاهما للجلوس فجلستا وهو لا يزال يتفرس في أسماء وقد استغرب لباسها الأسود، وقال: «ما لي أراها في السواد؟»

قالت: «لأنها فقدت أمها بالأمس وهي قادمة من الشام، فنزلت عند جيراننا بني حزم مع أبيها.»

قال: «ومن هو أبوها؟»

قالت: «يزيد الذي جاءنا منذ أيام.» فنظر إليها وابتسم ابتساما لم يغير شيئا من مظاهر اضطرابه وقال: «لقد جئت أهلا ووطئت سهلا، عزاك الله على مصابك!»

فقالت أسماء: «من كان في جوار أمير المؤمنين فهذا عزاؤه.»

فأعجبه جوابها وقال: «وماذا يصنع أبوك؟»

قالت: «لا شيء يا مولاي.»

قال: «سننظر فيما ينفعه.» ولم يتم عثمان كلامه حتى دخل مروان فجأة بلا استئذان ومعه جماعة من شباب بني أمية، فلما رأته أسماء أجفلت وانقبضت وهمت بالخروج، ولكنها استحيت فانزوت في بعض جوانب الغرفة.

أما مروان فإنه دخل متقلدا سيفه وقد أرخى رداءه تيها وعجبا، حتى إذا اقترب من الخليفة جلس إلى جانبه وحياه بتحية الخلافة ثم حياه رفاقه وجلسوا، وساد السكوت حتى لاحت من مروان التفاتة إلى جانب الغرفة فرأى أسماء فسر لتقربها من نائلة، وأحب أن يظهر لها نفوذه عند الخليفة لعله ينال حظوة في عينيها، فنظر إلى عثمان وقال: «يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟»

فابتدرته نائلة قائلة: «لا بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤتمرون به، إنه قد قال مقالة لا ينبغي أن ينزع عنها.»

فحملق مروان فيها وقال: «ما أنت وذلك؟! فوالله قد مات أبوك وهو لا يحسن أن يتوضأ.»

فقالت: «مهلا يا مروان عن ذكر الآباء! تخبر عن أبي وهو غائب فتكذب عليه، وإن أباك لا يستطيع أن يدافع عن نفسه. أما والله لولا أنه عمه (عم الخليفة) وأنه يناله غمه، لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه فيه!»

وكانت أسماء تسمع كلامها وهي تكاد تتميز غيظا، ولكنها احترمت المقام وخافت أن يستهجنها عثمان، فصبرت لتسمع ماذا يريد أن يقول.

أما مروان فأعرض عن نائلة مخافة أن تزيده تعنيفا، ونظر إلى عثمان فقال: «يا أمير المؤمنين ، أتكلم أم أسكت؟» قال: «تكلم».

فقال: «بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك التي قلتها اليوم على مسمع من المسلمين كانت وأنت ممتنع، فكنت أول من رضي بها وأعان عليها! ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وبلغ السيل الزبى وحين أعطي الخطة الذليلة الذليل. ووالله لإقامة على خطيئة ويستغفر منها أجمل من توبة يخوف عليها! وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولما تقربت بالخطيئة، وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس يريدون أن ينزعوا ملكنا من أيدينا.»

وكان عثمان يسمع مقالة مروان وهو مطرق يفكر، وأسماء تراقب حركاته وتخاف أن يصغي عثمان له فيعود الأمر إلى أعظم مما كان، فوقفت بقامة تخجل البان وقد زادها العبوس مهابة وخاطبت الخليفة قائلة: «أيأذن أمير المؤمنين لأمته في كلمة؟»

فأعجب بشجاعتها، وتحولت إليها أنظار الحاضرين، وقال عثمان: «قولي يا بنية.» فقالت: «إن وقوفي بين يدي أمير المؤمنين ودخولي في شئون إمارته لتطفل جريء، وعذري أنني أقولها كلمة خالصة لوجه الله والخليفة. إني يا أمير المؤمنين أرى ما يقوله ابن عمك إيقادا للفتنة بعد أن نامت، ومدعاة للقتال وإثارة للحرب وشرا مستطيرا.»

فلما سمع مروان مقالها قهقه استخفافا ولم يجبها، ولكنه حول وجهه إلى الخليفة وقال: «كأن هذه الفتاة تريد أن يسمع أمير المؤمنين لمشورة النساء، وقد قيل إنهن ناقصات العقول.» قال ذلك وأغرب في الضحك.

فحمي غضب أسماء وثارت الحمية في رأسها، وقالت: «إن النساء مهما يكن نقص عقولهن لأكمل عقلا ممن يرى العبرة ولا يعتبر، فقد كفاك تغريرا بأمير المؤمنين، واعلم أن الذين أشاروا عليه بما عمله إنما هم نخبة المهاجرين وخير صحاب الرسول وليسوا ناقصي العقول.»

وكانت نائلة تسمع كلام أسماء وقلبها يرقص طربا، ولكنها خافت طيش مروان وتوقعت أن يغضب، فإذا به عاد إلى الضحك وقال: «لا أقول إنهم ناقصو العقل ولكنهم يريدون إذلالنا ونزع هذا الأمر من يدنا، وليس من شأنك أن تشيري على أمير المؤمنين.»

قالت: «لم أقف في حضرته إلا بإذنه، وليس لك أن ترد ما أمر به.»

فحمي غضب مروان فوقف ويده على قبضة حسامه وقال: «والله إني ضاربك بحد السيف فقاطعك نصفين!»

فابتسمت مستخفة، ورفعت يدها وقد انحسر بعض كمها حتى بان معصمها وقالت وهي تشير إليه بسبابتها تهديدا: «لا تظنني أخاف حسامك إذا جردته، فلولا حرمة أمير المؤمنين لقتلتك بسيفك، فاردد يدك عن قبضته فما أنا ممن يخاف السيوف. ولا يغرنك أني فتاة، وإذا أردت أن تعرف من أنا فعليك بالنزال في ساحة الوغى.»

فعجب الحاضرون لهذه الحماسة وبهتوا لما سمعوه مما لم يكونوا يتوقعونه من الفتاة، أما مروان فخجل من تأنيبها وكظم غيظه وتظاهر بالاستخفاف وعاد إلى مجلسه ضاحكا وهو يقول: «لولا حرمة أمير المؤمنين لعلمتك معنى النزال.»

قالت: «كان يجب عليك أن تحترم مجلس الخليفة قبل أن تقبض على الحسام، وما رجوعك عن قحتك إلا جبن وخزي.»

فهم مروان بالوقوف ثانية وقد امتقع لونه وارتعشت أنامله، فأمسكه عثمان وأجلسه وهو معجب بجرأة أسماء، ثم وضع يده على كتف مروان وقال له: «لم أكن أتوقع منك إطالة الجدال، وكأني بك تجرد السيف أمامي إذا تركتك وشأنك!»

فخجل مروان وسكت وفي نفسه حزازة ونقمة.

وأشار عثمان إلى نائلة فنهضت وأخذت بيد أسماء وخرجتا والحاضرون يتبعون أسماء بأبصارهم، ويعجبون بما سمعوه وبما ينظرون من لين قوامها واسترسال شعرها وحسن خطاها.

فلما دخلتا غرفة أخرى قبلتها نائلة وقالت والدموع ملء عينيها: «بورك فيك يا أسماء! والله إنك قد شفيت غليلي من هذا الغلام. ولكنني أرى أنه سيقنع الخليفة ويحمله على الرجوع.»

قالت: «فلنقف هنا لعلنا نسمع ما يدور بينهما.» ثم وقفتا فسمعتا مروان يقول له: «ما لنا ولأقوال النساء؟ إن الأمر جلل ولا أدري إذا كنت قد قلت ما قلته مكرها.»

قال عثمان: «ومن يكرهني؟!»

الفصل الخامس

أسماء ومحمد ومروان

أغلقت أسماء الباب وجلست على السرير تفكر فيما مر بها من غرائب الأحداث، فتصورت أمها وحنوها وتذكرت كيف كانت تشكو إليها همها في مثل تلك الحال، فغلب الحزن عليها وبكت. وفيما هي في ذلك إذ سمعت وقع أقدام أمام بابها فأجفلت وافتقدت الخنجر وتحفزت للوقوف وقد نسيت حزنها، ولبثت هنيهة فلم تسمع صوتا. ثم سمعت نقرا على الباب فوثبت إليه وفتحته وقد تهيأت للقاء مروان فإذا بالباب محمد بن أبي بكر، فأجفلت وغلب عليها الحياء واختلط حياؤها بإجفالها فزاد وجهها مهابة وجلالا.

أما محمد فلما رآها في تلك الحال ابتدرها قائلا: «ما بالك يا أسماء؟! ما الذي أخافك؟!» فغالطته وحيته ولم تجبه، فرد التحية ومد يده فسلم عليها وشعر عند لمس يدها ببرد أناملها وارتعاشها، فقال: «ما بالك ترتعشين وأنت وحدك؟!» قال ذلك وهو ينظر إلى جوانب الغرفة لعله يرى أحدا هناك فازداد تعجبا.

أما هي فتجلدت وقالت: «لا شيء يخيفني يا محمد وأنا في حمى أبي الحسن.»

قال: «لقد صدقت، ولكنني أراك في اضطراب وهياج كأنك كنت تخاصمين أحدا، أم أنت ترتعدين لقدومي على غرة؟ وأنا إنما فعلت ذلك طوعا لعلي، فإنه أرسلني لأفتقدك وأنظر في حوائجك.»

قالت: «بورك فيه وفيك! وأشكر لكما عنايتكما بي فإني بحمد الله في خير وعافية أدعو لسيدي أبي الحسن بطول البقاء.» قالت ذلك وجلست على السرير.

أما هو فود لو يمكث عندها، ولكنه خاف أن تستهجن ذلك منه لخلو المكان من الناس، فقال: «وأين أبوك؟»

فتنهدت وقالت: «لا أدري أين هو الآن.»

فقال: «ما بالك تتنهدين يا أسماء؟! إني أراك تكتمين أمرا.»

قالت: «لا أكتم شيئا، ولكنني ...» وسكتت.

قال: «ولكنك ماذا؟ قولي.»

قالت: «لا أدري ماذا أقول وأنا كلما نظرت إليك ذكرت أمي التي ذكرت اسمك وهي على فراش الموت!» وترقرقت الدموع في عينيها.

فلما رأى محمد دموعها انفطر قلبه شفقة وأمسك بيدها وجوارحه تختلج وقال: «رحم الله تلك الأم! فإني ما برحت منذ رأيتها وأنا في شغل شاغل لا يهدأ لي بال قلقا عليك، وقد كان علي أن أفتقدك قبل الآن ولكن الأحداث التي نحن فيها حالت بيني وبين ما أريد، فأمر هذا الخليفة قد أقض مضاجعنا فلا نكاد نرتق فتقا حتى يتفتق غيره.»

وكانا يتكلمان ومحمد واقف والباب مغلق إلى نصفه، فلم يتم محمد كلامه حتى رأى مروان داخلا وملامح الغضب تلوح على وجهه وقد حمل سيفه، فلما رآه محمد لمح الغدر في عينيه فنظر إليه شزرا ولم يعبأ به.

أما مروان فقال وقد علاه الاصفرار والبغتة: «ما الذي جاء بك إلى هذا المكان يا ابن أبي بكر؟!»

فقال محمد: «ما شأنك وما أنا في بيتك؟»

قال: «إنك في دار الخليفة وقد دخلت على نسائنا بلا استئذان.»

فاستغرب محمد قوله ونظر إلى أسماء كأنه يستفتيها، فقالت غير هيابة أو وجلة: «إن مروان يتكلم متطفلا فيما لا تناله ذراعه ولو تطاول.»

فابتسم مروان ابتسام المستهزئ وقد اشتد غيظه وقال: «سلي أباك إذا كانت ذراعي تنال أم لا.»

قالت: «دع ذكر الآباء وارجع من حيث أتيت، وإلا أسمعتك ما لا يرضيك.»

فضحك مروان وتوكأ بيده على سيفه، وقال ويده الأخرى على شاربيه: «أراك تغررين بنفسك كأنك نسيت ما نالك بين يدي الخليفة، ألا تعلمين أنك إذا بقيت على غرورك ندمت حيث لا ينفع الندم.»

فاستغرب محمد هذا الجدال، ولكنه أدرك ما في نفس مروان فاتقدت في قلبه نار الغيرة، وعظم عليه التطاول وهم به يريد ضربه، فاعترضت أسماء بينهما وقالت: «دعه يا محمد لأرى ما هو فاعل.» قالت ذلك وتقدمت إلى مروان ويدها على خنجرها كأنها تهم باستلاله وقد قطبت حاجبيها وحمي غضبها، حتى كاد الشرر يتطاير من عينيها.

فأخذ محمد بشجاعتها ولم يكن يعهد مثل هذا في النساء، فأراد أن يحول بينها وبين مروان فلم تمكنه من ذلك.

أما مروان فلما رأى ما كان من أسماء وأدرك أن محمدا منجدها خاف العاقبة، وكان قد قبض على حسامه فرفع يده وتظاهر بالضحك ومد يده يريد أن يمسك بيد أسماء ليكلمها، فجذبت يدها وقالت: «جرد حسامك وأرني شجاعتك، وهذا ابن أبي بكر شاهد على ما يكون.»

فقال مروان: «أأجرد حسامي على فتاة؟! أما دواؤك يا أسماء فهو عندي.» قال ذلك وخرج متغاضبا وهو إنما خرج خائفا كاظما، وعزم على الفتك بأسماء غيلة.

ونظر محمد إلى أسماء وقد علت وجهها مهابة الأبطال وذهب عنها ذل الحزن والضعف، فأعجب بما خصها به الخالق من الهيبة والأنفة، فأمسكها بيدها وأرجعها إلى غرفتها قائلا: «بورك في شهامتك يا أسماء! ولكنني أراك قد اكترثت بهذا الشاب التافه فاتركيه وشأنه.»

قالت وهي تحاول تخفيف غضبها: «إني لا أبالي بشقشقته، ووالله لو أنه حمل علي بمائة مثله ما حسبت لهم حسابا!»

قال: «ما لك وللإقامة هنا؟ تعالي نذهب معا إلى منزل علي فتقيمين ضيفة مكرمة.»

فقالت: «أتريد أن أفر من هذا المكان؟ كلا، لا أبرح حتى أرى ما يكون من أمر هذا الغلام الغر.»

قال: «أتحسبين ذلك فرارا؟»

قالت: «نعم، دعني هنا لأرى ما يكون من أمره.»

قال: «وما يهمك؟ دعيه وشأنه.»

قالت: «يهمني طيشه الذي وسع الخرق وأغضب المسلمين على الخليفة، ولولا حماقته لقضي الأمر ولأمن الناس الفتنة.»

فتحير محمد ولم يدر كيف يقنعها بالخروج وأهمه بقاؤها هناك غيرة عليها، فأحب أن يستطلع العلاقة بينها وبين مروان فقال: «وما الذي جعل له هذه الدالة عليك؟ هل تعرفينه من قبل؟»

فتنهدت وعادت إليها ذكرى مصائبها وقالت: «إننا عرفناه في الشام وقد رافقنا في سفرتنا المشئومة إلى قباء ثم دخل المدينة قبلنا، وتسبب في موت أمي قبل وصول علي.»

فعجب محمد وقال: «كيف كان ذلك؟»

قالت: «إن حديث ذلك طويل يحتاج إلى شرح، ولكنني أقول بالاختصار إن هذا الشاب رافقنا من الشام لأرب في نفسه [بقصد أن] يناله، ولولا ضعف أبي وانحيازه إليه لما استطاع المسير معنا خطوة، ولكن ...»

فقال: «وأي أرب؟» فلم تجب كأن الضعف والحياء قد عادا إليها فأطرقت صامتة.

ففهم محمد مرادها فازداد بغضا لمروان وغيرة على أسماء، ولم يعد يصبر على بقائها هناك وحدها. ونظرا إلى ما يعلمه من نفوذ مروان لدى الخليفة، خاف أن يوسطه في إقناعها أو استرضائها فتقبله على كره منها، ولما تخيل هذا أحس بنيران هبت في بدنه، وصار إلى خلع عثمان أو قتله أميل. فصمت برهة يفكر ثم قال وهو يريد أن يزيدها كرها واحتقارا لمروان: «إني أعرف من أمر هذا الغلام ما لا يعرفه سواي، فقد سمعت من أختي أم المؤمنين (عائشة زوجة النبي) أن النبي لعنه وهو في صلب أبيه، فقال لأبيه الحكم بن العاص: «ويل لأمتي من صلب هذا!» فما ترجين منه بعد ذلك؟ أصغي لقولي وتعالي معي إلى منزل علي.»

قالت: «ربما ذهبت إليه في فرصة أخرى.»

فبهت محمد وهو يود أن يبثها ما خالج قلبه من حبها ويستطلع ضميرها ولكن الحياء والهيبة منعاه من ذلك، فظل برهة صامتا وهو لا يزال واقفا بإزاء السرير وأسماء جالسة مطرقة وقد خالج ضميرها مثل ما خالج ضميره وهي أكثر حياء منه، فظلت صامتة تنتظر أن يفتح هو الحديث. •••

قال محمد بن أبي بكر لأسماء: «إني لا أرى عارا في خروجك من هنا إلى منزل علي وهو الذي اقترح هذا، ولا أخفي عليك أن الهياج قد اشتد على الخليفة فهو لن ينجو من الخلع أو القتل، وبخاصة إذا ظل مصغيا لمشورة مروان، فهيا بنا.»

فهمت بالجواب، ولكنها لم تكد تفعل حتى سمعا سعال يزيد ثم رأياه يدخل، فبغت محمد ونفر من رؤيته لأنه لم يكن يحسن الظن به. أما يزيد فحالما رأى محمدا تقدم إليه وحياه وتظاهر بالترحيب به، وسأله عن علي قائلا: «كيف مولانا أبو الحسن؟» فقال محمد: «في خير».

قال: «ألا ينوي الخروج إلى الحج فقد آن أوانه وأرى الناس يتأهبون له؟»

قال: «لا أظنه يستطيع ذلك هذا العام.»

فقالت أسماء: «ولماذا؟» قال محمد: «إن في خروجه من المدينة الآن والناس في هرج ومرج مجازفة، وقد دعتني شقيقتي أم المؤمنين إلى أن أذهب معها إلى الحج، ولكن ما أظنني مستطيعا.»

قالت: «ولماذا؟» فلم يجب ولكن ملامح وجهه دلت على أنه لا يريد الخروج من المدينة وأسماء في ذلك المكان على تلك الحال.

فأحست أسماء أنه يحبها ويغار عليها، فسكتت مخافة أن يلحظ يزيد شيئا من ذلك.

وعاد محمد فخاطب يزيد فقال: «أرسلني إليكم مولاي أبو الحسن لأدعوكما إلى النزول عنده، تجنبا للنزول بالقرب من دار الخليفة والناس محيطون بها.»

فقال يزيد: «لا أرى علينا بأسا هنا، وقد فض الخلاف على ما سمعت.»

فابتدرته أسماء قائلة: «كيف فض الخلاف ومروان بالمرصاد؟»

قال: «وما الذي فعله؟» قالت: «إنه بعد أن استرضى الخليفة الثائرين وصرفهم بالحسنى عاد فحرضه عليهم فعاد الأمر إلى ما كان عليه، وأظن محمدا أعلم منا بما ينوون لأنه قادم من بينهم.»

فهز محمد رأسه وقال: «نعم، إن مروان في صباح هذا اليوم قد وسع الخرق حتى استفحل الخطب ولم يعد تلافيه ممكنا، وهذا ما خوفني عليكما لقربكما من الخطر.» قال يزيد: «وماذا ينوون؟»

قال: «إذا لم ينل هؤلاء الناس ما يرجونه فقد تسوء العاقبة، كفانا الله شر الفتنة!»

قال يزيد والخبث والرياء باديان على وجهه: «أراهم تعصبوا عليه وتجنوا، وهم إنما جاءوه يلتمسون الدنيا وفيهم من حقد عليه لمغنم فاته أو لحديث سمعه من واش مبغض ... وما إلى ذلك، ويدعون الغيرة على الإسلام رياء الناس.»

قال محمد وقد ضاق بجوابه: «كل يعرف ما نواه.» وسكت. ثم سأل: «ألا تأتيان معي إلى منزل علي؟» قال يزيد: «لا نرى ما يدعو إلى هذا الآن.»

فنهض محمد وودعهما وخرج غاضبا ناقما على مروان، وحدثته نفسه بأن في بقاء عثمان خليفة عونا لمروان على نيل أسماء.

أما هي فلم يكد محمد يتوارى حتى ندمت على بقائها، فإن أنفتها منعتها من الخروج.

الفصل السادس

أسماء في دار الخليفة

أصبح يزيد بعد أن رأى اختلاء محمد بن أبي بكر بابنته يخشى أن يزداد ميلها إليه إذا جاءها مرة أخرى، فيفشل مسعاه لتزويجها مروان، وفكر في حيلة تنجيه من ذلك فاعتزم أن يبغضه إليها وقال لها: «أرى محمدا من الناقمين على الخليفة، فهل تعلمين سبب نقمته؟»

قالت: «وما ذلك؟» قال: «علمت أنه كان طامعا في ولاية مصر بدلا من عبد الله بن أبي سرح أخي الخليفة بالرضاع، فلما لم يؤثره الخليفة على عبد الله نقم عليه. وعلمت أيضا أنه كان قد ولاه مصر ووجهه إليها ثم رجع عن عزمه وأرجعه فعاد ناقما. وقد أشرت إلى ذلك من طرف خفي فلم يجب.»

فساء أسماء ظنه في محمد، وهي تشعر بعطف وميل شديدين إليه، ولكنها سكتت.

وفكر يزيد بعد ذلك فيما يأمن به خروج أسماء إلى علي فلم ير خيرا من أن يدخلها دار الخليفة، فتركها وقصد نائلة زوجة عثمان وترامى على قدميها وبكى، فلما سألته عما يبكيه قال: «يبكيني يا سيدتي ما عليه ابنتي من الحزن على فقد أمها، وأخشى إذا بقيت مقيمة وحدها أن تصاب بجنون، وكثيرا ما أراها تهم بالخروج إلى مدفن أمها في قباء فأمنعها بالحسنى فلا تمتنع، وهي كما تعلمين فتاة صغيرة لم تخبر الدنيا.» قال ذلك وشرق بدموعه مكرا وخداعا.

فقالت نائلة: «وماذا ترى أن نصنع؟» قال: «أرى أن تكون عندك تحت جناحك.»

فسرت نائلة لأنها قد أنست بأسماء وارتاحت لحديثها وأعجبت بشهامتها، فقالت: «لك علي ذلك، فأت بها إلينا.»

قال: «أخاف إذا أنا حملتها على المجيء ألا تطيعني لفرط حزنها، ولأنها أصبحت تسيء الظن بي، فإذا رأيت أن تدعيها أنت كانت أطوع لك.»

قالت: «أفعل ذلك حبا وكرامة.» وهمت بالنهوض والمسير إليها، فابتدرها يزيد قائلا: «وأتقدم إليك يا مولاتي برجاء ألا تأذني لها في الخروج من منزلك، لأنها قد تحتال في الخروج لغرض تدعيه وقصدها الذهاب إلى قباء.»

قالت: «لن ترى سبيلا إلى الخروج.» فودعها يزيد وخرج.

أما أسماء فلما خلت إلى نفسها تذكرت مصائبها وتسلط يزيد الغادر عليها فأخذت في البكاء، وبينما هي تبكي إذ دخلت عليها نائلة فلما رأتها على تلك الحال تحققت قول أبيها فأخذت تقبلها وتعزيها، وقالت لها: «ما بالك تبكين يا أسماء؟! فقد بالغت في الحزن وقد عهدتك رابطة الجأش، ولا خير يرجى من الحزن.» وزادت أسماء بكاء حتى هاجت أشجان نائلة وذكرت حال زوجها والخطر المحدق به فبكت معها.

فلما رأتها أسماء تبكي شكرت مشاركتها لها في مصابها وشعرت بتعزية، وقالت: «ما الذي يبكيك يا سيدتي وأنت زوج أمير المؤمنين مالك رقاب المسلمين؟»

قالت نائلة: «أما شهدت بعينك ما أحاط بنا من البلاء بطيش ذلك الشاب الغر؟»

فانقبضت نفس أسماء عند الإشارة إلى مروان، وتنهدت تنهدا عميقا ولسان حالها يقول: «إنه سبب بلائي أنا أيضا.» ومنعها الحياء.

فلما سكن روع نائلة قالت: «أنت يا أسماء نعم العزاء لي في هذه المحنة! فإذا كنت تحبينني فتعالي نقيم معا في دارنا.»

فأثنت أسماء على غيرتها، وخيل إليها أن حب نائلة قد يكون عونا لها على النجاة من مروان إذا وسط الخليفة في تنفيذ مأربه فقالت: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، فإن الإقامة في حماك شرف عظيم لمثلي.»

فوقفت نائلة واستنهضت أسماء فنهضت، وسارتا معا.

قضت أسماء بقية اليوم تفكر تارة في مروان وطورا في محمد وآونة في أمرها مع يزيد، وقد ندمت لأنها لم تذهب مع محمد إلى منزل علي، ولكنها استأنست بنائلة وارتاحت لمجالستها. وكذلك كان شأن نائلة إذ اتخذت من أسماء تسلية لها في ضيقها، لما آنسته فيها من سداد الرأي وثبات الجأش وحسن الخلق، مع نفور من مروان هما مشتركتان معا فيه، ولولا قرابته من الخليفة لقرعت له العصا وأوقفته عند حده.

ولما أقبل المساء تناولتا العشاء والخدم والجواري وقوف بين أيديهما، والاضطراب باد على وجوههم على غير المعتاد.

فلما فرغتا من الطعام وذهبتا إلى حجرة الرقاد، نادت نائلة قيم الدار فسألته عما لديه من الأخبار، فقال: «إن مولاي الخليفة لم يذق طعاما في هذا المساء وهو في اضطراب وقلق شديدين، والناس حول الدار وعند الأبواب وقد حاصرونا ومنعوا الماء عنا.»

فبغتت نائلة وقالت: «وكيف يمنعوننا الماء قبحهم الله؟!»

قال: «لقد منعوه يا سيدتي ونحن إنما نستقي الآن مما بقي في الآنية من الأمس، ولا ندري كيف نستقي إذا ظل الحصار. وهذا ما دعا أمير المؤمنين إلى القلق.»

فضربت نائلة كفا بكف وقالت: «ويلاه! كيف يمنعون الماء عن أمير المؤمنين؟»

فقالت أسماء: «لا تحزني يا خالتي، إني كفيلة بالاستقاء مهما يبالغ القوم في الحصار.»

قالت نائلة: «وكيف تستطيعين ذلك ؟»

قالت: «يحمل الماء إلى بيت جيرانكم آل حزم، ونحن ننقله سرا إلى هذه الدار.»

فاطمأنت نائلة لهذا الرأي، ولكنها بقيت تخشى عاقبة الحصار فصرفت القيم وجلست وهي تتنهد وتتأوه وأسماء تهون عليها. ولم تكد تجلس حتى سمعت جلبة ووقع أقدام في الدار، فنهضت مسرعة ولم تكد تفتح الباب حتى لقيها مروان وقد تزمل بعباءته وتقلد سلاحه كأنه على سفر، فلما رآها سلم وتقدم إليها فاستعاذت بالله من رؤيته وقالت: «ما الذي جاء بك يا مروان؟»

قال: «إني ذاهب في أمر ذي بال، وقد جئت لوداعك. وهل تلك الفتاة عندك؟»

قالت: «هي عندي، وما غرضك منها؟ اذهب في مهمتك.»

قال: «أريد أن أراها قبل سفري.» قال ذلك ودخل الغرفة، فلما رأته أسماء أجفلت ولكنها لبثت صامتة لا تتحرك، فقال لها وهو يضحك: «ألا تزالين على رغبتك في منازلتي يا أسماء؟»

قالت وهي جالسة لا تعبأ بقوله: «لو كنت رجلا حرا لنازلتني لما دعوتك للنزال.»

قال: «لو لم أكن على سفر لأدبتك وربيتك، وإن ابن أبي بكر لا يغني عنك شيئا.»

فلما ذكر محمدا ثارت فيها الحمية وقالت: «أراك تذكر الرجل في غيبته، فإذا حضر سكت!»

فأغرب في الضحك وقال: «سوف ترين وتسمعين ما تندمين عليه حين لا ينفعك الندم، ولسوف يذوق هو مرارة الحرمان من منصب طالما طمح إليه، ونقم من أجله على أمير المؤمنين وأثار المسلمين وحرض على الفتنة.»

فهمت أسماء بأن تجيبه، فأشارت إليها نائلة أن تكف وقالت لمروان: «اذهب يا ولدي لعل في السفر راحة لنا ولك، إننا لم نر في إقامتك خيرا.»

فضحك مروان وظنها تمزح، وأمسك بيدها حتى تواريا عن أسماء وهمس في أذنها قائلا: «احتفظي بها فإني عائد قريبا للزواج بها. وإنها والله لجميلة، وأراني أحبها وأغار عليها بالرغم مني، ولا أرى في بنات قريش أجمل منها ولا أكمل منها، ولكنها لا تزال صغيرة لا تعرف مقام الرجال.»

فتركته نائلة وعادت إلى الغرفة وهي تعجب لطيشه ونزقه. فلما خلت بأسماء عادت إلى بلبالها وفيما هم فيه من الحصار، فلم تر وسيلة لملافاة الفتنة إلا أن يتوسط علي في ذلك، ثم تذكرت ما قاله بالأمس وتحذيره زوجها من إغراء مروان فرجح عندها أنه لن ينصره، فصبرت لترى ما يأتي به الغد.

أما أسماء فسرت لذهاب مروان من المدينة لعلها تتمكن في أثناء غيابه من وسيلة تصلح بها ما أفسده. •••

قضت أسماء في دار عثمان ردحا من الزمن كانت فيه نعم السلوى لنائلة، فالدار محاطة بالرجال ليلا ونهارا وقد منعوا الماء عنها، ولولا ما أشارت به من الاستسقاء عن طريق آل حزم لمات أهل الدار عطشا.

أما نائلة فلم تعد تستطيع صبرا على تلك الحال، فأصبحت ذات يوم بعد أن قضت ليلتها باكية لما تراكم عليها من الهموم وما آنسته من اضطراب زوجها وقلقه وخوفه، وأخذت تفكر عسى أن ترى مخرجا فلم تر خيرا من استنجاد علي، وأسرت ذلك إلى أسماء واستحثت حميتها. فاستسهلت أسماء كل صعب في سبيل إخماد الفتنة وإنقاذ عثمان من عاقبتها، فقالت لنائلة: «إني أرى رأيا أرجو أن ينال منك قبولا.»

قالت: «وما هو؟» قالت: «أذهب أنا إلى علي ومروان غائب وأطلعه على جلية الأمر، لعله يسعى في إخماد الفتنة وهو رجل الخير وبه صلاح هذه الأمة.»

قالت: «لقد أصبت، وإنك بذلك تقلدينني جميلا لا أنساه.»

قالت: «سأذهب هذا المساء إلى علي، والله ولي الأمر.»

ولما كان الغروب تزملت بلباس الرجال، وتقلدت الحسام تحت العباءة، وغطت رأسها بالعقال وخرجت من دار عثمان إلى بيت بني حزم، ثم خرجت من هناك تخترق الجموع وسارت تلتمس عليا.

وكان علي في بيته بعد صلاة المغرب، وعنده طلحة والزبير وأمراء المسلمين القادمون من الأمصار نقمة على عثمان، وكلهم يحرضون عليه الناس. ولكنها لم تجد محمدا بن أبي بكر بينهم، وشاهدت في فناء البيت الجموع من أهل مصر والكوفة والبصرة في ضجة وغوغاء. فوقفت في جملة الواقفين ولم ينتبه لها أحد، فسمعت الأمراء يلغطون ويضجون وكلهم يقولون بقتل عثمان أو خلعه، وعلي يخفف عنهم ويؤنبهم على ما يبغون من شر ويقول: «والله يا قوم لا أرى في مقتل الخليفة إلا تعاظم الفتنة، إنكم والله ستختلفون على من يلي الخلافة بعده، فأبقوه ذلك خير لكم.»

فانشرح صدر أسماء لشهامة علي وحسن دفاعه، ولم تتمالك أن دخلت وهي في ذلك اللباس ودنت من علي فنظر إليها وقد عجب لجرأتها وهو يحسبها من بعض المتحمسين، فتفرس فيها مستفهما والتفت الأمراء إليها فكشفت عن وجهها، فلما رآها علي عرفها فاستغرب دخولها وأنكر كشف وجهها على تلك الصورة، ولكنه لم يسعه إلا أن رحب بها قائلا: «أهلا بفتاتنا ومرحبا، ما الذي جاء بك؟»

فاستغرب الحضور ترحيبه بها وهم لا يعرفونها، ولبثوا ينتظرون ما يبدو منها. أما هي فوقفت بين أيديهم غير هيابة أو وجلة وقالت: «هل تأذنون لفتاة بكلمة في خير المسلمين، تكشف لكم القناع عن كنه ما نحن فيه وقد خبرته بنفسي؟» قال علي: «تكلمي يا بنية»، قالت: «أغلقوا هذا الباب حتى لا يسمع من هم خارج الدار.»

فأمر علي بإغلاق الباب، ودعاها إلى الجلوس فأبت إلا الوقوف بين يديه، ثم قالت: «يا معشر المهاجرين وخيرة أصحاب الرسول، إنكم - والله شاهد - إذا أردتم بأمير المؤمنين شرا لظالموه، وهو بريء لا يستوجب قتلا أو خلعا، وما أظنكم إذا قتلتموه أو خلعتموه إلا نادمين، ولا ينفع الندم.»

فأصغى الجميع وهم معجبون لتلك الجرأة من فتاة صغيرة بين يدي كبار الصحابة، ولبثوا صامتين فاستأنفت حديثها وقالت: «أما إذا شئتم إخماد الفتنة فاقلعوا أصل الشر، اقتلوا مروان بن الحكم فإنه سبب ذلك البلاء العظيم. إن الخليفة أيها الأمراء بريء مما يتقوله الناس عليه، وهو كما تعلمون من خيرة الصحابة شفوق رءوف، وقد أذعن واعتذر جهارا على مسمع من المسلمين، ولكن ابن عمه مروان ذلك الغلام الغر هو الذي يفعل ما يفعل من عند نفسه. فلا تقتلوا البريء بالمذنب، اقتلوا مروان بن الحكم فيستقيم الأمر، أما إذا أصاب الخليفة ضيم فستسألون أمام الديان العظيم. قد كفاكم أنكم منعتم عنه الماء أربعين يوما، ولا يعلم ما يقاسيه من جراء ذلك إلا الذين يعاشرونه.»

فبهت الجميع لفصاحة أسماء ورباطة جأشها وجرأتها، ونظر بعضهم إلى بعض متسائلين فالتفت علي إليهم وقال: «هذا ما أراه يا أصحاب رسول الله، إن عثمان أذعن واستغفر، ولولا ابن عمه لنامت الفتنة. وأرى كلام هذه الفتاة صوتا من أصوات أهل السماء.»

فقال طلحة: «ولكننا لم نأل جهدا في نصحه ليرجع عن مشورة ابن عمه، وهو يصغي إليه ويعمل بقوله. أما سمعت ما قاله مروان على مشهد من المسلمين؟»

فقال علي: «وما أدراكم أن كلامه لم يكن من عند نفسه؟ يكفينا تأنيبا أن تقف البنات العذارى موقف الواعظين يحرضننا على العمل بسنة المسلمين! ومهما يكن من صبركم ونصحكم فإني أكثركم صبرا عليه، ولقد نصحت له مرارا وخرجت من مجلسه آخر مرة وقد عاهدت نفسي ألا أتوسط في أمره. ولكني لما علمت بمنع الماء عنه ركبت مغلسا إلى محاصريه وهم وقوف ببابه وقلت لهم: «يا أيها الناس، إن هذا العمل لا يشبه أمر المؤمنين ولا الكافرين، وإنما الأسير عند فارس والروم يطعم ويسقى.» فلم ألق منهم مصغيا.» ثم وجه كلامه إلى أسماء وقال: «والله إن كلا من هؤلاء الأصحاب قد دافع عن عثمان وسعى في حقن الدماء، حتى إن أم حبيبة زوج الرسول

صلى الله عليه وسلم

ركبت إليه بغلتها وحملت عليها وعاء فيه ماء، وادعت أنها تريد أن تكلمه عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم وأراملهم، فقالوا: «لا والله». وضربوا بغلتها فنفرت وكادت تسقط عنها، فذهب بها الناس إلى بيتها. أما أنت فبورك فيك يا بنية! والله إنك إنما جئت لخير.» ثم نظر إلى من حوله ونادى الحسن والحسين ابنيه فقال: «اذهبا إلى بيت أمير المؤمنين وادفعا عنه وأرجعا الناس عن بابه. وأنت يا طلحة أرسل ابنك، وأنت يا زبير أرسل ابنك أيضا.» فنادى كل منهما ابنه. ثم قال علي: «وأين محمد؟» فقالوا: «وأي محمد تعني؟» قال: «محمد بن أبي بكر، أين هو؟» فجعلوا يتساءلون عنه فلم يعثر عليه أحد، فتأفف وهز رأسه وقال: «والله إني خائف مما في نفس محمد على الخليفة!» فعلمت أسماء أن محمدا حاقد على الخليفة انتقاما من مروان، فلبثت تنتظر ما يقال عنه لعلها تعرف مقره. فلما لم يعثر عليه أحد قال علي لابنيه ولسائر أبناء الصحابة: «سيروا في حراسة الله، ولا تألوا جهدا في الدفاع عن حياة أمير المؤمنين ورد الناس عن بابه. وإذا رأيتم ابن أبي بكر فأنفذوه إلي، إني والله خائف مما يضمره.»

فقال طلحة: «أتظنه ينقم عليه عزله عن ولاية مصر؟»

فنظر علي إلى طلحة ولم يجب. فسار أبناء الصحابة وقد هاج الناس وماجوا، وكلهم يلتفت إلى أسماء. أما هي فسارت بين الجموع وخرجت ولم يعد يراها أحد. •••

وعادت أسماء وهي تفكر في محمد وخافت أن تكون غيرته من مروان قد حملته على مناهضة عثمان، فأرادت أن تتحقق من نيته وهي في دار عثمان فإذا أراد سوءا بعثمان حولته عن عزمه، لأنها أصبحت بعد سعيها في نجاة عثمان تضن بحياته كثيرا.

وكانت نائلة قد مكثت في البيت بعد ذهاب أسماء وهي على مثل الجمر والليل قد أسدل نقابه، فجلست تنتظر عودتها وهي تضمر لها كل خير إذا جاءتها بالفرج. وبينما هي في ذلك والغوغاء قد تكاثروا على الدار خطر لها أن تذهب إلى زوجها تستطلع حاله، فخرجت ودخلت عليه في حجرته فرأت مروان خارجا من عنده فاستعاذت بالله من رؤيته. أما هو فاعترضها قائلا: «لا تدخلي على الخليفة إنه في شغل شاغل عنده، فارجعي إلى بيتك.» قال ذلك وهو لا يكاد يخفي اضطرابه، فأذعنت لأنه كاتب الخليفة وحامل أختامه، فرجعت وهو يتبعها حتى وصلت إلى حجرتها، فدخل معها ونظر في جوانب الغرفة فلم ير أسماء فقال: «وأين أسماء؟» قالت: «ستأتي عما قليل.»

قال: «هل خرجت من الدار؟» قالت: «لا، ولكنها مشغولة ولا تلبث أن تعود. فاصدقني خبر الخليفة، ما باله؟ وما الذي شغله الآن؟»

قال: «لم يشغله شيء ولكنه يصلي والقرآن بين يديه.» فصدقته وصمتت. أما هو فأعاد السؤال عن أسماء فقالت: «قلت لك إنها لا تلبث أن تجيء.» فتركها.

ولبثت هي تنتظر عودة أسماء بصبر نافد، مخافة أن يعلم مروان بخروجها فيصيبها من ذلك سوء. ولم تكد تجلس حتى سمعت ضجيجا في صحن الدار، فأطلت فرأت جماعة داخلين وفيهم الحسن والحسين وأبناء الصحابة، فخافت أن يكون في قدومهم شر، ولكنها ما لبثت أن سمعت الحسن يكلم أهل المنزل ويهدئ من روعهم ويقول: «لا تخافوا، إننا جئنا للذب عن الخليفة.» فأدركت أنهم إنما جاءوا بمسعى أسماء، وبعد هنيهة رأت أسماء قادمة وهي تخفي نفسها فاستقبلتها باسمة واستطلعتها الخبر، فطمأنتها وقالت: «إن الصحابة أرسلوا أبناءهم للدفاع عن الخليفة وإرجاع الناس عن بابه.»

فسرت نائلة وهدأ روعها وشعرت بفضل أسماء عليها واعتزمت أن تسعى في إنقاذها من مروان، فاحتالت في الدخول على الخليفة فإذا هو جالس والقرآن بين يديه يقرأ أو يصلي صائما ولا يلتفت يمينا ولا يسارا، فدنت منه بخفة فانتبه لها وقال: «ما الذي جاء بك يا نائلة؟» قالت: «إنما جئت أفتقد أمير المؤمنين وأبلغه أن في الدار الحسن والحسين وجميع أبناء الصحابة، وقد جاءوا بعدتهم يدفعون الناس عن بابنا.»

فقال وهو لا يزال ينظر في صفحات القرآن: «لا حاجة بي إلى من يذب عني، ولا أريد أن يهرق من أجلي محجب من الدم.» قال ذلك وعاد إلى القراءة فعجبت نائلة لذلك، وأرادت أن تذكر أسماء لديه فلم تر سبيلا إلى ذلك، فعادت إلى غرفتها وقضت تلك الليلة لم يغمض جفناها وأسماء تعزيها وتشجعها، ولولا ذلك لماتت قلقا ورعبا فقد كانت تسمع الغوغاء حول الدار عند بابها ولا تجرؤ أن تطل.

أما أسماء فلما علمت بعودة مروان من سفره هرولت إلى حجرتها لئلا تراه. وبات أبناء الصحابة ليلتهم وهم يهددون الواقفين عند الباب طورا وطورا يتوعدونهم. وكل أهل الدار في اضطراب وقلق إلا عثمان فإنه قضى ليلته يقرأ القرآن ويصلي.

وفي الصباح التالي استيقظت أسماء على صوت مروان في غرفتها ونائلة جالسة بجانبها، فجلست واستعاذت بالله. فقال لها مروان: «ما الذي خرج بك من هذه الدار؟» فقالت: «وما شأنك وخروجي أو دخولي؟»

قال: «كيف لا وأنت امرأتي؟!» فأجفلت أسماء وصاحت: «خسئت يا نذل! لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك، دع عنك هذا الهذيان.»

فمد مروان يده إلى جيبه وأخرج رقا عليه كتابة، وقال: «هذا كتاب العقد وعليه خاتم الخليفة.» فنظرت أسماء ونائلة فرأتا الخاتم فبهتتا، ولكن أسماء تبسمت ولم تعبأ بتهديده وقالت: «قد عرفناك قبل اليوم تزور الكتب على أمير المؤمنين. إن الخليفة بريء مما تعمل وقد أخطأ إذ جعلك كاتبه، أما كفاك ما أيقظت من الفتنة بتزوير الكتب، حتى جئت تفتعل كتاب العقد أيضا؟ إن هذا البلاء الذي نحن فيه إنما هو من تزوير ذلك الكتاب على لسان الخليفة إلى والي مصر، وكان الناس قد عادوا إلى بلادهم فأرجعتهم وأعدت الفتنة، فأرجع هذا الكتاب إلى جيبك واخرج من هذه الغرفة قبل أن أذيقك الهوان.»

قالت ذلك وهمت به وهي تخرج خنجرها من بين أثوابها وكان لا يفارق جنبها أبدا، فهمت بها نائلة لتجلسها فأفلتت منها وهجمت على مروان تريد قتله ففر أمامها، ثم عاد وقد جرد حسامه وهجم عليها ولكنه سمع ضجة عظيمة في صحن الدار، وصوتا ينادي: «مروان! مروان!» فخرج مسرعا والسيف في يده.

الفصل السابع

مقتل عثمان

لم يلبث من في دار عثمان أن رأوا الدخان يتصاعد من جهة بابها، فحسبوا أن قد شب فيها الحريق فهاجوا وماجوا واشتغل كل بنفسه، وصاحت نائلة: «ويلاه! قد أحرقونا!» وهرولت مسرعة إلى حجرة زوجها.

وأطلت أسماء من نافذة على باب الدار، فرأت الناس قد تجمهروا وعددهم يزيد على ألف وجعلوا يرمون الدار بالنبال حتى أصيب كثيرون. ثم رأت بعضهم قد اقتحموا الدار عنوة، وأبناء الصحابة وفيهم الحسن والحسين يدفعونهم، ورأت آخرين قد أوقعوا النار في السقيفة فوق الباب ليحرقوها ويحرقوا الباب معا. وسمعت جموعهم يصيحون: «ادفعوا إلينا مروان فنقتله وكفى!» فاضطربت أسماء وفتحت النافذة وخنجرها لا يزال في يدها، وسارت إلى غرفة عثمان لعلها تقنعه بتسليم مروان فينجو هو، فرأت الدار ملأى بالناس وقد دخل بعضهم من ناحية دار بني حزم، ورأت مروان وبيده السيف يريد أن يدفعهم فهجم عليه أحدهم وضربه بالسيف على عنقه فدار دورة ووقع، فصاحت أسماء: «بورك فيك يا من قتلته! فإنه أصل الشر كله.» ولكن الضربة لم تكن قاضية فقطعت أحد علياويه فعاش مروان بعد ذلك بينما حسبته أسماء قد مات، وسارت وسط الجماهير إلى حجرة الخليفة فرأته جالسا والقرآن بين يديه وعنده نائلة واقفة والدموع ملء عينيها.

ولم تكد تقف حتى دخل الحسن والحسين وأولاد الصحابة وفي أيديهم السيوف مسلولة، ورأت ثياب الحسن مصبوغة بالدم، وكان عثمان لما سمع بدفاعهم عند باب داره خاف عليهم فبعث يستقدمهم إليه ليردعهم عن ذلك قائلا: «أغمدوا السيوف وارجعوا، فإن الله قد عهد إلي وأنا صابر عليه، وقد علمت أن الناس قد أحرقوا السقيفة فلم يحرقوها إلا وهم يطلبون ما هو أعظم.» ثم وجه خطابه إلى الحسن فقال له: «ارجع يا بني، إن أباك الآن في هم عظيم من أمرك.» فلم يصغ الحسن وأبناء الصحابة لقوله وعادوا يدفعون الناس، وظل هو على مقعده يقرأ ولا يبالي الغوغاء وعنده زوجته نائلة.

وكانت أسماء منتبذة مكانا بالقرب منها وقلبها يخفق خوفا عليه، فما لبثت أن رأت رجلا من قريش دخل عليه وقال له: «اخلعها وندعك» يعني الخلافة، فقال عثمان: «ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم . ولست خالعا قميصا كسانيه الله تعالى حتى يكرم أهل السعادة ويهين أهل الشقاء.» فخرج الرجل. ثم رأت رجلا عرفت بعد ذلك أنه عبد الله بن سلام قد وقف في الناس وقال: «يا قوم، لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة (السوط) فإن قتلتموه (أي الخليفة) لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه لتتركنها!» فصاحوا فيه: «ما أنت وهذا يا ابن اليهود؟!» فسكت.

كل ذلك وأسماء واقفة مضطربة القلب لا تدري ماذا تعمل، وكانت قد اطمأنت إلى ما أصاب مروان لظنها أنه قتل، ثم ما لبثت أن رأت محمدا بن أبي بكر دخل مسرعا ووراءه جماعة حتى دنا من عثمان، فأوجست خيفة من قدومه لعلمها بما في نفسه، ثم سمعت عثمان يقول له: «ويلك! أعلى الله تغضب؟! هل لي إليك جرم إلا حقا أخذته منك؟» فأمسكه محمد بلحيته وقال: «قد أخزاك الله يا نعثل!» وكان «نعثل» لقبا يلقبون به عثمان. فقال عثمان: «لست بنعثل، ولكنني عثمان وأمير المؤمنين.»

قال محمد: «ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان!»

فقال عثمان: «يا ابن أخي، فما كان أبوك ليقبض عليها» أي على لحيته، فقال محمد: «لو رأى أبي أعمالك لأنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضتي عليها.»

فقال: «أستنصر الله عليك وأستعين به.»

فلما رأت أسماء ما دار بينهما خافت أن يفتك محمد بالخليفة فيحيق به العار، فدنت منه ووقفت بحيث يراها وأشارت إليه أن يكف عما هو فيه وأن يتبعها، فلما رآها محمد ترك لحية عثمان وخرج ليعلم منها ما تريد، فانتحت به جانبا وقالت: «من أين دخلت الدار؟»

قال: «دخلت من دار بني حزم.» قالت: «وأنت أيضا على عثمان؟! إنه بريء مما يفترون.» ثم سمعت صياح نائلة، فأسرعت إليها فإذا هي قد حلت شعرها ونشرته، وعثمان يقول لها: «خذي خمارك، فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك!»

ثم رأت رجلا ممن دخلوا مع محمد بن أبي بكر هم بعثمان وبيده حديدة ضربه بها على رأسه فسال دمه على المصحف، وتبعه آخر ليضربه بالسيف فأكبت نائلة عليه والتقت السيف بيدها فقطع أصابعها، فثارت الحمية في رأس أسماء فاستلت خنجرها تريد قتل الرجل فأمسكها محمد، ولم تمض لحظات حتى قتل عثمان وفر قاتلوه.

فلما رأته نائلة مجندلا حملت يدها والدم يسيل منها وخرجت تبكي وتنادي الحسن والحسين، فدخلا فرأيا عثمان مذبوحا يتخبط في دمائه فصاحا: «كيف يقتل عثمان ونحن في داره؟! وبماذا نجيب أبانا إذا سألنا في ذلك؟»

أما أسماء فأجهشت بالبكاء، وجعلت تنظر يمنة ويسرة لعلها ترى القاتل فتنتقم منه فإذا هو قد فر. وتهافت الناس على بيت عثمان ينهبون ويسلبون، وعلت الضوضاء واختلط الحابل بالنابل. •••

أما محمد فهم بأسماء وأخذ بيدها وقال لها: «اتبعيني»، فتبعته حتى خرج بها من الدار وهي تود البقاء لترى ما حال نائلة ولكنها أطاعته طوعا لقلبها، على أنها ما لبثت أن جذبت يدها من يده وقالت: «إلى أين نحن ذاهبان يا محمد؟»

قال: «هل ترين لك مأربا في دار عثمان بعد؟ لقد نصحت لك بأن تخرجي منها منذ أيام فلم تذعني حتى رأيته يقتل أمامك، وهذا ما كنت أخشاه عليك.» قالت: «إنكم ظلمتموه يا محمد، ولو استطعت إنقاذه من أيديكم لفعلت. تبا لمروان، إنه أصل هذا البلاء!» قالت ذلك واغرورقت عيناها بالدموع، فقال محمد: «دعينا من ذلك، لقد قتل عثمان ولم يعد بقاؤك في داره مستطاعا والناس قد دخلوها ينهبون، فأفصحي الآن إن الوقت ضيق والأمر جلل ولا أستطيع البقاء معك إلا قليلا.»

قالت: «وماذا تريد مني؟» فابتسم وقال: «ألا تعلمين ما أريده؟»

قالت: «نفسي تحدثني ...» وسكتت حياء، فقال: «أرجو أن يكون قلبك هو الذي يحدثك.»

قالت: «يلوح لي أن مقتل عثمان لا يهمك، إني والله لا أستطيع استعادة رؤيته والدم يجري من عنقه!»

فتنهد محمد وقال: «أتظنينني غير آسف لقتله؟»

قالت: «لا أظنك آسفا وأنت البادئ بالقتل، ووالله لو لم يسبق إلى قلبي سابق ما استطعت النظر إليك!»

قال: «أراك تؤنبينني وما هذا وقته، ولو أطلعتك على أصل هذه الفتنة لطال بنا المقام ونحن في حال تدعو إلى المبادرة فلنجاوزها الآن، فإني مسرع إلى علي لأني أتوقع شقاقا عظيما يقع بين الصحابة ولا بد لي من غشيان مجلسهم. وأما أنت فلا أرى أن تقيمي هنا والحال في اضطراب.»

قالت: «سأصبر حتى أسمع عذرك في قتل خليفة الرسول، فإن لم أقتنع ...» وأطرقت حياء مما كاد لسانها أن ينطق به.

فأعجب بصراحتها وسلامة مبدئها وازداد شغفا بها، وقال: «إني واثق بتبرئتي نفسي من تبعة القتل فاصبري حتى نجتمع على سكينة، واذهبي الآن إلى مأمن.»

قالت: «إلى أين أذهب وأمتعتي وجوادي في دار عثمان؟»

قال: «لك علي إحضارها. أما وجهتك فلا أدلك عليها قبل أن أعلم مرادك.»

قالت: «وما مرادك أنت؟» قال: «إني صريع حبك، فهل تأذنين؟»

فاحمر وجهها خجلا، وأرخت النقاب على وجهها ولم تجب.

قال: «زيديني بهذا الخجل غراما بك! قد عزمت يا أسماء أن أريحك وأنجيك من أبيك أو الذي يدعي أنه أبوك، وقد تركك منذ أيام ولا أظنك تعلمين مقره. وأما مروان فلا فضل لي في إنقاذك منه، وقد نال نصيبه.»

فلم يكد يذكر اسم مروان حتى تنهدت وقالت: «قبح الله مروان! إنه سبب هذا البلاء. وقد كنت أود قتله بيدي لأشفي غليلي منه.»

قال: «لا أظنه قتل وقد تركته في الدار يعصب عنقه على أثر جرح أصابه، دعينا منه ومن اسمه. أما أبوك الشيخ الغر فلا أظنه يجرؤ على الظهور بعد مقتل عثمان، وأرجو منك ألا تدعيه أباك بعد الآن فإنه بعيد عن هذا بعد الأرض عن السماء. وها أنا ذا ذاهب إلى بيت علي، وأظنه سيلي الخلافة لأنه أحق بها وأولى، وإنما دونها شقاق عظيم، فلا آمن من شر يصيبك إذا كنت في منزله فأرى أن أذهب بك إلى مأمن تبقين به حتى تهدأ الأحوال فنعيش معا بإذن الله، ألا ترين ذلك؟»

فأطرقت أسماء وقد هاجت أشجانها وتذكرت أباها غير آسفة لفراقه، ولكنها أسفت لفراقها نائلة وهي على حزنها واضطرابها وزوجها ملقى قتيلا. على أن اتقاد الحب في قلبها أنساها كل شيء إلا محمدا، وكانت أحبته من أول نظرة عندما ذكرت أمها اسمه، وأصبحت بعدما علمت منزلته من علي وأنه ابن أول الخلفاء شديدة الميل إليه. فظلت صامتة تهم بالكلام ويمنعها الحياء وقد تخلت عنها جرأتها، وانفثأت تلك الحمية التي كانت موضع إعجاب الرجال، وأحست بخفقان قلبها وهياج عواطفها، فأبرقت أسرتها وتلألأت عيناها كأن لسان حالها يقول: «إن الله يتمني ولكنه نظر إلي فحببني إلى خير أبناء الصحابة.»

وشعر محمد أنها تكتم حبه فلم يزد، وقال لها: «ما رأيك في أن أذهب بك الآن إلى إحدى ذوات قرباي في بعض أطراف المدينة، تقيمين عندها حتى تنقضي الأزمة التي نحن فيها ويبايع علي بالخلافة فيرجع الأمر إلينا، فنقيم في رغد وهناء بإذن الله؟» قال ذلك ومشى، ومشت في أثره حتى انتهى إلى منزل في طرف المدينة، وإذا بامرأة عجوز لم تكد ترى محمدا حتى همت به وقبلته مرحبة.

فقال لها: «جئتك بأعز شيء لدي فاحتفظي بها.» ثم التفت إلى أسماء وقال: «امكثي هنا يا أسماء ريثما أعود، ولا تضجري إذا طال غيابي.»

فقالت: «لا تنذرني بطول الغياب فقد لا أستطيع صبرا على البقاء.»

قالت العجوز: «لعلك خشيت الإقامة بيننا، والله لأقومن على خدمتك أكثر من خدمتي ابني هذا!» وأشارت إلى محمد، وأخذتها بيدها ودخلت بها، فودعهما محمد ومضى. •••

أحست أسماء بالوحشة فدخلت غرفة تخلو بها إلى نفسها، ولم تكد تفعل حتى تمثل لها عثمان مطروحا أرضا، ونائلة واقفة فوق رأسه وقد حلت شعرها وأخذت تلطم خديها وتندب. وسرى الحزن في جوانبها واقشعر بدنها وندمت على تركها نائلة على تلك الحال.

فقضت يومها وحيدة كئيبة، ولما أمسى المساء قصدت إلى الفراش تلتمس النوم فلم يغمض لها جفن، ولم تغب صورة عثمان وداره عن عينيها. فباتت ليلتها تتقلب على مثل الجمر، تفكر تارة في محمد وأخرى في يزيد وهي لا تعرف مقره، وآونة في عثمان ونائلة، حتى مضى هزيع من الليل فغلبها النعاس فنامت. وأصبحت في اليوم التالي وضميرها يبكتها على هجرها صديقتها نائلة في ساعة الضيق، وحدثتها نفسها أن تذهب إليها، وخافت أن يجيء محمد في أثناء غيابها فيغضب. وانقضى النهار ولم يأت محمد فاضطربت، على أنها التمست الفراش مبكرة عسى أن تنام فتنسى ما هي فيه، فطال ليلها ولم تنم إلا في فترات حتى بدأ الفجر، فأغمضت فرأت طيف نائلة في حالة يرثى لها وقد احمرت عيناها من البكاء وقطعت شعرها في الندب. فلما صحت وتذكرت الرؤيا غلبها الخجل على أمرها، وشعرت أن خيال نائلة يؤنبها على خروجها على تلك الحال، فأفاقت مذعورة وقد بلل الدمع وسادتها، ونظرت إلى السماء فرأت الشمس قد طلعت، فهمت بالمسير إلى دار عثمان تفتقد نائلة، ثم تذكرت أن محمدا أوصى العجوز بالاحتفاظ بها فخافت أن تمنعها. فقضت نهارها قلقة مضطربة، تتردد بين الذهاب والبقاء حتى أمسى المساء وذهبت إلى فراشها، فجعلت تتقلب كأنها توسدت شوكا، فانقضى نصف الليل وهي في أرقها وقلقها، حتى اشتد بها الأمر ولم تعد تستطيع صبرا. فنهضت وارتدت بردائها وتقلدت خنجرها وانطلقت تطلب دار عثمان على عجل، وكان الوقت صيفا فجعلت طريقها في أطراف المدينة لئلا يراها أحد، وأرخت نقابها على وجهها.

وما كادت تسير بضع خطوات حتى رأت أشباحا تفرست فيهم، فعرفت من قيافتهم أنهم من بني أمية يهرعون بين راكب وراجل فرارا من المدينة كأنهم يطاردون، فسارت في حذاء الجدران مخافة أن يكون مروان فيهم فيعرفها حتى مروا. وطال بها المسير ولم تصل إلى دار عثمان لأنها كانت تجهل الطرق، فأرادت الرجوع إلى منزل العجوز فضلت الطريق إليها. وكان الفجر قد دنا فخيل إليها أنها إذا أشرفت على المدينة من مرتفع هناك تمكنت من تعيين محل الجامع، فإذا عرفته عرفت منزل عثمان. فتحولت إلى سور المدينة في مكان خارج البقيع وهناك أرض مهجورة قل من يمر بها، ولم تكد تدرك المكان حتى رأت بضعة عشر رجلا مهرولين من بعيد، وفيهم أناس يحملون لوحا عليه شيء، فحسبتهم من الهاربين يحملون أمتعتهم وأنهم إنما طلبوا الطريق البعيد خوفا من العيون، فتنحت إلى زقاق ضيق واستترت بنخلة بحيث ترى المارة ولا يرونها. فلما دنوا منها عرفت منهم أناسا منهم مروان وعبد الله بن الزبير وكانت قد رأته فيمن جاء للدفاع عن عثمان من أبناء الصحابة، فلما رأت مروان بالغت في الانزواء، وتفرست فيما يحملونه فإذا هو جثة مطروحة على باب وجمجمتها عارية تقرع الباب لإسراعهم في المسير من شدة الخوف، ورأت على الجمجمة لحية كبيرة غضة مضفرة عرفتها أنها لحية عثمان ، ونظرت إلى الثياب فإذا هي ثيابه ولا يزال الدم عليها، فلم تشك أن الجثة جثته. فخفق قلبها، وارتعدت فرائصها لما لحق بهذا الخليفة العظيم بعد موته، وأدركت أنهم خرجوا به ليلا ليدفنوه، ولبثت مستترة وراء النخلة تنظر إلى تلك الجنازة المحزنة، فلما وصلوا إلى حائط هناك يقال له «حش كوكب» حفروا له حفرة دفنوه فيها وهم يتلفتون يمينا وشمالا جزعا.

فصبرت حتى انتهوا وتفرقوا، فصعدت إلى مرتفع أطلت منه على المدينة فأشرفت على جامعها، فإذا هو بعيد عنها كثيرا، فجعلته وجهتها ونزلت تخترق الأسواق فلم تجد فيها إلا نفرا قليلا، فخافت أن يلاقيها محمد وهي على تلك الحال، وما زالت حتى وصلت منزل عثمان والشمس تملأ الفضاء فرأته موصدا، فالتمست باب بني حزم فرأته مغلقا أيضا، فتسمعت فلم تسمع صوتا فوقفت برهة ثم همت بالباب فقرعته فلم يجبها أحد، فأعادت القرع فأطل رجل من كوة عرفت أنه من خدم عثمان فلما رأته أومأت إليه أن يفتح، فلما عرفها فتح لها فدخلت وسألته عن نائلة فأشار إليها ألا تتكلم وسار أمامها، فتبعته فدخل بها حجرة رأت فيها نسوة أحطن بنائلة وهي ما زالت محلولة الشعر كما رأتها في منامها بالأمس. •••

فلما وقع نظر نائلة عليها صاحت قائلة: «ما الذي جاء بك يا أسماء يا حبيبتي؟! هل أتيت لتري أمير المؤمنين؟! لقد فاتك ما لاقاه من إكرام المسلمين له بعد موته.» قالت ذلك وأجهشت في البكاء.

أما أسماء فألقت نفسها على نائلة تبكي وتشهق وتقول: «إن خسارتك خسارة المسلمين كافة فقد فسد أمرهم بعد عثمان، لأنهم سفكوا دما بريئا بجوار قبر الرسول.»

فلطمت نائلة خديها بكفيها، فرأت أسماء إحدى يديها معصوبة فتذكرت أنها اليد التي أصيبت بالسيف فقطعت أناملها. وقالت نائلة: «يا ضيعة تعبك يا أسماء! ويا خيبة مسعاك! لقد خدعونا والله وغدروا بنا فأرسلوا أبناءهم يذبون عنه وبعثوا يقتلونه مع آخرين، ألم تري ابن أبي بكر يقبض على لحيته؟!»

فلما سمعت اسم محمد حزنت على فعله، ولم تجد ما تدافع به عنه فسكتت وهي تفكر في عبارة تعزيها بها فلم يفتح عليها، فقالت: «اصبري إن الله مع الصابرين، فقد كنت بالأمس تعزينني وتواسينني وأنت اليوم أولى بالمواساة وبالعزاء.»

فصاحت نائلة: «أواه يا أسماء! كيف أصبر وقد قتلوا عثمان شر قتلة؟! لقد طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين ضربة أسرعت في العظم. والله لكأني أسمع صوته يرن في أذني وهو يقرأ القرآن ولا يبالي ما يفعلون، وأحسبك رأيتني وقد سقطت عليه أتقي عنه وهم يهمون به يريدون قطع رأسه حتى أتت هذه الفتاة بنت شيبة (وأشارت إلى فتاة بجانبها)، فألقت بنفسها عليه دفاعا عن أمير المؤمنين.»

ثم تنهدت تنهدا عميقا وقالت: «ولم يكتفوا بقتله في بيته وعلى فراشه، ولكنهم منعوا الناس أن يصلوا عليه وقالوا: «لا يدفن في مدافن المسلمين.» كأنه كفر أو كان من المشركين، جزاهم الله بما فعلوا! فظل في بيتنا ثلاثة أيام وجثته ملقاة بين أيدينا ونحن نبكيه ونبكي الإسلام من بعده، ولو لم نلق إخوانا من أهل المروءة يحملونه خلسة في الليل لظل غير مدفون. وكم أحزنني ما أصاب الذين قتلوا معه، فقد جروهم بأرجلهم ولعلهم ألقوهم على التلال لتأكلهم الكلاب! ولا أدري إذا كان أبوك المسكين قد أصابه مثل مصابهم.»

فلما سمعت أسماء ذكر أبيها ارتجفت وامتقع لونها وصاحت: «وماذا أصاب أبي؟!»

قالت: «ألم تعلمي ما أصابه وقد كنت معنا في الدار؟»

قالت: «لا، ماذا أصابه؟»

قالت: «بلغت أنه قتل مع الخليفة في بعض جوانب الدار.»

فلطمت أسماء وجهها وصاحت: «ويلاه يا أبتاه!» وأوغلت في البكاء مذعورة وصاحت: «وأين هو الآن؟! أروني أين هو؟!»

ولم تكن نائلة تتوقع من أسماء حزنا شديدا على أبيها لما تعلمه من حديثها عنه.

أما أسماء فبكت وناحت والنساء يخففن عنها ويقلن: «اصبري فإن له أسوة بأمير المؤمنين وسوف يلقيان ربهما معا، والله ينتقم من القوم الظالمين! وسوف يثأر له بنو أمية جميعا، إنهم لم يدركوه حيا ليدفعوا عنه القتل، ولكنهم سوف يسرعون إلى الثأر إذا رأوا قميصه الملوث بالدم وأصابعي المبتورة، فقد أرسلت القميص والأصابع إلى معاوية في الشام، وأصبح الأمر لبني أمية وهم سواد قريش. ولقد ظن بنو هاشم أنهم إذا قتلوا عثمان ضعف شأن بني أمية، ووالله إنهم أكثر رجالا وأوفر عدة وأصعب مراسا! وسوف يلقى بنو هاشم عاقبة ما جنته أيديهم.»

فلما سمعت تهديد نائلة وحكاية قميص عثمان وأناملها وما ذكرته من تفضيل بني أمية على بني هاشم؛ علمت أنها أرسلت الأصابع والقميص استحثاثا لبني أمية على الثأر لدم عثمان، وتحققت أنها تضمر السوء لعلي، فلم تسكت عن الدفاع عنه وقالت: «لقد كان بنو هاشم أكثر الناس دفاعا عنه، فإن عليا أرسل الحسن والحسين لرد الناس عن بابه، ولو أذن لهما أمير المؤمنين لجاهدا في الذب عنه إلى آخر نسمة من حياتهما. أمثل هؤلاء يطالبون بدم عثمان أم يقال إنهم دافعوا عنه جاهدين؟»

قالت: «دعك من هذا، فوالله لو أرادوا دفاعا لما مات عثمان! إنما أخذوا الأمر بالتريث والمداورة وأظهروا العجز، وساء ما يضمرون! ولا يغرنك إرسالهم أولادهم.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وسكتت، فعذرتها أسماء لما رأت من هياج عواطفها على مقتل زوجها ولم تجبها. ولكنها عادت إلى السؤال عن أبيها، فقالت لها إحدى النساء: «لا تتعبي يا أسماء، إن أباك قتل مع الذين قتلوا مع عثمان وهم اثنان هو ثالثهم، وقد حملوا جثثهم خلسة إلى حيث لا ندري. فتعزي وتأسي بمقتل أمير المؤمنين خليفة رسول الله.»

وظلت أسماء تبكي مع الباكين حتى هدأ روعها وذكرت أن وفاة أبيها خير لها في مستقبل حياتها، فنظرت إلى نائلة وقالت: «وما الذي اعتزمته الآن؟»

قالت: «لقد عزمت على الرحيل من هنا إلى حيث لا أرى هاشميا ولا أسمع بهاشمي، ولكنني لا أستطيع الخروج إلا خلسة وما مقامنا هنا إلا خفية، ولو عرف هؤلاء الظالمون مقامي لأدركوني وقتلوني، ولكن بني حزم أهل جوار فقد خبئوني، جزاهم الله خيرا!»

ثم تذكرت أسماء أنها تركت بيت العجوز على غرة، فخافت أن تقلق عليها إذا افتقدتها ولم ترها ولا سيما إذا عاد محمد ولم يجدها، وزد على ذلك أنها خافت أن يجيء مروان في حين أنها لا تريد أن ترى وجهه. فنهضت واستأذنت محتجة بالذهاب إلى بعض ذوي قرابتها في أطراف المدينة.

فقالت نائلة: «لو كان لي بيت لدعوتك إليه يا ابنتي، ولكني أصبحت غريبة بين أهلي أتوقع الشر في كل لحظة. فاذهبي حرسك الله ووقاك! وإذا من الله علينا باللقاء فعسى أن أكافئك على صنيعك.»

قالت ذلك وضمتها إلى صدرها وودعتها وهي تبكي، وبكت أسماء أيضا وقد انفطر قلبها لما سمعت من كلام نائلة، وشق عليها أن تراها هكذا وقد كانت بالأمس زوجة أمير المؤمنين وصاحبة الأمر والنهي. •••

خرجت أسماء تلتمس بيت العجوز وهي تحسب أنها تعرفه، لكنها تاهت لأن البيت صغير لا يرى عن بعد، ووصلت إليه بعد لأي وقد مالت الشمس إلى المغيب، فوجدت الباب مغلقا فقرعته مرارا فلم يجبها أحد.

فوقفت تفكر فيما تفعله فلم تر خيرا من الذهاب إلى بيت علي تفتقد محمدا، فإذا لم تجده باتت تلك الليلة هناك فقد طالما دعاها للإقامة عنده، ولكنها خشيت إن هي سارت بلباس النساء أن تكون هدفا للناس في الطريق أو في فناء الدار، لأن بيت علي كان يعج بالغادين والرائحين. فأخفت نفسها، وكانت ممنطقة بكوفية فحلتها ولفت بها رأسها كما يفعل الرجال في أسفارهم، وتزملت بعباءة كانت قد خرجت بها بالأمس، وسارت صوب بيت علي فلم تبلغه إلا عند العشاء، فرأت نفرا قليلين في فناء الدار وكانت تتوقع أن ترى ازدحاما، ثم علمت أن أهل البصرة والكوفة والمصريين الذين كانت تزدحم بهم المدينة قبل مقتل عثمان، ذهبوا إلى مضاربهم خارج المدينة للمبيت. فسألت عن علي فقيل لها إنه في خلوة مع بعض الأمراء لا يدخل عليه أحد، فوقفت تنظر في الأمر فحدثتها نفسها أن تدخل المنزل فتبيت عند بعض نساء علي، ولكنها هابت الدخول عليهن وهي لا تعرفهن من قبل.

وبينما هي في ذلك رأت محمدا بن أبي بكر خارجا من الدار فتبعته، فلما رأى عباءتها ومشيتها عرفها فدنا منها وتفرس فيها، فقالت: «محمد؟» قال: «أسماء؟» قالت: «نعم، أين أنت؟»

قال: «لقد قلقت لغيابك، أين كنت؟»

قالت: «خرجت لحاجة سأقص عليك أمرها الآن. وأين هي عجوزك؟»

قال: «أتتني في الصباح وهي قلقة لغيابك، وقد قضينا نهارنا كله في البحث عنك، فشغلنا به عما نحن فيه من عظائم الأمور. تعالي معي أدخلك إلى أمي.»

قالت: «هي تقيم أمك في منزل علي؟»

قال: «نعم، وهي زوجته بعد أبي، واسمها مثل اسمك، بورك في هذا الاسم!»

فسرت أسماء لمعرفة أمه ورأت بابا للفرج بالإقامة عندها، فقالت: «وهل تزوجها علي من زمان طويل؟»

قال: «تزوجها بعد موت أبي، وكنت أنا طفلا فربيت في حجره، فأنا أعده بمنزلة الأب وهو يحبني كأحد أولاده.»

قالت: «لقد آنست فيه هذا البر، فرحم الله والدا ولدك، وعاش والد رباك!» قالت ذلك وقد أبرقت أسرتها إعجابا ولكنها أظهرت فتورا في كلامها لم يعهده فيها، فشعر هو بذلك فقال: «أراك قد تغيرت يا أسماء بعد خروجك اليوم من بيت العجوز.»

قالت: «بل أنا باقية على ما تعلم، ولقد كنت سألتني عن سبب خروجي منه؟»

قال: «نعم، وإلى أين كان ذهابك؟»

قالت: «خرجت إلى تلك المسكينة التي قتلتم زوجها وتركتموها حزينة وحيدة، عسى أن أستطيع تعزيتها مثلما عزتني في أيام محنتي.»

قال: «هل ذهبت إلى نائلة؟»

قالت: «نعم، سرت إليها ورأيت دفن قتيلكم رحمه الله! فقد حملوه على باب وساروا به خلسة ليدفنوه خارج المدينة، وسمعت طعنا فيك ساءني سماعه، كما ساءني ألا أستطيع دفعه، فإني رأيتك داخلا متعمدا قتل الخليفة.» قالت ذلك وفي رنة صوتها ما لا يصدر إلا عن سلطة الدالة وسلطان الدلال.

فأدرك محمد أن اعتقادها هذا سيكون صفحة سوداء في كتاب حبها فساءه ذلك، ولكنه أعجب بأنفتها وصدق أدبها وأحب أن يبرئ نفسه في عينيها، فقال وهو يبتسم تأكيدا لبراءة ساحته: «لقد قلت لك يا أسماء إن الرجل لم يقتل ظلما، على أني لو كنت أنا القاتل فلست بنادم، وسأبرر الأمر لديك عما قليل . أما الآن فهيا بنا أدخلك على أمي وهي تتولى تقديمك إلى علي.» •••

ولم يكد يدنو من الباب حتى سمع وقع أقدام في الدار ثم رأى الحسن بن علي يمر به ويسلم، فأجابه محمد: «وعليك السلام يا ابن أمير المؤمنين.» فقال الحسن: «أراك تبشرني بخلافة أنا خائف منها.»

قال: «لا تخف يا ابن بنت الرسول، إنكم أولى الناس بها.»

وكان الحسن يكلم محمدا وينظر إلى أسماء ليعرف المتلثم، فابتدره محمد قائلا: «إن صاحبي أموي جاء للمبيت عندكم فهل تقبلونه؟»

قال: «أهلا به أيا كان، فليدخل.» قال ذلك ودخل، فدخلا في أثره وأسماء لا تزال ملثمة والحسن ينظر إليها ويتوقع حسر اللثام. ولما وقع نظره عليها تذكر أنه رآها في منزل عثمان يوم الدار، فوقعت من نفسه موقعا حسنا وأعجب بها، فقال: «أهلا بك يا أخية.»

أما أسماء فتهيبت الموقف ونظرت إلى الحسن، فإذا هي أمام شاب أبيض اللون مشرب بالحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، ربع القامة، جعد الشعر، لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وكان أشبه الناس بالنبي. وغلب عليها الحياء فأطرقت وقالت: «بورك في بيت شرفه الله!» فقال محمد للحسن: «وأزيدك معرفة بها، فهذه أسماء بنت يزيد التي جاءت منذ بضعة أسابيع تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها على فراش الموت لتطلعه على سر، فقضت رحمها الله قبل وصوله وذهب السر معها إلى القبر.»

قال الحسن وهو ينظر إلى أسماء: «إن أبي لا يزال يذكر ذلك ويأسف لضياع السر، ويعجب بما آنسه في هذه الفتاة من الهمة والأنفة.» قال ذلك وسار أمامهما فمشيا في أثره وقد اتقدت نار الحب والغيرة في قلب محمد وكأنه ندم على مجيئه بها، فسأل الحسن: «أين نحن ذاهبون؟»

قال الحسن: «إلى خالتي أمامة أعرفها بأسماء فتبيت عندها الليلة.» فلم يرق الأمر لمحمد لأن الحجاب يمنعه من الدخول معهما إلى أمامة، فبقي خارجا على مثل الجمر، ودخل الحسن إلى حجرة أمامة بلا استئذان. وكانت جالسة وحدها وقد لبست ثوبا بسيطا وفي عنقها قلادة من جزع كانت شديدة الاحتفاظ بها، فلما رأت الحسن داخلا أرادت أن تسأله عن أمر الناس والخلافة فإذا هي بأسماء تتبعه، فلما رأتها أعجبت بطلعتها. فدنت أسماء تهم بتقبيل يدها فمنعتها وقبلتها، فابتدرها الحسن قائلا: «هذه يا خالة أسماء، وأظنك تذكرين حديث أبي عن أمها وعن سرها الذي مات معها.»

ثم التفت إلى أسماء وقال: «إنك بين يدي أمامة زوجة أبي، بنت زينب بنت الرسول، وكان جدي يحبها كثيرا. وانظري إلى هذه القلادة في عنقها، فقد أهداها إليها رسول الله، وكانت أحب أهله إليه.»

فازدادت أسماء إجلالا لأمامة، وظلت واقفة حتى دعتها إلى الجلوس فجلست على وسادة بالقرب منها. فقال الحسن: «إني أوصيك بضيفتك، ولا سيما وقد علمت مكانتها عند أبي.» قال ذلك وخرج فرأى محمدا في انتظاره على مثل الجمر، فقال له: «كيف عرفت هذه الفتاة يا محمد؟» قال: «عرفتها يوم جاءت تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها، وقد صحبتها إلى قباء وهي في زي الرجال ثم رأيتها مرة في دار عثمان، ورأيتها اليوم جاءت تبحث عن منزلكم فإنها غريبة، وكان أبوك قد دعاها إلى الإقامة عندكم تعزية لها على حزنها ويتمها.»

فقال الحسن: «إنها والله ذات جمال ووقار، وليتها تبقى عندنا!»

الفصل الثامن

مبايعة علي بالخلافة

أدرك محمد مدى إعجاب الحسن بأسماء فاتقدت نار الغيرة في صدره، ولكنها غيرة لم يشبها بغض لما يكنه للحسن وآل بيته من الحب. فانتقل بالحديث إلى سؤال الحسن عن أبيه، فقال الحسن: «تركته في مجلسه وقد اجتمع الأمراء حوله يريدون مبايعته، وهو يقول لهم: «لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتموه رضيت به.» وهم يلحون عليه في القبول ويقولون: لا نعرف أحدا أحق بها منك، ولا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله.»

فقال محمد: «وهل قبل؟» قال: «لا، وقد تركته يقول لهم: «لا تفعلوا، فلأن أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.» وهم يقولون: ما نحن فاعلون حتى نبايعك.»

فقال محمد: «إني لأعجب من رفضه أمرا هو أولى به من سواه ، ويجب والله ألا يليها غيره!»

فقال الحسن: «وإني أشد تعجبا منك.» قال محمد: «وماذا فعل طلحة والزبير، فإني إخالهما غير راضيين لأن كلا منهما يريد الخلافة لنفسه؟»

فابتسم الحسن وقال: «سيبايعان كارهين إن شاء الله، على أنهما يتظاهران بالقبول، وسنرى ما يكون منهما في الغد فقد ذهب إليهما بعض الناس يدعونهما إلى المبايعة.»

وافترقا بعد هنيهة، فسار محمد إلى فراشه وقد أهمه أمر أسماء مثل ما أهمه أمر الخلافة لعلمه أن الحسن إذا وسط أباه في تزويجها به فسينالها لا محالة، فلم يبق لديه إلا أن يسعى في إبعادها عنه، وقضى ليلته يفكر في وسيلة ليخرج بأسماء من بيت علي حتى يخلو بها فيقنعها ببراءته من دم عثمان، ثم يتزوجها قبل أن يبدو من الحسن ما يشعر برغبته فيها. فبكر في الصباح التالي وجاء إلى حجرة الحسن فلم يجده، وقيل له: «إنه ذهب إلى حجرة أمامة»، فعلم أنه سيقابل أسماء هناك، وسارع إلى إرسال من يستقدمه، فجاء الحسن مشرق الوجه، بادي الابتهاج، فانقبضت نفس محمد، وكادت الغيرة أن تبين في وجهه ولكنه تجلد وحياه وقال: «كيف أصبحت فتاتنا اليوم؟»

فقال الحسن: «هي في خير ولكنني أراها منقبضة النفس.»

فسري عن محمد إذ رأى في ذلك دليلا على بقائها على عهده، وقال: «أظنها حزينة على أبيها فإنه قتل في دار عثمان، وأرى أن نخرج بها لتحضر مجلس أبيك وحديث القوم في أمر البيعة لعلها تشغل بما تراه هناك عن أحزانها.»

قال: «وكيف تجالس الرجال؟» قال: «أرى أن تذهب متنكرة.»

وكان الحسن أشد ميلا من محمد إلى اصطحابها، ولا يدري ما يخالج قلب محمد فقال: «لقد رأيت صوابا.» وذهب لاستقدامها، وما لبث أن عاد وهي معه وقد تنكرت. فلما رآها محمد حياها وهو ينظر إلى وجهها نظرة لا يفقهها إلا من عانى الحب والغيرة، ولبث ينظر إلى ما يبدو منها فأبرقت أسرتها حالما وقع نظرها عليه، فسري عنه وقال لها: «أظنك تودين حضور مجلس مولاي أبي الحسن؟»

قالت: «كيف لا وأنت تعلم ما يجول في خاطري؟!» فأدرك محمد أنها تشير إلى حبها، فوثق من أنها باقية على عهده فقال: «إذا فرغنا من هذا المجلس سلمت لك جوادك ومتاعك الذي كان لك في منزل عثمان، وقد وعدتك أن أحتفظ به.»

فأثنت عليه، وأشارت بعينيها إشارة فهم محمد منها مرادها والحسن لا يشعر.

ثم قال الحسن: «هلم ندخل إلى أبي قبل حضور الناس عنده.» فدخل هو أولا، ثم دخلت هي ومحمد. •••

وعندما دخلت أسماء وهي في لباس الرجال حسرت بعض اللثام وهمت بتقبيل يد علي، وكان جالسا فوق وسادة وعليه إزار وطاق وعمامة خز وقد ازدادت هيبته، وأرسل عمامته إلى الوراء حتى ظهرت صلعته، ثم أخذ يمشط لحيته بأصابعه وعيناه الدعجاوان تتلألآن في وجهه والذكاء ينبعث منهما. فلما رأى أسماء مقبلة ابتسم وحياها وسألها عن حالها، فقالت: «إني بفضل مولاي في خير وعافية.»

قال: «إن كلامك يا بنية ما زال يرن في أذني مذ جئتنا قبل مقتل عثمان - رحمه الله - فقد قلت: «إن في مقتل الخليفة إيقاظا للفتنة.» وأراها استيقظت وأنك كنت على صواب.»

قالت: «إن الفتنة لتستحيي من ابن عم رسول الله فتعود إلى نومها إذا هو قبض على زمام الخلافة.»

فأعجبه أسلوبها وحدة ذهنها، ودعاها إلى الجلوس وهو يقول: «أراك خلعت زي النساء ولبست زي الرجال يا أسماء.»

قالت: «لقد ارتديت هذا اللباس لأستطيع أن ألقى رجل هذه الأمة.»

ولم تكد أسماء تجلس حتى جاء فتى يستأذن عليا في دخول بعض الصحابة فأذن، ودخل عليه جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم طلحة والزبير، وكانت أسماء تعرفهما من قبل. فجلسوا حتى غصت القاعة بهم، وتصدر طلحة والزبير القوم وعلا وجهيهما انقباض كأنهما يخفيان أمرا، فأدركت أسماء أنهما جاءا مكرهين. وما لبثوا حتى نهض واحد من أهل المدينة وخاطب عليا قائلا: «لقد جئنا إلى علي بن أبي طالب نطلب منه أمرا ونرجو ألا يردنا فيه خائبين.»

فقال علي: «وماذا تريدون؟»

قالوا: «جئنا نبايعك على الخلافة لأننا لا نرى أحدا أحق بها منك.»

قال وهو ينظر إليهم جملة: «ما زلت أرجو إعفائي من هذا الأمر، فإني أراه طريقا وعرا.»

قال قائل منهم: «ومن ترى أقدم منك سابقة وأقرب قرابة من رسول الله وقد صرح بأنه: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق؟»

قال: «كلكم لها أكفاء، وسأبايع بها من تبايعون.»

قالوا: «لا نرى غيرك أحق بها وقد قال رسول الله: علي مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي.»

قال: «قلت لكم دعوني واطلبوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول.»

فوقفوا وقد نفد صبرهم وقالوا: «نناشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟»

فلما سمع علي تأنيبهم سكت وقد ضاق بهم ذرعا وعظم عليه الأمر فأطرق يتململ، ثم نظر إليهم فإذا هم سكوت ينتظرون جوابه فقال لهم: «قد أجبتكم.»

ولم يكد ينطق بها حتى ضج الناس استحسانا وتهللت وجوههم فرحا، إلا طلحة والزبير فإنهما ظلا صامتين.

فلما رأى علي حسن لقائهم برغم سكوت طلحة والزبير، نهض فنهض الناس وهم ينظرون إليه ليروا ما يقول فإذا هو يضطرب كأنه تنبأ بما يتوقعه من جلائل الأمور، ثم أشار إليهم وقال: «اعلموا أني إذا أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، فإنما أنا كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه.»

فقالوا: «كلنا أطوع لك من بنانك، ومن ذا الذي لا يطيع ابن عم رسول الله وأخاه ووصيه ونصيره وربيبه وحبيبه وخليفته، والذي قال فيه: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه!» وقال: «علي مني بمنزلة هارون من موسى»؟ فكيف نبايع سواك؟»

فقال: «إذا كنتم لا ترون بدا من المبايعة فلتكن في المسجد.»

قالوا: «هلم بنا إلى المسجد.» •••

فنهضوا ونهض علي بن أبي طالب، ومشى وهو يتكفأ وبيده قوس يتوكأ عليها، حتى أقبل على المسجد والناس بين يديه، وكان محمد وحسن وأسماء بالقرب منه. فلما دخلوا المسجد قرأ علي الفاتحة وصلى ثم وقف ووقف الناس، فنظرت أسماء إلى الجمع وقد هاجوا وماجوا فرأت طلحة وقد تقدم إليه قبل الجميع ومد يده فمد علي يده فصافحه طلحة، وقال: «إنا نبايع سيدنا ومولانا الإمام، المفترض الطاعة على جميع الأنام عليا بن أبي طالب، على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أمير المؤمنين. ونسلم له النظر في أمورنا وأمور المسلمين لا ننازعه في شيء ونطيعه فيما يكلفنا به من الأمر على المنشط والمكره، وعلى ألا خليفة سواه.» وأدركت أسماء من هيئة طلحة وغنة صوته ومجمل حاله أنه إنما بايع مكرها. ثم سمعت رجلا من الوقوف خلفها يقول لجاره همسا: «إنا لله وإنا إليه راجعون! إن أول يد بايعت يد شلاء، لا يتم هذا الأمر!» فالتفتت أسماء إلى محمد كأنها تستفهمه مغزى ما يقوله الرجل، فدنا منها وقال لها: «إن في يد طلحة شللا خفيفا من يوم أحد، والذي سمعته يتكلم رجل من أهل العيافة تشاءم بتلك المبايعة.» قالت: «أرجو ألا تصدق عيافته.»

وبعد أن بايع طلحة تنحى وتقدم الزبير فبايع، ثم بايع غيره من الأمراء جملة وفرادى.

فلما تم الأمر لعلي وأصبح أمير المؤمنين ارتقى المنبر، فلما رآه الناس صاعدا علموا أنه يريد أن يتكلم وهم طالما سمعوا خطبه وسحروا ببلاغته، فأنصتوا إلى ما سيقول. وظلت أسماء في موقفها ومحمد إلى جانبها، فلما وقف الإمام علي أصغت كما أصغى الجميع. فمسح علي لحيته بيمينه وأجال نظره في الناس والعمامة الخز على رأسه وعليه الإزار وبطنه يتقدمه لأنه كان ذا بطن، فلبث هنيهة لا يتكلم حتى سكت الجميع وتطاولوا بأعناقهم لسماع كلامه وهو أول كلام له بعد الخلافة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال بصوت سمعه من في المسجد جميعا:

إن الله تعالى أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير وأصدفوا عن سمت الشر، أدوا إلى الله يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرما غير مجهول وأحل حلالا غير مدخول، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. إن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، واتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم. وأطيعوا الله ولا تعصوه. وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه، واذكروا أنكم قليلون مستضعفون في الأرض.

وكان محمد قد خامر سروره قلق لما قام في ذهنه من ميل الحسن إلى أسماء، فلما انفض الجمع ورأى الحسن مع أبيه والناس حوله يهنئونه، أشار إلى أسماء فتبعته وقد أدركت ما في ضميره، وأحست ما في نفس الحسن وقد استملحته ولكنها بقيت على حب محمد وهو أول من طرق قلبها، فلما دعاها سارت في أثره وهي تتجاهل مراده حتى وصلا إلى بيت العجوز.

فلما خلا بأسماء نظر إليها نظرة لم يخف مغزاها عليها، فابتدرته قائلة: «أرى المدينة غاصة بالناس وقد شغلوا بخليفتهم فلم يعد يطيب المقام فيها.»

فأعجب محمد بحسن فراستها ورقة إحساسها، ولكنه خاف أن تكون مضمرة غير ما تظهر فقال: «وما الذي بغض إليك الإقامة بالمدينة؟» قالت: «بغضها إلي ما حبب محمد إلي.»

قال: «وكيف تتركين عليا وأهله؟» قالت: «ما لي ولأهله؟»

قال: «ألا ترين أن أمامة تفتقدك؟» قالت: «أظنها تفتقدني وقد يفتقدني غيرها، ولكنني لا أبالي أحدا.»

فأدرك أنها عرفت نيته فقال: «لقد تم الأمر لعلي فهو اليوم أمير المؤمنين، وقد استقام لنا الأمر وسأنظر ما يكون من تبديل عماله على الأمصار، ونتدبر ذلك في حينه. أما الآن فأرى أن تقيمي عند أختي عائشة أم المؤمنين.»

وكانت أسماء قد علمت منه أنها سارت إلى مكة لقضاء مناسك الحج عندما كان عثمان محاصرا ولم تسمع أنها عادت، فقالت: «هل عادت أم المؤمنين من مكة؟»

قال: «لم تعد بعد، وقد قتل عثمان وتولى علي وهي غائبة، وقد تقيم هناك حقبة أخرى.» قال ذلك وهو يعلم أن مجيئها قريب، ولكنه خشي إن هو أعلم أسماء بذلك ألا تعود ثمة حاجة في خروجها من المدينة، فتضطر إلى أن تقيم ببيت علي وتأبى عليه غيرته ذلك.

قالت أسماء : «هل أذهب إليها؟»

قال: «أرى أن تذهبي فتقيمي عندها وتشاهدي بيت الله الحرام ومشاهدة مكة، فإذا عادت أختي عدت معها، وإذا أقامت طويلا ذهبت أنا لاستقدامك ونكون قد عرفنا مصيرنا.»

قالت: «إن في ذهابي إليها شرفا عظيما، ولكن كيف أسير وحدي؟!»

قال: «أرى أن تصحبك هذه الخالة (وأشار إلى العجوز) فإن لها دالة على أختي، وذهابها معك يغنيني عن الإيصاء بك، وسأرسل معكما من يوصلكما إليها. ويحسن بك أن تطلبي أنت الشخوص إليها.» قال ذلك ونظر إليها وهو يبتسم.

ففهمت مراده وأدركت أنه يخاف أن يعلم علي أو الحسن أنه هو الذي حملها على الشخوص، فقالت: «نعم، فأنا الراغبة في المسير لأكون بجوار أم المؤمنين. أين جوادي وأمتعتي؟»

قال: «هنا عند الخالة، فامكثي عندها إلى الغد فآتي إليك بمن يسير بك إلى مكة.» قال ذلك وهم بالخروج.

فقالت له أسماء: «ولا يبرح من ذهنك أني ما زلت أتوقع اليقين عن مقتل عثمان وتفصيل ما تبرئ به نفسك.»

قال: «غدا تلاقين أم المؤمنين فاسأليها عن عثمان وهل استحق القتل وهي تجيبك بما يغنيك عن سؤالي. ألا ترضين بها حكما؟»

قالت: «أرضى». قال: «إنها من أول القائلين بقتله، ومن قولها: اقتلوا نعثلا - لقب عثمان - فقد كفر.»

وتركها محمد ومضى، فلما كان صباح الغد جاء وقد أعد جمالا وهودجا، فلما رأت أسماء الجمال قالت: «وما تلك؟» قال: «هي جمال ولا يصلح لركوب الصحراء غيرها، فإن بيننا وبين مكة بضع مراحل والطريق وعر.»

قالت: «ولكنني أوثر الفرس، وكذلك فعلت في قدومي من الشام، وقد خوفوني ركوب الأفراس في الصحراء فأبيت إلا ركوبها.»

قال: «لا يجمل بك أن تركبي فرسا ورفيقتك هذه لا تستطيع ركوبه، فاركبي الجمل فإنه أصلح لهذا الطريق واتركي جوادك هنا فلا خوف عليه. وقد علمت أن رجلا من أخوال أم المؤمنين من بني الليث واسمه عبيد بن أبي سلمة عاد إلى مكة، فعهدت إليه في أن تسيرا معه فيوصلكما إلى منزل أختي.»

فعجبت أسماء لوصفه الرجل بأنه من أخوال أخته وحدها ، فسألته عن ذلك فقال: «إن عائشة من أم غير أمي ولم تسنح لك الفرصة أن تريها بالأمس، فعسى أن تريها في فرصة أخرى.»

قال ذلك وأمر العجوز فأخذت في إعداد ما يلزم للسفر وجعلت تجمع صررها؛ صرة فيها المشط، وصرة فيها السواك، وصرة للنعال ... ونحو ذلك. ولم يمض ساعتان حتى تهيأ كل شيء. وجاء عبيد بن أبي سلمة فأوصاه بالعجوز والفتاة خيرا وودعهما.

فقالت له أسماء وهي تشد منطقتها حول خصرها وتتهيأ للدخول في الهودج: «متى أراك؟» قال: «أرجو أن أراك قريبا في مكة أو أبعث في استقدامك متى استقام الأمر وهدأت الأحوال.» فودعته وسارت وقد تلثمت بلثام السفر.

الفصل التاسع

المطالبة بدم عثمان

لم تكد أسماء تخرج من المدينة حتى أشرفت على قباء فهاجت أشجانها وتذكرت أمها، فترجلت عند المسجد فلقيها خادمه الشيخ فدعا امرأته فرحبت بأسماء ومن معها، فطلبت أسماء أن تزور قبر أمها، فزارته وبكت بكاء مرا حتى كاد يغشى عليها لو لم ينهضها الرفاق. ولما رآها ابن أبي سلمة على تلك الحال أسرع في الترحال فشدوا الأحمال وركبوا قاصدين إلى مكة، وكان قد تأثر لما رآه من حزن أسماء فأراد أن يواسيها، فلما شارف جبل أحد وهو على أربعة أميال من المدينة غربا أحب أن يشغلها بالحديث فقال لها: «انظري إلى هذا الجبل فإنه أحد الذي وقعت عنده الوقعة بين المسلمين ومشركي قريش على عهد النبي

صلى الله عليه وسلم .» وقص عليها حديث الغزوة.

وقضوا في سفرهم ثلاثة أيام حتى شارفوا جبال مكة عند قرية يقال لها «سرف» على ستة أميال من مكة، فرأوا ركبا قد وصل وفيه ناقة عرف عبيد أنها ناقة عائشة لما رأى هودجها وعليه رداء أحمر يجلله كله، فترجل وترجلت أسماء والعجوز واشتغل العبيد في عقل النوق.

وسرت أسماء برجوع عائشة على عجل لعلها ترجع معها إلى المدينة فتلقى محمدا، فقالت للعجوز: «وأين أم المؤمنين؟ ولم أسرعت في الرجوع من مناسكها؟» فالتفتت العجوز يمنة ويسرة حتى استقر بصرها على فسطاط كبير مبطن بالحرير الأحمر عند بابه بدويان واقفان، فقالت: «هذا هو فسطاطها، وقد وقف الخدم عند بابه.»

فقالت: «وهل نذهب إليها الآن؟»

قالت: «تمهلي لنرى ما يكون من ابن أبي سلمة.» ثم سارت العجوز إليه وكان يعقل ناقته ويصلح حاله قبل الدخول إلى الفسطاط، فازدادت أسماء تهيبا من الدخول على أم المؤمنين وقالت للعجوز: «وهل تنوي الإقامة بهذا المكان؟»

قالت: «يلوح لي أنها على سفر.» ثم دنت من قائد جملها فسألته عن سفر أم المؤمنين فقال: «إنها شاخصة إلى المدينة.»

فقالت أسماء: «وما العمل الآن، هل نرجع معها أم نظل في طريقنا إلى مكة؟»

قالت: «سنرى في ذلك متى التقينا بها، فإذا أمرتنا بالرجوع معها رجعنا وإذا أرادت أن ندخل مكة دخلنا.»

قالت: «هل ننتظر رفيقنا لندخل معه أم نسبقه إليها؟»

قالت: «أرى أن ندخل فسطاطها قبله، مخافة أن تكون هي مسرعة في القيام فلا نتمكن من التكلم معها.»

قالت: «وهل تعرفينها من قبل؟»

قالت: «أعرفها جيدا وقد عشت في بيت أبيها - رحمه الله - وكثيرا ما حملتها على عاتقي وهي طفلة، ولهذا أحن إليها حنين الوالدة.»

قالت: «فلندخل عليها»، قالت: «هلم بنا». ومشت أمامها فتبعتها أسماء حتى دنت من الفسطاط، فاستأذنتا في الدخول فأذن لهما، فدخلتا وكلتاهما هائبة الوقوف بين يدي زوج النبي.

أما أسماء فكانت على شجاعتها وثبات جأشها قد شعرت عند دخولها الفسطاط باضطراب وازداد خفقان قلبها واحمرت وجنتاها، ثم امتقع لونها رهبة من لقاء أم المؤمنين.

وكانت عائشة جالسة الأربعاء على وسادة من الخز في صدر الخيمة، فنظرت أسماء إليها فإذا هي ربعة ممتلئة الجسم تتلألأ الصحة والذكاء من عينيها، وفوقهما حاجبان متقاربان يشيران إلى ما أودعه الخالق فيها من الأنفة والمهابة، وقد تجلببت بجلباب من الحرير يغطي كل أثوابها فوقه نقاب يكسو رأسها فيزيدها جلالا ووقارا.

فاستأنست أسماء برؤيتها لشدة ما أشبهت محمدا حتى لا يشك الناظر إليها أنها أخته، وكانت قد علمت أنها قاربت الثالثة والأربعين من عمرها، فلما رأتها خيل إليها أنها دون الثلاثين لما في وجهها من إشراق وصحة وشباب.

فلما دخلتا حيتاها، وهمت العجوز بتقبيل يدها فمنعتها عائشة وقالت: «أهلا بك يا خالة، أهلا بك»، وأمرتها بالجلوس فجلست. وتقدمت أسماء في خفر واحتشام وقبلت يدها ووقفت متأدبة حتى أذنت لها في الجلوس، فجلست مطرقة لا تتكلم وقد ذهبت عنها جرأتها لتهيبها اللقاء.

فنظرت عائشة إلى العجوز وابتسمت كأن في نفسها أمرا تخشاه أو كأنها مشتغلة بأمرها، وقالت: «مرحبا بك يا خالة، ما الذي جاء بك إلينا؟ كيف فارقت محمدا؟»

قالت: «فارقته في خير وعافية، وقد بعثني إليك بهذه الفتاة أودعها عندك لتكون في كنفك حتى يجيء.» قالت ذلك وتبسمت.

فنظرت عائشة إلى أسماء فأعجبها ما فيها من الجمال والكمال، وأدركت مما علا وجهها من ظلال الحياء عند ذكر محمد أنها تحبه، فتبسمت ورنت إلى العجوز بعينيها مشيرة إشارة أثبتت ظنها.

فقالت لأسماء: «أهلا بالضيفة العزيزة وديعة أخي فأنت إذن أختي.»

فتوردت وجنتا أسماء خجلا ولم تجب.

فقالت عائشة: «أظنكما جئتما لتقيما عندي بمكة؟» قالت العجوز: «نعم يا مولاتي.»

قالت: «ولكنني شاخصة الآن إلى المدينة فاذهبا إلى بيتي بمكة حتى أعود، أو تعاليا معي إلى المدينة.» ثم التفتت إلى أسماء وقالت: «وما بالك لا تتكلمين؟»

فرفعت أسماء رأسها وقالت: «تلعثم لساني بين يدي أم المؤمنين زوج الرسول.»

فابتدرتها عائشة قائلة: «ولكنك ستكونين من ذوات قربانا بإذن الله فلا تتهيبي. أهلا بك ومرحبا.»

فقالت العجوز وهي تريد أن تداعب أسماء: «لتعلم مولاتي أن أسماء بنت يزيد من بني أمية، قدمت المدينة من قبل منذ بضعة أشهر فقط، وكانت مقيمة بالشام فلا تعرف عادة أهل الحجاز.»

فقالت عائشة: «مهما يكن من أمرها فلن تلبث حتى تصير حجازية.» •••

وسكتت عائشة هنيهة وهي مقطبة الوجه، ثم استأنفت الحديث فقالت: «وهل جئتما في رفاق أم مع قافلة؟»

قالت: «جئنا مع عبيد بن أبي سلمة أحد أخوالك.»

فلما سمعت عائشة اسمه أجفلت وقالت: «وأين هو؟!» قالت: «آت عما قليل.»

فلم تصبر عائشة ونادت بعض من على بابها وأمرته أن يأتي به ، وأرخت النقاب ولبثت صامتة، وهما صامتتان هائبتان، حتى دخل عبيد وهم بتقبيل يد عائشة فمنعته، وقالت: «أهلا بالخال، قل ما وراءك، كيف فارقت المدينة؟»

قال: «فارقتها وقد قتل عثمان وبقي ثمانية.»

فلما سمعت ذلك قطبت حاجبيها وظهر الغضب على وجهها، فتفرست في عبيد والشر يكاد يتطاير من حدقتيها، وأسماء تراقبها من خلال النقاب وقد ذهلت لما بدا منها.

أما عائشة فلم تصبر حتى يتم حديثه، فقالت وكأنها تتحفز للنهوض: «ثم صنعوا ماذا؟»

فلم يستغرب عبيد ما بدا منها، ولعله كان يتوقعه فقال: «أجمعوا على بيعة علي.»

فهبت عائشة من مجلسها، ثم وقفت وأطرقت وقد أمسكت طرف نقابها كأنها تصلحه، ثم رفعت رأسها بغتة وأشارت بيدها إلى السماء ثم إلى الأرض وقالت: «ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك!» قالت ذلك وخرجت مسرعة وهي تقول: «ردوني، ردوني إلى مكة! قتل والله عثمان مظلوما! والله لأطالبن بدمه!»

فبغتت أسماء لما رأت من اهتمام عائشة بالأمر إلى هذا الحد، وساءها ما سمعته من التعريض بعلي، ولكن التهيب منعها من الكلام.

أما عبيد فبقي رابط الجأش، وربما كان على بينة مما سيبدو من أم المؤمنين فأعد لكل خطاب جوابا، فاستوقفها وقال لها: «ولم؟ والله إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر! ألم تخرجي قميص رسول الله وشعره لما علمت بأعمال عثمان وتقولي: هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه ...؟!»

فلما سمعت عائشة قوله أدارت وجهها إليه وقالت: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقولي الأخير خير من قولي الأول.» قالت ذلك وأمرت رجالها أن يهيئوا الأحمال للرجوع إلى مكة. فنظر إليها عبيد وهي خارجة وأنشد:

فمنك البداء ومنك الغير

ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام

وقلت لنا إنه قد كفر

فنحن أطعناك في قتله

وقاتله عندنا من أمر

ولم يسقط السقف من فوقنا

ولم تنكسف شمسنا والقمر

وقد بايع الناس ذا تدرإ

يزيل الشبا ويقيم الصعر

ويلبس للحرب أثوابها

وما من وفى مثل من قد غدر

فلم تعبأ عائشة بقوله، فتركها وانصرف.

أما أسماء فلبثت هي والعجوز وكأن على رأسيهما الطير لا يفقهان حديثا، وكانت أسماء قد همت بأن تجيب عائشة ولكنها خافت غضبها، فرأت من الحكمة والتعقل أن تؤجل ذلك إلى فرصة أخرى.

فلما تهيأت الأحمال بعثت عائشة إلى العجوز وأسماء فركبتا معها، وسار الجميع قاصدين البيت الحرام، وأسماء صامتة وقد أدهشها ما رأته من تغير عائشة بغتة لأمر لم تكن تتوقعه. على أنها مالت لمعرفة الدليل على صحة قولها في مقتل عثمان وهو الأمر الذي كان يقض مضجعها، وكانت من جهة أخرى تخشى أن يثبت قتله ظلما فيحدث ما يدعوها إلى البعد عن محمد وهذا ما لا تطيقه، فقضت مسافة الطريق هائمة الفكر حتى أطلت على مكة وأشرفت على الكعبة، وهي في وسطها كأنها ملك والأبنية حولها جنود. ولم يمض قليل حتى وصل ركبهم إلى الكعبة فترجلت عائشة وترجل الجميع، وسارت توا إلى الحجر فاستترت فيه، وهو مصطبة محوطة بحائط إلى ما دون الصدر، منه ما تركت قريش من الكعبة واقتصرت في بنيان الكعبة عنه، ويقال إن فيه قبر سارة. فلما رأتها أسماء تدخل الحجر دخلت في أثرها والعجوز معها، ولكنهما لم يتكلما لتهيبهما من غضبها. •••

ما كادت عائشة تدخل الحجر حتى اجتمع الناس حولها وفي مقدمتهم عبد الله بن عامر الحضرمي عامل عثمان على مكة، ورأت أسماء بينهم جماعة من بني أمية ممن غادروا المدينة بعد مقتل عثمان ولم يكن مروان معهم. ولم يكد يستقر بالناس المقام حتى وقفت فيهم عائشة وقالت وهم سكوت يصغون إليها، وكانت جهورية الصوت: «أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة، اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم من كان قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان، فسفكوا الدم الحرام وأخذوا المال الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم ، ولو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه!»

فما أتمت كلامها حتى هاج الناس وماجوا، ثم تصدى عبد الله بن عامر الحضرمي وقال والناس يسمعون: «ها أنا ذا أول طالب.» وكان هو أول من أجاب الدعوة إلى المطالبة بدم عثمان.

وكانت أسماء تزداد حيرتها ولا تفقه لهذا الأمر سببا معقولا، فالتفتت إلى العجوز فرأتها صامتة مطرقة وقد امتقع لونها وارتجفت شفتاها. فأدركت أن في الأمر سرا لا تستطيع أن تبوح به.

وأذنت الشمس بالمغيب فأشارت عائشة إلى الناس أن ينصرفوا فتفرقوا، وخرجت هي إلى منزلها وأسماء في أثرها وقد هالها ما رأته في يومها من المدهشات.

وجاء القوم إلى منزل عائشة في العشاء فأطعموا، ولم تجرؤ العجوز ولا أسماء أن يجلسا معها تلك الليلة، فباتتا وأسماء تنتظر الغد لترى عائشة وتستطلعها الخبر اليقين. فلما أقبل الصباح نهضت أسماء والعجوز، وقالت أسماء: «لقد أدهشني أمر لم يبق لي صبر على السكوت عنه، وليس لي من يفرج كربتي سواك.»

قالت: «سلي ما تريدين؟»

قالت: «لقد سمعت من أم المؤمنين ما جهرت به في شأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو كما تعلمين ابن عم الرسول وهي زوجه، فما بالها تعمل عليه وكان أولى بها أن تكون معه؟!»

ففهمت العجوز وجالت بعينيها ونهضت كأنها تقول: «لا يعنيني هذا ولا أريد البحث فيه.» وكانت ملامح وجهها تنم عن تكتمها، فتوسلت إليها وألحت عليها فقالت: «إن في الأمر سرا قل من يعرفه سواي، ولكنني أخاف أن أبوح به.»

فازدادت أسماء شوقا لسماع السر، وجرت نفسها على البساط حتى التصقت بها وقالت: «بالله عليك فرجي كربتي بكلمة، ولن أبوح بشيء مما تقولين!»

فالتفتت العجوز يمنة ويسرة تحاذر أن يسمعها أحد وأدنت شفتيها من أذن أسماء وهمت بالكلام، ثم أجفلت بغتة وابتعدت عنها وأصغت فإذا بوقع أقدام خفيفة ثم بقارع يقرع الباب وجارية تناديها، فنهضت وفتحت الباب فدخلت جارية حبشية حيتها وقالت: «إن مولاتي أم المؤمنين تدعوكما إليها.» •••

فسرت أسماء لهذه الدعوة على أمل أن تتمكن من الاطلاع على شيء مما ترومه، ودخلتا على عائشة فإذا هي جالسة على طنفسة من السجاد الثمين وقد خلعت الجلباب فبانت أثوابها الزاهية، وبان معصماها وعنقها، وعليها الدمالج والأساور والعقود مما زادها مهابة وجمالا. فلما دخلتا قبلتا يديها وجلستا على وسائد من الدمقس الملون بالقرب منها، فلبثت برهة لا تتكلم ثم وجهت خطابها إلى العجوز وقالت: «كيف قتلوا عثمان يا خالة؟»

قالت: «دخلوا عليه عنوة وقتلوه في داره بعد أن أحرقوا الباب والسقيفة.»

قالت: «من قتله؟ وكيف كان ذلك؟»

فسكتت العجوز برهة ثم قالت: «لا أظنني أستطيع وصف الحادثة كما تصفها أسماء فقد شهدتها بنفسها وكانت في داره ساعة مقتله.» فالتفتت عائشة إلى أسماء وقالت: «هل كنت في الدار ساعة القتل؟» قالت: «نعم يا مولاتي.»

قالت: «وكيف كان ذلك؟» فشق على أسماء أن تقص الواقعة كما جرت لأنها تمس محمدا، ولكنها لم تر بدا من الجواب فقالت: «يطول الحديث لو أردت بسطه، ولكني أوجزه فأقول: إنهم استتابوه فتاب ثم رجع، ولقد نصح له علي بأن يصم أذنيه عن سماع مشورة كاتبه وابن عمه مروان فلم يصغ، وعاد إلى ما كان عليه. وعلم الثائرون ذلك فطلبوا إليه أن يسلمهم مروان فيعودوا، فلما أبى دخلوا منزله عنوة وقتلوه.»

قالت: «ومن قتله؟» قالت: «اثنان لا أعرفهما ولكنهما من صعاليك العرب، وليسا من الصحابة ولا من أبنائهم.»

فتأوهت عائشة وحرقت أسنانها وقالت: «كيف يقوى الصعاليك على قتل الخليفة وكبار الصحابة ينظرون ولا يدفعون عنه بسيف أو لسان؟!»

فقالت أسماء: «إنهم دافعوا عنه جهدهم، إن عليا أرسل ابنيه الحسن والحسين إلى الدار، وكذلك فعل الصحابة. رأيتهم هناك يدفعون الناس عن بابه حتى تلطخ وجه الحسن بالدم. ولكن عثمان - رحمه الله - منعهم.»

فتبسمت عائشة ابتساما إنكاريا، وقالت: «أتصدقين أن عليا أراد أن يدفع الناس عن عثمان فلم يستطع؟!» وسكتت كأنها ضاقت ذرعا بالخوص في تفاصيل الموضوع، وكادت تهم باستئناف الحديث فابتدرتها قائلة: «اسمحي لي يا مولاتي أن أؤدي شهادة لا أستحي أن أصرح بها أمام الديان العظيم: إن عليا بريء من دم عثمان، بل هو أول ناقم على هذه الفتنة ويراها مضعضعة الإسلام لا سمح الله!»

قالت: «أراك يا بنية تنظرين إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، أيعقل أن عليا وهو صاحب الكلمة التي لا ترد في أهل المدينة قصد إلى الدفاع عن عثمان وأنه غلب على أمره؟!»

قالت: «عرفت يقينا أنه أول غاضب على القائمين بهذه الفتنة، ولقد سمعته اتفاقا ذات ليلة وهو يناجي رسول الله عند قبره، يشكو إليه ما أصاب أمته من التشتت بعده، فسمعت كلاما يتفتت له الصخر يتخلله البكاء حزنا على الإسلام. إن عليا يا مولاتي مخلص في قوله وفعله ولا لوم عليه، ولعلك إن وجهت اللوم إلى القاتلين أو المحرضين وجدت القول ذا سعة، وأما إلى علي فلا.» قالت ذلك وهي ما زالت تتهيب موقفها بين يدي أم المؤمنين، فما أتمت كلامها حتى تصبب العرق من جبينها. فتحركت عائشة في مجلسها وقالت وقد أخذ منها الغضب مأخذا عظيما: «إن أولئك القتلة قد اقترفوا إثما عظيما وأكثرهم لا يشعرون، وإنما حرضهم على هذا المنكر شيوخهم ورؤساؤهم، فإنك تجهلين أمورا أعلمها ولا أجهل شيئا تعلمينه!» وسكتت برهة وأسماء مطرقة وقد تحيرت كيف تجيب. فاستأنفت عائشة الحديث وقالت: «لقد وقع إلي أن أخي محمدا كان في عداد المغرورين»، ثم خفضت صوتها وقالت وهي تلقي يدها على الوسادة لتتكئ عليها: «ولكنه غير ملوم.»

فلما سمعت أسماء ذلك ثارت ثائرة حبها محمدا وهمت بأن تدرأ عنه التهمة، وخشيت أن يؤدي بها الدفاع إلى الكذب فلبثت صامتة، ونظرت إلى العجوز فرأتها ترتعش خوفا ورهبة. وظل الجميع برهة لا تفوه إحداهن بكلمة حتى عادت عائشة إلى الكلام، فنظرت إلى أسماء وقالت وهي تحاول إخفاء غضبها: «لا أنكر أن عثمان أخطأ في تصريفه أمور الخلافة، ولكنه خطأ لا يدعو إلى القتل.»

فأحبت أسماء أن تسمع رأي عائشة فيما ارتكبه عثمان من الخطأ فقالت: «هذا ما سمعته من أخيك محمد، ولكنه يرى أن خطأه أعظم من أن يغتفر.»

قالت وقد عاودها غضبها: «إن محمدا لا يعرف ما أعرفه، ولو جاءني الآن لجادلته وأقنعته بضلاله!» ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت إحدى الجواري تقول: «إن بعض الأمراء بالباب.» فلما سمعت أسماء ذلك نظرت إلى عائشة فرأتها توقفت عن صرف الجارية، فأدركت أنها راغبة في مقابلة القادمين فنهضت واستأذنت في الانصراف إلى حجرتها فأذنت لها، فخرجت والعجوز في أثرها وكلتاهما صامتة تفكر فيما سمعته. •••

وأحست أسماء عقب خروجها بقشعريرة شديدة، فأوت إلى الفراش والبرداء تعمل في أحشائها، فتبعتها العجوز وجلست إلى جانبها وجست يدها فإذا هي باردة كالثلج، فدثرتها وأكثرت في غطائها وهي تنتفض بردا. فقلقت العجوز وسألتها عما بها فقالت: «أحس بارتخاء في أعضائي ورعدة في أحشائي.» قالت ذلك وأسنانها تصطك، فأرادت العجوز أن تخفف عنها فقالت لها: «لا بأس عليك، إن ما أصبت به من أثر التعب الذي قاسيناه في الطريق.»

وظلت العجوز تخفف عنها حتى خفت البرداء واحمر وجهها احمرارا شديدا، فجستها العجوز فإذا هي محمومة فخففت من دثارها وخرجت تستشير أهل الدار في علاجها، فأشارت عليها بعض النساء بعسل تشربه ممزوجا بالماء، فجاءتها بقدح من مزيجه فلم تتناول منه شيئا. فتقدمت إليها وقبلتها وتوسلت إليها أن تشرب العسل فلم تجبها، ثم ما لبثت أن رأت دموعها تهمي وهي تحاول إمساكها، فألحت عليها أن تشرب فازدادت أسماء بكاء وشهيقا وقد احمرت عيناها وذبلت أجفانها، واشتدت عليها الحمى اشتدادا عظيما.

فحارت العجوز في أمرها وحدثتها نفسها أن تنبئ أم المؤمنين بما حدث فتذكرت اشتغالها بمن قدم إليها من الأمراء، فلبثت بجانب الفراش تنظر إلى أسماء ولا تتكلم.

ثم سكتت أسماء وأغمضت عينيها كأن النعاس غلب عليها ففرحت العجوز لنومها، فتركتها وخرجت لعلها تلقى من تستشيره في علاجها، ولم تكد تخرج حتى سمعت أسماء تتكلم فظنتها تدعوها فأسرعت إليها، فإذا هي تهذي وقد انكشف الغطاء عنها وانحسر درعها وقميصها عن صدرها وانكمشت أكمامها لفرط تقلبها. فهمت العجوز بأن تغطيها وتصلح أثوابها فخافت أن توقظها، فدنت من الفراش لترفع الغطاء إلى صدرها فرأت الحجاب في عنقها ورسم الصليب على معصمها، فبغتت وتأملت في وجهها فراعها أن رأت لمحة من غير ملامح العرب الغرباء، وتفرست في رسم معصمها فإذا هو رسم الصليب وتحققت أن الحجاب من أحجبة النصارى فاستغربت الأمر، ثم تذكرت أن أسماء قلما كانت تبالي التحجب في حديثها مع محمد أو غيره، فقالت في نفسها: «لعلها كانت نصرانية وربيت بين النصارى في الشام.»

وكانت أسماء ساكنة استغرقت في النوم وقد أطبق جفناها وتوردت وجنتاها وأسرع تنفسها من الحمى، فكانت تلهث وفمها مفتوح فأزاحت العجوز الغطاء إلى صدرها خوف البرد، فسمعتها تهذي فأصغت لهذيانها فإذا هي تقول: «أماه! يا أماه! يا مريم! آه يا علي يا أبا الحسن، كيف ضاع السر؟! تعال يا حبيبي يا محمد! لا، لا، إذا كنت قد قتلت عثمان فابعد عني! لا، لا، بل تعال يا منيتي ورجائي! إن اسمك كان آخر ما نطقت به أمي! آه يا أماه! من هو أبي؟! أخبريني، قولي، أحي هو أم سبقك إلى العالم الآخر؟!» ثم خفضت صوتها وتلجلج لسانها فلم تعد تفهم العجوز شيئا منه، ثم سكتت سكوتا تاما واستغرقت في النوم، فجلست العجوز بالقرب من الفراش وهي تهم بأن تجسها لتتحقق الحمى، وخافت أن توقظها فعاذت بالصمت تفكر فيما سمعت منها وتعجب لجهلها أباها.

وفيما هي في ذلك إذ جاءتها جارية تسعى وتقول: «إن أم الفضل جاءتك زائرة.»

فلما سمعت اسم أم الفضل تحفزت لملاقاتها وقد سرت بقدومها، وبعد هنيهة أقبلت أم الفضل تمشي لا يسمع لمشيها صوت، وكانت في نحو الستين من عمرها. فهمت العجوز بها وحيتها وقبلتها ودخلت بها إلى حجرة أسماء ودعتها للجلوس على البساط.

فقالت أم الفضل وهي لم تنظر أسماء بعد: «إني أشم في هذه الحجرة رائحة الحمى»، والتفتت إلى الفراش وقالت: «من هو المريض عندك؟»

قالت: «لقد جئتني في ساعة حرجة فعسى أن تخففي عني.»

قالت: «إنما جئت لأسألك عن قتل الخليفة - رحمه الله - وما آل إليه الأمر بعده، فقد أهمني أمره كثيرا، وسمعت بقدومك فأسرعت إليك، فأخبريني أولا من هذا المريض عندك؟»

قالت: «هي فتاة جئت بها من المدينة بإيعاز من ابن أختك محمد بن أبي بكر، لتقيم بضعة أيام عند أم المؤمنين حتى نرى ما يكون.»

قالت: «وما شأن ابن أختي وشأنها؟»

فالتفتت العجوز إلى فراش أسماء حذر أن تستيقظ فتسمعها، ودنت من أم الفضل وهمست في أذنها فقالت: «إنه ينوي أن يعقد قرانه بها.»

وأرادت أم الفضل أن تسأل العجوز عن تفصيل مقتل عثمان، فإذا بأسماء تتأوه وأدارت رأسها نحوها وفتحت عينيها، فنهضت العجوز وجست يدها فإذا هي مبللة بالعرق وقد خفت الحمى قليلا فقالت لها: «كيف أنت الآن يا بنيتي؟»

فأشارت برأسها وعينيها أنها في راحة، ثم رأت أم الفضل فاستحيت منها وهمت بالجلوس، فنهضت أم الفضل إليها ودنت منها وهي تقول: «لا تزعجي نفسك يا ابنتي.»

فتوسطتهما العجوز وقالت: «أظنك تستأنسين بلقاء أم الفضل لبابة خالة محمد بن أبي بكر أخت أمه، وأزيدك علما بأنها أول من أسلم بعد خديجة، وهي أيضا زوج العباس عم النبي، وأخت ميمونة زوج النبي. ومن ولدها عبد الله بن العباس من خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل هو ابن عمه وابن عم الرسول، وأظنك رأيته غير مرة في مجلس علي، أو لعلك رأيته في دار عثمان فقد كان يتردد إليه وهو محاصر حتى انتدبه ليحج بالناس.» فلما سمعت أسماء أن أم الفضل خالة محمد استأنست بها، ولما علمت أنها زوج عم النبي وأم عبد الله بن العباس زاد احترامها لها، فجلست وهي تمسح العرق عن جبينها ورحبت بها، فأسرعت أم الفضل وقبلتها وقالت: «أهلا وسهلا بك، كيف فارقت محمدا؟»

فتعجبت أسماء لسؤالها عن محمد وهي لا تحسبها تعرف علاقتها به، فلما رأت العجوز استغرابها ضحكت وقالت: «لا تستغربي يا أسماء، فإنها عالمة بكل شيء ولا يلبث المسك أن يضوع.»

فأطرقت أسماء خجلا ولم تجب.

فجلست أم الفضل إلى جانب العجوز بالقرب من الفراش وقالت لها بصوت منخفض كأنها تحاذر أن يسمعها أحد: «هل اجتمعت بأم المؤمنين؟ وكيف وجدتها؟»

قالت: «وجدتها ناقمة على قتلة عثمان، ولا أدري ما هي عازمة عليه.»

قالت: «علمت أنها يوم وصولها إلى مكة دعت الناس إلى المطالبة بدم عثمان، وكان أول من أجابها منهم عامل هذه المدينة.»

قالت: «نعم، وقد سمعت كلامها وكلامه ومعي أسماء، ولكنني لا أظنها تقرن القول بالفعل.»

فابتسمت أم الفضل استغرابا وقالت: «وما الذي حملك على هذا الظن؟!» والتفتت إلى أسماء فرأتها تلتحف وقد أحست بقشعريرة على أثر جلوسها، فأدنت أم الفضل فمها من أذن العجوز وخفضت صوتها وقالت: «هل تجهلين ما في نفسها على أمير المؤمنين؟»

فعضت العجوز شفتها وأشارت بعينيها كأنها لا تريد الخوض في هذا الأمر أمام أسماء، وقالت: «إذن تظنينها مقدمة على الأمر؟»

فتطاولت أم الفضل بعنقها نحو الباب حتى أطلت على الدار مخافة أن يسمعها أحد وقالت: «لا بد لها من ذلك فإن أهل مكة يد واحدة في هذا الأمر، وفيهم بنو أمية الذين هربوا من المدينة. وقد وقع إلي أن الزبير وطلحة قادمان أيضا وكل منهما يريد الخلافة. وقد سار قوم لاستنصار أهل البصرة، وآخرون للكوفة، وغيرهم لتحريض أهل اليمن، وآخرون إلى الشام.»

فابتدرتها العجوز قائلة: «أما أهل الشام فليسوا في حاجة إلى من يحرضهم، وفيهم معاوية ابن عم عثمان، وقد حملوا إليه قميص عثمان الملطخ بالدم وأصابع نائلة ليهيجوا أهل الشام على القاتلين.»

فتنهدت أم الفضل وتأوهت وقد عظم عليها ما تتخوفه من تفاقم الفتنة حتى تناثر الدمع من عينيها وسكتت. •••

كانت أسماء تسمع حديث أم الفضل والعجوز وهي مضطربة لا تقوى على جواب، فلما رأت أم الفضل تبكي تذكرت بكاء علي عند قبر النبي في الليلة التي رأت فيها محمدا لأول مرة، فانتقل ذهنها إلى محمد وما يعترض آمالها فيه من أمر اتهامه بقتل عثمان، وكانت لما سمعت من قبل كلام عائشة انقلبت على محمد وكادت تتحقق ما سمعته لو لم يقم في قلبها برهان حبه، على أنها لم تزل على رغبتها في سماع دفاعه أو دفاع من يقول بقوله ويرى قتل عثمان. فلما رأت سعة علم أم الفضل وقد رافقت الإسلام في كل أطواره، كلمتها بصوت مختنق من تأثير الحمى فقالت: «إن في نفسي شيئا لا صبر لي عليه.» قالت: «ما هو؟»

قالت: «لقد شهدت مقتل عثمان - رحمه الله - وسمعت دعوى الناس عليه، ولكنني تحققت مما وقع من حوادث كثيرة أنهم ظلموه، وأن الذنب ليس ذنبه ولكنه ذنب مروان ابن عمه فقد كان يصرف شئونه كيف يشاء. لكن ابن أختك (تريد محمدا) يزعم أنه يستوجب القتل، وقد جادلته في الأمر فوعد بأن يقنعني ويجيئني بالبرهان.»

فلما سمعت أم الفضل كلامها تنهدت وقالت: «وقعت على خبير، فإني أعرف عثمان قبل إسلامه وأعرف ترجمته وما استتر منها وما ظهر، وهي لا تخلو مما يهيج الأحزاب عليه ويبعث الضغائن، وأظنه لو وفق إلى وزير أو مشير عاقل أو كاتب غير مروان لما بلغ الأمر حده. وإليك ما صنعه عثمان مما أثار الصحابة عليه:

أولا:

إنك قد تعلمين أن الصحابة هم الذين قاموا بنصرة الإسلام وتأييد دعوته منذ ظهوره، فهم أولى من سواهم بولاية الأمصار وتولي الأعمال، وكانوا كذلك على عهد أبي بكر وعهد عمر بعده، فلما تولى عثمان عزل الصحابة وولى آخرين من ذوي قرابته كما فعل بعمرو بن العاص في ولاية مصر، وهو الذي فتحها وغرس الإسلام فيها فعزله وولى مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة. وقد كان عبد الله هذا في جملة من ارتدوا بعد إسلامهم ولحق بالمشركين فأهدر النبي دمه، فأخذ له عثمان الأمان بعد فتح مكة.

ثانيا:

أسرف عثمان إسرافا شديدا في بيت المال، فكان يعطي منه أناسا من قرابته طردهم النبي

صلى الله عليه وسلم . ولا يغرنك ما يقال عن تقشفه وزهده في طعامه.

ثالثا:

أساء إلى جماعة من أعلام الصحابة وذوي المكانة في الإسلام، منهم عبد الله بن مسعود وأبو ذر الغفاري، فنفاهم من أوطانهم. وانتهك حرمة كعب بن عبدة البهري وحرمة الأشتر النخعي في أمور يطول شرحها.

رابعا:

أكثر من الضرائب على الأسواق، وحمى سوق المدينة في بعض ما يباع ويشرى، فأمر ألا يشتري منها أحد النوى حتى يفرغ وكيله هو من شراء ما يحتاج إليه. وحمى البحر من أن تجري فيه سفينة إلا في تجارته.

خامسا:

أقطع أصحابه إقطاعات كثيرة من بلاد الإسلام مما لم يكن له فعله.

وهناك أمور أخرى نسبوها إليه كمخالفة الجماعة في إتمام الصلاة بمنى، وانفراده بأقوال شاذة ونحو ذلك. ولكن لأصحابه حججا يدفعون بها عنه، وهي طويلة لو أردت ذكرها لطال بنا الكلام.

وكانت أم الفضل تتكلم بصوت منخفض، وأسماء تمد عنقها وكلها آذان مصغية فاطمأن قلبها لأنها وجدت لمحمد عذرا وافق هواها، كأنها ألقت عن ظهرها حملا ثقيلا، وكان الإعياء قد بلغ منها مبلغه فاستلقت ونامت. وخرجت العجوز وأم الفضل إلى بستان فيه نخلات متقاربة فجلستا تتبادلان الحديث وأسماء نائمة، وأم المؤمنين في شاغل عنهما بمن عندها من الأمراء.

وأخيرا قالت أم الفضل: «رحم الله عثمان، وأيد عليا! فإني لا أرى خيرا منه للقيام بأمر المسلمين لقرابته وعلمه وفضله وشجاعته وسبقه إلى الإسلام. على أن ابني عبد الله (عبد الله بن عباس) يرى أنه ضعيف الرأي ولكنه يؤثره على كل من سواه، وقد رأيته فرحا بخلافته عندما لقيته بالأمس.»

قالت: «أولا يزال هنا منذ أن جاء للحج؟»

قالت: «حينما حاصروا عثمان أمره أن يحج بالناس، فلما جاءه نبأ قتل عثمان وولاية علي أسرع ليكون بين يديه.»

وتذكرت العجوز حال أسماء فقالت: «ماذا ترين أن أفعل بأسماء ومرضها؟» قالت: «أظنها تشفى غدا، اسقيها العسل.»

فقالت: «سأحمل أم المؤمنين على أن تسقيها إياه.»

وبينما هما في الحديث رأتا الغلمان في حركة وهم يهيئون الخيل ويعدون الجمال للركوب، فعلمتا أن الأمراء أوشكوا على الخروج من عند أم المؤمنين، فنهضت أم الفضل وودعت العجوز وانصرفت.

وسمعت العجوز جلبة، ثم رأت جماعة خارجين من الدار معظمهم من بني أمية وعلى وجوههم سمات الظفر، ولم تجد بينهم أحدا تعرفه فانزوت حتى انصرفوا، ودخلت حجرة أسماء وهي في قلق لئلا تكون قد أفاقت في أثناء غيابها فوجدت الحجرة مفتوحة وعند بابها خف عرفت أنه خف أم المؤمنين، فعلمت أنها جاءت تتفقد أسماء فأسرعت فرأتها واقفة عند رأس أسماء، فأشارت أم المؤمنين إليها بأناملها وشفتيها أن تمشي الهوينى وألا تخاف. فأبطأت في خطاها حتى دنت من أسماء فوجدتها نائمة وقد كلل العرق جبينها، فسألتها عائشة عن حالها فقالت: «إنها شعرت بالبرداء عندما خرجنا من عندك ثم أصابتها الحمى.»

قالت: «اسقيها العسل».

قالت: «جئت إليها بقدح منه فلم تشرب.»

قالت: «إلي به، أنا أسقيها فإنه فيه شفاء.» والتفتت إلى أسماء فرأتها تحركت وأخذت تمسح العرق عن وجهها بكفيها فدنت من فراشها، ففتحت أسماء عينيها ولما رأت أم المؤمنين أجفلت ونهضت وقد توردت وجنتاها، فقالت لها عائشة: «لا تزعجي نفسك يا بنية.» وجست يدها فإذا هي لا تزال حارة وقد ذبلت عيناها واحمرتا من شدة الحمى.

فقالت لها عائشة: «ألم تشربي العسل يا أسماء؟»

فقالت: «لا أشتهي طعاما يا مولاتي ولا حلواء.»

قالت: «إنما هو دواء فيه شفاء للناس وقد سمعت رسول الله يقول: «الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار. وأنهى أمتي عن الكي»، وكان يحب الحلواء والعسل.» قالت ذلك ودفعت القدح إلى أسماء فأخذته وشربته، ولم يمض قليل حتى أحست برطوبة حلقها، وأوصتها عائشة بأن تشرب شيئا من لبن الإبل فأطاعت. وبعد شرب اللبن انتعشت فجلست في الفراش، ورجت من أم المؤمنين أن تمكث عندها لأنها استبشرت بها خيرا.

فقالت عائشة: «بل أرى أن ننزل إلى البستان بالعريش لأني مللت الخباء، وقد تزاحم الناس علي اليوم.» فنهضن هن الثلاث ومشين حتى وصلن إلى البستان وهو محاط بسور من سعف النخل وفي وسطه عريش مصنوع من الجريد يستظل به وقد نصبوا فيه مقاعد من الجريد والخشب، فدخلنه وجلسن فيه وأم المؤمنين صامتة.

الفصل العاشر

طلحة والزبير

لم يكد يستتب بهن الجلوس حتى سمعن جعجعة وصهيلا وجلبة ، فقطبت عائشة حاجبيها تطلعا لما يأتيها من أخبار القادمين، وما عتم الخادم أن دخل فقالت: «ما وراءك يا غلام؟» قال: «إن ركبا قادمين من المدينة وفيهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام يستأذنون.» فلما سمعت أسماء ذلك أجفلت وتحفزت للنهوض للعود إلى البيت، لتخلو أم المؤمنين بالقادمين.

فقالت عائشة: «لا أرى ما يدعو إلى دخولك البيت الآن، وإذا رأيتما ألا تحضرا مجلسنا فكونا وراء هذا العريش.»

فنهضتا إلى مقعد وراء العريش جلستا عليه. وقد سرت أسماء ببقائها لعلمها أن طلحة والزبير قادمان من المدينة بعدها ولا بد من خبر جديد جاءا به، أو أنهما جاءا في أمر يهمها الاطلاع عليه لعلاقته بالإمام علي وهي تعلم أنهما بايعا عليا مكرهين. فلبثت مستترة بجانب العريش وأصاخت بسمعها وهي تنظر من خلال الجريد إلى من يدخل العريش.

فأذنت عائشة لطلحة والزبير وأرخت نقابها، فدخلا وهما ما زالا بثياب السفر وقد علاهما الغبار، ومعهما رجال آخرون.

دخل أولا طلحة بصدره العريض ولحيته البيضاء الكثيفة، وكان قصيرا، وقد ازداد وجهه احمرارا من طول السفر وأثر الشمس، وكانت أسماء قد رأته غير مرة في المدينة فلم تستغربه. ثم دخل الزبير وهو يمتاز عن طلحة بخفة عضله وقلة شعر لحيته. ودخل في أثرهما ابناهما. فقالوا: «السلام عليك يا أم المؤمنين.»

قالت: «وعليكم السلام يا أصحاب الرسول ونخبة المهاجرين وحماة الإسلام.» وأذنت لهم بالجلوس فجلسوا مطرقين لا ينظرون إليها إجلالا لحرمتها. فخاطبت طلحة والزبير قائلة: «من أين أتيتما؟»

فأجابها طلحة: «جئنا من المدينة.»

قالت: «وكيف فارقتماها؟»

قال: «إنا تحملنا هربا من غوغاء وأعراب، وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم.» قال ذلك وعلائم الغضب تبدو من خلال حديثه، والزبير يهم بالكلام كأنه لم يكتف بما قاله طلحة.

فقالت: «كيف يقتل عثمان وأنتم تنظرون؟!»

قال الزبير: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد دافعنا عنه بأولادنا وأنفسنا! ولكن الغوغاء غلبت علينا فلم نمنع قدرا واقعا.»

قالت: «ثم بايعتم وأنتم راضون!»

قالا بصوت واحد: «لم نبايع إلا والسيف على أعناقنا، وما نحن راضون بهذه المبايعة.»

قالت: «انهضوا إذن إلى هذه الغوغاء وطالبوا بدم ذلك الرجل المقتول.»

قالا: «إنما جئنا لذلك.»

فقالت: «وقد جاءنا أيضا عبد الله بن عامر ابن خال عثمان وعامله على البصرة ولما سمع بمقتله حمل ما في بيت المال وجاء إلينا، وكذلك يعلى بن منية جاء من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وقد أناخ في الأبطح. وقد كانا عندي اليوم.» •••

ولم تتم كلامها حتى جاءها غلام ينبئها بقدوم ابن عامر وابن منية فقالت: «ليدخلا.» فدخل أولا ابن عامر وهو شاب في الثلاثين من عمره وعليه جبة حمراء، ثم دخل يعلى بن منية وهو يمشي عرجا وقد كسرت فخذه في طريقه من اليمن، وكان قد سمع بمقتل عثمان فأقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه. فجاء برجاله وماله. فلما دخل ابن عامر وابن منية سلما على طلحة والزبير، فقال طلحة لابن منية: «ما لي أراك تمشي عرجا؟!»

قال: «كسرت رجلي وأنا قادم لنصرة عثمان. ولكن معي المال والرجال، قوموا بنا للأخذ بالثأر.»

فقال الزبير: «هلم بنا إلى الشام.»

فاعترضه ابن عامر قائلا: «ما لنا وللشام وفيها معاوية وهو يكفيكموها؟ ولكني أرى أن تأتوا البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى وهم ميالون لمبايعته.» فقالوا: «قبحك الله! إنك تريد الفتنة. ولكن دعنا من ذلك ولنسر إلى البصرة.»

فتم الرأي على أن يسيروا إلى البصرة، يدعون من بها للطلب بدم عثمان وينهضونهم كما أنهضوا أهل مكة. •••

وكانت أسماء تسمع حديثهم من وراء العريش، فلما علمت بما تم إجماعهم عليه عظم عليها الأمر وتحققت أن الفتنة واقعة لا ريب فيها فأثر ذلك في نفسها، فاضطربت وخفق قلبها وثارت الحمية في رأسها حتى كادت تهم بالنهوض والدخول على الجمع. فأدركت العجوز اضطرابها فأمسكت بيدها فإذا هي ترتعش، فأخذت تهدئ من روعها خوفا عليها، ولكن هذه قالت لها: «لا صبر لي على ما أسمع، وهم إنما يريدون الانتقاض على الإمام علي بعد أن رأيتهم بعيني يبايعونه ويقسمون على الطاعة!»

وما لبثت أن سمعت صوتا ارتعدت له جوارحها، وكان صوت مروان وقد أقبل ودخل العريش. وقبل أن يلقي التحية خاطب طلحة والزبير ضاحكا يقول: «على أيكما أسلم بالإمارة وأؤذن للصلاة؟!» يلمح إلى أن أحدهما سيكون أمير المؤمنين.

فأجابه عبد الله بن الزبير: «على أبي». فاعترضه محمد بن طلحة وقال: «بل على أبي.» فضحك مروان وقال: «بل اجعلوا الخلافة في ولد عثمان لأنكم إنما خرجتم تطالبون بدمه»، فقال طلحة: «كيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟!» فأجاب وهو يتمتم: «لا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف.»

فابتدرته أم المؤمنين قائلة: «أتريد أن تفرق أمرنا يا مروان؟ ليصل بالناس ابن أختي.» تعني عبد الله بن الزبير.

فلما سمعت أسماء كلام مروان لم تعد تستطيع صبرا، ولا سيما بعد أن رأت عائشة تنتهره، فنهضت وأسرعت إلى العريش واخترقت الجمع وهي ترتجف وقد امتقع لونها فلما رآها الناس بغتوا، وكان طلحة والزبير يعرفانها. فوقفت غير هيابة ولا وجلة ونظرت إلى مروان وقالت: «أما كفاك يا مروان ما أيقظت من الفتنة في المدينة؟! أما كفى أنك السبب في مقتل الخليفة حتى جئت تلقي الشقاق بين بقية الصحابة؟! والله لولا حرمة أم المؤمنين لأرقت دمك بين يديها! فلا أراك براجع عن غيك حتى تفتن المسلمين وتغري بعضهم ببعض!» والتفتت إلى أم المؤمنين لترى ما يبدو منها.

فلما سمع القوم كلامها لاذوا بالصمت وهي ترتجف وتتجلد، فأجابها مروان وهو يضحك وقال: «تذكرين أني قتلت الخليفة، في حين لم يقتله إلا صاحبك محمد ربيب علي، وسوف يلقى كل منهما جزاء ما قدمت يداه.»

فقالت: «لا تنطق باسم ابن أبي بكر شقيق أم المؤمنين، ولا تلفظ اسم ابن أبي طالب أمير المؤمنين، ووالله لو أنه بيننا لتلعثم لسانك وما نجوت!»

فهم مروان بأن يجيبها فأسكتته أم المؤمنين قائلة: «أتذكر أخي محمدا يا مروان؟! اسكت. وأنت يا أسماء خففي عنك وأنت مريضة، اذهبي إلى فراشك.»

وكانت العجوز واقفة بجانبها فأمسكتها وخرجت بها من العريش وهي تكاد تقع لفرط اضطرابها، فلما خرجتا من البستان صاحت أسماء بالعجوز قائلة: «اخرجي بي من هنا، إني لا أستطيع البقاء!»

قالت: «وإلى أين يا ابنتي؟» قالت: «إلى يثرب.»

قالت: «كيف نذهب؟ وماذا نفعل إذا افتقدتك أم المؤمنين فلم تجدك؟»

قالت: «لا أدري ما العمل، ولكنني لا أستطيع البقاء هنا ولا بد لي من الذهاب إلى المدينة.» قالت: «لا أستطيع الذهاب إليها الآن.»

قالت: «اذهبي بي إلى منزل آخر غير هذا المنزل.» قالت: «أتذهبين إلى أم الفضل؟»

قالت: «هيا بنا إليها.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها غيظا. فسارت بها العجوز إلى منزل أم الفضل، فلما دخلتا عليها رحبت بهما، وقد استغربت مجيئهما رغم مرض أسماء.

أما أسماء فلم تكد تصل إلى المنزل حتى عاودتها الحمى وأصابها الدوار، فهمت بالاستلقاء على المصطبة أمام البيت، ولكن أم الفضل دعتها إلى حجرتها فأبت وقالت وقد توردت وجنتاها من شدة الحمى: «خذوني إلى المدينة، احملوني إلى الإمام علي لأطلعه على ما يكيدون، إنهم تواطئوا على الطلب بدم عثمان. ولو طلبوه من قاتله لعذرناهم ولكنهم يريدون عليا وأنا أعلم الناس ببراءته.» قالت ذلك وبكت.

فعجبت أم الفضل لقولها، وشق عليها أمرها وخافت عليها العاقبة، وتاقت لسماع الخبر فقالت: «ما الذي حدث بعد مجيئي؟»

فقصت العجوز عليها ما جرى في العريش، فأجفلت وصاحت: «ويلاه! لقد تقدمت الفتنة، ليت عبد الله ابني هنا! إذن لحملته الخبر إلى علي.» فصاحت أسماء: «دعوني أذهب بالخبر! دعوني أسر إلى الجهاد دفاعا عن المتهم زورا! إن عليا يا قوم بريء من دم عثمان فكيف يطلبونه منه؟!»

فقالت أم الفضل: «دعي هذا إلي، فإني مرسلة رسولا إلى علي بكل ما وقع.» قالت ذلك ودعت خادما فجاءها برجل من جهينة يدعى ظفر، فاستأجرته على أن يحمل كتابها إلى علي بالخبر، فركب الرجل هجينه وسار، وأسماء تشيعه بنظرها وتود أن تكون على رحله.

فلندعها ولنرجع إلى المدينة لنرى ماذا جرى لمحمد.

ودع محمد أسماء عند ركوبها إلى مكة، وعاد وفي نفسه شيء أقلقه لا يدري ما هو، وكان قد خامره شيء من الخوف على أسماء أن تميل عنه إلى الحسن بن علي، ولكنه كان يحبه كثيرا وقد ربيا معا في حجر علي. فقضى مسافة الطريق غارقا في لجة الهواجس، ومما زاده قلقا إرساله أسماء على هذه الصورة وقد شغلته الغيرة قبل سفرها عن تقدير الأمر حق قدره، فوقع في حيرة لا يدري ما يجيب به الحسن إذا سأله عنها، وكيف يعتذر أو ينتحل سببا لسفرها. وشعر لساعته بوطأة الحب وشدة سلطانه، فأجال نظره في الطريق الذي سلكته أسماء وتلفت قلبه، فحدثته نفسه أن يعرج على مكان يقضي فيه نهاره قبل الذهاب إلى دار علي، مخافة أن ينم ظاهره عند لقاء الحسن عما في باطنه. ولكنه لم يجد عذرا لتخلفه يومئذ والناس يتألبون جماعات ووحدانا من كل صوب، ويؤمون منزل الإمام علي وهم بين آمل وخائف وناصر وناقم، وقد علم محمد أن بعض الناس قد بايع عليا وهم يضمرون السوء.

فقضى برهة تتقاذفه الهموم وهو يمشي فلم يشعر إلا وهو بباب علي، ورأى الناس قد تكاثفوا حوله والخيل في بستانه والجمال معقولة إلى جذوع النخل والخدم والعبيد وقوف بينها. فذكر هول ما يشغل عليا وبنيه في ذلك الحين من مهام الخلافة، وأحب أن يشارك الحسن في حمل بعض العبء إلى أن تنتهي الأزمة.

فدخل الدار ومشى إلى حيث تقيم أمه وقد عزم على كشف سره لها لعلها تواسيه، فدخل فرآها جالسة وحدها والهم باد على وجهها فهشت له فحياها، ورأت في وجهه انقباضا فابتدرته قائلة: «ما لي أراك مشرد الذهن يا محمد؟!»

قال يغالطها: «ليس في نفسي شيء غير ما نحن فيه.»

قالت: «أخائف أنت على مصير هذه الخلافة؟»

قال: «لست بخائف، ولكنني أرى المركب خشنا، فإن طلحة والزبير لم يبايعا إلا كرها والكوفيين والبصريين على رأيهما، فأخشى أن يدعوا الناس إلى نقض البيعة.»

قالت: «لا تخف فقد تم الأمر لأبي الحسن، وحوله نخبة من الصحابة يشدون أزره فإذا أحسنوا الرأي استقام له الأمر بإذن الله.»

قال: «لا تغرنك كثرتهم، وفيهم من يضمر غير ما يظهر. ليت عبد الله هنا (عبد الله بن عباس)! فإن له رأيا سديدا، وهو ابن عم أمير المؤمنين.»

قالت: «لعله لا يزال في مكة منذ أن ذهب بالحجيج إليها»، قال: «نعم».

قالت: «ولكن لنا في المغيرة بن شعبة خير مشير، وقد وقع إلي أنه دخل على أمير المؤمنين في الصباح وما يزالان مختليين.»

فقال: «إن المغيرة يا أماه من خيرة الصحابة أصحاب الرأي والدهاء، ولا يخفى عليك أنه أحد دهاة العرب الأربعة.»

فقالت: «ومن هم الثلاثة الآخرون؟»

قال: «معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وزياد بن أبيه.»

وما أتم محمد كلامه حتى سمع وقع أقدام عرف أنها خطوات الحسن، فبغت وقال: «هذا أخي الحسن، فلعله يخبرنا بما دار بين الإمام علي والمغيرة.»

قالت: «ادعه». فخرج محمد ليدعوه فإذا هو قادم فابتدره محمد بالسلام، فرد الحسن تحيته ولم يزد عليها. فخشي محمد أن يكون في نفسه شيء فقال: «أهلا بأخي ابن أمير المؤمنين، لقد كنا في حديث الخلافة، وترانا في شوق لمعرفة ما دار بين مولاي أبي الحسن والمغيرة.»

فجلس الحسن على وسادة بالقرب من الباب، وتشاغل بإصلاح عمامته ولم ذيل ردائه وهز رأسه ولم يجب.

فازداد قلق محمد وظهر الاضطراب على وجهه فتقدم إليه وألح عليه أن يطلعه على جلية الخبر، وهو يحاذر أن يسمع منه لوما أو عتابا بشأن أسماء، فإذا به قد زفر زفرة وقال: «تسألني عن المغيرة؟! إن حديثه لذو شجون!»

قال محمد: «وماذا عسى أن يكون؟» قال: «إن المغيرة صاحب رأي وحزم، ولكن أبي لم يرض أن يعمل بما أشار به. وقد سمعت ما قال وأعجبني رأيه، ولكن أمير المؤمنين رأى غير ما رآه.»

فقال محمد وقد اطمأن من ناحية أسماء: «وما هو الرأي الذي رآه؟»

قال: «أنت تعلم أن بعض الناس بايعونا على دخل (يريد طلحة والزبير)، وإن أخشى ما نخشاه ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة، وإنما من عمال الأمصار في مصر والشام والكوفة والبصرة، وأشد هؤلاء دهاء وأكثرهم عداوة معاوية بن أبي سفيان في الشام وهو كما تعلم ابن عم عثمان، وكذلك ابن عامر في البصرة وهو ابن خال عثمان.» قال محمد: «نعم، ولكن بماذا أشار المغيرة؟» قال: «أشار على أبي بأن يبقي عمال عثمان هؤلاء على أعمالهم ليأمن ثورتهم، ولنر ما يكون بعد أن يستقيم لنا الأمر. فلما أصر أبي على رأيه قال له: اعزل من شئت واترك معاوية فإن فيه جرأة وهو في أهل الشام ولك حجة في إثباته. (وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام قبل عثمان.) فأقسم أبي لا يستعملن معاوية يومين، فخرج المغيرة ولم يزد حرفا.»

فقال محمد: «أترى المغيرة مصيبا؟»

قال: «نعم، إنه رأي الصواب، لأن سكوتنا عن معاوية ورفاقه يهدئهم حتى نرى ما تئول إليه الحال.»

فقالت أسماء أم محمد: «تمهل ريثما يأتي ابن أختي عبد الله بن عباس من مكة، فإن الإمام يقدر رأيه حق قدره.»

قال الحسن: «لا أظن أبي يلين فقد آنست منه إصرارا شديدا، فلنصبر عسى أن يحدث ابن عباس أمرا!» قال ذلك وسكت هنيهة يفكر ثم انبسطت أسرته فجأة كأنه تذكر أمرا سره وتبسم وقال: «إن شئون الخلافة شغلتني عن أمر آخر كنت قد ذكرته لك تلميحا، وكنت قد عزمت على ذكره لأبي اليوم فأمسكني عن ذلك اشتغاله بالمغيرة وحديثه.»

فأدرك محمد أنه يريد خطبة أسماء فكادت البغتة أن تظهر على وجهه، ولكنه تجلد وقال: «وماذا عسى أن يكون ذلك الأمر؟»

قال: «لا أظنك تجهل ما في نفسي نحو أسماء، تلك الفتاة الأموية التي نزلت ضيفة علينا.» ثم حول وجهه إلى أم محمد وقال: «إنها يا خالتي بارعة الجمال وفي وجهها مهابة يندر مثلها في النساء.»

فارتبك محمد في أمره ولم يدر بماذا يجيب، ولكنه تجلد وقال: «لماذا لم تبد رغبتك قبل سفرها؟» فبغت الحسن وقال: «أين سافرت؟» قال: «إلى مكة في صباح هذا اليوم.»

قال: «وكيف ذلك؟! وما الذي حملها على السفر؟! ومن سافر بها وهي وحيدة؟»

قال: «سافرت مع عجوز من قرابتي ورجل من بني الليث من أخوال أختي أم المؤمنين.»

فقطب الحسن وجهه وقال: «وما الذي حملها على السفر؟»

قالت: «سمعتها تذكر أنها تؤثر البعد عن المدينة في أثناء هذا الاضطراب، وطالما أرادت التعرف إلى أم المؤمنين فأظنها ذهبت لتقضي عندها بضعة أيام ثم تعود.»

فأطرق الحسن يفكر، ثم قال: «لا بأس من ذهابها الآن، وسأنتهز فرصة يخلو فيها وجه [ابن] أبي طالب فأطلب منه أن يخطبها لي، فإذا لم تكن قد عادت نبعث في استقدامها.» قال ذلك وخرج.

فبغت محمد وامتقع لونه، ولحظت أمه ذلك فيه فقالت: «لقد أهمك حديث الحسن؟» فتنهد ولم يجب.

فقالت: «ما لك لا تجيب؟» فتردد بين أن يكشف لها سره وبين أن يظل على كتمانه، ولكنه لم يعد يستطيع صبرا فقال: «لقد أهمني الأمر أكثر مما تظنين بكثير.»

قالت: «ولماذا؟» قال: «إن الفتاة التي أشار إليها الحسن مخطوبة.» قالت: «ولمن؟»

قال: «لي». قالت: «ماذا تقول؟» قال: «هذا هو الصدق.»

قالت: «وكيف يطلبها هو لنفسه؟» قال: «لأنه لا يدري من الأمر شيئا.»

قالت: «ولماذا لم تطلعني على هذا من قبل؟»

قال: «كنت قد عزمت على ذلك وجئت بها إليك فلم أجدك.»

قالت: «وما العمل الآن؟» قال: «لا أدري، وسأصبر.» قال ذلك وحرق أسنانه.

قالت: «أتغضب أخاك الحسن من أجلها؟» قال: «معاذ الله! فأنت تعلمين حبي له، ولكنني سأرى ما يأتي به القدر.» ثم خرج وقد أخذ القلق منه مأخذا عظيما.

الفصل الحادي عشر

عبد الله بن عباس

مرت أيام والحسن يترقب فرصة يخاطب فيها أباه في شأن أسماء، فلم يتسن له ذلك لاشتغالهم جميعا في إيفاد العمال وتقلب الأحوال، فإن الإمام عليا لم يهدأ له بال منذ ولي الخلافة. وكان أكثر عمال الأمصار ناقمين عليه، ولعله لو أطاع المغيرة لخفف شيئا من نقمتهم، ولكنه أصر على أن يستبدل بهم عمالا من رجاله وموضع ثقته.

وكان الحسن متهيبا مفاتحة أبيه في أمر الخطبة لئلا يخيل إليه أنه اشتغل بالحب عن الخلافة، فبدا له أن ينتظر مجيء عبد الله بن عباس فيوسطه في الأمر لما يعلم من دالته على أبيه، وذكر ذلك لمحمد بن أبي بكر فلم يجبه ولكنه قلق واشتدت غيرته. فلما سمع محمد بمجيء عبد الله بن عباس أراد أن يشغله بحديث الخلافة عن السعي في الخطبة، فأسرع إليه قبل أن يعلم الحسن بمجيئه وأنبأه بما كان من حديث المغيرة بن شعبة وما أشار به على الإمام علي، إلى أن قال: «قد كنا في انتظار مجيئك لعلك تثني الإمام عن عزمه، فقد أصر على خلع عمال عثمان وهم ناقمون ولهم أنصار ومن بينهم معاوية.»

فقال عبد الله: «أصاب المغيرة والله! ونعم الرأي رأيه!»

قال محمد: «وهذا ما نراه نحن جميعا، فما العمل؟»

قال: «ها أنا ذا ذاهب إليه الساعة.» قال ذلك ونهض وقد أهمه الأمر كثيرا لغيرته على الإسلام ولقرابته من الرسول ومن علي.

وكان ابن عباس يناهز الأربعين من العمر، جميل الوجه، أبيض اللون مشربا صفرة، جسيما فصيح اللسان. وكان أعلم الناس بالحديث والشعر وكلام العرب، سديد الرأي، عالما بتفسير القرآن وبكل علم من علوم تلك الأيام، لم يدرك أحد من أهل زمانه ما أدركه. فلما سمع كلام محمد أسرع إلى عمامته وجبته وهرع إلى منزل الإمام علي ومحمد يتبعه.

ولما وصلا إلى الدار رأيا المغيرة بن شعبة واقفا بباب حجرة الإمام علي يشد نعاله فأدركا أنه كان عنده، فقال عبد الله لمحمد: «أتراه جاءه ثانية أم لعلها الزيارة التي ذكرت؟»

قال: «هذه غيرها، ولا أدري ما جاء به.»

وبينما هما في ذلك مر بهما الحسن، فلما رأى عبد الله بغت ووقف وسلم عليه ودعاه إلى حجرته وهو يريد أن يذكر له أمر الخطبة، فرآه في شاغل آخر وقد أسرع إلى حجرة علي، فدخل معه ومحمد في أثرهما. •••

فلما أقبل عبد الله على الإمام حياه بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وكانت أول مرة رآه فيها بعد خلافته. وكان علي جاثيا وبين يديه مصحف فلما سمع تحية عبد الله أحسن ردها ورحب به وقال: «وعليك السلام يا ابن عم الرسول.» قال ذلك والانقباض ظاهر على وجهه كأنه كان في جدال عنيف. فمشى عبد الله حتى جلس بجانبه، وجلس الحسن ومحمد في بعض جوانب الحجرة.

فلما استقر بهم المقام قال ابن عباس: «رأيت المغيرة خارجا من عندك وعهدي به ذو دهاء وسداد رأي، فهل أحدث حدثا؟»

قال علي: «والله لقد أخلف ظني فقد أشار علي منذ أيام بأن أقر معاوية وسائر عمال عثمان على أعمالهم، وأنهم هم الذين بعثوها فتنة أودت بعثمان وأخذوا يؤلبون الناس علينا. فخالفته فيما ذهب إليه وأبيت إلا عزلهم، فتقدم إلي بأن أبقي معاوية على الشام فأقسمت لا أستعملنه يومين، فخرج وهو يرى أن ستبدي الأيام صحة ما رآه. ثم عاد اليوم فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان.» فحمدت له رجوعه إلى الصواب.»

قال ابن عباس: «يا ابن عم، أترى المغيرة قد صدقك اليوم؟ أما أنا فما أظنه والله إلا قد نصحك في الأولى وخدعك في الثانية. إن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون أخذ هذا الأمر بغير شورى عثمان، ويؤلبون عليك فتنتقض عليك الشام وأهل العراق. وإني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، ولهذا أشير بأن تثبت معاوية فإذا بايع فعلي أن أقلعه من منزله.» وكان ابن عباس يتكلم وعلي مطرق مقطب الوجه، وقد أقلقه الأمر كثيرا، وأما الحسن ومحمد فكانا يسمعان كلام ابن عباس ويودان لو يقتنع الإمام فيقر معاوية تجنبا للحرب. فلما فرغ ابن عباس من كلامه لبثا ينتظران ما يقوله علي، فإذا هو لا يزال مطرقا عابسا، والسكوت يسود الحجرة ولا ينبس أحد ببنت شفة. ثم رفع علي رأسه ونظر إلى ابن عباس ويده على سيفه وقال: «والله لا أعطيه إلا السيف !» ثم رد يده إلى لحيته وقال:

وما ميتة إن متها غير عاجز

بعار إذا ما غالت النفس غولها

فلما سمع ابن عباس قوله ورأى ما بدا على وجهه من أمارات الغضب، شق عليه الأمر كأنه رأى بأم رأسه المركب الخشن الذي هم علي بركوبه وما يتوقعه من سوء العقبى، وكانت له دالة ووجاهة عنده فقال له: «أنت رجل شجاع لست صاحب سياسة ولا رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم

يقول: «الحرب خدعة»؟ أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك!» وما فرغ من كلامه حتى أندى العرق جبينه حمية وغيرة، ولكنه لم يكد يفرغ حتى ابتدره علي قائلا: «يا ابن عباس، لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء.»

قال ابن عباس: «أطعني وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدا!»

وكان ابن عباس يتكلم ولا تلوح على حركاته إشارة الرضا، فلما فرغ من كلامه قال له علي: «تشير علي وأرى، فإذا عصيتك فأطعني.»

فقال ابن عباس: «أفعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة.»

فقال علي: «تسير إلى الشام فقد وليتكها.»

قال ابن عباس: «ما هذا برأي، فإن معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقي نقمة لعثمان، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علي. ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده ...» فقطع علي كلامه قائلا: «لا والله لا كان هذا أبدا!»

فسكت ابن عباس ولبث برهة ثم استأذن وخرج، وخرج في أثره الحسن ومحمد وكأن على رءوسهم الطير. أما علي فأمر في إنفاذ عماله إلى الأمصار؛ فبعث عثمان بن شهاب إلى الكوفة، وعبيد الله بن عباس (أخا عبد الله) على اليمن، وقيسا بن سعد إلى مصر، وسهلا بن حنيف إلى الشام.

الفصل الثاني عشر

الفتنة والحرب

وقضى علي في ذلك أياما لا يخلو مجلسه من الأمراء يخوضون في شئون الخلافة، فلم ير الحسن سبيلا إلى مفاتحته في شأن أسماء، وكان هو نفسه في شاغل بتلك الشئون. فلما فرغ علي من تنصيب العمال وقل ورود الناس على بابه، رأى الحسن أن يخاطبه في الأمر، وكان يطلع محمدا على ما ينويه وهو لا يعلم ما في نفسه من أمر أسماء. وكان محمد إذا خاطبه الحسن في هذا حدثته نفسه أن يطلعه على ما يكنه لها في قلبه ثم يمسك، فقضى أياما لا يدري ما يعمل، وكان إذا ذكر له الحسن أنه عزم على مخاطبة أبيه في الأمر سكت أو نقل الحديث إلى شيء آخر. فلقي الحسن محمدا ذات يوم قاصدا إلى المسجد وقال له: «أرى أمير المؤمنين قد فرغ من إرسال العمال إلى الأمصار، ولا أرى أمير المؤمنين أصلح من هذه الساعة لأكلمه في شأن أسماء، فأرجو منك أن تكون عونا لي في هذا.»

فحار محمد في أمره لا يدري بم يجيبه، فقد كان يتنازعه عاملان: حب أسماء، وصداقة الحسن، فلبث لا يبدي ولا يعيد، ثم حانت منه التفاتة إلى ما بعد سور المدينة، فأخذ يحدق كأنه يرى شبحا قادما لم يتبينه. ونظر الحسن ليرى هدف محمد في تحديقه، فتراءى له هجان مقبل من بعيد.

قال محمد: «كأني به رسول.» فقال: «ممن يكون يا ترى؟»

قال محمد وقد سر لتبديل الحديث: «إني والله ما رأيت رسولا مقبلا إلا تشاءمت خيفة أن يأتينا بما يسوء.»

فقال الحسن: «ومن أين ترى الرسول قادما؟»

قال: «يظهر لي أنه من الشام، فلعله رسول معاوية.»

قال الحسن: «هيا نستقبله وسنرى ما هناك.»

قال محمد: «هلم بنا فإنه إن كان رسول معاوية فما جاء إلا لحرب لا سلم، لأن أمير المؤمنين كتب إليه منذ ثلاثة أشهر ولم يجب بعد.» ثم انطلقا. وكان الرسول قد دخل باب المدينة، فلما دنا منهما تفرسا فإذا هو رجل من بني عبس وعليه قيافة أهل الشام، وقد التف بالعباءة وتلثم وعلاه غبار السفر. فلما دخل المدينة أخرج من جيبه صحيفة مختومة قبض عليها من أسفلها ورفعها والناس وراءه ينظرون إليها، فاستوقفه محمد وقال له: «ممن أنت؟»

قال الرسول: «من معاوية بن أبي سفيان.» قال: «إلى من؟»

قال: «إلى علي بن أبي طالب.»

قال الحسن: «وماذا تحمل إليه؟» قال: «هذا الكتاب.» فقال: «اذهب إلى أمير المؤمنين إنه في داره.» فانطلق الرسول وهما في أثره وقد شغلا بما عسى أن يكون في ذلك الكتاب، ولولا حرمة أمير المؤمنين لفضا الختم تلهفا على علم ما فيه.

ووصل الرسول إلى دار علي فترجل واشتغل بعقل جمله، فسبقه محمد والحسن إلى الخليفة وكان متكئا في حجرته، فأعلماه بقدوم الرسول فأمر بإدخاله إليه.

فدخل وعلي جالس ومحمد والحسن وغيرهما من الصحابة بين يديه، فتقدم الرسول في غير تهيب ورفع الكتاب بيده، فهم بعض الحاضرين بأن يتناوله منه ولكنه أبى أن يسلمه لغير الإمام علي.

فمد علي يده وتناول الكتاب فقرأ على ظاهره: «من معاوية إلى علي»، ثم فضه والناس كأن على رءوسهم الطير، فلم يجد فيه شيئا فبغت وغضب، والتفت إلى الرسول وقال: «ما وراءك؟!» قال: «آمن أنا؟» قال: «نعم، إن الرسول آمن.» قال: «تركت ورائي قوما لا يرضون إلا بالقود.» قال علي: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك. وتركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد جعلوه على منبر دمشق.»

فنظر علي إليه وقال: «أمني يطلبون دم عثمان؟! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، قد نجا والله قتلة عثمان إلا من يشاء الله.» قال ذلك وأدار وجهه عن الرسول كأنه لم يعد يستطيع أن يراه، وأشار إليه أن يخرج.

قال: «أأخرج وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فمشى الرجل يريد الخروج فاعترضه بعض رجال علي وهموا بقتله فصاح فيهم علي ومنعهم، فنجا العبسي وهو لا يكاد يصدق.

وأشار الإمام إلى الناس فخرجوا، وخلا إلى خاصته وفيهم أولاده ومحمد بن أبي بكر، وبعث إلى عبد الله بن عباس، وقال لهم: «قد سمعتم ما قاله معاوية، فلم يبق ثمة بد من القتال فتهيئوا.» فقالوا بصوت واحد: «إنا معك أنى سرت، وما تنتدبنا إليه فإنا طوع أمرك.» فجند جندا عقد لواءه لابنه محمد بن الحنفية، وجعل على ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمرو بن سلمة. وتثاقل أهل المدينة في بادئ الأمر ولكنهم أطاعوا أخيرا.

وقضى علي أياما يعد الجيش ويجند الجند، ومحمد والحسن في مقدمة العاملين معه. ولكنه لم يندب محمدا للقتال فصغرت نفسه في عينه لعلمه أنه أولى بالمسير إلى الحرب، وكان يذكر أسماء فيود لو يبقى ليعلم ما يئول إليه أمرها، ثم ترجع إليه حماسته ليقوم على خدمة علي ويحمل معه عبء القتال.

ذهب محمد بن أبي بكر إلى علي فرآه وحده في غرفته، ورأى في يده رقعة يقرؤها ويعيد تلاوتها وقد أخذ القلق منه مأخذا عظيما، فتهيب الدخول عليه وظل واقفا عند الباب مترددا. فلمحه علي فناداه فدخل وحيا، فرد علي التحية وهو مقطب الوجه فلم يجرؤ محمد أن يبدأه بالكلام وتربص عساه أن يسمع منه خبرا جديدا. وظل علي يذرع الحجرة حتى وقف إلى نافذة من نوافذها وأجال نظره إلى الأفق وهو غارق في بحار التفكير، ثم تحول إلى محمد بغتة وقال: «أين الحسن؟»

قال: «لعله في المسجد، فهل من أمر أقوم به؟»

قال: «سأطلعك على ما حدث عما قليل. وبماذا جئت أنت، إني أرى في وجهك خبرا؟»

قال: «إنما جئت ألتمس من أبي الحسن أن يساويني بأهل الثقة من رجاله.»

قال: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني أنك استنفرت الناس وأمرت من أمرت للجهاد، وتركتني وأنا أولى منهم به.»

فتبسم الإمام علي تبسما يشوبه قلق وقال: «بورك فيك يا ابن أول الخلفاء! لأنت عندي بمنزلة ولدي، ولكنني أمرت سميك محمدا ابن الحنفية في هذه الحملة واستبقيتك أنت لأخرى.»

قال: «إني طوع بنانك، وأراني مكلفا بعبء هذه الحرب قبل سواي.»

قال: «لا تستعجل الأمر يا بني، فلن تعدم طريقا تسير فيه إلى حرب أخرى فقد كثرت إليها الطرق.»

فلمح محمد من وراء ذلك أمرا مكتوما فقال: «وماذا يعني مولاي بالحرب الأخرى؟ وهل حدث ما يدعو إلى حرب؟»

فألقى علي الرقعة إليه وقال: «اقرأ هذه فقد أتتني الآن بالخبر اليقين.»

فتناولها محمد ونظر فيها فإذا هي كتاب أم الفضل من مكة تنبئ الإمام عليا باجتماع طلحة والزبير وأم المؤمنين على الطلب بدم عثمان، وأنهم تهيئوا للسير إلى البصرة.

فبغت محمد وتلا الرقعة مثنى وثلاث. وتحول علي إلى مصحف على منضدة أمامه فتناوله وجعل يقلب صفحاته.

وهم محمد أن يتكلم فرآه يقلب صفحات القرآن، فلبث صامتا وقد هاله ما أحاط بهذا الخليفة من البلاء، وتذكر أخته وأسماء عندها.

ورفع علي رأسه ونظر إلى محمد وقال له: «أرأيت ما فعلت بنا أختك؟»

فقال محمد: «إني أعجب من عملها، ولا أكاد أصدق أنها تقدم على هذا! فما الذي حملهم جميعا على الانتقاض؟!»

قال علي: «أتسألني يا محمد عن السبب وقد أنبأتكم بهذه الأحداث قبل وقوعها؟! كم قلت لكم: دعوا عثمان وشأنه لا تقتلوه، لأن قتله سيؤدي إلى الفتنة لطمع بعضهم في الخلافة! فلو ظل عثمان حيا لم يكن ثمة ما يبعث على هذه الحروب، وقد بايعوني وأنا أعلم أنهم يضمرون غير ما يظهرون، فإن طلحة والزبير يريدها كل منهما لنفسه دون سواه فهما في انقسام عليها، وسترى إذا كتب لهما النصر أن الحرب ستقوم بينهما حتى يفني أحدهما الآخر ويقتل الألوف من المسلمين. ولو تيقنت أن خلعي من الخلافة يخمد الفتنة لتنازلت عنها اليوم، ولكنها تصبح بعدي فوضى كل منهم يتطلبها لنفسه. ناهيك بمعاوية في الشام وما يجول في خاطره من الطمع فيها، ولا يغرنك ما يدعيه من الثأر لدم عثمان لأنه لو أهمه لنصره قبل أن يقتل، ولكنه اتخذها ذريعة إلى التماس الخلافة لنفسه على علمه أني أولى الناس بها. فالغيرة على الإسلام تدعوني إلى الدفاع عن خلافتي لعلهم يجمعون على بيعتي فترقد الفتنة، وأما خروجها من يدي طوعا أو كرها فإنه يدعو إلى فتنة عظمى أخشى أن تقضي على الإسلام والعياذ بالله!»

وكان يتكلم والعرق يقطر من جبينه وخديه على لحيته وقد احمرت عيناه واغرورقتا بالدمع، وتجلت في وجهه ملامح تشف عما قام في نفسه من الغيرة على الإسلام، فازداد مهابة حتى لم يعد محمد يستطيع النظر إليه تهيبا من غضبه وخجلا من نفسه لأنه كان في جملة الذين رأوا قتل عثمان، فارتج عليه ولبث صامتا.

وكأنه أراد أن يعتذر لأخته فقال: «يلوح لي يا مولاي أن أختي لم تقم للأمر إلا بتحريض طلحة والزبير وقد خرجا من المدينة غاضبين، وإني لأرجو إن لقيتها أن أحولها عن عزمها. ولكنني لم أر وجه الحكمة في مسيرهم إلى البصرة دون سواها.»

قال: «أظنهم رأوا أهل المدينة بايعوني فاستنهضوا أهل مكة على نقض البيعة، وساروا يفعلون مثل ذلك في البصرة والكوفة.»

قال محمد: «وهل سألت الرسول عن تفصيل الأمر؟»

قال: «لم أسأله إلا قليلا.»

فقال: «أتأذن لي أن أستقصي منه؟»

قال: «لا أراه يعلم شيئا كثيرا، وأرى أن تسير إلى مكة لتستطلع سر الأمر بنفسك، وأنت أجدر الناس بذلك وأختك أم المؤمنين في جملة القائمين به.»

فسر محمد بهذه المهمة سرورا عظيما، لأنه يخدم بها الإسلام ويرضي الإمام ويستطلع حال أسماء.

فأجاب قائلا: «لبيك يا مولاي، وعلى خيرة الله. وأرجو أن أحول أختي عن عزمها، فقد يكون طلحة والزبير هما اللذان حرضاها عليه. وهل أكتم مسيري؟»

قال: «لا أرى أن يعلم به أحد.»

قال: «هل تأذن لي أن أرى الرسول الذي حمل الكتاب إليك لأسأله شيئا؟»

قال: «إنه في دار الأضياف.»

فخرج محمد وسار إلى دار الأضياف، فلقي الرسول فعرفه فسأله عن «عجوة» هل لقيها في مكة، فأجاب بأنه رآها يوم سفره عند أم الفضل ومعها فتاة مريضة.

فقال محمد: «وهل تعرف الفتاة؟»

قال: «لا أعرفها فإنها غريبة الدار، ولكنني علمت أنها جاءت مع العجوز عند أم المؤمنين ثم انتقلت إلى بيت أم الفضل، ورأيتها تشكو من حمى شديدة.»

فأحس محمد بنار تلك الحمى في أحشائه وخاف أن تكون أسماء قد أصيبت بسوء، فأصبح يدفعه إلى الإسراع في الرحيل دافعان: خدمة أمير المؤمنين، والبحث عن أسماء.

فودع عليا وخرج لساعته وركب هجينا واصطحب خادما من السبئية، وركب قاصدا إلى مكة يود لو يطير إليها على أجنحة النسيم. فبات ليلته في قباء فتذكر أول مرة رأى فيها أسماء تندب أمها، وأصبح قبل الفجر على هجينه يطوي السهل والوعر وهو لا يصدق أنه يصل إلى مكة ويرى أسماء على قيد الحياة.

وكان كلما اقترب من مكة تعاظم الأمر لديه، وثارت فيه الحمية الإسلامية والغيرة على الإمام علي وهان عليه أمر الحب وعوامله، فلم يخل باله من هذه الهواجس لحظة. وتذكر نصح أسماء وما تنبأت به من عواقب الفتنة، وكم أشارت على الناس بالكف عن عثمان منادية ببراءة ساحته! فعظمت في عينيه وازداد إعجابا بتعقلها ودقة نظرها، وأيقن أنهم لو انصاعوا إلى رأيها لكانوا تجنبوا هذه الحروب.

قضى طريقه كله في مثل هذه الخواطر، وكان يستحث جمله لا يلتفت يمنة ولا يسرة مخافة أن يضيع عليه الوقت، فأمسى وهو على بضعة أميال من مكة فشق عليه المبيت خارجها وصمم على مواصلة السير حتى يدخلها ولو ليلا. فأشار عليه خادمه أن يستريح هنيهة ويريح الجمل ريثما يطلع القمر فيسيران على نوره، فاستحسن الرأي ونزلا بمكان رأيا فيه بيتا عند بابه شيخ توسد حصيرا من سعف النخل وأمامه جرار وأكواب من الخشب يسقي بها من يستسقيه في تلك الصحراء.

فسلم على الشيخ وحياه، فرحب به ونادى ابنة له وعيالا ليقدموا لضيفهم ما يحتاج إليه من الماء أو العلف للجمال. فصعد محمد إلى رابية خلا فيها إلى نفسه وقد غابت الشمس، فأجال نظره إلى مغيبها في الأفق وكان الجو صافيا وقد ظهر الشفق بألوانه من خلال أغصان الأشجار المبعثرة على الآكام، وكان الجو قد هدأ فلم يعد النسيم يهب إلا عليلا، وأوت الطيور إلى أعشاشها إلا الخفاش فإنه خرج يطير. فاتكأ محمد على بساط فرشه له خادمه وعيناه شاخصتان إلى الأفق يراقب تلونه، فما زالت ألوانه تتحول من الزهو إلى الكمود حتى خيم الظلام، فأوقد الشيخ نارا يهتدي بها المارة إلى ذلك المستقى.

وظل محمد غارقا في هواجسه حتى غاب وجدانه فنبهه ضب مر عند قدميه، فوقف وقد لفت نظره من الأفق أشباح تتراءى بينه وبين السماء، فتفرس فيها فإذا هي بضعة جمال على أحدها هودج وعلى سائرها أناس قد حجب البعد هيئتهم، وأسرعوا في المسير فخيل إليه أنهم خارجون من مكة يريدون المدينة، فلما تواروا عن بصره ولم ير أحدا في أثرهم علم أنهم ليسوا من الطلائع. ولكنه عجب من خروجهم من مكة في ذلك الليل وإسراعهم بالسير في غير الطريق العام كأنهم سائرون خلسة، وتمنى أن يعلم أمرهم ولكن الظلام حجبهم عنه فعاد إلى هواجسه. ولم تمض هنيهة حتى طلع القمر من وراء تلك الأكمة كأنه رقيب أطل للكشف عن لصوص في الظلام، فلما رأوا وجهه بادروا إلى الفرار إلا من كان منهم قريبا ولم يستطع فرارا فاختبأ وراء التلال وفي أعماق الأودية ثم لحق برفاقه وتلاشى. وكان القمر ساعتئذ دون البدر وقد ابيض وجهه وسطع نوره فحرك ما في نفس محمد من الشجون، فنادى خادمه فهيأ الهجن وودع الشيخ وركب قاصدا مكة. •••

ولم يسر ساعة حتى أشرف على مكة، وهي في منبسط من الأرض تحدق بها جبال من كل ناحية، فصعد إلى أكمة وأطل منها على ضوء القمر، فكانت الكعبة أول ما لفت نظره، وكان يتوقع أن يرى مضارب أو جنودا في مكة أو حولها فلم ير شيئا. فواصل السير يريد منزل أخته أم المؤمنين، فمر بالأسواق فلم يجد ما كان ينتظره من الجلبة والازدحام، حتى بلغ دار أخته فترجل عند بابها وقرعه، فأطل عليه عبد حبشي عرف من صوته أنه من عبيد أم المؤمنين فناداه باسمه، ففتح له الباب فدخل فرأى المنزل خاليا فسأله عن أم المؤمنين فقال: «إنها خرجت من مكة بالأمس.»

قال: «وإلى أين؟» قال: «ألم تسمع بما أجمعوا عليه؟»

قال: «هل ساروا إلى البصرة؟» قال: «نعم».

فسأله عمن سار معها فأنبأه، فاستعاذ بالله وتكدر لوصوله بعد سفرهم. وأراد العبد أن يحل جمله ويهيئ له الطعام، فقال: «لا تفعل إني خارج، وقد أعود.» وأمر خادمه أن يمكث هناك حتى يرجع، وخرج وهو بلباس السفر قاصدا إلى بيت أم الفضل وهو يكاد يتعثر بأذياله مسرعة مشيته، فوصل إلى منزلها فرآه مغلقا وقد أطفئت مصابيحه، فظن أهله نياما فتردد في أن يوقظهم أو يصبر إلى الغد، ولكن شوقه إلى رؤية أسماء هون عليه إيقاظهم. فدنا من الباب وأمسك بحلقته وشدها فرأى الباب موصدا فقرعه قرعا شديدا فأجابه البستاني فقال: «افتح»، فلما فتح سأله عن أم الفضل فقال: «إنها ذهبت إلى فراشها وأظنها لم تنم.» قال: «قل لها إن ابن أختك محمدا بالباب.»

فلما علم البستاني أنه ابن أبي بكر هرول إلى مصباح أناره ودعا محمدا إلى الجلوس على المصطبة، ودخل إلى أم الفضل فأخبرها فأسرعت إليه وقد علتها البغتة وصاحت قبل أن يحييها: «ما الذي جاء بك يا محمد؟! وأين كنت؟!»

فعجب للهفتها وقال: «إني قادم من المدينة. أين أسماء؟»

قالت: «كيف تسألني عنها وقد بعثت في استقدامها؟!»

قال: «إلى أين؟!» قالت: «ألم تبعث إليها كتابا تستقدمها به؟»

فقال: «ومن قال لك ذلك؟»

قالت: «رأيت رسولك بأم عيني ومعه كتابك دفعه إليها عند العصر، وكانت لا تزال ضعيفة لا تقوى على السفر فلم تصبر إلى الغد وشدت رحلها وسافرت.»

قال: «ماذا تقولين؟! هل سافرت أسماء؟! لقد زوروا الكتاب على لساني! من جرؤ أن يفعل ذلك؟! من هو النذل الذي أقدم على هذه الجريمة؟!»

فضربت أم الفضل يدا بيد وصاحت: «ماذا تقول يا محمد؟!»

فأخذ محمد ولم يجب ثم قال: «في أي الطرق سارت؟»

قالت: «سارت في هذا الطريق المؤدي إلى المدينة.»

فتذكر محمد الأشباح التي رآها خارج مكة، وقال: «لقد لقيتها والله في طريقي، يا ليتني اعترضت ذلك الركب وهي معهم! ولو كانت في عافيتها لما خفت عليها بأسا ولكنها مريضة فأخشى إن أحرجوها أن تموت غيظا! لا حول ولا قوة إلا بالله!» وصمت برهة يفكر فلم يستطع إدراك سر الأمر، ثم هب من مكانه وقال: «أستودعك الله»، وخرج.

قالت: «تمهل يا محمد.» قال: «إن الوقت ثمين، دعيني أتعقب الركب الذين رأيتهم في طريقي لعلي أظفر بها معهم.» ولم يكد يخرج من الباب حتى وقف بغتة كأن شيئا اعترضه، فعاد إلى أم الفضل وسألها عن الحملة ووجهة مسيرها، فقصت عليه خبرها فوعى ذلك في ذهنه وخرج مسرعا يلتمس الطريق الذي رأى الركب سائرين فيه.

فمر بخادمه في منزل أخته فرآه غارقا في نومه من شدة التعب وقد أرسل الجمال إلى المربط للشرب والعلف، فأيقظه وأمره أن يتهيأ للرجوع فنهض وعيناه لا تنفتحان من النعاس. وعلم أهل المنزل بمجيء محمد فجاءه قيم الدار يدعوه إلى الطعام فاعتذر بأنه لا يستطيع المكث، ولما ألح عليه قيم الدار وأظهر له أن الجمال تحتاج إلى الراحة اقتنع وأكل قليلا مما أعدوه وهو يحث الخادم للتأهب للمسير. وما لبث أن ركب وسار على أسرع ما يكون، وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو فالتمس الطريق الذي ظن أن الركب ساروا فيه، فقضى برهة لا يتكلم ولا يسمع صوتا إلا جعجعة الجمال. وانتصف الليل والخادم يتوقع أن يأمره بالنزول للمبيت فلم ير إلا حثا على الإسراع، ثم رآه يسلك طريقا غير الذي جاءوا فيه فنبهه إلى ذلك مخافة أن يكون قد ضل السبيل، فأجابه بأنه يعرف الطرق ولا يحتاج إلى تنبيه، فسكت وظل سائرا حتى بلغا مكانا يتشعب فيه الطريق إلى شعبتين؛ إحداهما تتصل بطريق المدينة والأخرى تنتهي إلى طريق البصرة، فوقفا هناك صامتين. •••

لم يجرؤ الخادم أن يستفهم من محمد عما يريد وإن كان قد رابه قلقه وغضبه، فلما وقفا في مفترق الطرق وكان الرجل من النباهة والذكاء على جانب عظيم عارفا بالأسفار خبيرا بمسالك البر حاذقا في قيافة الأثر؛ تشجع وسأله: «هل من خدمة أقدمها لمولاي؟»

وكأن محمدا أفاق من سبات، فانتبه وتذكر مهارة خادمه في قص الأثر فقال في نفسه: «لعله ينفعنا».

وكان الخادم كهلا عركه الدهر، قضى معظم أيامه في الأسفار وتحمل مشاقها، وكان طويل القامة سريع الحركة لا يبالي بالتعب ولا يخاف الموت، فقال له محمد: «هل لك في قيافة الأثر يا مسعود؟»

قال: «إني من أمهر القائفين يا مولاي.»

قال: «أترى على الرمل أثرا لمشاة أو فرسان؟ وهل تستطيع تحقق ذلك على ضوء القمر؟»

قال: «نعم يا مولاي.» ونزل عن راحلته وجعل يتفرس في رمال الطريق كأنه يقرأ كتابا ومحمد بالقرب منه يراقب حركاته، فرآه يتنقل بخفة ولباقة فلا يضع قدمه إلا حيث يرى أنها لا تفسد أثرا سابقا، وما زال يروح ويجيء وهو يتفرس ويعد ويحسب ويقيس بأشباره وأصابعه ويراقب جهة الأقدام أو الخفاف أو الحوافر، ومحمد يعجب لما يبدو من خفته وحذقه حتى كاد يمل الانتظار، وأدرك مسعود قلقه فقال وهو لا يزال يتفرس في الرمال: «لا تضجر يا مولاي من طول الانتظار، فإني أرى ارتباكا في الركب الذين مروا من هذا المكان وكأنهم وقفوا فيه برهة يروحون ويجيئون وربما تضاربوا وتقاتلوا، فاصبر قليلا إن الله مع الصابرين.» وعاد مسعود إلى عمله وهو يجلس القرفصاء ويحني رأسه يتفرس في الرمال حتى يكاد يلامس وجهه الأرض، وقضى في ذلك ساعة ومحمد كأنه واقف على الجمر، وربما خيل إليه لعظم قلقه أن الليل قد انقضى. وفيما هو في ذلك رأى مسعودا وقد انتصب بغتة وتحدب وتمطى كأنه تعب من القرفصاء والانحناء ومشى إليه، فتقدم محمد نحوه وقال: «ماذا رأيت يا صاح؟»

قال: «إن الآثار تشابهت علي لاختلاطها، ومع هذا علمت أنها آثار قافلة صغيرة مؤلفة من بضعة جمال بينها جملان يسيران متواليين كأنهما يحملان هودجا، ومعهما مشاة من الرجال أكثرهم يحملون رماحا لأني أرى آثار كعابها بجانب الأقدام، ويظهر أن القوم وقفوا هنا وترددوا في المسير واختل نظامهم. وقد يكونون تخاصموا أو تقاتلوا، يدلك على ذلك ما في آثار أقدامهم من الارتباك مع كثرة الأبعار المتجمعة، ثم بدا لي أنهم اتفقوا أخيرا على سلوك هذا الطريق.»

قال محمد: «وإلى أين يؤدي؟» قال: «يؤدي إلى البصرة أو الكوفة.»

فسكت محمد وقد رجح لديه أنهم هم الركب الذين رآهم في ذلك الليل عن بعد، فأعمل فكره وحدثته نفسه أن يتبع الآثار ولكنه خاف أن يشغله ذلك عن المهمة التي جاء بها إلى مكة، فوقف صامتا يتردد بين أن يطلع مسعودا على سر الأمر وبين أن يظل على كتمانه، فتحير في أمره ثم سأله بغتة: «وما ظنك يا مسعود بالزمن الذي مر على مسيرهم؟»

قال: «أظنهم مروا في أوائل الليل منذ أربع ساعات أو خمس، وهم سائرون على عجل.»

فقال: «وهل تظننا ندركهم إذا اقتفينا أثرهم؟»

قال: «إذا ظلوا هم على مسيرهم لا إخالنا ندركهم قبل يومين أو ثلاثة.» قال ذلك وقد مل من تكتم محمد الغرض من هذا البحث، فأراد استطلاع السر فقال: «هل يرى مولاي أن يطلعني على ما أهمه من هذا الركب لعلي أستطيع أن أحسن خدمته؟»

قال: «يهمني يا مسعود من هذا الركب أمر كبير، هل تعرف خادمتنا العجوز التي كانت في المدينة؟» قال: «نعم أعرفها».

قال: «إنها جاءت مع فتاة أموية إلى مكة وأقامت عند أختي أم المؤمنين، فلما أجمع أهل مكة على المسير إلى البصرة جاءهما أناس بكتاب مزور على لساني يدعونهما إلى المدينة فسارتا معهم في غروب هذا اليوم، ولا أدري من تجرأ على هذا الفعل، ولا إلى أين ساروا بهما، ولكن يظهر مما بينته قيافتك أنهم هم الركب الذين مروا بهذا المكان.»

فقال مسعود: «هل ترى أن أقتفي آثارهم وآتيك بالخبر وإذا استطعت إنقاذهما فعلت؟»

فاستحسن محمد رأيه وأثنى على غيرته وأوصاه بأن يحتاط لنفسه وحثه على الإسراع وودعه، وركب هجينه ويمم شطر المدينة. •••

أما الإمام علي فإنه خلا إلى نفسه بعد خروج محمد من عنده وفكر فيما هم فيه، فرأى من الحزم أن يحول عزمه عن الشام إلى البصرة، فاستشار ابن عباس وغيره من كبار الصحابة فوافقوه على ذلك، فدعا وجوه أهل المدينة وخطب فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح أمركم.» ولكنه رأى تثاقلا منهم وقد كان يتوقع تلبية ونهضة، فلم يقلل ذلك شيئا من عزيمته. على أن جماعة من الصحابة تقدموا لنصرته واستحثوا الناس فعادوا إلى نصرته، فعبأ التعبئة التي أعدها لأهل الشام آخر ربيع الثاني سنة ست وثلاثين، وانضم إليه من نشط من الكوفيين. وبينما هو في تأهبه إذ أقبل محمد بن أبي بكر وأنبأه بما كان من خروج عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة، فعجل بالمسير. وكان الناس يتوقعون أن يرسل الحملة ويبقى هو في المدينة حفظا لمكانته فيها، فلما رأوه ركب في مقدمة الحملة تقدم إليه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لن يعود إليها سلطان المسلمين!»

فقال: «لا بد من خروجي.»

فتكاملت الحملة واجتمعت في الربذة على ثلاثة أميال من المدينة، وتأهبوا للخروج ومحمد والحسن معهم. وكان الحسن لانهماكه بمهام الخلافة ربما مرت أسماء في ذهنه فيصبر نفسه إلى ما بعد ما هو فيه.

واستبطأ محمد خادمه وهو لا يدري ما صار إليه، فقلق عليه ولكنه سر لمسيره هو في الحملة لعله يعلم شيئا عن أسماء.

ولما اجتمع جند علي في الربذة جاءه رجال من طي وأسد وانضموا إلى جنده فاشتد أزره. على أن الحسن لم يكن راضيا عن خروج أبيه في تلك الحملة، فلما رآه عازما على ذلك قال له: «لقد نصحتك فعصيتني، فستقتل غدا ولا ناصر لك.»

فقال له علي: «إنك لا تزال تحن حنين الجارية. وما الذي نصحتني فعصيتك؟»

قال: «نصحتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم نصحتك يوم قتل ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل مصر فإنهم لن يقطعوا أمرا دونك فأبيت علي. ونصحتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يد غيرك ... فعصيتني في ذلك كله.»

فقال: «أي بني، أما قولك: «لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان»، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما قولك: «لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار»، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. ولقد مات رسول الله

صلى الله عليه وسلم

وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته. ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدا أحق بهذا الأمر مني، فجعلني سهما من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته. ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين. فأنا مقاتل كل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني؟ أو من تريدني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال: ليست ها هنا حتى يحل عرقوباها؟ وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكف عنك يا بني.»

وفي الربذة أعد علي بن أبي طالب حملته، فجعل ابنه محمدا بن الحنفية صاحب الراية، كما كان الشأن عند عزمهم على غزو الشام، وأعدوا لعلي ناقة حمراء يركبها وفرسا كميتا.

الفصل الثالث عشر

أسماء في الأسر

وكان محمد بن أبي بكر في شغل شاغل من أمر الحرب والاستعداد لها، ولكنه كلما خلا إلى نفسه لحظة ذكر أسماء، وكلما رأى قادما من سفر ظنه مسعودا، فلما أبطأ مسعود في القدوم خاف أن تكون أسماء أصيبت بسوء، وكلما تصور ذلك زاد قلقه واقشعر بدنه، وود لو أنه يذهب في مهمة إلى البصرة أو الكوفة لعله يلقاها أو يسمع بخبرها فيطمئن قلبه.

فبات ذات ليلة في خيمته وقد تسلط عليه القلق لما هم فيه من النصرة للإمام علي وما يتوقعونه من البلاء، فعظم عليه الأمر وأرق ورأى أن يلتمس الذهاب بنفسه إلى البصرة يستنهض أهلها لنصرة الإمام، وعزم على أن يبكر في الصباح لمخاطبة الإمام في ذلك. وإنه لفي هذا إذ سمع صوتا خارج الخيمة يشبه صوت مسعود فهب من فراشه وناداه، فجاءه ودخل عليه في ثياب السفر، ودخلت في أثره امرأة لم يعرفها محمد في بادئ الأمر لضعف نور المصباح، ولكنه ما لبث أن تبين أنها العجوز فبغت وتذكر أسماء فقال: «ما وراءك يا خالة؟! أين أسماء؟!»

قالت: «أظنها الآن في البصرة أو في الكوفة، أو لا أدري أين هي.»

قال: «وكيف تركتها وجئت وحدك؟!» قالت: «هي أمرتني أن أجيء، وسأقص عليك نبأها بعد أن أستريح.» قالت ذلك وتنهدت وقد أضناها التعب، فسأل محمد مسعودا: «أين لقيتها؟ وما الذي دعا إلى هذه الغيبة؟»

قال: «طال علي الأمد في البحث عن الركب، وكأنهم غيروا طريقهم وتعرجوا في مسيرهم، فتشابهت علي سبلهم فقضيت أياما أستقصي حتى كدت أدرك البصرة، ورأيت جيش أم المؤمنين عن بعد. ثم تحولت إلى طريق آخر فعثرت على هذه الخالة سائرة وحدها فسررت بلقياها، وسألتها عن أسماء ومكانها فقالت إن الركب ساروا بها إلى حيث لا تدري، وإن أسماء بعثتها إليك برسالة لا أدري ما فيها. وكنت عازما على مواصلة البحث عنها فمنعتني، فجئت بها إليك.»

فعجب محمد لذلك، والتفت إلى العجوز وقال: «قصي علينا الخبر يا خالة من أوله إلى آخره.»

فجلست وأخذت في سرد الحديث فقالت: «هل أقص خبرنا منذ ودعتنا في المدينة وسرنا نحن إلى مكة؟»

قال: «سمعت هذا من خالتي أم الفضل، ولكنني أريد أن أعلم كيف خرجتم من مكة؟»

قالت: «كانت أسماء مريضة عند أم الفضل وهي على مثل الجمر في انتظار إشارة منك للانتقال إلى المدينة، لأنها أصبحت بعد ما رأت من عزم أهل مكة على طلب دم عثمان لا تستطيع الإقامة بها. وكانت مع ضعفها كلما ذكرت عليا والحرب والانتصار له تتشدد وتتقوى، حتى خيل إلي أنها كانت تشتاق النزول إلى ساحة الوغى دفاعا عن الإمام علي لقوة إيمانها ببراءته من دم عثمان، وكانت كلما ذكرت ذلك تبكي وتحرق أسنانها غيظا لقعودنا في مكة بالرغم منها. وعظم الأمر لديها يوم خرجت أختك ورجالها من مكة يريدون البصرة لطلب دم عثمان، فإنها أصبحت في ذلك اليوم على أشدها لفرط ما هاج من عواطفها رغبة في المسير إلى المدينة، وإنما كان يقعدها قولك لها يوم وداعها أنك ستبعث إليها من يستقدمها. فبعد سفر أم المؤمنين بيوم أو يومين جاءنا رسول بكتاب زعم أنه منك، ولم تكد أسماء تتم قراءته حتى هبت من فراشها وقد أشرق وجهها وأبرقت أسرتها وقالت: هيا بنا يا خالة إلى المدينة، فإن محمدا بعث من يحملنا إليه. فنظرت إلى الرسول فلم أذكر أني أعرفه، فقلت له: أين الجمال والأحمال؟ قال: هي خارج المدينة وقد سرحناها للراحة. فلم يرق لي كلامه لأني لا أعرفه، وكانت خالتك أم الفضل جالسة فسألتها فقالت إنها لا تعرفه أيضا، فخلوت بأسماء وحذرتها من المسير مع قوم لا تعرفهم، فأبت إلا الركوب وقالت إنها لا تبالي من كانوا فإنما غرضها الخروج من ذلك السجن، فأطعتها وخرجنا والرجل يسير أمامنا وأسماء لا تزال ضعيفة من عقبى الحمى.

وكنت قبل خروجنا من البيت قد عرضت عليها أن يذهب الرسول فيأتينا بالجمال إلى البيت فنركب من هناك، ولكنها لم تستطع صبرا وأبت إلا المسير حالا. فوصلنا إلى المكان الذي أشار إليه الرسول، فرأينا هودجا على جملين وجمالا أخرى وبضعة رجال لم أعرف أحدا منهم، فخامرني الريب ونبهت أسماء إلى ذلك فلم تنتبه كأن رغبتها في المسير إليك أسكرتها وأعمت بصيرتها. فركبنا والخدم في ركابنا حتى أتينا مكانا تتشعب فيه الطريق إلى شعبتين، وهناك رأينا أناسا مسلحين ينتظروننا وفيهم شاب بلباس ثمين كأنه سيدهم، فلما وصلنا إلى المفرق وقفت جمالنا ودنا الرجال برماحهم فتحققنا وقوع الخيانة. وكان الليل قد أسدل نقابه فلم نعرف أحدا من هؤلاء، فلما رأيناهم تحولوا عن طريق المدينة إلى طريق البصرة قلت: «إلى أين أنتم ذاهبون بنا؟!» فقالوا: «إلى حيث نشاء.» فهالني جفاء الجواب، ونظرت إلى أسماء على ضوء القمر فإذا هي ثابتة الجأش على ضعفها. وقد كنا في الهودج معا، فحالما تحولنا إلى ذلك الطريق أنزلوني من الهودج وحملوه على جمل واحد، وأركبوني الجمل الآخر فأطعت مرغمة.»

وكانت العجوز تتكلم ومحمد مصغ يتطاول بعنقه لسماع تتمة الحديث وقد ظهر القلق على وجهه، فاستأنفت العجوز حديثها وقالت: «وما زلنا سائرين مسرعين طول الليل حتى أصبحنا وتبينت الوجوه وتفرست جيدا، فرأيت بينهم رجلا تذكرت أني رأيته في خدم بيت أختك أم المؤمنين، وتأملت الشاب ذا اللباس الفاخر فإذا هو ذو جمال وقيافة فظننته سيدهم، ولم أعرف من هو ولكنني عرفت أن اسمه سعيد، ويلوح عليه أنه من أهل البصرة.

ولم تكد جمالنا تستريح حتى دنا الرجل من هودج أسماء وأنا أنظر إليه من بعيد وأسمع شيئا مما يقول، ففهمت أنه يسألها عن حالها وهل لا تزال تفضل المدينة وأهلها، ورأيت منه احتفاء عظيما بها إذ أمر بطعام فاخر قدمه لها وجعل كل رجاله في خدمتها ...»

فقاطعها محمد قائلا: «وهل أكلت من طعامه وأجابته على كلامه؟»

فقالت: «والله يا بني إني لم أشاهد في حياتي كلها لا في الجاهلية ولا في الإسلام فتاة ولا شابا أثبت جأشا من أسماء ولا أصبر على المكاره منها، فقد كانت مع ضعفها وعلمها بالخطر الذي وقعت فيه مطمئنة لا يبدو على وجهها شيء من دلائل الخوف والاضطراب. وقد لحظت لما كان ذلك الشاب يكلمها أنها كانت تجيبه بكلام لم أسمعه، ولكنني رأيت أثره في وجه الشاب تهيبا وخوفا منها وكأن الخطر قد زاد أسماء هيبة وجلالا كما زادها الضعف حسنا وجمالا. وأما أنا فكنت خافقة القلب مضطربة الحواس لا أكاد أستطيع الوقوف لشدة الارتعاش، وهي جالسة في هودجها والقوم ولا سيما سعيد وقوف على خدمتها لتلبية كل إشارة منها.»

فقال محمد: «لم تجيبيني يا خالة عن سؤالي، هل أكلت من طعامهم؟» قالت: «لا يا سيدي، لم أرها تأكل، ولكنني لا أظنها استطاعت البقاء بلا طعام.»

قال: «ثم ماذا؟» قالت : «ولم نسترح إلا قليلا، ثم نهض الركب وسرنا نطوي البيداء ووجهتنا العراق، وأنا لا أدري ماذا أعمل. ولو رأت أسماء فائدة من المقاومة لفعلت، ولكنها وجدت نفسها عزلاء وحولها رجال مدججون بالحراب والسيوف والرماح. ولكني أعجبت بشجاعتها وسكينتها، وكانت طول الطريق ساكتة تتأمل كأنها تفكر في طريقة للنجاة. وأما سعيد أصل البلاء ورأس الخطيئة فلا ريب أنه أقدم على فعلته وأسماء طلبته ولكنه كان متهيبا، وربما هم بأن يكلمها بشيء في نفسه فإذا دنا من هودجها ارتج عليه فتظاهر بأمر آخر. وقضيت اليوم الثاني وأنا أحاول الدنو من أسماء لعلنا نتعاون على سبيل للنجاة فلم أستطع، لأنهم كانوا يفرقون بيننا عنوة. فبتنا ثم أصبحنا وقد مللت هذه الحال، فلاح لي أخيرا أن أتظاهر بالتعب والمرض لعلهم يسمحون لي أن أراها وأرى ما يكون، فشكوت ألما وعجزا عن الركوب فقال سيد القوم: «اتركوها في الطريق وسيروا»، فصحت: «دعوني أنظر ابنتي، دعوني أودعها!» وأخذت في البكاء فسمعتني أسماء وطلبت أن تراني فحملوني إليها، فأجلستني في هودجها وأرخت ستائره ومشى الركب بنا، فلما خلونا سألتها عما في نفسها فتنهدت وقالت: «إني لم أقع عمري في مثل ذلك، وأنا أعلم الناس بما يحدق بي من الخطر، ولكنني لا أرى الخوف يجديني نفعا، ولا أنا أستطيع دفاعا فأنا عزلاء وهم عشرة مسلحين. ويلوح لي أنهم سائرون بنا إلى معسكر أم المؤمنين، وأن هذا الشاب المغرور من رجالها، وأظنه طامع في فليطمع ما شاء، ولعلي أجد سبيلا للنجاة. ولكني أريد أن أبلغ محمدا خبرا مهما، فكيف العمل؟!» فقلت لها: «أنا أبلغه إياه فإن هؤلاء الرجال يريدون التخلص مني، فإذا أنا تظاهرت بحب التخلف عنهم خلفوني وساروا، فقولي ما تريدين»، قالت: «سأكتب ذلك في كتاب توصلينه إليه.» وسرنا هنيهة ثم وقف الركب وجاء ذلك الشاب فرفع الستر عن الهودج وقال: «انزلي من هذا الهودج إن الجمل لا يستطيع حملك»، فشكوت له التعب والمرض، فقال: «لا يعنيني»، فقالت له أسماء: «تمهل ريثما نصل إلى مكان نستريح فيه جميعا ، فإذا لم تقدر على الركوب معنا تركناها أو أوصلناها إلى قافلة تسير بها.» وكانت أسماء تتكلم والشاب ينظر إليها وقد هام بها ولم تزده أنفتها إلا حبا، وكأنها سحرته فأصابه خبل، فقال: «حسنا». فوصلنا في المساء إلى مكان فيه آبار وشجر فنزلنا جميعا ونصبوا الخيام، فطلبت أسماء الخلوة فتركوها ووقفوا خارج خلوتها لئلا يدهمها أحد فقضت هناك ساعة حتى قلقت عليها، ثم خرجت إلي وقد احمرت عيناها وتبللتا وبيدها منديل قطعته من قميصها دفعته إلي وقالت: «احتفظي بهذا الكتاب وادفعيه إلى محمد»، فتناولته وخبأته بين أثوابي وأنا أحاذر أن يراني أحد، وقالت أسماء: «أسرعي في المسير إلى محمد ما استطعت.» وكانت هناك قافلة قادمة نحونا فعلمت أن ركبنا سيرحل قبل وصولها، فتظاهرت بعجزي عن الركوب والمشي، فلما رأى أصحابنا القافلة آتية تهيئوا للرحيل وطلبوا إلي أن أركب أو أمشي، فلما اعتذرت هموا بتركي. وطلبت أن أودع أسماء فأذنوا لي في ذلك، وقد بكت حين ضممتها وقبلتها مرارا، ولكنها أسمعتني كلاما عزاني على فراقها وطمأن قلبي عليها فقالت: «لا تخافي علي يا خالتي، فإني أرجو أن يكون هذا ذريعة إلى خدمة عظيمة أقوم بها للإمام علي ومحمد، وعلى الله اتكالي»، ولم أكد أجيبها حتى أقلع جملها وسار وهي تلتفت إلي وتبتسم وأنا أبكي. فظللت وحدي أنتظر وصول القافلة، فإذا وجهتها غير ما ظننت وطريقها غير طريقي، فنهضت أسعى في أثرها فسبقتني، وما زلت أسير تارة وحدي وطورا أصطحب راعيا أو ماشيا حتى لقيت مسعودا على ما قصه عليك.» •••

وفرغت العجوز من كلامها وقد تعبت ومحمد شاخص إليها ثم قال: «أين كتاب أسماء؟» فمدت يدها إلى جيبها وأخرجته وكانت قد خاطته بباطن ثوبها، ثم دفعته إليه فإذا هو قطعة من قميص أسماء، فاستأنس به وأدنى المصباح منه ونظر فإذا فيه كتابة بمداد أحمر وأحرف لم يألفها لقربها من الشكل النبطي الذي كان يكتب به عرب الشام وتستغرق قراءته زمنا. فأومأ إلى مسعود أن يذهب بالعجوز إلى مكان تستريح فيه، وأغلق باب خيمته وجلس إلى جانب المصباح وطفق يقرأ الكتاب فإذا فيه:

أكتب إليك هذا بمداد من دمي، إذ لا سبيل على غيره وأنا في صحراء قاحلة وحولي أناس لا أدري غرضهم من أسري، على أنهم لن ينالوا مني وطرا. وقد علمت أنهم سائرون بي إلى معسكر أم المؤمنين بالبصرة، وأظنهم من رجال تلك الحملة. لا تجزع يا محمد ولا تخف على أسماء، فإنها بحول الله لا تخشى بأسا. وقد كتبت هذا إليك لأنبئك بحالي وأدعوك إلى عهد بيننا نجعله نذرا علينا، هو أن تكون أعمالنا وحواسنا وقوانا مكرسة لخدمة أمير المؤمنين ابن عم رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، فقد اتهموه ظلما بدم عثمان وأنا وأنت أعلم الناس ببراءته، فعلينا القيام بنصرته. حتى إذا انتهينا واستقام الأمر نظرنا في أنفسنا وأجبنا داعي القلب.

هذا ما أدعوك إليه، وأرجو أن تعاهدني عليه ولا أظنك تخالفني فيه، وأنا منذ الآن ساعية في هذا السبيل وأرجو أن يكون أسري عونا على هذه الخدمة. فأنت تعمل من جهة وأنا من جهة أخرى أعمل لإقناع أم المؤمنين حين ألقاها ببراءة الإمام. آه! يا ليتها كانت معنا ليلة وجدناه يبكي عند قبر الرسول! آه من تلك الليلة! كم لقيت فيها من الأهوال! على أني سأذكر لها ذلك، وأننا سمعناه يندب الإسلام ويتخوف وقوع الفتنة، ولعلها تؤمن ببراءته. أقول هذا على أمل تذليل العقبة الوعرة التي أراها في سبيلي. فإذا مت فإني أموت شهيدة العفاف والغيرة على الإسلام والنصرة للإمام رجل هذه الأمة ... ومرة أخرى أدعوك إلى العهد على نصرة الإمام علي والتفاني في ذلك، فإذا فرغنا منه على خير فكرنا في أنفسنا. والسلام.

أسماء

ولم يفرغ محمد من تلاوة الكتاب حتى امتلأ قلبه حمية وطفح إعجابا بأسماء وعجب لتوارد الخواطر بينها وبينه فقبل كتابها وأثنى على غيرتها، ولكنه ما زال خائفا عليها من غائمة ذلك الأسر، فقضى ليلته مضطربا وقد مال إلى الذهاب في مهمته إلى العراق لعله يلقى أسماء فينقذها. •••

خرج محمد في صباح اليوم التالي قاصدا فسطاط الإمام علي لعله يسمع خبرا جديدا، فلما دخل عليه رأى في مجلسه جماعة من الصحابة يتحدثون فيما هم فيه من الأحوال ويتشاورون، والإمام مقطب الوجه يفكر فيما قام من الفتنة.

وفيما هم في ذلك دخل غلام مبغوتا فسأله علي: «ما وراءك؟»

قال: «إن في الباب ركبا قادمين من البصرة وفيهم رجل ملثم.»

قال: «فليدخل كبيرهم».

فدخل رجل ملثم الوجه، حيا الإمام عليا وكشف عن وجهه فإذا هو أحلط الوجه أملط لا شعر له في لحيته ولا شاربيه ولا حاجبيه ولا أشفار عينيه، فأنكره علي وتأمله وقال له: «من الرجل؟!»

قال: «أنا عثمان بن منيف عاملك على البصرة.»

فبغت الإمام وقال: «ما الذي أصابك؟!»

قال: «بعثتني بلحية فجئت أمرد!»

قال علي: «أصبت أجرا وخيرا. احك لنا خبرك وما دعا إلى نتف شعر وجهك على ما نرى!»

قال: «بعثتني يا مولاي عاملا على البصرة فلقيني الناس وسروا بخلافة الإمام علي، ثم ما لبثت أن سمعت أهل البصرة يتحدثون بأمر حدث، وأن كتبا وردت على بعضهم من أم المؤمنين تدعوهم فيها إلى الأخذ بثأر عثمان، وأنها قدمت من مكة وأقامت في الحفير على بضع ليال من البصرة تنتظر الجواب، فأهمني الأمر كثيرا فبعثت رجلين؛ أحدهما رجل عامة والآخر رجل خاصة، يسألانها عما تريده. فعادا وأخبراني أن أم المؤمنين وطلحة والزبير مصرون على طلبهم دم عثمان منك، وأن الآخرين لم يبايعاك إلا كرها، فشاورت رجالي فقال بعضهم: «ننصرهم»، وقال آخرون: «نردهم»، ورأيت لهم نصراء في البصرة فخفت اتساع الخرق. ثم علمت أن عائشة جاءت المربد (وهو السوق خارج البصرة) ومعها رجالها، فخرجت إليها بنفسي ومعي بعض أهل البصرة ممن يرون رأيي. فلما انتهينا إلى المعسكر سألناهم عن غرضهم، فوقف طلحة وتكلم بفضائل الخليفة عثمان وحث على الأخذ بثأره ثم قام الزبير بمثل ذلك، وأيدهما من معهما من الرجال. فقلت لهما: «بايعتما عليا وجئتما تقولان ما تقولان!» فوقفت أم المؤمنين وألقت كلاما حرضت فيه الناس على طلب دم عثمان، وقالت قولا كثيرا وكان لكلامها تأثير شديد على كل من سمعها، حتى إن جماعة كبيرة من رجالي مالوا إليها. ثم اشتد اللجاج بين الرجال ونشبت الحرب فقتل من رجالي جماعة كبيرة، فتنادينا إلى الصلح وتواعدنا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة سلمت إليهما الأمر وإلا فإنهما يرجعان، فبعثت إليكم وفدا في ذلك.»

فقال علي: «وقد أجابهم أهل المدينة أنهما بايعا طائعين.»

قال عثمان: «نعم يا مولاي، جاءهم الوفد بذلك فأنكروه وبعثوا إلي، وكانت ليلة ذات رياح ومطر ساروا فيها إلى المسجد وقت صلاة العشاء، فأرسلت بعض رجالي لأرى ماذا يريدون فقتلوهم، ثم جاءوا إلي وأخرجوني ونتفوا لحيتي وشعر حاجبي وأشفار عيني كما ترى، فجئت بالخبر كما وقع.»

فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! وكيف أهل البصرة الآن؟»

قال: «إن سوادهم مع أم المؤمنين.»

فأطرق علي، وكل من في مجلسه سكوت ينتظرون ما يبدو منه فظل ساكتا، حتى شعر الناس أنه يريد أن يخلو بخاصته، فخرجوا جميعا وفي جملتهم محمد بن أبي بكر وقد ساءه تعاظم الأمر إلى هذا الحد. ولم يكد يدرك خيمته حتى جاءه رسول يستقدمه إلى علي فأسرع إليه فلم ير عنده إلا محمدا بن جعفر، فدخل وحياه وهو يتوقع أن يسمع منه أمرا جديدا، فلم يكلمه حتى جلس على وسادة بجانب محمد بن جعفر، فقال له والاهتمام ظاهر في وجهه: «أتدري لماذا دعوتك؟»

قال: «خير إن شاء الله.»

قال: «أسمعت ما فعلت أختك وطلحة والزبير في البصرة؟ لقد أساءوا إلى عاملنا وحضوا الناس على حربنا لأننا على زعمهم قتلنا عثمان، وأنت تعلم أن أهل الكوفة حزب كبير يهمنا استنفارهم ليكونوا معنا في هذه الحرب إذا كان لا بد منها، وقد انتدبتك أنت وابن أخي هذا لتسيرا إلى أبي موسى الأشعري عاملنا على الكوفة تستنفران الناس لنصرة الحق.»

فوقف محمد وقد ثارت حميته وقال: «إننا طوع أمرك، وإن الدفاع عن الحق ونصرة أمير المؤمنين فرض واجب علينا.»

قال علي: «تأهبا واخرجا إلى أبي موسى، واقرأا هذا الكتاب على الناس وادعواهم إلى الإصلاح فإننا لا نريد سواه، وأنا لاحق بكما. وأستعين الله في نصرة الحق وكبح جماح الباطل!» فخرجا يتأهبان للرحيل.

فلنتركهما سائرين في هذه المهمة ولنعد للبحث عن أسماء. •••

أما أسماء فقد كان السبب في أسرها أن أحد كبراء البصرة، ممن جاءوا مع ابن عامر إلى مكة، شاهدها ساعة وقوفها في العريش ومخاطبتها مروان بتلك الشجاعة مع ما كان يتجلى في محياها من المهابة والجمال، فوقعت من نفسه موقعا عظيما وعلق قلبه بها، وكان من أهل اليسار والبذخ. فلما انفض المجلس سأل عنها فأخبره بعض الذين اطلعوا على حديثها سرا من خدم أم المؤمنين أنها مخطوبة لمحمد بن أبي بكر، وأنها باقية في مكة تنتظر أمره بالذهاب إلى المدينة. فحدثته نفسه أن يخطفها ويغريها بحبه ويتزوجها، وهو يعتقد أنها لا تلبث أن ترى جماله وتعلم بجاهه وغناه حتى تهواه وتفضله على محمد، فيحظى بها وينتقم من محمد لنقمته على عثمان. فاصطنع ذلك الكتاب على لسان محمد وبعث به مع بعض رجاله فجاءت معه، فسار بها كما تقدم وهو تارة يستعطفها وطورا يعدها بالسعادة عندما يصل بها إلى البصرة. وخيل إليه في بادئ الرأي أنها مالت إليه لما آنسه من سكوتها وتصبرها، ولم يعلم أنها فعلت ذلك حزما وتعقلا. وكان يود التخلص من العجوز فتيسر له ذلك على أهون سبيل كما رأيت. فقضى أياما في مسيره وهو يعرج في الطريق روحة وجيئة يلتمس رضاها قبل الوصول إلى البصرة، فلما دنا من البصرة عرج على طريق ينتهي بالكوفة وكان له فيها منازل وصنائع.

وكانت هي تفكر في طريقة للنجاة، وكثيرا ما حدثتها نفسها أن تجافيه وتظهر احتقارها له، ولكنها كانت تعود فتصبر مخافة أن يفتكوا بها.

فلما صاروا على مقربة من الكوفة لم ير بدا من استجلاء أمرها، فصبر حتى أسدل الليل نقابه وجاءها وهي مستلقية في الهودج التماسا للراحة، وكان بجانب الهودج نار أوقدوها للاستضاءة، فرفع ستائر الهودج فانتبهت أسماء وجلست، ولما رأت سعيدا استعاذت بالله، أما هو فحياها بلطف وقال لها: «ألا تظنين البصرة خيرا من المدينة يا أسماء؟»

فأطرقت ولم تجب، فجثا أمامها ومد يده محاولا أن يمس معصمها بينما أخذ ينظر إلى وجهها وقد انعكست عليه أشعة لهيب النار، فلم يكد يمس يدها حتى أجفلت وجذبتها من بين أنامله وبالغت في الإطراق.

فقال لها: «ما بالك يا مليحة؟ ألا تزالين تجافينني وأنت تعلمين أني أسير هواك؟ فهل تخشين ألا تلاقي في منزل محبك الإكرام الذي يليق بك؟ إنك لا تلبثين أن تنزلي في بيتك بالبصرة أو في الكوفة حتى تشعري بالسعادة التي تنتظرك هناك مما لا يتأتى لأحد سواي أن يهبك إياه؛ فهناك تجدين الخدم والحشم، والدور والمنازل، والخيل والماشية، والملابس الفاخرة، وكل أسباب الراحة. ألا تمنين علي بنظرة تدل على رضاك؟»

وكان سعيد يتكلم وعينا أسماء شاخصتان إلى تلك النار الموقدة بجانب هودجها، لا يحاكيها في ذلك الليل الهادئ إلا نيران قلبها المتقدة حبا لمحمد وغيرة على الإسلام، وقد ازدادت اتقادا وحدة لما سمعته من كلام ذلك الشاب وأرادت أن توبخه وتردعه، ولكنها علمت أنها إذا فعلت ذلك عرضت نفسها للخطر فتنهدت وظلت صامتة.

أما هو فظن تنهدها دليلا على أثر كلامه فيها، فابتسم ومضى نحوها جاثيا ومد يده ليمسك أناملها وهم بالتكلم فجذبت يدها منه، ونظرت إليه والشرر يكاد يتطاير من عينيها ثم أعرضت عنه وهي تحرق أسنانها، فابتسم هو وهش وقال بنغمة المحب الولهان: «بالله ألا رحمت قلبا قيدته بسلاسل هواك، ورمقته بلفتة أو بكلمة! قولي يا أسماء، قولي إنك راضية بي عبدا رقا وأنا أكرس حياتي لخدمتك، والله إني لم أقل هذا لأحد قبلك! تعطفي بالله وارفقي، كفى سكوتا وإعراضا! اعلمي يا مليحة أنني إنما أريد سعادتك وأن الله ساقني إليك لحسن حظك وحظي، وأن ابن أبي بكر ليس أهلا لك ولا هو يستحقك، ولسوف ترين ما يحل به إذا احتدم القتال.»

ولم تعد أسماء تستطيع صبرا على ذلك بعد أن سمعت التعريض بمحمد، فحدثتها نفسها أن تصفعه على وجهه ولكنها كظمت غيظها بالرغم منها، وعمدت إلى توبيخه فقالت بنغم ضعيف وصوت رخيم: «إني لا أراك أهلا للنزال.»

فسر سعيد لكلامها وإن يكن توبيخا له، لأنه رجا أن يصل بالحديث معها إلى استرضائها، فقال: «وما أدراك يا فاتنتي أني غير أهل لذلك؟»

قالت وهي تنظر إليه نظرة التأنيب: «لأن الرجل الذي يقطع الفيافي والقفار طلبا للثأر أو نصرة للحق على ما تزعمون لا يرتكب جريمة التزوير، ومن كان حرا صادقا يلقى الرجل في حومة الوغى لا يكلم فتاة يعلم أنها تحب سواه.»

فأحنى الرجل رأسه عند كلامها وقال: «لقد صدقت أيتها العذراء، ولكني إنما زورت التماسا لقربك إذ لم يبق لي إليه غير هذا السبيل، فأنا أستغفر لذنبي لديك.»

قالت: «إنك إنما أذنبت إلى غيري، فإذا كنت رجلا فالق محمدا واستغفره، فإما أن يغفر لك وإما أن ينازعك فنرى من هو الرجل.»

فجلس سعيد ودنا منها حتى كاد يلامسها ومد يده فقبض بواحدة على زندها وجعل الأخرى على نقابها وأراد أن ينزعه، فجذبت يدها منه ووقفت وقد أخذ الغضب منها مأخذا عظيما وقالت: «ابتعد عني ولا يغرنك سكوتي ومرضي، والله إن تمدد يدك لأكسرنها!»

فضحك سعيد وقال: «لا تغضبي يا حبيبتي، فإني لم أفعل شيئا يغضبك ولكنني أسترضيك وأستعطفك، فأفيقي من غفلتك ولا ترفضي نعمة أنعم الله بها عليك.»

قالت وهي تتحفز للخروج من الهودج: «إذا كنت تزعم أنك تريد رضاي فاعلم أنك تطلب عبثا، وإذا حدثتك نفسك بوطر تبغيه فاعلم أنها تحدثك باطلا وأن احتراقي في هذه النار أيسر مما تدعوني إليه.»

فقال وقد حار في أمره وهو يكظم غيظه ولا يزال يرجو رضاها: «تمهلي يا حبيبتي وتبصري فيما أقوله لك، ولا ترفسي النعمة التي أعرضها عليك باسم الحب.»

فقالت بنغمة جافية: «لا تنطق بالحب فإنك تتكلم باطلا، ولا تستعظم قوتك وتستكثر رجالك فإن ذلك لا يرهبني.» •••

ولما رأى سعيد من أسماء هذا الإصرار، وقف على قدميه بغتة وصاح فيها صيحة دوت في ذلك الليل الهادئ وانتهرها قائلا: «أراك قد بالغت في القحة، واستخففت بي وإنك تعلمين أنك أسيرة بين يدي!» قال ذلك وأمسك بيديها، فانتفضت من بين يديه ورفسته برجلها فألقته على الأرض وأعرضت بوجهها عنه.

فهب من وقعته وصاح برجاله فتجمهروا حول أسماء وقبض بعضهم على يديها وبعضهم الآخر على كتفيها، فتملصت من بين أيديهم وصاحت فيهم قائلة: «عار عليكم وأنتم رجال مسلحون أن تتجمهروا على فتاة عزلاء!»

فصاح سعيد فيهم: «قيدوا هذه الخائنة وشدوا ساعديها!»

فقالت: «ما الخائن إلا أنت يا نذل، أتظن أن القيود تقيد شيئا من حريتي؟» وهمت بعصا من عصي الهودج استلتها في وجوه الرجال فتفرقوا أمامها تهيبا من منظرها ورفقا بها، فوبخهم سعيد وحثهم فعادوا وتكاثروا عليها وهي تحاول دفعهم، فعثرت رجلها بعقال الجمل فوقعت على الأرض فأسرعوا إليها وشدوا وثاقها، وهي لا تبالي بما يفعلون وسعيد واقف ينتفض غيظا، وأمرهم أن يلقوها في الهودج ويربطوها به ففعلوا.

فلما أيقنت بالخطر القريب ترقرقت الدموع في عينيها وصاحت: «آه يا محمد! أين أنت؟! يا ويل الأنذال اللئام الذين لا ذمة لهم ولا ذمام!»

فلما سمعها سعيد تنادي محمدا ضحك ضحكة تخالطها رعدة الغضب وقال: «لا تذكري محمدا ولا ترجي نجاة من هذا الأسر!» ثم أمر رجاله فتفرقوا، ودنا منها وعاد إلى الملاينة فقال: «كيف أنت الآن؟ ألا ترجعين عن غيك؟ إنك أسيرة بين يدي وحياتك رهن إشارتي إلا إذا أجبت طلبي فتصيرين أنت الآمرة الناهية، قولي إنك رضيت بي، قولي إنك تحبينني وكفى.»

فصاحت به قائلة: «لا، لا، لا أحبك، اذهب عني يا شيطان ولا ترني وجهك!»

قال: «أعناد وروحك في قبضة يدي؟»

قالت: «لا تهددني بالموت فإنه خير مما أتوقعه، واقتلني وأرحني من هذه الحياة.»

قال: «لا أقتلك بل أذيقك العذاب، لا بل أعيد النصح وأدعوك إلى حبي.» ومد يده إلى شعرها ولم يكد يلمسه حتى اقشعر جسمها وانتفضت وكان الوثاق محلولا من بعض أطرافه فتملصت يدها وأخرجت ذراعها ودفعت يده بعنف، فجرد حسامه وهجم عليها به ليخوفها لعلها تطيعه، فوقفت وذراعها الأخرى مشدودة إلى جسدها ومدت يدها إلى سيفه فأخذته من يده وهو لا يمنعها منه، فقطعت بقية الحبال وأغارت عليه والسيف مشهر بيدها ففر أمامها، فأسرع رجاله إليها فأصابت أحدهم بضربة على عنقه فخر قتيلا، وهمت بالباقين فتكاثروا وتهافتوا عليها بالرماح والحراب والسيوف فأصابها رمح في زندها، فسقط السيف من يدها ووقعت مغشيا عليها من شدة الألم، فأسرعوا وشدوا وثاقها وهي لا تعي. فلما رآها سعيد مغمى عليها أمر بالماء فرشوها به حتى أفاقت فقال: «اتركوها لتستريح»، وحسب أنها ستذعن لأمره فجلس بالقرب منها يعلل نفسه برضائها بعد ما أصابها من الضنك.

وأما هي فازداد نفورها منه ويأسها من الحياة، ولما رأت ما هي فيه من الخطر الأكيد عظم عليها الأمر فلم تتمالك من البكاء والشهيق.

فدنا سعيد منها وقال بنغمة الظافر: «والآن يا أسماء كيف ترين نفسك؟»

قالت: «لا أراني أزداد إلا نفورا منك! اذهب من أمامي.»

قال: «يا للعجب! أبعد هذا ترجين خلاصا؟!»

قالت: «لا، لا أرجو ولا أطلب غير الموت فإنه غاية ما أرجوه، ولكن آه!» وعادت إلى البكاء وهي تقول: «أين أنت يا محمد؟! أرني وجهك قبل الممات ولو لحظة!»

فلما سمعها تذكر محمدا اتقدت الغيرة في قلبه وصمم على الفتك بها، فجرد حسامه ووقف فوق رأسها فنظرت إلى السيف وضوء اللهيب ينعكس عليه فيلمع، فأيقنت أنه قاتلها لا محالة فصاحت: «أين أنت يا محمد يا ابن أبي بكر؟! زودني بنظرة منك قبل الممات!»

فقال سعيد: «أتظنين أني أقتلك الآن؟ لا، لا تعلقي نفسك بهذه الأمنية، فإنني سأميتك صلبا.» وأشار إلى بعض الوقوف من رجاله فرفعوها عن الأرض وأوقفوها إلى شجرة من السنط وألصقوا ظهرها بها وشدوها إليها شدا وثيقا بحبال مجدولة من ألياف النخيل، وكان في جذع الشجرة نتوءات وأشواك أصابت بدنها فآلمتها. لكنها لم تبال في جانب ما شعرت به من الشوق لرؤية محمد في آخر ساعة من ساعات الدنيا، وحزنت على فراقها الحياة دون التزود بنظرة منه. وكانت تفكر في ذلك وهي ترسل نظرها إلى الظلام من حولها، فلا تتبين غير تلك النار الموقدة بين يديها.

أما سعيد فتركها مشدودة إلى الشجرة وذهب هو ورجاله يلتمسون الراحة أو النوم، وظلت هي مصلوبة تنظر تارة إلى الأفق وطورا إلى السماء وآونة إلى النار أمامها وهي غارقة في بحار الهواجس، وحدثتها نفسها أن تلين لسعيد وتعده خيرا ريثما ترى ما يجيء به القدر، ولكنها علمت أنه لا يكتفي من رضاها بالكلام فقط، فعادت إلى اضطرابها وهي تنظر إلى النار فرأتها قد أخذت في الخمود فخافت أن تنطفئ فلا يبقى ما يؤانسها. على أن خمودها جعل الأفق أكثر ظهورا فقد كانت لا ترى فيه إلا ظلاما دامسا، فلما خمدت النار ظهر في أطراف الأفق بعض الأشباح من الشجر أو التلال، وكانت لفرط قلقها تحسب الأشباح أناسا قادمين لإنقاذها. •••

وفيما هي تحدق في الأفق رأت أشباحا تتحرك، فتفرست جيدا فإذا هي هجن وأفراس عليها رجال فاستأنست بهم وهمت بأن تستنجدهم فمنعتها الأنفة وعزة النفس، فقالت في نفسها: «إذا كان لي نصيب في الحياة أتى أولئك الركب لإنقاذي بإلهام من الله.»

وظل سعيد ساهرا يتوقع أن تسترضيه أسماء فرأى الأشباح عند الأفق وعلم أن ناره ستهديهم إليه فأمر بإطفائها، فلما رأت أسماء الرجال يهمون بإطفاء النار أيقنت أنهم خائفون، فقالت في نفسها: «عسى أن تقع عاقبة خوفهم على رءوسهم»، واستبشرت. على أنها لم تكد تفعل حتى رأت سعيدا قادما نحوها والحسام مجرد في يده، وصاح وهو يحسبها لا ترى أحدا قادما وقال: «هل لان قلبك الآن أم ماذا؟!» فلم تجب، فقال: «قولي، أجيبي، إن حياتك بين شفتيك فإما أن تعيشي سعيدة وإما أن يجري دمك على جذع هذه الشجرة!»

فحارت في أمرها ولم تدر بم تجيبه وهي تعلم أنها إذا أجابت بالرفض ضربها بالحسام وهي مشدودة الوثاق، فرأت المماطلة خير ذريعة لنجاتها ريثما يصل أولئك الركب عساهم أن ينجدوها، فلم تجب.

فأدرك سعيد قصدها وخاف إن هو انتظر جوابها أن يصل الركب، فشرع الحسام بيده وصاح بها: «قولي حالا، فإما أن أسمع صوت قبولك وإما أن تسمعي صوت حسامي على عنقك!»

فعظم عليها هذا التهديد وهجرها التعقل، فقالت: «لا، لا، لا أرضى! فاضرب عنقي والله يجزي الظالمين!» ثم صاحت: «آه يا محمد يا ابن أبي بكر! أين أنت؟! آه! لو تعلم مصير أسماء!»

فلما سمع سعيد قولها نزل بالسيف على عنقها وهو لا يريد قتلها لأنه لا يزال يرجو رضاءها، فاضطرب السيف في يده فوقع على جذع الشجرة فوق كتفها فأصاب وثاق أسماء فانحل، فلما رأت وثاقها محلولا ظنت نفسها في حلم وأدركت أنه أخطأ الضرب، فانطلقت مسرعة نحوه وهي تتميز غيظا.

ورأى هجومها عليه فصاح برجاله فتكاثفوا حولها بحرابهم وسيوفهم، فصاحت فيهم: «أما فيكم من يرعى الذمام ويخاف الله؟!» قالت ذلك ولاحت منها التفاتة فرأت الركب قد أصبحوا منها قاب قوسين أو أدنى، وسمعت صوتا كالرعد القاصف وقع في أذنها وقوع الماء على قلب الظمآن، ألا وهو صوت محمد بن أبي بكر يقول: «لبيك يا أسماء! لقد جاءك الفرج، اخسئوا يا أنذال!»

أما هؤلاء فما كادوا يسمعون صوت محمد ويرون معه رجاله حتى حملوا ما استطاعوا حمله من متاعهم وولوا الأدبار، وما لبثوا أن تواروا عن الأبصار تاركين بعض جمالهم والهودج.

ولا تسل عن أسماء وما حل بها لما سمعت صوت محمد، فإنها أخذت ولبثت صامتة تحسب نفسها في منام حتى دنا وناداها باسمها، فقالت: «محمد؟! أين كنت يا حبيبي؟! هل بعثك الله لتنجيني؟! أفي يقظة أنا أم منام؟!»

قال: «بل في يقظة. ما الذي أصابك؟! هل من بأس عليك؟!»

قالت: «لا بأس بي غير جرح خفيف في زندي أصابني وأنا أدفع هؤلاء اللئام، ولولاه لقتلتهم جميعا ولكن السيف سقط من يدي وعثرت بعقال الجمل فشدوا وثاقي.» ونظرت فرأت مع محمد رجلا آخر لم تعرفه فخجلت لما أبدته من دلائل الحب، فأدرك محمد ما بها فقال: «لا تجزعي، هذا محمد بن جعفر ابن أخي أمير المؤمنين، وهؤلاء خدم سائرون في ركابنا إلى الكوفة وقد جئنا بمهمة في خدمة أمير المؤمنين، فاجلسي الآن واستريحي وقصي علينا خبرك.» فجلست ومحمد بن جعفر يعجب بما يبدو من همة تلك الفتاة، وكان قد سمع من محمد حديثها وأعجب بغيرتها على الإمام وعلى الإسلام، فأحبها بالسماع. فلما رأى فيها تلك الحمية رغب في سماع حديثها، فجلسا وقصت أسماء ما جرى لها وهما شاخصان يزدادان إعجابا. وقص محمد ما حدث له بعد مجيء كتابها، وقضوا الليل في الأحاديث وقبل الفجر أغمضت أجفانهم ساعة فاستراحوا. فلما انبلج الصبح وأفاقوا نظروا إلى ما حولهم فإذا ببقايا الهاربين، وفيها كثير من الزاد والآنية وجثة ملقاة عن بعد، فنظر محمد إليها وسأل أسماء عنها فقالت: «إنه أحد أولئك الطغام أدركته بضربة ذهبت بحياته.»

قال: «بورك فيك! نحن الآن ذاهبون إلى الكوفة وهي على مقربة منا، فهلم بنا إليها لنقضي مهمتنا ثم نذهب بك إلى المدينة تقيمين بها حتى تنقضي الحرب.»

فقالت وهي تنظر إليه نظر العاتب: «لعل كتابي لم يصل إليك؟!»

قال: «لقد وصل»، قالت: «فكيف تدعوني إلى الإقامة بالمدينة وقد آليت لأنصرن الإمام عليا ما استطعت إلى ذلك سبيلا؟!»

قال: «لقد جاهدت وسعك، وأنت مريضة الآن.» قالت: «لا بأس علي بإذن الله.»

قال: «فلنذهب معا إلى الكوفة ثم نرى ما يكون.»

قالت: «لا أرى في ذهابي إليها فائدة.» قال: «وماذا إذن؟»

قالت: «أنت تسير في مهمتك، وأما أنا فأذهب إلى أختك أم المؤمنين بالبصرة عسى أن أوفق إلى إقناعها ببراءة الإمام علي، فتكف عن الحرب حقنا لدماء المسلمين. إن الأمر لأعظم مما تتصوره يا محمد، وقد آليت على نفسي أن أضحي بكل شيء في سبيل دفع هذه الفتنة.» فأعجب بحميتها وقال لها: «ولكنني لا أرى سعيك إلا ذاهبا عبثا.»

قالت: «علي السعي وعلى الله التوفيق. وكيف الطريق إلى البصرة؟»

قال: «إذا كان لا بد من ذهابك إليها فإني أزودك بخبير من رجالي يسير في خدمتك حيث تشائين.» قال ذلك ونادى مسعودا وكان في جملة صحبه في هذا السفر، فجاء مسرعا فقال محمد: «هذه أسماء التي حملت إلي كتابها، وهي تريد البصرة فأوصلها إلى معسكر أم المؤمنين وعد إلي في الكوفة.»

فنهضت أسماء وأمرت مسعودا أن يهيئ الجمل، فقال: «ألا تركبين الهودج؟»

قالت: «لا، ليس ذا وقت التنعم، أركبني جملا خفيفا.»

ونظرت إلى محمد وقالت: «إن الوقت ثمين يا محمد، فلنسر في مهمتنا عسانا أن نوفق إلى تلافي الفتنة.»

فنهض محمد وركبوا جميعا. فسارت أسماء ومسعود نحو البصرة، ومضى الباقون نحو الكوفة وهم يعجبون بما آنسوه من بسالة أسماء وحميتها وغيرتها.

سارت أسماء تستحث جملها ومسعود على جمله أمامها ليهديها إلى الطريق، فمضى معظم النهار لم يستريحا ولا تناولا طعاما، فلما كان الغروب سألته أسماء عن البصرة فقال: «إنها على بضع ساعات منا، فأرى أن نبيت هنا الليلة لندخل المدينة صباحا.» قالت: «لا صبر لي على الانتظار، هلم بنا ولا بأس من وصولنا إلى البصرة ليلا فنقيم في المربد.»

قال: «إن جيش أم المؤمنين مخيم هناك.»

قالت: «سر بنا على خيرة الله، فإني إنما أقصد معسكرها.»

فلم يستطع مسعود مخالفتها، وظل سائرا يتلمس الطريق تلمسا لأن الظلام كان حالكا. واتفق أن هبت الريح وتلبدت الغيوم، فلم يعد يرى الطريق أمامه ولا النجوم حتى يهتدي بها، ولكنه رأى نورا بعيدا فعلم أنه نور دير لبعض النساطرة كان قد زاره في بعض سفراته في تلك الأنحاء، فجعل ذلك النور وجهته وأسماء سائرة في أثره وهما صامتان لا يسمعان إلا وقع أخفاف الجمال. •••

وكان مسعود قلقا لمسيرهما في هذا الظلام وخاف أن يعترضهما وحش أو يهويا في هوة، وقد عجب لشجاعة أسماء وتحملها مشقة السفر. على أنه ما عتم أن سمع طنين سهم في الجو مر أمام عينيه فجفل وصاح: «من ذا هناك؟!» ولم يتم كلامه حتى سمع صوت أسماء تقول: «آه! قتلتني قتلك الله!» فعلم أن السهم أصابها فتحول إليها وقال: «ما بالك يا سيدتي؟! ما الذي أصابك؟!»

قالت: «أصابني سهم في جنبي وأظنه قاتلي!» فترجل وأناخ جملها فإذا هي تسند جنبها بيدها والسهم ما زال مغروسا فيه فنزعه بخفة، فصاحت صيحة دلت على شدة تألمها، فتحير في أمره وخاف أن تموت أسماء بين يديه في ذلك القفر المظلم، فوضع يده على جرحها وضغطه بكفه وهو يرتعش خوفا، ثم سألها عن حالها فقالت: «إني مقتولة لا محالة!» فلم ير مسعود خيرا من أن يحملها على جمله ويسرع إلى ذلك الدير، فأردفها وساق جمله وقاد جملها وراءه وأسرع إلى الدير، ولما وصله وجده مقفلا وسوره عاليا لا يمكن اجتيازه، ثم تذكر أن القوم يعلقون على الأديار أجراسا يدقها من يجيء طارقا، وبحث عن حبل الجرس حتى وجده فدق الجرس ولكن لم يجبه أحد، فكرر الدق فسمع صوتا جهوريا يقول: «من الطارق؟» فأجاب مسعود قائلا: «افتح ناشدتك الله وأسرع إلى إغاثتنا!»

فقال: «من أنت؟» قال: «إننا غرباء في ضنك شديد، افتح رعاك الله!» قال ذلك وصبر فلم يعد يسمع صوتا، ونظر إلى أسماء وهي مطروحة عند الباب تئن أنينا عميقا، فأمسكها بيدها ويده ترتجف خوفا عليها فرآها باردة، فجس جرحها فغاصت أنامله في الدم وكان قد تخثر وملأ ثوبها، فحاول أن يجلسها ليتحقق حالها فإذا هي تشخر وقد ارتخت مفاصلها فزاد اضطرابه وهم بأن يصيح ببواب الدير، فرأى رأسا عاريا قد وخطه الشيب قد أطل من الكوة والمصباح في يده ينعكس نوره على لحيته البيضاء ويقول: «اصدقنا أيها الطارق من أنت؟»

فصاح مسعود قائلا: «إننا غرباء ومعي مريض يشرف على الموت، أنجدنا جزاك الله خيرا!»

ولم يتم مسعود كلامه حتى سمع صوت مزلاج الباب كأنه شد بحبل، فانفتحت خوخة صغيرة في وسط الباب المصفح بالحديد، فرأى مسعود أنه لا يستطيع الدخول من الخوخة وأسماء على تلك الحال، فسأل الراهب أن يفتح الباب كله وأشار إلى أسماء وهي بين يديه. فأسرع الراهب خفيفا برغم شيخوخته وجر عضادة ضخمة من خشب كان الباب موصدا بها ففتحه، وساعد مسعودا في نقل أسماء إلى أقرب غرفة هناك وأجلساها على الفراش، وخف الراهب إلى رئيس الدير ليخبره الخبر. وما لبثوا حتى جاء الرئيس وهو شيخ هرم قد رق بدنه وتجعد جلده واشتعل رأسه شيبا، وعيناه تشعان قوة وصحة وقامته مستوية تدل على نشاط وهمة، فتقدم إلى الفتاة وهي ملقاة على الفراش وسأل مسعودا عما بها فقص عليه الخبر. فأدارها على جنبها الصحيح وأخذ في كشف الجرح، فحول مسعود وجهه عنها حياء واحتشاما، واشتغل الرئيس وراهبه بغسل الجرح وتضميده، وأمر بلبن فغسله به، ثم صب عليه ماء مقدسا يحتفظون به لمثل هذه الحال وربطه، وأمر بملاءة من نسيج الصوف فغطاها بها لتدفئتها، ورش وجهها بالماء المقدس ودهنه بزيت من مصباح الدير المضيء أمام صورة المسيح وهو يدعو الله أن يقرب الشفاء. وأفاقت أسماء لحظة ولكنها لم تقل شيئا ثم عادت إلى الأنين، وكان رئيس الدير وهو يغسل وجهها يتفرس في ملامحها كأنه تذكر شخصا يشبهها. وأخذ يعتذر لمسعود من الإبطاء في فتح الباب لتخوفهم من الطارقين الذين كثروا يومئذ على أثر قدوم أهل مكة إلى البصرة، ووقوع بعض الوقائع الحربية. فلما فرغ من تضميد الجرح تحول إلى مسعود فسأله: «من الفتاة؟»

قال: «إنها فتاة لبعض كبار الصحابة.» ولم يزد.

فأعاد الرئيس نظره إليها وأدنى المصباح من وجهها وكان قد امتقع ونحل وهي مغمضة العينين كأنها في سبات، وقال: «فهي إذن مسلمة؟» قال: «نعم».

فلمح الرئيس في صدرها حجابا اعتاد النصارى جعله على صدورهم، وكان زندها مكشوفا فرأى عليه رسم الصليب فالتفت إلى مسعود وقال: «ولكنني أرى عليها بعض شارات النصرانية!»

فضجر مسعود من تدقيقه وهو لا يهمه ساعتئذ إلا شفاؤها فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أنها مسلمة، فلعل لتلك الإشارة سببا لا أعلمه.»

فسكت الرئيس وجلس على مقعد بالقرب من فراش المريضة، وهو تارة ينظر إلى وجهها وطورا يطرق متأملا كأنه يبحث في ذاكرته عن شخص يشبهها.

ثم نظر إلى مسعود وقال له: «امض يا بني إلى غرفة الأضياف إذا أردت طعاما، ثم اذهب إلى رقادك مطمئنا فلا يمضي على هذه الفتاة قليل حتى تصحو وتتحسن صحتها بقوة الله وبركة صاحب هذا الدير.»

فقال مسعود: «إني لا أشعر بالجوع ولا أنا في حاجة إلى الرقاد، وأوثر أن أبقى هنا لأرى ما يصيبها.»

قال: «لا خير في بقائك، ولا بأس عليها لأننا ما مسحنا جريحا أو مريضا بهذا الماء المقدس إلا شفاه الله. اذهب إلى فراشك وإذا شئت البقاء خارج الحجرة فلا بأس.»

فاستحيى مسعود من تكرار الاعتذار، فخرج وجلس على حصير وراء الغرفة.

أما الرئيس فخلا إلى الراهب وأخذا يتساران ويتخاطبان بلسان نصارى العراق الكلداني ويشيران إلى أسماء. وكان مسعود لقلقه لا يغفل عن حركة تحدث فقلق لهذه المسارة، وأصاخ بسمعه فلم يفهم من كلامهما شيئا، فجعل يرصد ما يبدو منهما فإذا بالرئيس قد أمر الراهب فخرج ثم عاد وبيده كتاب ضخم ففتحه فقرأ وتمتم ثم ركع الاثنان، فعلم أنهما يصليان فصبر حتى فرغا من الصلاة وقاما، فرأى الرئيس دنا من أسماء وهو يمسح الماء عن جبينها ويتأملها، ثم جلس إلى جانبها ولبث ينتظر ما يبدو منها. وبعد قليل تحركت كأنها تتقلب من جنب إلى الآخر، وما كادت تفعل حتى صاحت من الألم، فسر مسعود لصياحها لعلمه أنه يدل على اليقظة، فدخل الغرفة فرأى أسماء قد فتحت عينيها ونظرت إلى ما حولها، فوقف بصرها عند وجه الرئيس وحاولت التفرس فيه ولكن الضعف غلب عليها فذبلت أجفانها وأطبقت عينيها وعادت إلى الرقاد. فأومأ الرئيس إلى مسعود بيده وابتسم كأنه يقول: «أبشر! إنها قد أفاقت»، ففرح مسعود وظهر البشر عليه وتوسل إلى الله أن يتم شفاءها. وقضت أسماء ليلتها راقدة وتنفسها هادئ. •••

وفي الصباح جاء مسعود إلى غرفتها فرأى الراهب الشيخ إلى جانبها يهتم بالكشف عن الجرح وتبديل رباطه فخرج، حتى إذا فرغ الراهب من عمله نادى مسعودا فدخل ونظر إلى وجه أسماء فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها فحمد الله ودنا منها، فلما رأته قالت له: «آه من النذل الذي عجز عن لقائي وجها لوجه فأراد قتلي غدرا!» وحرقت أسنانها.

فقال مسعود: «لا بأس عليك يا سيدتي، ولا تعبئي بما فعله ذلك الغادر. على أننا لا ندري من هو.»

قالت: «لا ريب عندي في أنه ذلك الجبان الذي حاول اختطافي، فليس في هذه الديار من يعرفني سواه، قبحه الله!»

قال: «هل أذهب إلى مولاي محمد لأروي له ما وقع؟»

فقطعت عليه الكلام قائلة: «لا، لا تفعل، فإن أخشى ما أخشاه أن يسرع إلي إذا علم بما حدث ويهمل مهمته التي أنفذه فيها أمير المؤمنين وهي تمس المسلمين عامة، فلا يليق أن نشتغل عنها بحياة فرد من أفرادهم، فضلا عن أني بحمد الله في عافية، ولا إخالني إلا راكبة جملا أو جوادا إلى معسكر أم المؤمنين عما قليل لأؤدي المهمة التي ندبت نفسي لها.» ثم صعدت بصرها وأشارت بيدها كأنها تقول: «فقدر لي الله أن أستأخر هنا إلى حين.» وشفعت إشارتها بدمعتين كبيرتين انحدرتا على خديها، ثم التفتت إلى أيقونة معلقة أمامها شغلت نفسها بالنظر إليها.

وكان الراهب في أثناء ذلك مشتغلا بقراءة درج (رق) في يده، فيه فرض من فروض الصلاة.

ولما سمع مسعود كلام أسماء وشاهد الدمع ينحدر من عينيها تأثر من منظرها واستعظم كتمانها حالها عن محمد، فقال لها: «كيف أكتم عنه حالك وقد عهد إلي في العناية بك؟!»

قالت: «افعل ما أقول لك، اتركني هنا واذهب إليه لعله يحتاج إليك في شيء، وأنا لا بأس علي في هذا الدير فإن أصحابه أهل ضيافة ورعاية. وقد صرت على مقربة من معسكر أم المؤمنين، وبعد أيام أنقه من جرحي فأذهب إليها، والاتكال على الله.»

فتركها ومضى إلى غرفة الرئيس فرآه خارجا، فسأله عن رأيه في جرح أسماء فطمأنه بألا خوف منه، وبأنه سيتولى العناية بها حتى تشفى.

وبات مسعود هناك، وفي الصباح خف إلى رؤية أسماء فسر لتحسن حالها، ثم ودعها ومضى وهي تلح عليه في أن يطمئن محمدا عنها.

الفصل الرابع عشر

عود إلى السر

قضى رئيس الدير نهاره وليله ينظر إلى أسماء ويجهد فكره لعله يتذكر عنها شيئا فلم يفتح عليه، ثم خرج لوداع مسعود وعاد إليها وكانت قد تعبت من الرقاد وجلست في الفراش، فلما دخل نظرت إليه وتأملت وجهه فتذكرت أنها رأته مرة قبل ذلك في دمشق يوم سفرها منها مع أمها إلى المدينة، وكانت قد لحظت تفرسه فيها. فلما عاد من وداع مسعود جلس على طنفسة بقرب فراشها فنظرت إليه وقالت: «ألا تذكر يا حضرة الأب المحترم أنك رأيتني قبل الآن؟»

قال: «هذا ما شغل بالي منذ أتيتنا أمس، ولكنني لا أذكر أين رأيتك.»

قالت: «أظنك رأيتني في دمشق في العام الماضي.»

فلما سمع قولها انبسطت أسارير وجهه وتفرس في وجهها وقال: «نعم، نعم، رأيتك مع أمك وقد جئتما إلى كنيسة مار يوحنا في دمشق لزيارة القسيس مرقس الشيخ البار، نعم أذكر ذلك. أين أمك؟»

فلما سمعت أسماء ذكر أمها ترقرقت الدموع في عينيها، فبادرت إلى مسحهما بطرف كمها وسكتت.

فأدرك الرئيس أن هناك أمرا محزنا دعاها إلى البكاء فسكت قليلا ثم قال: «هل أصابها سوء؟»

فقالت وهي تبكي: «نعم يا سيدي، إنها ماتت وا أسفاه عليها! ولولا مماتها ...» وشرقت بدموعها.

فأطرق الرئيس ونظر إلى الراهب وكان ما زال جالسا، وأشار إليه أن يخرج من الغرفة ففعل. فلما خلا الرئيس إلى أسماء جعل يخفف عنها ويعزيها حتى هدأ روعها، ثم قال لها: «هل عرفت أباك؟»

فلما سمعت سؤاله آنست من ورائه نورا لعلها تهتدي به إلى استطلاع ذلك السر الذي كانت تظنه دفن مع أمها، فقالت: «لا يا سيدي، لم أعرفه. وهل تعرفه أنت؟» فسكت ثم قال: «لا يا ابنتي، لست أعرفه، ولكن ...» وسكت.

فقالت: «ولكن ماذا؟ قل يا سيدي، إن معرفته تهمني كثيرا. وقد كنت أحسب أمر أبي مكتوما عن كل بشر سوى أمي، ولما توفيت حسبته ضاع ودفن معها، فكيف عرفت أنت أن أبي مجهول، وقد كان ذلك سرا مكتوما عن كل إنسان على ما أعلم؟! فاطلاعك عليه يستلزم معرفتك حقيقته، فهل تعرف شيئا عنه؟» قالت ذلك بلهفة.

فلبث الرئيس الشيخ صامتا يجيل أصابعه في لحيته كأنه يكتم أمرا ود لو أنه ظل كذلك، ولكنه لما رآها متلهفة قال لها: «صدقيني يا ابنتي إني لا أعرف من هو أبوك، ولكنني أعلم أن الذي كان مع أمك يوم رأيتك في كنيسة مار يوحنا بدمشق ليس أباك.»

قالت وهي تخفض صوتها احتراما لمقام الرئيس وشيخوخته: «وكيف عرفت ذلك يا سيدي؟ ربما لا يهمك أمر هذا السر مطلقا ولكنه يهمني كثيرا، لأنني علمت كذلك أن يزيد الذي كان مع أمي - رحمة الله عليها - ليس أبي، وأن لي أبا غيره كانت أمي قد وعدتني بذكره فقضى الله بموتها قبل وصولنا، وا حسرتاه عليها! فظللت مجهولة النسب. وأظن أن الله قد أراد كشف هذا الذل عني على يدك.» قالت ذلك وهمت بتقبيل يده وهي تقول: «أتوسل إليك أن تطلعني على ما تعرفه في هذا الشأن!»

وكانت تتكلم والرئيس مطرق، فلما انتهت من كلامها رفع نظره إليها وقال: «قلت لك يا ابنتي إني لا أعرف من هو أبوك. وأما كيف عرفت أن لك أبا غير يزيد فلهذا قصة لا بأس بأن أرويها لك لعلها تفيدك.»

فاعتدلت أسماء في مجلسها ويدها على جنبها المجروح تضغطه تخفيفا للألم، وأصغت لما يقوله الرئيس.

فقال: «أتذكرين يوم جاءت أمك إلى كنيسة مار يوحنا في دمشق وكنت أنت معها فتركتك مع زوجها خارجا، ودخلت هي لوداع القسيس الشيخ مرقس قسيس الكنيسة ثم خرج بعد ذلك لوداعك؟»

قالت: «نعم يا سيدي، أذكر ذلك الشيخ الهرم وخروجه لوداعنا.»

قال الرئيس: «قد كنت أنا يومئذ ضيفا عنده، فلما عاد رأيت على وجهه آثار القلق فقلت له: «ما بالك؟!» فقال: «إن لهذه المرأة سرا عهدت به إلي منذ بضع وعشرين سنة، وهي الآن شاخصة إلى المدينة لتبوح به هناك، وأخشى لضعفها ومرضها أن تموت قبل وصولها، فإذا حدث ذلك ظل الأمر مكتوما عندي وحدي، وأراني قد شخت وربما دنا أجلي فيذهب السر ضياعا وهو يهم ابنتها التي كانت معها.» فقلت له: «أهو سر اعتراف؟» قال: «نعم». فقلت: «لا سبيل إذن إلى كشفه لي، ولكنني أود أن أعرف موضوعه بحيث لا يكون في ذلك ما يعد إباحة.» فتردد كثيرا قبل أن يجيبني ثم قال: «إن الفتاة التي رأيتها مع هذه المرأة هي ابنتها، وأهل دمشق يظنون هذا الرجل أباها ولكنه ليس كذلك.» فقلت: «ومن هو أبوها إذن؟» قال: «لا أستطيع كشف هذا السر الآن، ولكنه سيظهر بعد قليل لأن المرأة منطلقة بنفسها لكشف أمرها لأصحاب الشأن في يثرب - المدينة - لأن أبا الفتاة الصحيح أحد كبار المسلمين هناك.» ...»

فبغتت أسماء وخفق قلبها، فصعد الدم إلى وجهها فتورد بالرغم من ضعفها، وتطاولت بعنقها لسماع الحديث. فلما وقف الرئيس عند هذا الحد قالت بلهفة: «وما هو اسمه؟!» قال: «لا أعلم يا ابنتي، ولم أسأل القسيس عنه لعلمي أنه لا يبوح به حفظا لسر الاعتراف.»

فبهتت وقد عاد إليها اصفرارها للهفتها وتأثرها وقالت: «وكيف يكون ذلك وأنا لا أعرف يثرب قبل هذه المرة ولم أسمع أمي تذكرها؟!»

قال: «علمت يا ابنتي أن أمك كانت تبالغ في إخفاء هذا الأمر عن كل إنسان، لأنها رومانية الأصل حملها بعض قواد المسلمين الذين فتحوا الشام في جملة السبايا وأهداها إلى أبيك فمكثت عنده بضع ليال. ثم قدم عليها أخوها خلسة وحرضها على الفرار ففرت إلى دمشق، ولم تستطع الظهور خوفا من العيون فيممت مصر فظهر حملها هناك، وقبل أن تضعك طلبت القسيس مرقس وكان في كنيسة المعلقة، وكانت تعرفه من الشام واعترفت له بسرها وذكرت له اسم أبيك. ثم كانت الحرب بمصر ففتحها العرب، وقتل خالك ووقعت أمك بين السبايا ثانية وأنت طفلة، فتزوجها يزيد الذي تعرفينه وأقام بها بدمشق وأنت معها. فلا تعجبي لإغفالها ذكر أبيك لأنها كانت تعد نفسها مجرمة، وتخشى إذا عرف مكانها أن يقتص منها.»

ولم يتم الرئيس كلامه حتى استولت البغتة على أسماء وعرتها الدهشة، ولبثت صامتة وهي تأمل أن يكون الرئيس عارفا اسم أبيها فتوسلت إليه أن يخبرها به، فأكد لها أنه لا يعرفه ثم قال: «إذا لقيت القسيس مرقس في دمشق فإنه يطلعك عليه، وربما أطلعك على أمور كثيرة. فأسرعي إليه حال شفائك قبل أن يقضي أجله لأنه شيخ طاعن في السن، انظري إلى شيخوختي واعلمي أني إذا قيست الأعمار بالسنين كنت أصغر من أولاده.»

وكانت أسماء قد تعبت من الجلوس، فلما يئست من معرفة اسم أبيها من الرئيس غلبها التعب على أمرها، فألقت بنفسها على الفراش وتنهدت تنهدا عميقا وهي صامتة تفكر فيما سمعته، واشتاقت نفسها إلى المسير إلى دمشق لعلها تلقى القسيس فيقص عليها الخبر.

الفصل الخامس عشر

وقعة الجمل

قضت أسماء في الدير أياما تتقلب على فراش الوجع والقلق، ولا تدري إذا هي شفيت هل تسير إلى دمشق لمقابلة القسيس أم إلى أم المؤمنين لأداء مهمتها. وكانت تتململ لانحباسها في الدير فلم تستطع الوقوف والخروج إلى فناء الدير إلا لتتمرن على المشي.

وصعدت ذات يوم إلى سطح الدير فأطلت منه على سهل واسع رأت في آخره مما يلي البصرة معسكرا فيه الخيام والأعلام وحوله الجمال ترعى في بعض المغارس ومعها العبيد، فعلمت أنه معسكر أم المؤمنين في ضاحية البصرة. وكان الوقت أصيلا فجعلت تفكر فيما تنويه من مخاطبة أم المؤمنين، وما تتوقع أن تسمعه من دفاعها وتهيئ الرد عليه. وبقيت غارقة في تصوراتها حتى مالت الشمس إلى المغيب، فنظرت إليها وقد كبر جرمها وتكورت ومالت إلى الاحمرار، فاشتغلت بالنظر إلى الأفق والتمتع بذلك المنظر البديع، ولم تكد تغيب الشمس حتى أحست بالبرد فدخلت تلتمس الدفء في الفراش، فباتت تلك الليلة وهي تتوقع أن تصبح ناقهة فتنظر هل تسير إلى معسكر أم المؤمنين أم إلى الشام.

فلما أصبحت شعرت بنشاط، ولكنها لم تأنس من نفسها القدرة على ركوب الجمل أو الجواد، فلم تر بدا من الاصطبار حتى يتم التئام الجرح وتتقوى، فالتمست من رئيس الدير أن يأذن لها في الخروج للرياضة في بساتين الدير، فأذن لها فخرجت وحدها إلى البستان تمشي الهوينى، فابتعدت عن الدير مسافة طويلة وهي لا تدري، فانكشف لها من الأفق قسم كان مستترا وراء التلال، فرأت فيه خياما وأعلاما وجمالا وعبيدا. وما كادت تتفرس في ذلك الحشد العظيم حتى علمت أنه معسكر الإمام علي فخفق قلبها، ومشت قليلا حتى دنت من أكمة صعدت إليها وجعلت تتأمله ونفسها تحدثها بالذهاب إليه لعلها ترى محمدا فيه أو تسمع شيئا عنه. على أنها تشاءمت من قدوم جيش الإمام لأنه نذير الحرب.

وبينما هي هكذا إذ سمعت صوت رجل يزجر جملا على مقربة منها، فالتفتت فإذا ببعير سائب يعدو ورجل يركض في أثره يستنجد الناس ليعينوه على القبض عليه، فلم يسع أسماء السكوت مع ضعفها فاعترضت الجمل ليرجع، وكان قد جمح ولكنه ظل مسرعا في سبيله فركضت نحوه وتعلقت بعنقه لأنه لم يكن له رسن، فظل راكضا وأسماء ممسكة عنقه بذراعيها كأنها تحاول الصعود إلى ظهره، ولكنها ما لبثت أن شعرت بخور قواها وأحست كأن شيئا تمزق في مكان الجرح، واشتد بها الألم حتى لم تعد تستطيع صبرا عليه. وكان البعير في أثناء ذلك قد قلل سرعته فأدركه صاحبه وأمسك بعنقه حتى أناخه، فسقطت أسماء إلى الأرض لا تعي شيئا من شدة الألم.

وكان صاحب البعير شابا من عبد القيس إحدى القبائل التي أنجدت عليا وجاءت معه للحرب، فلما رأى أسماء ساعدته في القبض على بعيره ثم رأى ما ألم بها من التعب حتى سقطت خائرة القوى، شعر بأنه السبب فيما أصابها فدنا منها وأجلسها وقد بهره جمالها وأعجبته هيئتها فكلمها فأفاقت ويدها على جنبها تتقي الألم. ولما رأت ذلك الغريب بجانبها علمت أنه صاحب البعير، أما هو فحالما نظرت إليه هابها ولم يسعه إلا الاعتذار عما أصابها بسببه.

أما هي فتجلدت وضغطت جنبها بيدها واغتنمتها فرصة لاستطلاع أمر ذلك الجند، فقالت له: «ممن أنت؟» قال: «من عبد قيس.»

قالت: «ومن هؤلاء الجند الذين أمامنا؟»

قال: «أما سمعت بما قام بين الإمام علي وأم المؤمنين؟»

قالت: «سمعت وعلمت، وهل هذا الجند هو جند الإمام علي؟»

قال: «نعم، ونحن في نجدته لاعتقادنا فضله على سائر الناس.»

قالت: «وكم عدد رجاله؟»

قال: «عشرون ألفا بين راجل وفارس.»

قالت: «أتعلم عدد جند أم المؤمنين؟»

قال: «أظنهم ثلاثين ألفا.»

فبهتت وهي تفكر في الفرق بين الجيشين، والألم يمنعها من مواصلة الكلام، على أنها تشددت وقالت: «ولمن ترى الغلبة؟»

فابتسم الشاب وقال: «لقد قضي الأمر أمس.»

قالت: «ماذا تعني؟» قال: «لقد تم الصلح وانصرف العداء.»

فبغتت أسماء ولم تصدق مقاله فقالت: «وكيف ذلك؟! اصدقني الخبر.» وشعرت مذ سمعت خبر الصلح بنشاط ساعدها على النهوض، فمشت وهي تخاطب الرجل حتى جلست على حجر تحت شجرة، وأسندت ظهرها إليها وضغطت الجرح بكفها فوق أثوابها. فأراد الرجل أن يشرح لها أصل العداء لظنه أنها خالية الذهن منه، فابتدرته قائلة: «لا تشرح القصة فإني أعلمها، ولكن أخبرني كيف تداعوا إلى الصلح.»

فعجب الرجل لعلم أسماء وود لو يعرف من هي، ولكنه أجابها عن سؤالها قائلا: «وصل جيشنا إلى هنا أمس، فلما تقابل الجيشان خرج من جيش أم المؤمنين طلحة والزبير على فرسيهما يطلبان المبارزة، فخرج إليهما الإمام علي حتى اختلفت أعناق دوابهم ونحن ننتظر عاقبة ذلك الملتقى، لأنه سيكون قاضيا إما علينا وإما لنا، فتجاولوا مدة ونحن ننظر إليهم لنرى ما يبدو منهم، فإذا هم وقوف يتخاطبون. وعلمنا بعد رجوع الإمام أنه لما لقيهما قال لهما: «لعمري قد أعددتما سلاحا وخيلا ورجالا! إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما؟ فهل من حدث أحل لكما دمي؟» فقال طلحة: «ألبت على عثمان.» قال علي: «

يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق

يا طلحة، تطلب دم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله

صلى الله عليه وسلم

تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت؟! أما بايعتني؟!» قال: «بايعتك والسيف على عنقي.» قال علي للزبير: «ما أخرجك؟» قال: «أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلا ولا أولى به منا.» فقال له علي: «ألست له أهلا؟! قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا.» وذكره أشياء وقال له: «أتذكر يوم مررت مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم

في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلت له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه. فقال لك رسول الله

صلى الله عليه وسلم : ليس بمزه، لتقاتلنه وأنت ظالم له؟» فقال الزبير: «اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدا!»

وهكذا عاد الإمام إلينا بالخبر، وتوسمنا خيرا من ندم أولئك على عملهم. ثم علمنا أن الزبير لما رجع من ساحة المبارزة سار توا إلى أم المؤمنين فقال لها: «ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا!» فقالت له: «ما تريد أن تصنع؟» قال: «أريد أن أدعهم وأذهب.» فوبخه ابنه عبد الله وقال: «جمعت بين هاتين الفئتين، حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! ولكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد، وأن تحتها الموت الأحمر، فخفت!» فاعتذر الزبير بأنه حلف ألا يقاتل عليا. ثم تفاوضوا بعد ذلك مع طلحة وغيره فتم الاتفاق على الصلح، وبتنا ليلتنا البارحة والقلوب هادئة وكل فرح بما حقن من دماء المسلمين.»

فلما سمعت أسماء كلام الرجل أشرق وجهها وأبرقت أسرتها ونسيت ألمها وضعفها، وقالت: «بشرك الله بالخير يا أخا عبد القيس!» وأرادت الاستفهام عن محمد ومقامه فقالت: «وهل جاء أهل الكوفة لنصرة الإمام؟»

قال: «لقد جاءوا بعد أن ترددوا كثيرا!»

قالت: «كيف يترددون في نجدة أمير المؤمنين؟!»

قال: «ذهب إليهم أولا محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فلقيا أبا موسى الأشعري عامل الكوفة فكلماه ففضل القعود على المسير، فعادا بذلك إلى الإمام فأرسل الأشتر وابن عباس، فعادا ولم ينالا وطرا. فأرسل ابنه الحسن وعمارا بن ياسر فجاءا الكوفة، وكانت عائشة قد أرسلت رسلها تدعو الناس إلى نجدتها، وظل أبو موسى يحرض الكوفيين على القعود فلا يسيرون مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فجادلهم الحسن حتى أقنعهم بأن يقوموا لنصرة أمير المؤمنين فجاء منهم تسعة آلاف.»

فأدركت أسماء من حديثه أن محمدا في معسكر الإمام علي، وكانت قد تعبت من الجلوس على الحجر فنهضت تلتمس الدير لمداواة الجرح لأنها شعرت وهي قابضة عليه أن الدم يسيل منه. فأحس الرجل بمرادها فأراد مساعدتها في المشي فأبت فرافقها حتى دنت من الدير، فودعها وعاد بجمله يطلب المعسكر.

أما هي فالتمست حجرتها فلقيها الرئيس عند الباب فسألها عن حالها فقصت عليه حديث الجمل ووقوعها، فهم بالجرح فأعاد تضميده وبشرها بألا خوف منه. فلبثت تفكر فيما سمعته وكانت كلما تمثل لها وقوع الصلح يكاد قلبها أن يطير فرحا لنجاتها من مصائب كثيرة وحقن دماء الناس. على أنها وهي في وسط هذه المسرات تذكرت ما سمعته من الرئيس عن أبيها، فانقبضت نفسها مخافة أن يضيع خبره، فصممت عزمها على أن تسافر إلى دمشق حالما تستطيع الركوب لتقابل القسيس الشيخ وتعرف منه من يكون أبوها. •••

قضت أسماء أياما وهي تتوقع في كل يوم أن ترى محمدا آتيا إلى الدير لمشاهدتها، لعلمها أن مسعودا قد أطلعه على ما أصابها، فلا بد من مجيئه ولا سيما أنه على مقربة منها، فلما مضت أيام ولم يأت أيقنت أن مسعودا لم يره بعد ذهابه من الدير. وكان الجرح قد التأم فلم تر بدا من لقاء محمد لتخبره بعزمها على المسير إلى دمشق، وتسأله دابة تركبها وخادما يسير في ركابها. ولكنها تذكرت الحسن وما لحظت منه يوم كانت في المدينة، فخافت ألا يرضى محمد بذهابها إلى المعسكر، فعزمت على استقدامه إليها فكتبت ورقة بذلك واستأذنت رئيس الدير في إرسال أحد خدمه بها، فجاءها ببعضهم فاختارت أحدهم وأفهمته كيف يسير وإلى من يسلم الورقة ودلته على الجهة التي يلقى فيها جيش الإمام علي.

فخرج وجلست هي في فراشها تنتظر رجوعه ومحمد معه، وكلما تصورت لقاءها محمدا اختلج قلبها في صدرها وأعدت عبارات تخاطبه بها تسفر عما في نفسها. وقد أهمها من الصلح انقضاء تأجيل الزواج فأخذت تعد نفسها بالسعادة المستقبلة، ولا سيما إذا تمكنت من معرفة اسم أبيها الصحيح.

قضت ساعة وبعض الساعة في مثل هذه الهواجس ، وهي كلما سمعت سعال رجل أو وقع أقدام أو جعجعة بعير أو صهيل فرس ظنت رسولها عائدا ومعه محمد، ولم تعد تستطيع صبرا على الانتظار فصعدت إلى سطح الدير تستطلع قدومه عن بعد. ولم تكد تخطو خطوتين فوق السطح حتى رأت رسولها راجعا يعدو ويلتفت وراءه فاضطربت ولبثت تنتظر وصوله، فما عتم أن وصل وهو يلهث من شدة الجري فقالت: «ما وراءك؟!» قال: «خرجت من الدير إلى الجهة التي رسمتها لي، فما وصلت إلى المكان حتى رأيت النبال تتطاير في الجو، فلما أشرفت على المعسكر رأيت الحرب محتدمة ...»

فبغتت أسماء وقطعت كلامه قائلة: «الحرب؟! بين من ومن؟!»

قال: «سألت بعض العبيد ممن كانوا يلتقطون النبال المتساقطة خارج المعسكر، فأخبرني أن قد نشب القتال بين الإمام علي وعائشة، وكانوا قد أبرموا صلحا فنقضوه.»

قالت: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ومن نقضه؟!»

قال: «لا أدري، ولكن العبد أخبرني أنهم باتوا على الصلح، فأصبحوا فإذا بجيش عائشة على الحرب.» فقالت: «ألم تلق محمدا؟»

قال: «وكيف ألقاه وأنا لم أستطع الدنو من المعركة مخافة أن تصيبني النبال فأموت ولا يبقى من يرجع إليك بالخبر؟» فثارت الحمية في رأس أسماء ولم تر بدا من العدول عن دمشق إلى معسكر أم المؤمنين، لتكلمها في الرجوع إلى الصلح قبل أن يتفاقم الخطب.

فسألت رئيس الدير عن دابة تركبها، فقال: «إن خادمك الأول ترك هنا جملك الذي جئت عليه.»

قالت: «أين هو؟» فأمر الرئيس بإعداده للركوب، وذهبت أسماء إلى حجرتها وجعلت ثيابها على شكل مشابه ثياب الرجال، وشدت وسطها بمنطقة عريضة والتفت بعباءة وغطت رأسها بكوفية، وتقلدت حساما كان قد أعطاها إياه محمد يوم سفرها مع مسعود. وركبت الجمل وولت وجهها نحو معسكر أم المؤمنين، وكان الوقت ضحى وهي للهفتها لم تودع الرئيس، حتى إذا بعدت عن الدير تذكرت ذلك فالتفتت إليه وأشارت بالسلام بيدها ورأسها. ولم تبعد عن الدير قليلا حتى أطلت على المعركة، فرأت السهام تتطاير من كل جانب حتى كادت تحجب أشعة الشمس بدلا من الغبار، لأن الجو كان قد أمطر في ذلك الصباح فتماسك التراب. ووقفت هنيهة ريثما تعرف الطريق الذي يؤدي إلى أم المؤمنين، فرأت الرجال يهرعون يمينا وشمالا وفيهم المشاة والفرسان، وسمعت النساء من وراء الجمع يحرضن الرجال على الثبات، وكان الجو صافيا لا غبار فيه فجعلت تتفرس في الرجال عساها أن ترى محمدا فلم تره، ولكنها أدركت أن النصر للإمام علي لأنها رأت رجاله يتقدمون والآخرين يفرون أمامهم، ويعثر بعضهم بجثث جرحاهم وقتلاهم. فأجالت بصرها لعلها ترى فسطاط عائشة لتسرع إليها وتخاطبها في الكف عن القتال، فلمحت مروان بن الحكم على فرسه يتعقب فارسا آخر علمت أنه طلحة وقد رماه مروان بسهم في رجله فشكها في صفحة الفرس، ثم رأت طلحة حول عنان جواده نحو البصرة وترك الجيشين يقتتلان، فعلمت أنه إنما ذهب إليها لجرح بليغ أصابه، فتأكدت فشل جند مكة. ولكنها عجبت لما فعله مروان بطلحة وهما من جند واحد، على أنها أولت فعله بطمعه في الخلافة لبني أمية وعلمه بأنها إذا خرجت من يد الإمام علي فلن تكون لغير طلحة أو الزبير، فإذا قتل هذان فلا يبقى من يتنافس فيها [مع] بني أمية. •••

وبينما هي تتأمل حركات الجيش وتسمع ضجيج الناس ومقارعة السيوف والرماح وصهيل الخيل، رأت في معسكر أم المؤمنين فسطاطا كبيرا علمت أنه فسطاطها، ولكنها لم تر ازدحاما فارتابت في أمره، ثم لمحت جمعا متكاثفا حول هودج فوق بعير فعلمت من لون الهودج وشكله أنه هودج أم المؤمنين، فساقت جملها إليه ولكنه لم يسعفها. ثم رأت فرسا تائها خارج المعركة فأسرعت إليه وركبته وسارت تلتمس الهودج، ولم تكد تصل إلى وسط المعركة حتى رأت فارسا خارجا منها يطلب عرض البر لا يلتفت وراءه، فعرفت أنه الزبير وتذكرت أنه أقسم ألا يحارب عليا فقالت في نفسها: «قد فر الزعيمان ولا إخال أم المؤمنين إذا علمت ذلك إلا آمرة بالكف عن القتال.» فاخترقت المعركة لا تبالي ما يتساقط عليها من النبال أو يعترض فرسها من جثث القتلى والجرحى، ولم تدن من الهودج حتى سمعت أم المؤمنين تصيح بصوتها الجهوري وتنادي أحد رجالها، وقد مدت يدها من الهودج وفيها المصحف وهي تقول: «إليك يا كعب، ادع الناس إلى هذا المصحف!» فلم يكد الرجل يتناوله حتى أصيب بنبل فقتل. وكانت أسماء قد وصلت إلى الهودج فرأت الرجال حائمين حوله وعائشة تقول: «أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!»

فترجلت أسماء وأقبلت إلى الجمل فرأت الهودج قد أصبح كالقنفذ لكثرة ما غرس فيه من السهام المتساقطة، وأرادت التسلق على الجمل لتلقى عائشة في الهودج فاعترضها بعض الرجال، فأزاحت لثامها ونادت أم المؤمنين فعرفت صوتها فأذنت لها، فقال قائل من الوقوف: «هبي أننا أذنا لك بالصعود على الجمل تسلقا فهل تستطيعين ذلك؟» فتذكرت ما أصابها من تسلق جمل الأمس، فعادت إلى فرسها واتصلت منه بالهودج وأم المؤمنين تعجب لوجودها هناك. أما أسماء فترامت على قدمي أم المؤمنين وهي تقول والدمع ملء عينيها: «أشفقي يا أماه على أولادك! احقني دماءهم! ارحمي أبطالا يوحدون الله! لقد كفى ما أصابهم من البلاء فمري بالكف عن القتال، إن السلام بين شفتيك وأنت أم المؤمنين وزوج رسول رب العالمين. ثم إن طلحة والزبير اللذين أضرما نار الفتنة قد فرا من المعركة، فانهضي وأطلي على الجندين وانظري القتلى من الفريقين!»

وكانت أسماء تتكلم بخشوع وتذلل وهي جاثية عند قدمي عائشة، وكانت عائشة في إبان اضطرابها لا تملك وقتا للنظر في الأمر والناس حول هودجها يتلقون ما يتساقط عليه من السهام، حتى قتل عند خطام الجمل أكثر من أربعين رجلا. فنظرت إلى أسماء وقد أثر فيها كلامها مع ما توسمته من فشل جندها، وقالت: «لقد كنا على موعد للصلح، فلا ندري ما حملهم على نقضه!»

فقالت أسماء: «إنهم يقولون بأنكم الناقضون.»

قالت: «كلا، لقد بتنا مصالحين فأصبحنا وإذا هم يقاتلوننا.»

قالت أسماء: «إن في الأمر دسيسة، فلعل بعض الأعداء سعى فسادا فأوقع الشقاق بينكم، وعلى كل حال إن الصلح قريب وتكفي كلمة منك لحقن الدماء.»

قالت أم المؤمنين : «لقد قضي الأمر ولم يعد الرجوع مستطاعا، فلا تلتمسي ذلك مني.» قالت ذلك وفي لهجتها وملامحها ما يزجر أسماء عن الكلام فصمتت، وعادت عائشة إلى استنهاض القبائل حتى أصبح كل من بقي من رجالها يدافع عن جملها.

وهمت أسماء بالنزول من الهودج ولكنها لم تجسر تهيبا من عائشة، ثم سمعت صوت علي يقول: «اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا.» ولم يكد يتم أمره حتى أحست أسماء بسقوط الجمل وهو يهدر من الألم، فعلمت أنهم عقروه فهمت بالخروج من الهودج، ولكنها أطلت قبل ذلك فرأت كل من حوله من الرجال تفرقوا وعليا يقول لرجاله: «أرسلوا من ينادي في الناس ألا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يدخلوا الدور.» ثم قال: «احملوا هذا الهودج من بين القتلى»، فحملوه وهي ما زالت فيه مع أم المؤمنين وهذه غافلة عنها لعظم ما ألم بها، وكانت أسماء تنظر إليها وهي متهيبة خشية أن تنتهرها وربما لا تستطيع جوابا. ثم سمعت عليا يقول: «يا محمد يا ابن أبي بكر، اضرب على أختك قبة، وانظر هل وصل إليها شيء من جراحة.»

فلما سمعت ذكر محمد وما أمره به علي، لبثت تنتظر أن تراه مطلا من الهودج وقلبها يخفق، أما هو فلما أدخل رأسه في الهودج ورأى أسماء مع أخته ذهل، ولكنه تجلد ولم يكد يتكلم حتى سمع أخته تقول: «من أنت؟» قال: «أخوك».

قالت: «الحمد لله الذي عافاك!»

وأشار محمد إلى أسماء أن تخرج، فخرجت ونظرت إلى ما حولها فرأت الأرض قد خلت من الناس غير من قتل أو جرح جرحا بليغا فلا يستطيع المسير، وسمعت أنين الجرحى ورأت الدم جاريا قنوات، والخيل والنوق سارحة بعضها يعرج وبعضها يهدر من الجراح، ورأت في بعض تلك الدواب سهاما لا تزال مغروسة في رقابها أو أعجازها. وكان المنظر رهيبا محزنا مؤثرا. وفيما هي تنظر في ذلك إذ رأت عليا دنا من هودج أم المؤمنين وقال: «كيف أنت يا أماه؟»

قالت: «بخير.»

قال: «يغفر الله لك!» قالت: «ولك!»

ثم أمر أخاها أن يدخل بها البصرة لتستريح.

وفيما هو يتكلم رأى أسماء واقفة فعرفها، فلما رأته ينظر إليها همت بيده فقبلتها وقد علتها البغتة واحمرت وجنتاها خجلا، فقال: «أين كنت يا أسماء؟»

ثم سمع صوت أم المؤمنين تقول من داخل الهودج: «أكرموا هذه الفتاة، فوالله إني ما رأيت أكثر غيرة منها على الإسلام ولا أصدق لهجة في الدفاع عن الحق! وهي إنما خاطرت بحياتها وأتتني تحت النبال المتساقطة تلتمس الكف عن القتال.»

فخجلت أسماء لهذا الإطراء وأطرقت، فقال لها علي: «بورك فيك يا بنية! إني توسمت فيك هذا الخير منذ رأيتك للمرة الأولى. تعالي.»

ثم سار وسارت في أثره وهي مطرقة، وهو في شاغل بأمر الجرحى والأمر بدفن القتلى. ثم علم أن طلحة والزبير قتلا، فأخبرته أسماء بما رأته من مروان فقال: «لا تعجبي ممن كان سبب هذه الفتنة أن يفعل مثل ذلك.»

وظلوا سائرين إلى البصرة حتى دخلوها، فنزل علي في دار العامل بقرب المسجد، وتواردت الناس لمبايعته وقد سلم الأمر له وخلا له الجو.

ونزلت أسماء في تلك الدار مع بعض النسوة ممن جئن مع الإمام، وكانت عرفتهن أثناء إقامتها بالمدينة. وظلت أياما تحاول أن ترى محمدا دون أن تستطيع ذلك، إذ شغله الإمام علي بأمر العناية بأخته أم المؤمنين فلم يكن يستطيع التخلي عنها، فرأت أن تسير هي إليه بحجة زيارة أم المؤمنين.

فلما التقيا سألته عما أقعده عن زيارتها مع علمه أنها كانت جريحة في الدير، فاستغرب قولها وأكد لها أنه لم يعرف عنها شيئا، لأن مسعودا لم يعد إليه وهو لا يعرف مقره، ثم قال: «ها قد انقضت الحرب وانتصر الإمام والحمد لله، وآن لنا السكون والاجتماع.»

فسكتت أسماء وقد أدركت أنه يشير إلى الزواج، ثم قالت: «ولكنني على أهبة السفر إلى الشام.»

قال: «ولماذا؟» قالت: «لأعرف اسم أبي.»

قال: «وكيف ذلك؟ ومن يخبرك عنه؟» فقصت عليه خبر رئيس الدير، فعجب وأصبح أكثر منها اشتياقا لمعرفة أبيها، وارتفع مقامها في عينيه لما علم أنها ابنة أحد كبار الصحابة في المدينة، فقال لها: «لا يبعد أن تكون بيننا قرابة قبل القرابة التي نسعى فيها اليوم.»

فعاودها الخجل، وغيرت مجرى الحديث فقالت: «وكيف أم المؤمنين؟»

قال: «هي في خير، وقد أمرني الإمام بإعداد ما يلزم لسفرها إلى مكة. وها إني أعد ذلك، وقد جهزت لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات ليسرن معها، فإذا سافرت ...»

ولم يتم كلامه حتى رأى الناس في هرج يصيحون: «جاء أمير المؤمنين.» ثم وصل علي، وكانت عائشة قد تهيأت للسفر وأعد لها الهودج، وجاء الناس لوداعها فخرجت لوداعهم. فلما رأت عليا قالت وهي تنظر إلى الناس: «يا بني، لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وبيت أحمائها! وإنه على معتبي لمن الأخيار.»

فقال علي: «صدقت والله، ما كان بيني وبينها إلا ذاك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.» ثم قال لمحمد: «سر يا محمد مع أختك إلى مكة.»

فلما سمعت أسماء هذا الأمر اضطرب قلبها ونظرت إلى محمد ونظر هو إليها، ففهم كل منهما ما في ذهن الآخر. •••

وكان الحسن قد جاء مع أبيه لوداع أم المؤمنين، فرأى أسماء وقد علم بما أظهرته من الغيرة على الإسلام فازداد حبه لها وصمم على خطبتها وهو لا يعلم ما بينها وبين محمد. ثم علم أن أباه عازم على السير إلى الكوفة لأخذ البيعة كما أخذها في البصرة.

وكانت أسماء لما ودعت محمدا عادت إلى عزمها على التوجه إلى الشام لملاقاة القسيس مرقس وسؤاله عن أبيها، وقد أصبح هذا الأمر شغلها الشاغل، فأتت عليا بعد سفر محمد لتودعه وتخبره بعزمها وتسأله رفيقا ودابة فلم تستطع مقابلته لكثرة المبايعين، فصبرت حتى سار ومن معه إلى الكوفة فسارت مع السائرين.

وقضت في الكوفة أياما كأنها على جمر الغضا، حتى أصبحت يوما وقد ملت الانتظار فصممت على الاستئذان في السفر، فسألت عن علي فقيل لها إنه في مجلسه وحده، فاستأذنت في الدخول عليه فأذن لها. فدخلت فإذا هو جالس في قاعة واسعة ليس فيها أحد سواه، فلما رآها هش لها ورحب بها، فهمت بتقبيل يديه وهي تقول: «نحمد الله على ما أولانا من نعمة في إحقاق الحق، ونشكره على ما أولاك من النصر.»

فتنهد وقال: «كنت أود أن تنتهي الفتنة ولا يسفك فيها دم، ولكنها أبت أن تنام إلا على فراش من الدماء.» قال ذلك وسكت، ثم قال: «وكنت عازما على استقدامك إلي لأشكرك على سعيك في هذا الأمر، فقد سعيت فيه سعيا حميدا.» فأطرقت ولم تجب.

فقال لها: «ولنا فوق ذلك اقتراح نقترحه عليك عساه أن ينال موافقتك.»

فقالت: «إني أمة إذا أمرت أطعت.»

قال: «إننا نود استبقاءك عندنا فتكونين بمنزلة ولدنا.»

فأدركت أسماء ما وراء ذلك فأجفلت، مخافة أن يتحقق ظنها لعلمها ما في نفس الحسن، ولكنها لم تستطع غير إظهار الاستحسان فقالت: «إني أحقر من أن أحظى بهذا الشرف العظيم.»

قال: «لا، بل أنت أهل لأفضل منه، ولا أخفي عليك أن ولدي الحسن راغب فيك لما آنسه من غيرتك على الإسلام ورغبتك في إعلاء كلمته، فهل ترضين به خاطبا؟»

فلم تستطع إخفاء عواطفها بما ظهر على وجهها من الاحمرار السريع، ولكنها تجلدت وقالت وهي تشكر: «إني لا أستحق هذا الإكرام يا مولاي، لأنه فوق ما تتوقعه فتاة يتيمة غريبة مثلي، كيف لا وفيه التقرب من أعظم رجال هذه الأمة وابن عم النبي؟ ولكنني جئت إلى مولاي الإمام الآن في أمر أهمني كثيرا، وهو يدعوني إلى سفر قريب لا أرى منه بدا، فجئت أستأذن أمير المؤمنين في شأنه.»

قال: «وما ذلك؟» قالت: «لا أظن مولاي أبا الحسن يجهل أمر أمي يوم قدومها المدينة، وما ظننا أننا فقدناه من السر بوفاتها.»

قال: «لا أجهله»، قالت: «ولعلك تعلم يا سيدي أن يزيد الذي كان معنا في ذلك اليوم المشئوم ليس أبي.»

قال: «ظننت ذلك به منذ رأيته، ثم سمعت أنه ليس أباك.»

قالت: «وكنت أنا أيضا أعلم هذا فقد أخبرتني به أمي، ووعدتني أن تذكر لي أبي الصحيح عند وصولنا إلى المدينة، فقضى الله بوفاتها قبل وصولنا، وظننت أن سر أبي ذهب معها إلى القبر فأسفت وبكيت، ولكن المقادير ساقتني بالأمس إلى دير بجوار البصرة بعد جرح أصابني في أثناء سفري، فأقمت به أياما أعالج الجرح. وهناك رأيت راهبا عرفته، وكنت قد رأيته في كنيسة دمشق قبل سفري، فأخبرني خبرا أعاد إلي آمالي.» فقال علي: «وهل ذكر لك اسم أبيك؟» قالت: «لا، ولكنه أخبرني أن قسيس كنيسة دمشق يعرفه، لأن أمي اعترفت له به دون سواه.» ثم قصت أسماء ما أخبرها به رئيس الدير، ولم تكد تتم كلامها حتى ظهرت الدهشة على وجه الإمام لما سمع من أن والدها من كبار المسلمين في المدينة، وأن أمها جاءت المدينة للبحث عنه، فعاد يسألها: «ألم يخبرك عن اسمه؟»

قالت: «إنه لا يعرف اسمه، وهذا ما حملني على الإسراع إلى دمشق لأستطلع الخبر.» فأمر لها بجواد وخادم أمين وقال لها: «تنتظرين قافلة سائرة من الكوفة إلى الشام تذهبين معها، لأنه يعسر سلوك الطريق على شخصين منفردين.»

فشكرت، وودعته وخرجت وهي تود أن تطير إلى دمشق لمقابلة القسيس، وصممت على الإسراع ما استطاعت دون أن تنتظر قافلة ولا ركبا.

الفصل السادس عشر

معاوية وعمرو بن العاص

كان معاوية في الشام مناوئا لعلي في خلافته ناقما عليه، وقد حرض أهل الشام على مطالبته بدم عثمان، فجعل قميص عثمان وأصابع نائلة امرأته على المنبر بدمشق ينظرهما الناس. فثار أهل الشام وأنكروا مبايعة علي، وبعث معاوية إلى علي بالطومار كما تقدم وهو عازم على مقاومته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وحدثته نفسه بأن يطلب الخلافة لنفسه ولكنه ما زال يرى ذلك بعيدا، حتى سمع بنقض طلحة والزبير بيعة علي ومسيرهما في أهل مكة إلى البصرة، فقال: «لأصبرن حتى أرى ما يكون من عاقبة تلك الحرب.» ثم سمع بخروج علي من المدينة ووقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير، فعلم أن ليس ثمة من يطالب بالخلافة غيره.

وكان عمرو بن العاص فاتح مصر في أوائل الهجرة ومخرجها من أيدي الروم (سنة 20ه) على عهد الإمام عمر بن الخطاب؛ قد تولاها وأصلح شئونها. فلما أفضت الخلافة إلى عثمان بن عفان، وكان عثمان على ما سلف من إيثاره ذوي قرباه في ولاية الأعمال، عزل ابن العاص عن مصر وعهد في ولايتها إلى أخيه في الرضاع عبد الله بن سعد، فخرج عمرو ناقما على عثمان، وكان من دهاة العرب المعروفين. فلما كانت الفتنة وثار الناس على عثمان وجاء أهل الأمصار إلى المدينة كان هو في جملة الناقمين، ولكنه غادر المدينة قبل الحصار وسار إلى فلسطين وأقام بها ينتظر ما يكون، فلما علم بمقتله قال: «إني قتلته وأنا في وادي السباع.» وجعل يفكر فيمن يلي الخلافة بعده وقال في نفسه: «إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب، وإن يله ابن أبي طالب فهو أكره من يليه إلي.»

فلما بلغته بيعة علي اشتد عليه الأمر ولبث ينتظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير أم المؤمنين وطلحة والزبير إلى البصرة فلبث ينتظر ما يكون من أمرهم، فجاءه الخبر بوقعة الجمل وانتصار الإمام علي فارتج عليه ووقع في حيرة. ثم بلغه أن معاوية في الشام لا يبايع عليا وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من علي لأنه داهية مثله، فأخذ ابنيه محمدا وعبد الله وسار إلى دمشق، واتفق مع معاوية على المطالبة بدم عثمان، ونفس عمرو طامحة إلى مصر يحن إليها لأنه فاتحها. وكانت مصر يومئذ على دعوة علي، وعمرو يعلم أن عليا لا يوليه إياها فلم ير خيرا من الانتماء إلى معاوية، فجعل يحرض أهل الشام على طلب دم عثمان ويقول لهم: «أنتم على الحق، اطلبوا دم الخليفة المظلوم.» •••

قضت أسماء أياما في مسيرها من الكوفة إلى دمشق، فلما أشرفت على غوطتها المشهورة بالخصب ونظرت إلى دمشق عن بعد، رأتها في منبسط من الأرض تحف به الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء، وفيها أغراس المشمش واللوز والسفرجل والخوخ والليمون والفاكهة على اختلاف أنواعها وفيها الأعشاب والرياحين، وكلها يانعة تجري بينها جداول من الماء القراح. وكانت أسماء ملتفة بالعباءة و«الكوفية» فوق جواد يسابق الريح ومعها الخادم على جواده، فأقبلت على المدينة في الصباح وقد تعطر نسيمها بشذا الأزهار تتخلله نغمات الأطيار، فلم يشغلها ذلك كله عما قام في خاطرها من الشوق للاطلاع على أصلها. فدخلت المدينة من باب الجابية بعد أن ترجلت وأمرت الخادم أن يسير في أثرها بالجوادين، وسارت ملثمة تلتمس كنيسة مار يوحنا من أقرب الطرق وهي تعرف دمشق معرفة جيدة، محاذرة أن يراها أحد من أهلها أو جيرانها فيعرفها فيشغلها عما هي ساعية في طلبه. وخوفا من أن ينتبه الناس لها إذا مشت والخادم والجوادان في أثرها أمرت الخادم أن ينتظر في خان دلته عليه وقالت له: «امكث هناك حتى أعود إليك»، فأطاعها.

وظلت هي سائرة حتى دنت من الكنيسة فتذكرت أن هذه الكنيسة العظيمة، المعروفة باسم القديس ماري يوحنا، قد أخذ المسلمون حين فتحوا الشام نصفها الشرقي وجعلوا فيه مسجدا يصلون فيه، وتركوا النصف الآخر وهو الغربي للنصارى وفصلوا بين القسمين بحاجز. فالتمست الباب المؤدي إلى القسم الغربي وهي بلباس السفر، فاستقبلها خادم الكنيسة واستغرب مجيئها بعد الفراغ من الصلاة فكلمها باللسان الرومي، وكانت قد تعلمته من أمها، فسألها عن غرضها فذكرت أنها تريد القسيس مرقس فدعاها إلى الاستراحة على مقعد من رخام في صحن الكنيسة وسار للسؤال عن القسيس، فلبثت في انتظاره وهي تلهي نفسها بما هناك من فخامة البناء كالأعمدة الضخمة الشاهقة والنقش البديع من الفسيفساء وغيرها، فضلا عن الصور على الجدران والسقف في أشكال غريبة وألوان زاهية. ولم تكن تلك أول مرة دخلت هذه الكنيسة، ولكن غرابة ذلك البناء وفخامته يلفتان النظر ويشغلان الخاطر في كل آن.

فما لبث الخادم أن عاد يدعوها إلى غرفة الاستقبال لتقابل الشماس وتطلب منه ما تريد، فخرجت من الكنيسة إلى دار في وسطها بركة من الرخام يتدفق منها كسائر دور الشام، واتصلت من الدار بقاعة فخمة استقبلها فيها شماس لم تكد تراه حتى تذكرت أنها رأته يوم زارت الكنيسة مع أمها قبل سفرها إلى المدينة، فاستأنست به وسألته عن القسيس مرقس فدعاها إلى الجلوس على بساط من السجاد، وبين يديهما بركة أخرى أصغر من بركة الدار والماء يسيل من جوانبها إلى قناة تحيط بها ويصرف منها، فلما جلست قال لها: «إن القسيس مرقس سافر منذ بضعة أشهر.»

فأجفلت وقالت: «إلى أين؟!» قال: «إلى بيت المقدس.»

قالت: «ومتى يعود؟» قال: «لا أدري متى يعود لأن سفره لم يكن لشأن خاص بالدير، ولكنه خرج فرارا مما أقلق راحته من أصوات البكاء والعويل التي ترن في آذاننا كل يوم في القسم الآخر من هذه الكنيسة.»

قالت: «وما هو هذا العويل وعلى من؟»

قال: «ربما سمعت بمقتل الخليفة عثمان في يثرب، فإن بعض رجال حاكمنا معاوية جاء بقميصه الملطخ بالدم وأصابع امرأته التي قطعت وهي تدفع بيدها عنه، ووضعوها على المنبر الذي يخطبون فوقه. وكلما اجتمعوا للصلاة وذكروا مقتل الخليفة صاح الناس رجالا ونساء، شيوخا وأطفالا، يبكون ويولولون حتى تكاد تتفتت القلوب. وكان أبونا القسيس في أثناء ذلك مريضا مرض الشيخوخة فزاده ذلك الحال ضعفا، فأشار عليه طبيبه أن يسافر إلى القدس يقيم بها حتى تتغير الحال، فسار ونحن في انتظاره وقد بلغنا أنه ما زال مريضا.»

فعادت تسأله: «ألا تدري متى يعود؟»

قال: «لا، ولكن إذا كنت تريدين خدمة فإننا نؤديها بالنيابة عنه.»

قالت: «إنما أمري منوط به وحده.» وفكرت فيما تصنع هل تقيم هناك ريثما يعود أم تخرج إلى الخان، وفيما هي صامتة تفكر ابتدرها الشماس قائلا: «إذا شئت أن تقيمي ضيفة في هذه الدار حتى يعود أبونا القسيس فعلى الرحب والسعة، فإن عندنا نساء يقمن بخدمتك.»

ثم صفق فجاء الخادم فأمره أن يدل أسماء على غرفة القسيسة، فصعد بها إلى قاعة علوية فيها امرأة طاعنة في السن بلباس أسود وعليها هيئة الكمال والوقار، فنهضت لها واستقبلتها وأجلستها إلى نافذة تطل على بعض أبنية دمشق، وأمرت لها بما تحتاج إليه من طعام فاعتذرت من تناول الطعام.

وجلست أسماء وقد استأنست بتلك المرأة ولكنها ما زالت منقبضة النفس من عرقلة مساعيها لغياب القسيس وتصورت أن نحس طالعها قد عرقل أمورها، وخيل لها أن القسيس مرقس سيموت في القدس لضعفه وشيخوخته فيضيع السر وتذهب آمالها أدراج الرياح، فخطر لها أن تذهب إليه وتستطلع السر، وكانت تفكر في ذلك والقسيسة تبالغ في ملاطفتها وتدعوها إلى نزع العباءة والكوفية وهي تمتنع. •••

ودنا وقت الظهر فخرجت القسيسة للصلاة كالعادة، وظلت أسماء منفردة فأطلت من النافذة فوقع نظرها على صحن الكنيسة كله وفيه القسم الذي جعله المسلمون مسجدا، فرأت في أرضه الأبسطة والطنافس وقد تعلقت بسقفه المصابيح، وشاهدت على جدرانه رسوما مسيحية في جملتها صور صلبان وقديسين ما زالت كما كانت قبل الفتح. وفيما هي تتأمل في جدران المسجد ومفروشاته سمعت المؤذن يدعو الناس إلى صلاة الظهر، وما كاد يفرغ من أذانه حتى رأت الناس يتقاطرون إلى صحن المسجد زرافات ووحدانا وفيهم الرجال والنساء شيوخا وشبانا وأطفالا فشغلت بالنظر إليهم، وفيهم جماعة عرفت أنهم من الجيران الذين كانوا يزورون أباها.

ثم رأت الناس يموجون موج البحر يتقهقر بعضهم شمالا والبعض الآخر يمينا، حتى فتحوا طريقا واسعا فأدركت أن أحد الكبراء داخل فصبرت، وإذا برجل جميل الخلقة أبيض البشرة ذي هيبة ووقار عليه ثياب سود موشاة تتألق كبير العمامة، فعرفت أنه معاوية بن أبي سفيان والي الشام، ورأت إلى جانبه رجلا قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عيناه تكادان تتقدان حدة، فمشيا وهما ينظران إلى الجمع والناس سكوت إجلالا لهما، فلم تعرف أسماء رفيق معاوية ولكنها سمعت واحدا من الحضور يقول بصوت عال: «أنت لها يا ابن العاص، أنت نصير الخليفة المظلوم.» فعلمت أنه عمرو بن العاص.

فوقفت تنتظر ما يبدو منهما، فرأت معاوية ظل سائرا حتى بلغ دكة عليها قميص ملطخ بالدم، وعلمت أن الدكة هي المنبر وأن القميص قميص عثمان، فتذكرت مقتل ذلك الخليفة على مشهد منها وتذكرت نائلة المسكينة وقالت في نفسها: «أين هي الآن يا ترى؟» وكانت تفكر في ذلك وهي تنظر إلى معاوية فرأته صلى ركعتين وصعد المنبر فسكت الناس وأصغوا، فوقف وحمد الله وأثنى عليه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ثم سكت لحظة وهو يجيل أصابعه في لحيته وعيناه تنتقلان في الناس واحدا بعد واحد، ثم تناول من المنبر هنات كانت معلقة بالقميص جعل يقلبها بين يديه وينظر إلى الناس ويقول: «أتعلمون ما بين يدي؟ إنها أصابع نائلة زوج الخليفة المظلوم، قطعت بسيوف القتلة وهي تدافع عنه.» فتأملت أسماء في الأصابع فإذا هي إصبعان وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصلهما ونصف الإبهام. ثم أمسك معاوية القميص بيده وقال: «أتعلمون قميص من هذا؟ إنه قميص الخليفة المظلوم! إنه قميص عثمان المقتول ظلما!»

ولم يكد يتم كلامه حتى ضج الناس من جوانب المسجد بصوت واحد: «قتل عثمان مظلوما! قتل مظلوما!» وسمعت بعضهم يقول بصوت عال: «أقسم بالله ورسوله وخليفته ألا يمسني ماء إلا للغسل من الجنابة، وألا أنام على الفراش حتى أقتل قتلة عثمان ومن قام دونهم!» وما أتم الرجل حديثه حتى ضج النساء والأطفال بالبكاء والعويل، وتهافتوا على المنبر ليبكوا على القميص والأصابع، فزجرهم معاوية فعادوا إلى أماكنهم، وعاد هو إلى كلامه وأسماء تتميز غيظا لما سمعته من التعريض بعلي ومحمد وما آنسته من التهديد، فثارت الحمية في رأسها ولكنها صبرت لعلمها أن موقفها خطر، فسمعت معاوية عاد إلى كلامه بين تحريض وتعريض حتى سمعته يقول: «إن عليا قتل عثمان وآوى قتلته.» فلما سمعت ذلك لم تعد تستطيع صبرا فتحولت من النافذة بأسرع من لمح البصر وهرولت إلى باب الجامع بعباءتها وكوفيتها.

وبينما الناس يسمعون خطاب معاوية إذا بفتاة وقفت فيهم وعيناها تتقدان غيظا وحنقا والمهابة تتجلى في محياها، فلفتت انتباههم فشغلوا بالنظر إليها عن سماع الخطاب. ثم صعدت إلى دكة من رخام وولت وجهها شطر الناس وظهرها إلى معاوية، وقالت وصوتها يرتعش وركبتاها تصطكان: «أيها الناس، أراكم تسمعون وتغضبون لأمر لم تشاهدوه ولا أنتم على بينة منه، لأنكم لم تكونوا في المدينة ولا شاهدتم مقتل الخليفة. يقولون لكم إنه قتل مظلوما وإن عليا قتله وآوى قتلته، وهذا افتراء لأن عليا أول من دافع عنه بلسانه وسيفه وأولاده. قتل عثمان أيها الناس والحسن والحسين في داره وقد تلطخ وجه الحسن بالدم، ولو لم يأمرهما عثمان بالكف عن الدفاع لبذلا النفس عنه، على أنهما لم ينجوا مع ذلك من تأنيب الإمام وقد شهدت ذلك بنفسي ورأيته رأي العين. فاتهام علي بمقتله افتراء وفتنة لا يصيب القائم بها إلا ما أصاب أصحاب الجمل في البصرة. تزعمون أنه قتل مظلوما، وربما كان زعمكم صحيحا، ولكن عليا لم يرد قتله بل هو أول من قال باستبقائه خوفا من الفتنة، فكيف تقولون إنه قتله؟!»

وما أتمت أسماء كلامها حتى صاح معاوية: «من ذا الذي يتكلم؟! من أنت يا رجل؟!»

فالتفتت إليه أسماء وقالت: «إنني فتاة يا معاوية ولست رجلا.»

فعجب لهذه الجرأة من فتاة في مثل سنها وتأثر من هيبتها وجمالها وأنفتها، ومع كل غيظه وحنقه لم يأمر بالقبض عليها ولا المثلة بها، ولكنه دعاها إليه والناس شاخصون ينظرون كأنه يريد مجادلتها في الأمر، فأشار إليه عمرو إشارة فهم منها أنه لا يليق أن يجادلها أمام الناس لأن الجدال ينقص من برهانه، فأعجبه دهاء عمرو. فلما صارت أسماء بين يديه أمر بالقبض عليها، فتكاثف بضعة عشر من رجاله لشد وثاقها فصاحت فيهم: «تتجمهرون على فتاة وأنتم رجال! ولا حاجة إلى شد الوثاق فإني لا أفر من بين أيديكم! أليس عارا عليكم أن تدفعوا الحق بالقيود والأغلال وهو إنما يدفع بالبرهان والجدال؟!»

فأشار معاوية أن يسيروا بها إلى السجن حتى ينظر في أمرها.

الفصل السابع عشر

أسماء في السجن

ولا تسل عن حال أسماء لما وجدت نفسها في حجرة لا يدخل إليها النور إلا من كوة في أعلى البناء، وليس فيها إلا حصير بال. فأخذت تفكر فيما آلت إليه أمورها وما تتوقعه من العذاب، فندمت على ما أبدته من الجرأة في الدفاع عن علي، ولكنها شعرت أنها أقدمت على ذلك بالرغم منها، فقد كانت كلما سمعت اسم علي طربت واستعزت أو خافت وتهيبت وهي لا تقدر على كبح إحساسها.

فلما خلت إلى نفسها تمثلت لها حالها كما هي، فتذكرت ما مر بها من الأهوال منذ حداثتها وما قاسته من البلاء في أسفارها وجهادها وما كان من وفاة أمها قبل وصولها إلى المدينة وضياع سرها، ولما وصل ذهنها إلى هنا اعترض ظلمة كدرها نور ضعيف من الأمل في كشف السر على يد القسيس مرقس. ثم تصورت مروان وما سامها من العذاب في بيت الخليفة عثمان، وتذكرت أنه كان البيت الذي كاشفت فيه محمدا بالحب فطربت لذلك، ثم تذكرت سفرها إلى مكة وما لاقته من المرض والتعب وما عقب ذلك من أسرها ومسيرها في الصحراء مهددة بالموت وبالعار، حتى قضى الله بنجاتها فعادت إلى خطر آخر ونجت منه، وكيف بشرت بالكشف عن نسبها ثم شهدت وقعة الجمل ...

وتتابعت عليها الذكريات حتى وصلت إلى ما هي فيه من السجن، فعظم الأمر عليها واشتد الأسف بها حتى أجهشت بالبكاء، فحاولت التجلد لئلا يقال إنها بكت من اليأس أو الخوف، وهي إنما بكت لنكد حظها وسوء طالعها وما يقف في سبيلها من العقبات التي لم تكن تخطر لها ببال. فالتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدا وتطاولت بعنقها إلى باب السجن فرأت السجان في غفلة عنها، فأطلقت لنفسها عنان البكاء وأخذت تناجي نفسها تارة تذكر أمها وطورا حبيبها وآونة عليا وأخرى تندب حظها، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها وغاب رشدها كأنها أصيبت بنوبة عصبية، فلم يعد في إمكانها إمساك عواطفها عن البكاء والنحيب.

وما زالت في ذلك حتى تعبت فغلب عليها النعاس فنامت على ذلك الحصير، فرأت فيما يرى النائم أمها تمشي إليها على بساط من الورد المنثور وعليها حلة أرجوانية طويلة الذيل مزركشة بالذهب تجرها وراءها وعلى رأسها تاج من زهر الرمان، ورأتها تمشي الهويناء وهي تتلمس الخطى كأنها تحاذر مرور النسيم. فبغتت أسماء لرؤية خيال أمها ولا سيما لما رأتها في عافية تامة وقد ارتد إليها لونها وتوردت وجنتاها وأشرق وجهها ، وظلت أسماء في دهشة شاخصة إلى ذلك الخيال وكأنها سمعته يقول بصوت رخيم: «هل عرفت أباك يا أسماء؟»

فأسرعت أسماء إليها وألقت نفسها على صدرها تستنشق حنان الأمومة، فانتعشت وجعلت تقبلها وتقول: «لا، لا يا أماه لم أعرفه بعد. قولي لي، قولي فقد نفد صبري.»

فضمتها والدتها إلى صدرها، وهمست في أذنها: «اخفضي صوتك لئلا يسمعك الإمام.»

فأطاعتها وقالت بصوت خافت: «قولي لي يا أماه من هو أبي.»

قالت: «إنما جئت إليك الآن لأخبرك بذلك، فاعلمي أن أباك هو ...» وسكتت لحظة وهي تتلفت يمينا وشمالا وعيناها تلمعان كأن الماء يغشاهما، وأسماء شاخصة إليها وقلبها يكاد يتفطر وسمعها مرهف لسماع اسم أبيها، ولكنها ما لبثت أن رأت أمها ترتعد وقد أخذ لونها في الامتقاع وهي تنظر إلى شبح قادم إليها، ثم رأتها أجفلت وحاولت الفرار فتشبثت أسماء بها وهي تقول: «امكثي بالله لا تذهبي، انطقي باسم أبي!» فلم تلتفت إليها وحاولت التملص منها وأسماء ممسكة بها. وفجأة أفاقت مذعورة فرأت نفسها في تلك الحجرة المظلمة على ذلك الحصير القذر، وسمعت صوتا لم تكد تموجاته تدرك أذنها حتى ارتعدت فرائصها لمشابهته صوت مروان بن الحكم عدوها القديم، فقالت في نفسها: «أعوذ بالله من حظي على يد هذا الرجل! ما زال ذكره شؤما علي حتى في أحلامي، كنت في ألذ الأحلام فأيقظني بصوته.»

فما كادت تفتح عينيها حتى رأت مروان واقفا أمامها وقد تقلد حسامه وأتقن هندامه، فلما رأته استعاذت بالله ولم تلتفت إليه.

فتقدم مروان إليها وهو يقول: «لقد صفحنا عما مضى يا أسماء، كنت ترجعين عن غيك وتعلمين أن محمدا وعليا لا يغنيان عنك فتيلا. أنت الآن في دمشق مسقط رأسك ومقر آبائك، ما لك وللمدينة والكوفة؟ أصغي لنصحي وارجعي عن عنادك، واعلمي أنك إذا أطعتني هذه المرة صفحت عما مضى وكنت أسعد فتاة وإلا فإنك مقتولة لا محالة، لأنك في قبضة يدي أفعل بك ما أشاء. واعلمي أن معاوية سيبعث إليك ليحقق معك في شأن ما فهت به في المسجد مما لا يأتيه إلا كل مختل الشعور، فإذا شئت البقاء حية فاعتذري مما فرط منك وحالفي القوي، ولا يغرنك انتصار علي في البصرة فإنه سيلقى منا سيوفا لا تفل ورجالا لا ترد وقلوبا كالحجر الصلد، وستخرج الخلافة من يديه فيخضع لنا هو وأولاده وكل من يلوذ به.»

وكان مروان يتكلم وأسماء ترتعد وجلا وقلبها يكاد يفر من صدرها وصعد الدم إلى وجهها فتوردت وجنتاها واحمرت عيناها، وهي مع كل ذلك مطرقة تفكر وقد أيقنت أن حياتها بين يديه ويدي معاوية، فحدثتها نفسها بادئ الأمر بأن تعمل بما توحيه عواطفها فتنتهر مروان وتوبخه، ولكنها تذكرت ما جرته عليها جرأتها في المسجد فأمسكت وتجلدت وهي تكظم الغيظ ولم تحر جوابا.

فظن سكوتها لينا أو رضاء فدنا منها وبالغ في التودد إليها فقال: «لعلك تذكرين ما عاملتني به من الجفاء، وأنا أعذرك وآمل أن تكوني قد ارعويت، لأنك إنما كنت مدفوعة إلى ذلك بطيش الشبيبة، وكنت تحسبين محمدا أهلا لك، وقد رأيت كيف انقلب أمرهم جميعا، وكيف قام المسلمون عليهم يطالبون بدم الخليفة عثمان. ولا أظنك تجهلين ما فعله محمد وقد كنت شاهدة مقتل عثمان، ألم تريه وقد دخل عليه وأمسك بلحيته وهم بقتله فوبخه الخليفة وذكره فرجع؟ أتعدين ذلك دفاعا؟ وهل تزعمين بعد ذلك أن محمدا خير من مروان؟»

فثقل كلام مروان على أسماء ثقل الجبال حتى كادت تحرج باحتقارها إياه فتبوح له، ولكنها كظمت الغيظ وسكتت فطفحت عواطفها دموعا وهي مطرقة لا تنظر إليه.

ففرح مروان وتحقق ندمها، وهم بالدنو منها ليستأنف الحديث، وإذا بالسجان دخل وقال لمروان: «إن الأمير بعث يستقدم السجينة إليه.» ثم تقدم السجان ودعا أسماء إلى المثول بين يدي معاوية، فوقفت ومسحت عينيها وخرجت فرأت خارج السجن بضعة رجال بالسيوف والحراب، فقال لهم مروان: «لا حاجة إليكم فإنها تسير غير محروسة إلى مجلس الأمير.» •••

وسارت أسماء بقدم ثابتة وقلب جريء، ومروان وراءها مبتهج القلب بما تجدد عنده من أمل في الحصول عليها، فقد كان مسحورا بجمالها وهيبتها طامعا في نيلها، ليفخر بأن قد نالها دون محمد بن أبي بكر.

وما عتموا أن وصلوا إلى قصر منيع من بناء الرومان، كان في الأصل قصرا لحاكم الشام من الروم، وعند بابه الحراس بالسيوف والحراب. فدخلت في دار رحبة ومروان أمامها يدلها على قاعة المجلس، فعرج بها حول البركة حتى دخل قاعة كبيرة فيها الوسائد والطنافس على الجانبين، وفي صدرها معاوية على مقعد وإلى جانبه عمرو بن العاص وولداه محمد وعبد الله، وبين أيديهم جماعة من الأمراء لم تعرفهم. فدخلت ووقفت ونظرت إلى الحضور نظرة فاحص بسكينة وجلال ثم وجهت نظرها إلى معاوية غير متهيبة، فنظر إليها وتأمل فيما يتجلى في وجهها من المهابة، وكانت ما زالت غاضبة وقد قطبت أسرتها وازدادت وقارا فأعجب بهيبتها وجمالها، وكان قد أعجب من قبل بشجاعتها وإقدامها. فلما وقفت بين يديه قال لها: «ما الذي حملك على الجرأة التي ظهرت منك في المسجد اليوم؟»

قالت: «إنما حملني على ذلك الحق والصدق، فقد سمعت تعريضا برجل اتهموه وهو بريء.»

قال معاوية: «وما أدراك أنه بريء وأنت فتاة قاعدة في بيتك؟»

قالت: «إني أعلم من الأمر فوق ما يعلم كل واحد منكم، وقد تحققت يقينا أن عليا أمير المؤمنين بريء مما يتهمونه به.»

فاعترضها عمرو بن العاص قائلا: «لا تقولي أمير المؤمنين، فإننا لم نبايعه.» فقالت: «إن لم تبايعوه أنتم فقد بايعه سواد المسلمين في المدينة والبصرة ومصر وسائر الحجاز، وهو ابن عم الرسول وأحق الناس بهذا الأمر.»

فقال عمرو: «أراك تحكمين في أمور تجهلينها، فلو أجمع الناس على بيعته ما اضطر إلى الحرب وسفك الدماء. يكفيه أنه كان السبب في قتل الخليفة عثمان الذي أصبح دمه طليعة ما سفك وسيسفك من الدماء.»

فنظرت أسماء إلى عمرو وقالت: «ألست ابن العاص؟» قال: «نعم».

قالت: «ألم تكن أول ناقم على ذلك الخليفة المقتول لأنه عزلك عن مصر وولاها أخاه عبد الله؟ ألم تفرح بقتله؟ ولكن الدهاء أبعدك والناس يعرفون القاتل أو الساعي في القتل.» قالت ذلك وقد ظهر التأثر في وجهها مما بدا عليه من الامتقاع.

فعظم جوابها على عمرو وخاف أن تتمادى فقال لها: «ممن أنت يا فتاة؟»

قالت: «من هذا المكان.»

قال: «إني أسألك عن أبيك.»

فسكتت ولم تجب، فتقدم مروان وهو يأمل أن يخفف غضب معاوية وعمرو على أسماء، طمعا في رضائها واستبقائها وقال: «إنها أموية، وقد قتل يزيد أبوها فيمن قتلوا مع عثمان.»

فقال معاوية: «أأموية أنت؟» فلم تجب.

فقال: «كيف تكونين أموية وتقولين ما لا يقوله بنو أمية؟! أليسوا مجمعين على أن عثمان قتل ظلما وقد نهضوا للأخذ بثأره؟»

فقالت: «لا يهمني أموية كنت أم غير أموية ولكنني أشهد بما أعلم، فأنا لا أرى أحدا مظلوما في هذه الفتنة غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وإني أقول هذا رضيتم أم غضبتم. ولعلكم تتهددونني بالقتل أو السجن، فلا أبالي التهديد ولا الوعيد. هذا قولي فافعلوا ما تشاءون.»

وكان مروان في أثناء كلامها يفكر فيما يرجوه من رضائها، وعيناه شاخصتان إلى الحضور لئلا ينظر إليها أحد نظر الراغب فيها، وود لو أنهم يقطعون الحديث لئلا تقول قولا يثير غضب معاوية فيأمر بقتلها.

أما عمرو فرأى بحسن فراسته ودهائه أن يظهر الاستخفاف بكلام أسماء ويبدى الرفق بها، لأنه رآها لا ترضخ للعنف وخاف أن تتمادى في كشف ما كان ساعيا فيه ضد عثمان قبل قتله، فقال لها: «أراك يا بنية مغرورة، ومن العبث أن نجادلك ولا سيما أن النبي

صلى الله عليه وسلم

أوصانا بالنساء رفقا لأنهن ضعيفات، ثم إنك أموية من لحمنا ودمنا، فارفقي بنفسك وارجعي عن غيك وامكثي عندنا في أمن وأقلعي عما أنت فيه.»

فقالت: «لا تستضعفوني، ولا تأملوا رجوعي، ولا تحسبوني أموية ولا هاشمية، فافعلوا ما تشاءون، وقد قلت لكم إني لا أهاب الموت.»

فتقدم مروان إلى معاوية وهمس في أذنه قائلا: «أرى الكف عن جدالها، فاتركوا أمر إقناعها إلي لأني أعرفها من قبل ذهابها إلى المدينة فقد كانت مقيمة بدمشق وأعرف أبويها، وأنا أضمن إقناعها طوعا أو كرها إذ لا يليق بنا استبقاؤها على هذا العناد، فإما أن ترجع عن غيها أو نقتلها والقتل أمر مستدرك فأرى أن نقنعها بالحسنى.» ثم التفت إلى عمرو وقال بحيث يسمعه الاثنان ولا تسمعه أسماء: «ولا يخفى عليكما أننا إذا أخذناها في حزبنا فإنها تطلعنا على كل دخائل علي ورجاله، لأنها عالمة بكل أسرارهم. فاتركا هذا الأمر إلي.» ثم تنحى جانبا وأسماء خائفة مما بدا منه. فقال معاوية: «خذوها الآن إلى منزل مروان وسننظر في أمرها.»

فقطعت الحديث قائلة: «لعل منزله السجن.» قال: «كلا».

قالت: «بل خذوني إلى السجن حيث كنت في هذا الصباح.»

فخاف مروان إذا أصروا على إرسالها معه أن تصرح بشيء ضده فقال: «خذوها إلى السجن.» واعتزم أن يكلمها هناك. •••

أشار معاوية إلى الحراس فساروا وأسماء معهم غير هيابة ولا وجلة. وأما مروان فإنه أسر إلى كبير الحراس أن يجعلها في غرفة من غرف السجن وحدها، وأن يضيقوا عليها لعلها تشعر بحاجة إلى النجدة. ولم يدركوا السجن إلا بعد الغروب فدخلوا بها من باب كبير إلى دار رحبة اتصلوا منها بممر مظلم، انتهوا منه إلى بضع درجات نزلوا عليها إلى دار صغيرة تستطرق إلى غرف عديدة دخلوا في إحداها، واتصلوا من هذه بحجرة أخرى واطئة السقف مظلمة تتصاعد منها رائحة الرطوبة والعفونة وقد نبتت الطحالب على جدرانها وتحلب الماء عنها، فأقعدوها على حصير بال ورجعوا وظل السجان وحده، فلما خلا المكان إلا منهما نظر إليها وكأنه أشفق على شبابها وتوسم فيها مهابة ووقارا، ولكنه لم يخاطبها فتركها على ذلك الحصير وعاد وهو يرجو أن تخاطبه هي وتلتمس نجدته متى أحست بالوحدة أو شعرت بالجوع والخوف.

أما هي فلما رأت نفسها في تلك الحجرة وقد خلا المكان من الناس واستولى السكوت على تلك الجدران العفنة، لبثت تفكر في حالها وما صدر منها في حضرة معاوية من الأقوال مخافة أن تكون قد فاهت بما يدل على عجز أو خوف، فرأت أنها أدت الأمانة حق أدائها، ولكنها مع ذلك أسفت لأنها لم يتح لها إتمام قولها.

وقضت ساعات وهي جالسة لا تبالي الظلمة ولا الجوع ولم يزرها النوم لعظم اضطرابها، ثم انتبهت إلى ما هي فيه من الخطر إن لم يكن من معاوية ورجاله فمن مروان وآماله، وأيقنت أنه آت إليها تلك الليلة طمعا في رضائها عنه، والموت عندها خير من إجابة طلبه. فالتفتت إلى ما حولها وهي لا تكاد ترى جدران الغرفة لشدة الظلام، فأنصتت لعلها تسمع مشيا أو كلاما فإذا كل شيء هادئ ساكن لا يكدر سكونه إلا طنين البعوض حول وجهها ونقيق الضفادع نقيقا ضعيفا، يدل من اتجاهه على أن السجن قائم على ضفة نهر بردى الذي يتشعب في دمشق فيسقي أهلها بأنابيب من الحجارة أو الخزف متفرقة في كل منازلها، فاستأنست بذلك النقيق ولكنها استوحشت من الظلمة الدامسة مخافة أن تلسعها عقرب أو يلدغها ثعبان على غرة.

وبينما هي تفكر في حالها وقد شغلتها الوحشة عن التفكير في الخطر المحدق بها، إذ سمعت خطوات بطيئة تدل على تلصص صاحبها في مشيته، فجمد الدم في عروقها وخافت أن يكون ذلك القادم مروان، فأشاحت بوجهها نحو الخطى وقلبها يخفق حتى كادت تعد دقاته. وإذا بذلك الصوت يقترب نحوها فأجفلت ونهضت وتهيأت للدفاع إذا مست الحاجة، ولبثت تنتظر ما يكون. فإذا بالخطوات تبتعد وتضعف حتى لم تعد تسمعها، فعلمت أن أحدا كان قادما نحوها ثم رجع، فازدادت قلقا وظلت واقفة ترتعد لعظم التأثر، وودت لو أن ذلك القادم وصل إليها لتعلم من هو وما غرضه فإن رجوعه زاد بلبالها. وصممت أن تتفانى في سبيل الدفاع وأن تصرح لمروان، إذا كان هو القادم، بما في ضميرها ولو أدى ذلك إلى قتلها.

ولبثت برهة لم تعد تسمع في أثنائها صوتا، ولكنها ما برحت مضطربة شاخصة بعينيها إلى الجهة التي سمعت الصوت منها، وطال انتباهها حتى لم تعد تستطيع إطباق أجفانها ونسيت موقفها.

وفيما هي كذلك لمحت نورا ضعيفا في دار السجن الصغرى، فاستأنست به وتذكرت مروان فخافت أن يكون قادما إليها، على أنها تشجعت وقالت في نفسها: «فليأت فإما أقتله أو يقتلني فأستريح من هذا الموقف.» ولم تكد تفكر في ذلك حتى رأت النور يتعاظم ويقترب، ثم بان المصباح يحمله رجل عرفت من لباسه وقيافته أنه السجان فهدأ روعها، ونظرت إليه فإذا هو يحمل المصباح في إحدى يديه ويحمل بالأخرى قصعة، فلما دنا من غرفتها تأكدت أنه هو، فلبثت تنتظر ما يبدو منه فإذا هو يقول: «سامحيني يا سيدتي لأني تركتك إلى الآن بلا طعام ولا نور! فإني لم أكن أعرف أنك تنتمين إلى الأمير مروان.»

فلما سمعت ذلك الاسم ارتعدت فرائصها ولكنها لم تجب. وأما السجان فدخل الغرفة ووضع المصباح على الأرض وقدم القصعة وفيها خبز ولحم وهو يقول: «هذا طعام بعث به إليك الأمير مروان، وكلفني أن أنبئك بأنك لن تبيتي في هذا المكان إلا الليلة، وفي الغد ينقلك إلى منزله.» فنفرت منه وقالت: «لا حاجة بي إلى طعام، فارجع من حيث أتيت.»

قال: «لقد قضيت نهارك بلا طعام، ألا تأكلين شيئا؟»

قالت: «لست جائعة. عد بالطعام.»

فعجب السجان لقولها وقد كان يتوقع ارتياحها لعطف مروان عليها، فقال لها: «ولماذا هذا يا سيدتي؟! تناولي لقمة لتسدي جوعك.»

قالت: «خذ الطعام، إني لست جائعة.» قالت ذلك وحولت وجهها عنه.

فقال: «دعي القصعة والمصباح هنا وافعلي بهما ما تشائين، وها أنا ذا عائد.» قال ذلك ورجع.

فلما خلت إلى نفسها ظل بصرها على المصباح تتأمل حركاته والبعوض يحوم حوله وفكرها تائه، وقلبها يخفق كلما تصورت مروان قادما نحوها. وأرادت أن تسند ظهرها إلى الحائط فأحست برطوبته فابتعدت. •••

وعاد السكون إلى المكان مدة طويلة وأسماء في إبان اضطرابها حتى كأنها نسيت وجودها، ثم انتبهت على صوت أقدام تمشي في الغرفة الخارجية بهدوء، فأجفلت وتأكدت أن مروان قادم فخفق قلبها وصعد الدم إلى رأسها وتهيأت للفتك به. وحولت نظرها إلى الخارج فرأت شبحا قادما يخطو خطو السارق المتلصص وقد التف بعباءة، فخافت ولكنها تجلدت لترى ما يبدو منه، فلما دنا من باب الغرفة همت بأن تخاطبه فإذا هو يقول بصوت ضعيف: «لا تخافي يا سيدتي إني جئتك بالفرج، لا تخافي.»

فلما سمعت كلامه ارتعدت فرائصها وذكرت أنها تعرف الصوت فقالت: «من أنت؟!»

قال: «إني عبدك مسعود، لا تخافي. وقد جئت لإنقاذك.»

قالت: «من أين أتيت؟! ومن أرسلك؟! هل هبطت من السماء أم خرجت من جوف الأرض؟!»

قال: «لم يرسلني أحد ولكنني كنت سجينا في هذا المكان منذ فارقتك في دير البصرة، لأني خرجت من الدير وفيما أنا عائد إلى الكوفة ظفر بي جماعة من بني أمية كانوا قادمين بمهمة من معاوية، فقبضوا علي وساقوني إلى هذا السجن لأني من صنائع ابن أبي بكر. وأشكر الله الآن على وجودي هنا لعلي أستطيع إنقاذك من أيدي هؤلاء الظالمين.»

فاطمأن بالها ولكنها حسبت نفسها في منام مثل منام الأمس، فقالت: «وكيف عرفت أني هنا؟!» قال: «رأيتك مع الحراس لما أتوا بك عند الغروب، ولبثت أنتظر فرصة آتي بها إليك، وقد جئت حتى كدت أقترب منك فسمعت خطوات السجان فهرولت راجعا. وأما الآن فلا خوف علينا من السجان، تعالي معي.»

قالت: «وأين السجان؟» قال: «ذهب إلى بيت مروان.»

قالت: «وكيف ذلك؟! أخشى أن يكون هنا!» قال: «لا تخافي، لأني حرضته على المسير إلى مروان ليخبره برفضك طعامه، وليحثه على المجيء للانتقام منك، وأطمعته بمال يناله منه إذا فعل ذلك، وعزمت على الخروج في أثناء غيابه.»

قالت: «والباب؟» قال: «لقد ظن السجان المسكين أنه أقفله ولكنه ما زال مفتوحا. تعالي قبل أن يعود السجان أو يأتي مروان.» فترددت برهة وقد أكبرت أمر الفرار، فأدرك مسعود ترددها فقال: «أتحسبين خروجك من هذا السجن فرارا، وما بقاؤك فيه غير الموت والعار؟ تعالي، وأسرعي أناشدك الله!»

ومشى فمشت هي في أثره، ثم عاد إلى المصباح وقال: «أرى أن نطفئ هذا المصباح لئلا يدل علينا.» وأطفأه فأظلم المكان ولم تعد أسماء تعرف الطريق، فأمسك بيدها ومشيا وهي ترتعد، حتى خرجا من الغرفة الثانية إلى الدار الصغرى وأطلا على البيت، وما صعدا الدرجات حتى سمعا كلاما في طرفه الآخر مما يلي الدار الكبرى، فوقفا ينصتان فإذا بمروان والسجان يتحدثان ومروان يقول: «لا بد لي من قتلها إذا ظلت على عنادها، وقد كنت أتوقع هذا العناد منها ولذلك فإني أرسلتك بالطعام وسرت في أثرك.»

فجمد الدم في عروق مسعود وأسماء وأيقنا بالهلاك، وشق ذلك على مسعود لأنه عرض أسماء للخطر. أما هي فهدأت روعها وضغطت يد مسعود وجرته إلى ما وراء باب الممر حيث انزويا وقلباهما يخفقان، ولبثا ينتظران دخول مروان والسجان فسمعا مروان يقول: «هات المصباح وتعال.»

فقال السجان: «في حجرتها مصباح تركته عندها.»

ودخلا الممر وصدى خطواتهما يتعاظم رويدا رويدا حتى بلغا الباب الثاني الذي اختبأ مسعود وأسماء وراءه، فلما رأى مروان المكان مظلما وقف وقال للسجان: «أين هو المصباح، إني أرى السجن مظلما؟»

فقال السجان: «إني وضعته في حجرتها ولعلها أطفأته كيدا وقحة، هلم لنرى.»

فقال مروان: «إني لا أرى الطريق لشدة الظلام، هات مصباحا آخر.»

قال: «هلم ندخل ثم آتيك بالمصباح. انزل هذه الدرجات على مهل، ها إني أخطوها أمامك، تمسك بمصراع الباب من عندك.»

ونزلا ومروان يتوكأ بإحدى يديه على السجان وبالأخرى على الباب، حتى وصلا أرض الدار الصغرى فمشيا حتى دخلا الغرفة وهما يتلمسان الأرض.

ولا تسل عن حال مسعود وأسماء في تلك اللحظة، فقد كانت عندهما أطول من شهر. فحالما علما بدخول مروان والسجان إلى الغرفة أشار مسعود إلى أسماء أن تخلع نعليها وكان هو بلا نعل، ففعلت وتحول كلاهما من وراء الباب إلى الممر بخفة وسرعة، ومنه إلى الدار الكبرى فالباب الكبير وكان ما زال مفتوحا، وأسرعا إلى الشارع وهما لا يصدقان أن قد ظفرا بالنجاة.

وكانت أسماء تعرف طرق الشام معرفة جيدة، فلما بعدا عن السجن وقفا برهة يتدبران المكان الذي وصلا إليه، فعرفته أسماء وسارت قاصدة كنيسة ماري يوحنا.

وقبل أن تصل إلى الكنيسة تذكرت خادمها والجوادين في الخان، فوقفت تتردد بين أن تسير إلى الكنيسة أولا أو إلى الخان، فسألها مسعود عن سبب ترددها.

فقالت : «أتردد بين أن أذهب إلى كنيسة ماري يوحنا فأقيم بها، وبين أن أسير إلى الخان حيث يقيم الخادم ومعه الدواب.»

فتعجب مسعود لترددها وهو لا يرى حاجة إلى الكنيسة لأنه لا يعلم بما أنبأها به الراهب في دير البصرة، فقال: «ما لنا وللكنائس؟! هيا بنا إلى الخان ومنه إلى الكوفة فقد علمت أن الإمام عليا وسائر الصحابة هناك.»

فتنهدت وقالت: «نعم، إنهم جميعا هناك ولكن لي في هذه الكنيسة غرضا يهمني، وإنما جئت دمشق من أجله ولا بد لي من إتمامه، ولكني أرى ذهابي إلى الكنيسة في آخر هذا الليل مما يوجب شبهة أو تساؤلا، والكنيسة والمسجد متلاصقان أو هما بناء واحد، فأرى أن أمضي بقية هذا الليل في الخان لأرى الخادم وأدبر أموره ثم أسير إلى الكنيسة.» ثم مشت ومسعود إلى جانبها فسألته: «هل أنت عازم على الذهاب إلى الكوفة؟» قال: «نعم، إن شاء الله.»

قالت: «إذا لم يكن بد من ذلك، فأوصيك بأن تبلغ الإمام ورجاله ما فيه أهل الشام من النقمة لعثمان والمطالبة بدمه.» وقصت عليه ما رأته في المسجد من التحريض والتهديد بالأصابع والقميص، إلى أن قالت: «واذكر لهم أني باقية هنا بضعة أيام ريثما تتم مهمتي.»

الفصل الثامن عشر

موقعة صفين

رأى الإمام علي بعد أن انتصر في وقعة الجمل ونزل البصرة فبايعه أهلها، أن يستعمل عليها عبد الله بن عباس، ثم سار إلى الكوفة فنزلها. وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان وبايعه أهلوها، ولم يبق خارجا عليه إلا الشام وفيها معاوية وأهل الشام مطيعون له في المطالبة بدم عثمان.

وكان علي قد ولى على مصر قيسا بن سعد بن عبادة وهو من خيرة [الأنصار] ودهاة العرب، وكان في مصر جماعة ب «خربتا» يرون غير رأيه ويطالبونه بدم عثمان ولكنهم معتزلون لا يتحركون لحرب، فرأى قيس من السياسة والدهاء أن يكف الحرب عنهم ويداهنهم لئلا ينضموا إلى معاوية.

وكان معاوية قد كتب إلى قيس يستميله ويبذل له الوعود الخلابة فلم يجبه، فاصطنع معاوية على لسان قيس كتابا قرأه على الناس في الشام يوهمهم أن قيسا معه وأنه لذلك لم يقاتل المعتزلين في خربتا، فبلغ ذلك عليا فصدق الوشاية في قيس وعزله عن مصر وولى محمدا بن أبي بكر.

ولم يكن لعلي شاغل يشغله بعد وقعة الجمل إلا معاوية وجنود الشام، فرأى أن يبعث إليه يطلب بيعته فبعث إليه جريرا بن عبد الله البجلي ليطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فسار جرير إلى الشام فماطله معاوية مدة ريثما أراه حال أهل الشام وما يقاسونه من البكاء والعويل عند قميص عثمان وأصابع نائلة، فرجع جرير بالخبر إلى علي فعلم أن لا بد من الحرب، فسار من الكوفة إلى الشام في جيش عظيم، وقد علم بما تحالف عليه معاوية وعمرو. وسار معاوية وعمرو من الشام يطلبان عليا ولكنهما أبطأا السير حتى التقى الجيشان في «صفين»، ودخلت سنة 37ه والجمعان في صفين.

وصفين هذه موضع بقرب «الرقة» على شاطئ الفرات الغربي، أمام «الرقة» على الضفة الشرقية. وبين صفين والكوفة نحو ثلاثمائة ميل أو أكثر.

هناك نزل الجيشان العظيمان يقودهما أعظم رجال الإسلام ونخبة المهاجرين والأنصار، وفي ذلك السهل الواسع جرت وقعة صفين المشهورة التي قتل فيها عشرات الألوف من الرجال، وقد نال فيها علي بن أبي طالب ما ناله في وقعة الجمل من النصر والغلبة. ولكن هل انتظم له الأمر بعدها؟ كلا، فإنها كانت خاتمة انتصاراته على مناظريه في الخلافة وبداية دسائسهم عليه، ولم يكن ذلك لضعف عزيمته ولكنها حيلة دبرها عمرو بن العاص فنفذت فيه، وفشل رجاله وانقسموا فيما بينهم. •••

لبثت أسماء أياما وأسابيع عند القسيسة تنتظر عودة القسيس من بيت المقدس فلم يرجع، فحسبت لإبطائه ألف حساب واضطرب بالها ولم تر خيرا من أن تسير هي إليه بنفسها، واستشارت القسيسة في الأمر فاستغربت هذه قلقها وتعجلها رؤية القسيس فقالت لها: «هل تحتاجين إلى القسيس في أمر يدعو إلى كل هذا؟»

فتأوهت الفتاة وسكتت وبدت كأنها تريد مكاشفتها بما في ضميرها لعلها تفرج كربتها.

فقالت لها القسيسة: «قولي يا ابنتي ما الذي أوجب تنهدك عسى أن أنفعك»

قالت: «إني أحتاج إلى القسيس في سر عنده عن أمي لا يعرفه أحد سواه، وقد كانت تعرفه وحدها وباحت به للقسيس، وأما الآن فلم يبق غيره عارفا به.»

فأدركت القسيسة أن أمها ماتت فلم تشأ أن تذكرها بها، ولكنها أحبت أن تعرف ما هو موضوع ذلك السر فقالت: «هل يجوز أن أعرف موضوع ذلك السر؟»

قالت: «أعترف لك يا سيدتي أني ربيت في دمشق في حجر أمي ورجل كنت أحسبه أبي، فأخبرتني أمي ذات يوم أن الرجل ليس أبي فسألتها عن أبي الصحيح فوعدتني بإطلاعي عليه في فرصة أخرى.» وقصت عليها أسماء قصتها من أولها إلى آخرها. وكانت تتكلم والقسيسة تنظر إليها وتتأمل في ملامحها، فلما فرغت من كلامها تبسمت القسيسة وهشت لها وضمتها وقالت: «لعلك ابنة مريم؟»

قالت: «نعم يا سيدتي.» واستأنست بحنوها ومعرفتها اسم أمها فقالت: «وهل تعرفينها؟»

قالت: «مسكينة أمك! إني أعرفها جيدا قبل أن تتزوج، وكانت كثيرا ما تأتي الكنيسة للصلاة، وكنت أنا يومئذ شابة وهي صبية، وكنت أحبها كثيرا فلا يمضي عيد من أعيادنا الكبرى كالفصح والشعانين والميلاد وغيرها إلا دعيت أنا والقسيس إلى مائدة جديك رحمهما الله! وأذكر أنه كان لأمك أخ جميل الصورة حاد الذهن، كان يأتي معها وأبويهما للصلاة. وظللنا على ذلك حتى جاءنا العرب منذ بضع وعشرين سنة ففتحوا المدينة واستولوا عليها فتفرق شملنا، وكانت أمك قد أصبحت شابة، وهي في مثل حالك جمالا وذكاء، ولم أعد أرى جديك، ولكنني سمعت أنهما قتلا. أما أمك فأخذوها سبية ولم أعد أراها، إلى أن جاءت في العام الماضي إلى القسيس، وأذكر أني رأيتها وهي داخلة فمكثت عنده برهة وأنا أحسبني أعرفها، ولما خرجت سألت القسيس عنها وقلت: «أليست هذه مريم بنت قسطنطين - وهو اسم جدك؟» قال: «بلى». ولكنني رأيت على وجهه بعد خروجها من عنده أثر الانقباض ورأيت الدمع في آماقه، فاضطربت ولم أسأله عن السبب مخافة أن يكون سؤالي تطفلا لعلمي أن القسيس مستودع أسرار كثيرين، وقلت في نفسي: «لو كان خبر مريم مما يجوز ذكره لما تأخر عن ذكره.» أما هو فكأنه أدرك قلقي وتشوقي لمعرفة خبر أمك لما يعلمه من رابطة المودة بيننا، فلما جلسنا على المائدة في المساء أخبرني عن قصتها وسبب غيابها عنه كل هذه المدة، وفهمت من خلال كلامه أن الرجل الذي كان معها يومئذ ليس أباك وأن أباك رجل آخر.»

فقالت أسماء بلهفة: «ألم تعرفي اسم أبي؟»

قالت: «كلا، لأني لم أسأله.»

فاستأنست أسماء بالقسيسة وازدادت ميلا إليها، فقالت لها: «بماذا تشيرين علي الآن؟ أأنتظر رجوع القسيس أم أسير إلى القدس فأستطلعه السر؟»

فصمتت القسيسة كأنها تفكر في أمر، ثم تغير لونها بغتة وانقبض وجهها ونظرت إلى أسماء والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «أرى أن تذهبي إلى بيت المقدس لأن القسيس أصبح شيخا هرما.» قالت ذلك وغصت بريقها.

فأدركت أسماء أنها تخاف انقضاء أجله عاجلا، فتجاهلت ما بدا من عواطفها وقالت: «ها أنا ذا ذاهبة، والاتكال على الله.» ونهضت فودعت القسيسة وخرجت تلتمس الخان وفيه خادمها والجوادان فأمرت الخادم بالاستعداد، وفي صباح اليوم التالي ركبت وسارت قاصدة إلى بيت المقدس. •••

وكان القسيس مرقس يعرف جدي أسماء وأسرتها قبل الفتح ويعطف عليها بالتخصيص، فلما تسلم السر من أمها شاركها مصابها وازداد عطفا عليها وود لو استطاع أن يفرج كربتها. فلما جاءته في المرة الأخيرة قبل سفرها إلى المدينة وأخبرته أنها عازمة على كشف أمرها لذوي الشأن هناك، سره هذا ولكنه رآها ضئيلة مريضة فتشاءم وتوقع قرب انقضاء أجلها، فأوصاها بأن تبعث إليه بما يحدث لها، وهو إنما يريد بذلك أن يتحقق من وصولها إلى مأمنها حية. فلما انقضى العام ولم يأته منها نبأ قلق عليها، وكان كلما سمع اسم يثرب (المدينة) يتجدد بلباله ويود لو يرى أسماء ليطلعها على اسم أبيها، ولكنه لم يكن يعرف مقرها. فلبث وهذا شأنه حتى جاء الأمويون بقميص عثمان وأصابع نائلة، وكان ما كان من بكائهم وعويلهم، وعلم ما حدث من الفتنة في المدينة فازداد قلقه وأثر ذلك في صحته، فاضطر مع كبره وضعفه إلى أن يبرح دمشق إلى مكان يستقر فيه ريثما تهدأ الأحوال. فخطر له الذهاب إلى بيت المقدس لأن له فيها أهلا يرتاح إلى مجاورتهم، فركب إليها قبل وصول أسماء إلى دمشق، ومكث هناك مدة وهو يزداد ضعفا، ولم يجده ترحيب أهله واحتفاؤهم به نفعا، وأحس بقرب الأجل.

فخطر له الشخوص إلى أنطاكية حيث الكرسي البطريركي الذي سيم فيه قسيسا، فيرى البطريرك الأنطاكي ويتزود بالأسرار المقدسة على يده قبل الوفاة. واتفق أن سفينة إمبراطورية كانت راسية في مياه عسقلان أنفذها الإمبراطور قونسطانس الثاني ليحمل البطريرك الأورشليمي إلى أنطاكية للبحث مع بطريركها في بعض الشئون الدينية التي كان الخلاف قائما عليها في تلك الأيام، وكأن البطريرك الأورشليمي قد علم بعزم القسيس على الذهاب إلى أنطاكية، فدعاه ليسافر معه بحرا لأن الفصل صيف ولا خوف من الأنواء، والطريق في البر شاق لما يقتضيه من ركوب الدواب وقطع الجبال والأودية، فسر القسيس بتلك الدعوة وسار في حاشية البطريرك إلى عسقلان، على أن يسيرا منها إلى أنطاكية في السفينة الإمبراطورية.

واتفق وصول أسماء إلى القدس بعد خروج القسيس منها ببضعة أيام، ولما أخبروها أنه قصد أنطاكية استعاذت بالله مما ابتلاها به من النحس في أسفارها، وباتت ليلة وصولها مسهدة حزينة لم يجف دمعها لفرط ما تولاها من القنوط، فأصبحت شديدة الاعتقاد بسوء طالعها.

على أنها أصبحت في اليوم التالي وقد هدأ روعها وعادت إليها رباطة جأشها، فقالت في نفسها: «لأذهبن إلى أنطاكية على عجل قبل أن يخرج القسيس منها. والاتكال على الله.» فركبت جوادها وسارت والخادم في رفقتها يقوم لها بما تحتاج إليه من الخدمة في السفر، وكانت حيثما توجهت تتنكر بلباس الرجال مخافة أن يعلم مروان بها، ولا ينجيها منه شيء إلا القتل. وكان المسافر من القدس إلى أنطاكية يغلب أن يمر بدمشق، ولكنها جعلت طريقها لبنان. وبعد مسيرة أيام وليال أشرفت على أنطاكية.

وكان وصولها قبل طلوع الشمس، والشمس لا تطلع على أنطاكية إلا متأخرة لاحتجابها بجبلها الشرقي. وأشرفت أسماء على تلك المدينة العظيمة أم مدن الشام ومقر بطاركتها، بل هي ثالثة مدائن تلك الأيام (رومية والإسكندرية وأنطاكية)، فأطلت عليها من مرتفع مشرف فإذا هي مستطيلة الشكل على ضفة نهر «العاصي» الجنوبية، وتحدق بها البساتين الغناء وفيها الثمار والفاكهة من كل الأنواع. فدهشت أسماء لعظمة تلك المدينة وما فيها من الأبنية الشاهقة، وأكثرها من الكنائس فوقها القباب المزخرفة وفيها الطرق التي لا تكاد تشرق الشمس حتى تغص بالناس. وأذهلها بنوع خاص سورها العظيم وما عليه من الأبراج التي يبلغ عددها 360، وله خمسة أبواب. وتتبعت ذلك السور الواسع بنظرها لعلها تحيط بسعة المدينة فرأت أنها تحاول عبثا، لأن السور يصعد مع الجبل إلى أعلاه ثم ينزل من الجهة الأخرى بحيث يحيط بالمدينة ومزارعها جميعا، بما تزيد مساحته على بضعة عشر ميلا مربعا، فبهتت أسماء لتلك المناظر الفخمة. وكان بحر الروم يتراءى لها عن بعد في الأفق كأنه هلال مستطيل.

وبعد أن وقفت هناك برهة تتأمل عظمة هذه المدينة تحولت إلى باب من أبواب السور في الشرق، واتصلت منه بالطريق الأعظم الذي يقطع المدينة في طولها من الشرق إلى الغرب، وطوله أربعة أميال وعليه من الجانبين أربعة صفوف من الأعمدة الرخامية تعلوها أقواس جميلة، وفي الوسط طريق واسع مكشوف مرصف بالجرانيت، تحده من الجانبين مقاعد من الرخام المنقوش، وهو كله على استقامة واحدة تتفرع منه طرق صغرى من الجانبين، فذهلت أسماء لما شاهدته من العظمة والبذخ في أنطاكية مما لم تر مثله قبلا. ومما زاد ذهولها ودهشتها أنها رأت تيجان الأعمدة في ذلك الطريق الطويل محلاة بالذهب الخالص، مما يندر مثله في أعظم مدائن الأرض. على أن ذلك المنظر الجميل كان ممزوجا بما يدعو إلى الأسف الشديد، لما توالى على هذه المدينة من الزلازل التي دكت معظم أبنيتها فشوهت وجهها وغيرت مجرى نهرها، على أن العظمة مع ذلك ما زالت تتجلى فيها.

وظلت أسماء سائرة تلتمس دار البطريرك لعلها ترى القسيس هناك، فوصلت إلى بناء شاهق يدخلون إليه من باب عظيم قائم على أعمدة من الرخام، عتبته العليا من الجرانيت الأحمر الجميل وعليها نقوش باليونانية لم تستطع قراءتها، فأطلت من ذلك الباب إلى فناء واسع رصف بالفسيفساء ينتهي إلى سلم عريض يصعدون منه إلى دار رحبة، رأت فيها جماعة من القسيسين والشمامسة وغيرهم يخطرون في مشيهم، وكل اثنين أو ثلاثة منهم في شاغل بالحديث، فقالت في نفسها: «أأدخل؟ ولكن إذا كان القسيس ليس هنا فما الذي يدخلني؟» ثم سألت بعض الوقوف عند الباب عن القسيس مرقس فقال: «لا أعرفه». فتذكرت أنه قادم على سفينة البطريرك الأورشليمي وأنهما يصلان معا، فسألت عن البطريرك فقالوا: «إنه لم يصل بعد، ولا يعلم زمن وصوله لأن السفر في البحر رهين بحالة الجو والريح. وقد يصل بعد يومين أو بعد أسابيع.» وما علمت أسماء ذلك حتى قالت: «لا بد لي إذن من التربص حتى تصل السفينة»، وأمرت الخادم أن يسير بها إلى خان تقيم به. •••

قضت أسماء في الخان أياما وهي على مثل الجمر تصعد أحيانا إلى الجبل للنظر منه إلى البحر لعلها ترى السفينة قادمة، ولكن بعد البحر من أنطاكية كان كثيرا ما يحول دون رؤيتها شيئا، فإذا ملت الاصطبار أرسلت خادمها إلى البطريركية يسأل عن القادمين، حتى لم يبق لها صبر على البقاء هناك، وشكت سوء طالعها وقالت في نفسها: «لا يبعد أن تكون السفينة قد غرقت بمن فيها لشقائي!»

وكانت غرفتها تشرف على الطريق الأعظم، فاستيقظت ذات يوم على ضجيج الغوغاء وجلبتهم، فأطلت من النافذة فرأت جماعات من العرب بالعدة والسلاح سائرين على غير نظام يحمل بعضهم الأعلام وفيهم الفرسان والمشاة، تتقدمهم بعض النساء بالدفوف بين مربع ومستدير يضربن عليها وينشدن الأشعار الحماسية يحرضن بها الرجال وينهضن هممهم. فعلمت أسماء أنهم من جند أنطاكية ولكنها لم تفهم معنى جلبتهم، فنادت الخادم فلم يجبها لأنه كان قد انخرط في سلك المارة يحادثهم ويستفهم عما هم فيه. وبعد قليل عاد مسرعا والبغتة بادية على وجهه ، فقالت: «ما وراءك؟ من هؤلاء؟»

قال: «جماعة من جند أنطاكية سائرون لنجدة جند الشام في صفين.»

فقالت: «على من؟» قال: «على جند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»

فقالت بلهفة: «وهل هم في حرب هناك؟!»

قال: «نعم يا سيدتي، إنهم هناك من زمن بعيد، وبعض الذين حدثتهم يزعم أنه شهد معركة حامية هناك انكسر فيها جيش الإمام.»

ولم يتم كلامه حتى اقشعر بدن أسماء وصعد الدم إلى وجنتيها غيرة وحمية، وقالت: «أين هي صفين؟»

قال: «على بضع مراحل من هذا المكان شرقا.»

فلبثت في حيرة بين أن تظل في أنطاكية حتى يصل القسيس، وبين أن تسير إلى صفين وترى ما وقع لجند الإمام، فظلت صامتة برهة فتركها الخادم وخرج، أما هي فقالت في نفسها: «إن انتظاري سفينة قادمة في هذا البحر قد يطول كثيرا لأن سفر البحر لا حدود له، وقد ينتهي انتظاري بالفشل إما بغرق المركب وإما بموت القسيس قبل وصوله.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها حزنا على حالها وغيظا مما أحدق بها من سوء الطالع فبكت، ثم عادت إلى تفكيرها فقالت: «وأما الحرب في صفين فإن عليها تتوقف سعادة المسلمين أو شقاؤهم، وما أنا خير من أحدهم ولا بد لي من الإسراع إلى هناك عسى أن أؤدي خدمة لعلي، أو أقتل في ساحة الوغى فأنجو من البلاء.» ثم نادت الخادم وقالت: «أسرع إلى دار البطريرك واسأل عن القسيس مرقس، فإن علمت أنه لم يأت فعد حالا وأسرج الجوادين وأعد معدات السفر.»

فخرج الخادم، وبعد قليل عاد ومعه بعض الزاد مما لا غنى عنه في الطريق، وأخبرها أن السفينة لم تصل ولا يعلم زمن وصولها، وأنه أعد ما تحتاج إليه في الطريق.

فقالت: «نذهب إلى صفين، حتى إذا انقضت الحرب وظللنا على قيد الحياة عدنا إلى أنطاكية، وإلا فعلى الدنيا السلام.»

ولم تمض ساعة حتى ركبت أسماء وركب خادمها في أثرها، وخرجا من المدينة فالتقيا بالنجدة سائرة أمامهما. ففكرت أسماء فيما تستطيع أن تخدم به الإمام علي وهي يد واحدة لا تفيد في القتال فائدة تذكر، فلاح لها أن تخدمه في استطلاع حال العدو وكشف عوراته ومخبآته، ولا يتم لها ذلك إلا إذا اختلطت بجند الشام، وذلك لا يكون إلا إذا تنكرت وانخرطت في سلكه.

وقضت مسافة الطريق وهي تفكر في الأمر، وسبقت نجدة أنطاكية فأطلت في صباح الخميس بعد بضعة أيام على سهل صفين من جبل عال، فهالها ما شاهدته في ذلك السهل من الخيام والأعلام والجند والخيل والجمال، ولم يكن في ذلك الحين قتال. فرأت هناك معسكرين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب وبينهما ساحة خالية، فعلمت أنهما معسكرا علي ومعاوية في هدنة، وشاهدت الجمال سارحة في المرعى وراء الخيام ومعها العبيد ترعاها. وتأملت معسكر الشام لأنه أقرب إلى موقفها من ذاك، فرأت في وسطه قبة كبيرة حولها الرجال والخيول فعلمت أنها قبة معاوية أمير تلك الحملة.

وما كادت تتأمل في المعسكرين برهة حتى رأت فيهما حركة وقد تهيئوا جميعا للقتال، والتحم الجيشان وتطايرت النبال وصهلت الخيول وخفقت الأعلام وصاح الفرسان من الجانبين، فلم تر بدا من العمل فقالت لخادمها: «أعطني ثيابك وخذ ثيابي، وابق أنت هنا بالجوادين.»

ارتدت أسماء ثياب خادمها فأصبحت تشبه رجال حملة أنطاكية، ثم انتظرت حتى وصل جنود النجدة فانخرطت في سلكهم وسارت مع المشاة لا ينتبه إليها أحد، حتى دخلت معسكر معاوية والحرب محتدمة وكل لاه بنفسه. وما زالت تخترق صفوف المقاتلين وهي تتظاهر بالقتال معهم، حتى وصلت إلى قبة معاوية فرأت خمسة صفوف من الرجال قد عقلوا أنفسهم بالعمائم حولها للدفاع عن معاوية بحيث لا يستطيع أحد أن يفر وحده. فعلمت أنهم متفانون في سبيل نصرته أو يقتلون في الدفاع عنه، وتفرست من خلال الصفوف فرأت معاوية وإلى جانبه عمرو بن العاص، وكلاهما في وجل وعيونهما تكاد تطير شعاعا تطلعا لما سيكون من عاقبة تلك الوقعة، وهما يحثان الرجال على الدفاع ويحرضانهم على الثبات، والنبال تتطاير كأنها الجراد في السحاب. فاحتالت أسماء في الدخول إلى قبة معاوية، فرأت فارسا جاء مسرعا ودخل من شق بين تلك الصفوف، فدخلت في أثره ودخل غيرها أيضا فلم ينتبه لها أحد، فسمعت معاوية يسأل الفارس عما به، فقال: «إن وطأة العدو شديدة، ولكننا سنغلبهم بإذن الله.»

ونظرت أسماء إلى وجه عمرو بن العاص فإذا هو ممتقع، وقد بان الخوف فيه وفي وجوه معاوية ومن معهما من الأمراء. ثم رأت ابن العاص خرج مسرعا فركب فرسه وسار يخترق الصفوف يحث الرجال ويحرضهم، فظلت واقفة في جملة الوقوف وقد سرت بما رأته من شعور معاوية بقوة رجال علي. وبعد هنيهة عاد عمرو واختلى بمعاوية فلم تسمع أسماء ما دار بينهما، ثم عادا إلى فرسيهما يشرفان على المعركة.

الفصل التاسع عشر

الهدنة والتحكيم

وأصبحوا يوم الجمعة والقتال على أشده، وقد تقهقر جند معاوية حتى وصل رجال علي إلى الصفوف المعقولة حول القبة، فالتفت معاوية إلى عمرو وقال: «ما الحيلة يا عمرو؟» قال: «ارفعوا المصاحف على الرماح وقولوا: «كتاب الله بيننا وبينكم»، فإن قبلوا ذلك جميعا ارتفع القتال عنا، وإذا قبل بعضهم دون البعض الآخر تفرقوا وانقسموا على أنفسهم، فيكون لنا بانقسامهم فرج.»

فلما سمعت أسماء ذلك خافت أن يخدع رجال علي، فهرولت مسرعة تخترق الصفوف وقلبها يخفق فرحا لأنها تمكنت من القيام بهذه المهمة، لأنها واثقة من فشل جند معاوية وأن النصر لعلي إذا ظل على القتال، أما إذا صدق حيلة عمرو فإنه يضيع الفرصة السانحة.

أما علي فكان قد قاتل ببسالة طوال نهاره وليله وقد تحقق فوز جنده، وظل يطوف في صفوفهم يحثهم على الثبات ويدعو لهم بالنصر إلى أن عاد في الصباح إلى فسطاطه، فجاءه مخبر بأن أهل الشام رفعوا المصاحف على الرماح وهم يقولون: «هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم. من لثغور الشام بعد أهله؟ ومن لثغور العراق بعد أهله؟» فلما سمع علي كلامهم قال: «لا نجيبهم إلى ذلك فهي حيلة لا تنطلي علينا.»

فجاءه نفر من رجاله وقالوا: «بل نجيبهم إلى كتاب الله.»

فوقف علي وقد خاف الفتنة وقال: «عباد الله ، امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيبا وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم! والله ما رفعوها إلا خديعة ووهنا ومكيدة!»

فقالوا: «لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.»

فقال: «فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه.»

فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصبة من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: «يا علي، أجب إلى كتاب الله - عز وجل - إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان.»

قال: «فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم.»

قال ذلك وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما، وفيما هو في هذا انشق الجمع وخرج من بينهم جندي لم يكن سوى أسماء، وقد وصلت وسمعت الناس يحاجون عليا، فهرولت حتى وقفت بينهم وبين علي وثارت الحمية في رأسها وعلى وجهها احمرار التعب من شدة العدو، فضلا عما قام في نفسها من الأسف لتلك الحال، فأسفرت وحيت الإمام بتحية الخلافة والتفتت إلى الوقوف هناك وقالت لهم: «اعلموا أني قادمة من معسكر معاوية، وقد سمعت حديثهم عن الحيلة بأذني، وإنما جئت مسرعة مخافة أن تنطلي الحيلة عليكم وتكفوا عن القتال. إنها والله خديعة اخترعها ابن العاص ليلقي الشقاق بينكم! وأخشى أن تنفذ حيلته فيكم، فأطيعوا أمير المؤمنين وأنتم الغانمون.»

فضحكوا من كلامها وقالوا: «كيف ندعى إلى كتاب الله ولا نجيب؟! هذا لا يكون أبدا!»

ثم وجهوا كلامهم إلى علي وقالوا: «ابعث إلى الأشتر فليأتك.» وكان الأشتر النخعي من أشجع قواد تلك الحملة وقد أبلى في تلك الحرب بلاء حسنا، وكان لا يزال يحارب، وهم إنما طلبوا استقدامه ليكف عن الحرب. فبعث إليه فلم يأت لأنه رأى الفوز بين يديه، فإذا تحول عن موقفه فسدت أعماله.

فلما أبطأ قال أولئك الناس لعلي: «نظنك أمرته بالحرب، فابعث إليه وإلا والله اعتزلناك»، فبعث إليه ثانية فجاء وهو يقول: «أظنكم تدعونني إلى الكف عن القتال بعد رفع المصاحف؟!»

ثم أقبل وهو يقول: «يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين غلبتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه؟! فأمهلوني فواقا فإني أحسست بالفتح!» ولكنهم لم يمهلوه.

قال: «أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر!»

قالوا: «إذن ندخل معك في خطيئتك.»

قال: «فخبروني عنكم متى كنتم محقين، أحين تقاتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذا أمسكتم عن القتال مبطلون. أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم منكم في النار.»

قالوا: «دعنا منك يا أشتر، قد قاتلناهم لله وندع قتالهم لله.»

قال: «خدعتم وانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم! يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا قبحا! يا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون!»

فسبوه وسبهم، وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه. فصاح به وبهم علي: «كفوا!» وقال الناس: «قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكما.»

وطال الأخذ والرد بينهم، وأسماء واقفة وقلبها يكاد ينفطر جزعا من عناد أولئك المخالفين، فلما سمعت قبولهم إجابة الدعوة تناثرت الدموع من عينيها، والتفتت إلى علي فإذا هو مطرق وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما كأنه يرى عاقبة ذلك بعينه، فتعاظم غيظها وأرادت تأنيب المستخلفين ثم أحجمت ولبثت ترقب ما يكون. •••

وتقدم رجل من خاصة علي، فقال: «نرى الناس قد قبلوا ما دعوا إليه من حكم القرآن، فهل تأذن في أن نسمع ما يدعونا معاوية إليه من هذا الأمر؟»

قال علي: «سر إليه واسأله.»

فذهب ثم عاد وهو يقول: «سألت معاوية عما حمله على رفع المصاحف، فقال: «الرجوع إلى ما أمر به الله في كتابه، فابعثوا رجلا ترضون به ونبعث نحن رجلا نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يتعديانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه.»

فقال علي: «قبلنا، فأي رجل اختاروا؟»

قال: «اختاروا أن ينوب عنهم عمرو بن العاص.»

فالتفت علي إلى من حوله وقال: «ومن تختارون أنتم؟»

قالوا: «نختار أبا موسى الأشعري.»

فأجفل علي وقال: «لا! لا! إنكم لم تصيبوا، وقد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن. لا أرى أبا موسى كفئا لابن العاص، وهو مع ذلك ليس بثقة، فقد فارقني وخذل الناس عني، ثم هرب مني حتى أمنته بعد أشهر. فكيف نركن إليه في هذا التحكيم؟! هذا ابن عباس أوليه ذلك.»

فصاحوا بصوت واحد: «والله لا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء!» قال علي: «فإني أجعل الأشتر.»

قالوا: «وهل سعر الأرض غير الأشتر؟» قال: «قد أبيتم إلا أبا موسى؟»

قالوا: «نعم». قال: «افعلوا ما أردتم!»

وكانت أسماء تسمع الجدال وهي تتميز غيظا، ولكنها لا تجرؤ على الكلام تهيبا من علي.

وبعد قليل جاء أبو موسى الأشعري وعمرو، فدخلا على علي ليكتبا القضية بحضوره وهي صورة عقد التحكيم، فبدءوا بكتابة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين ...» فاعترض عمرو قائلا: «هو أميركم وليس أميرنا»، وطال الجدال في ذلك حتى وقع نفور شديد بين علي وعمرو. وانتهى الأمر إلى أن يكتب العقد على هذه الصورة:

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم؛ أننا ننزل عند حكم الله وكتابه وألا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، عملا به. وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة .» وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على نفسيهما وأهليهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يردانها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا. وأجل القضاء إلى شهر رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه. وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.

ويلي ذلك أسماء الشهود.

وقد كتب هذا العقد في 13 صفر سنة 37ه.

ولما تمت الكتابة تلي العقد على الناس، وانفض المجلس ولجأ الجنود إلى الهدنة ريثما يحل الأجل المضروب لمجلس التحكيم.

وتراجع الناس عن صفين وهم علي بالنزوع إلى الكوفة، فجاءته أسماء في ساعة كان فيها مختليا، وقبلت يده فسألها عن حالها وما تم لها بعد سفرها، فقصت عليه خبرها وما حملها على القدوم قبل مقابلة القسيس، فأثنى على غيرتها ودعاها إلى الذهاب معه إلى الكوفة.

فقالت: «حبذا الأمر! ولكنني أقرب الآن إلى أنطاكية مني إلى الكوفة، فأذن لي بالذهاب إليها فقد آن لي أن أعرف نسبي.» فأطرق علي برهة يتأمل، فخافت أن يكون في شاغل آخر فودعته وخرجت على أن تعود يوم التحكيم لتسمع حكم الحكمين.

وكان المسلمون في انتظار ذلك اليوم لأنه سيكون عظيما، ولم تفتقد محمدا لأنها علمت أنه في مصر يتولى أمورها. •••

عادت أسماء إلى الجبل حيث تركت جوادها وخادمها وخلعت ثيابها وركبت إلى أنطاكية لا تستريح ليلا ولا نهارا.

فأشرفت عليها من جبلها الشرقي، وأطلت على البحر فلمحت شيئا كأنه سفينة حجبها البعد عنها، فخفق قلبها سرورا وهبطت من الجبل، حتى إذا دنت من المدينة سمعت دق الأجراس دقا بطيئا متقطعا، فقالت في نفسها: «لعلهم يحتفلون بقدوم البطريرك.» ولكنها لم تكد تسير في الطريق الكبير حتى رأت الناس محتشدين يتقدمهم رهط من الأكليروس بالمباخر، فعلمت أنه احتفال بجنازة.

ولا تسل عن حالها لما علمت أنها جنازة القسيس مرقس، وقد مات بعد وصوله إلى أنطاكية بيومين، فإنها لطمت وجهها وندبت سوء حظها ، وذهبت توا إلى الخان وأقفلت باب غرفتها وأطلقت لنفسها عنان البكاء، وجعلت تعدد ما أصابها من الإحن منذ ولادتها، وكم قاست من المصائب! وكم عانت من الأخطار! حتى إذا دنا وقت سعادتها وآن لها أن تعرف أباها داهمها القدر بالفشل الذريع.

وتذكرت مروان وما قاست من البلاء بسببه، وتذكرت عذابها في الصحراء بين مكة والبصرة، وما قاسته على أثر ذلك. وغرقت في تيار هواجسها، وتحققت سوء حظها، وتمنت أن تموت فتخلص من العذاب. ولما تمنت ذلك أجفلت وندمت لأنها تصورت محمدا وحبه لها وما ترجوه من السعادة بقربه، فقالت: «لا، لا أموت بل أحيا لأجل حبيبي وأقصى مرادي، وهو تعزيتي الوحيدة في هذا العالم. فإذا خسرت الدنيا كلها وفاتني كل نعيمها وحصلت على محمد بن أبي بكر، فذلك يكفيني.»

وبعثت خادمها يستطلع مكان التحكيم وزمانه، فأنبأها أنه سيكون في «أذرح» في أطراف الشام من أعمال السراة بنواحي البلقاء وعمان في زمن معلوم، فلما دنا الأجل تنكرت وسارت تلتمس أذرح والخادم معها.

الفصل العشرون

حكم الحكمين

ولما جاء الأجل المعين لتلاوة حكم الحكمين بعث علي أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل ومعهم عبد الله بن عباس، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، والتقوا بأذرح. وكان عمرو بن العاص قد استعان بكل دهائه في إقناع أبي موسى بأن يوافقه على خلع علي وتولية معاوية لأنه المطالب بدم عثمان، فلما لم يفلح ذكر له تولية أحد أبناء الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. وبعد جدال عنيف اتفقا على خلع علي ومعاوية، وأن يختار المسلمون واحدا غيرهما بالشورى. وكان من دهاء عمرو أنه ما زال يدافع أبا موسى في الكلام، حتى طلب هذا خلع الاثنين فأصبح هو البادئ في الكلام عند إصدار الحكم.

فلما جاء اليوم المعين واجتمع الناس من الأقطار، وصلت أسماء أيضا في ذلك اليوم. فوقفت بين الناس بحيث لا يعرفها أحد، فرأت أبا موسى وابن العاص في مجلس علي، وبقية الناس في جانب آخر كأن على رءوسهم الطير ينتظرون ما يكون من الحكم.

فوقف أولا أبو موسى فأصغى الناس لمقاله، فقال بصوت عال يسمعه الحاضرون: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ويولي الناس من أمرهم من أحبوا. وإني قد خلعت عليا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتموه أهلا.»

وكان لقوله وقع عظيم ولبث الناس ينتظرون قول عمرو، فإذا هو قد وقف وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه (عليا)، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.»

فلما سمع أصحاب علي قوله علموا أنها حيلة من عمرو وغفلة من أبي موسى ووبخوا أبا موسى وأنبوه، فقال: «ما العمل فقد غدر بي؟!»

وأما أسماء فلما سمعت القولين علمت أن معاوية قد اشتد ساعده، وأن رجال علي لا بد أن ينقسموا بين من يقبل الحكم ومن لا يقبله، فلم تستطع صبرا على البقاء هناك فخرجت من بين الجمع لا تلوي على شيء وقد صغرت نفسها. وما زالت سائرة والخادم معها حتى أتت شجرة منفردة في الصحراء فاستظلت بها وشغلت الخادم بتدبير الجوادين، وخلت إلى نفسها وجعلت تفكر في حالها وما أصابها من الفشل المتوالي من كل صوب وحدب، ولا سيما موت القسيس وضياع اسم أبيها وفشل رجال علي وخروج الخلافة من يده بحكم الحكمين. فغلب عليها اليأس فلم تر لها فرجا إلا بالبكاء والنحيب، فنظرت إلى ما حولها فإذا هي منفردة وليس من يسمع بكاءها، فأطلقت لدموعها العنان حتى كاد يغمى عليها. وما زالت تشهق وتزداد شهيقا كلما ذكرت عليا أو أمها أو محمدا حتى تعبت وجف دمعها فألقت رأسها على حجر ونامت، ولكنها لم تستغرق في النوم إذ تراءى لها طيف محمد، فأفاقت مذعورة وهي تقول: «أهلا بحبيبي، لا تعزية لي إلا به. إنه في مصر الآن، هل من يعلمه بما حل بأمر الخلافة، وأن ابن العاص قد كاد فيها كيدا عظيما؟! آه يا محمد! هل من حيلة تخدم بها عليا رجل هذه الأمة؟! لا أظن الأمر بعد الآن إلا صائرا إلى معاوية. أما أنا المسكينة اليتيمة المجهولة النسب والتعسة الحظ، فربما كنت أنا وحدي سبب هذا البلاء، وربما كان سوء طالعي هو الذي جر كل هذه المصائب!» وسكتت هنيهة ثم انتبهت بغتة وهي تقول: «محمد! محمد! أنت تعزيني في أحزاني ومصائبي، هلم بي إليك لأعيش بقربك فأنت الأب والأخ.»

وفيما هي تخاطب نفسها لمحت الخادم عائدا بالجوادين وهو يسرع نحوها، فقالت: «ما وراءك؟»

قال: «التقيت وأنا أسرج الجوادين بشرذمة من رجال الشام ركبوا مسرعين وفيهم عمرو بن العاص وكلهم فرحون بما نالوه، وسمعت ابن العاص يقول: «لقد استقام لنا الأمر، ولم يبق إلا أن أفتح مصر فإذا دانت لي عدت إلى ولايتها، ولا يبقى في يد علي إلا العراق والحجاز فنجرد عليهما ونفتحهما.»

فلما سمعت ذكر مصر وفتحها اضطربت وتذكرت محمدا فيها، فقالت في نفسها: «أذهب إلى مصر الآن وأرى ما يئول إليه أمرها.» ثم التفتت إلى الخادم وقالت: «وما ظنك في مسيرهم إلى مصر؟»

قال: «لا أدري متى يسيرون، فلا بد لهم من الشخوص إلى الشام وتدبير أمورهم ثم يحملون على مصر.»

فلبثت مدة تتردد ولا تدري هل تسير إلى مصر لترى محمدا أم تسير إلى الكوفة لترى عليا وما آل إليه أمر خلافته.

ولم تر بدا من المسير إلى مصر، فأسرعت إلى جوادها فركبته وقد يئست مما أصابها من الفشل، وسارت تعلل نفسها بلقاء محمد.

الفصل الحادي والعشرون

عمرو يعود إلى القاهرة

مر بنا ما كان من اجتماع دعاة عثمان في مصر وعزل قيس بن سعد عنها بما دبره معاوية من الحيلة حتى أفسد ما بينه وبين علي، ثم ما كان من تولية محمد بن أبي بكر، فلما تولاها محمد بعث رجلا من خاصته لحرب أهل خربتا القائمين بدعوة عثمان، فقتلوه وتعاظم أمرهم وفسدت مصر كلها على محمد . فبلغ ذلك عليا فقال: «ما لمصر إلا أحد الرجلين.» يعني قيسا أو الأشتر، وكان قد عزل قيسا فلم يرجع إليه، فبعث إلى الأشتر وكان قد عاد بعد صفين إلى عمله في الجزيرة، فلما جاءه أخبره خبر مصر وقال: «ليس لها غيرك فاخرج إليها، فإني لو لم أوصك اكتفيت برأيك.» فخرج الأشتر شاخصا إلى مصر، وأتت عيون معاوية إليه بذلك فعظم الأمر عليه، وكان قد طمع في مصر لكثرة خيراتها ليستعين بها على أعماله وحروبه، وعلم أن الأشتر إن قدمها فسيكون أشد عليه من محمد بن أبي بكر.

وكان على حدود مصر يومئذ بلدة اسمها القلزم بالقرب من مكان السويس، يغلب أن يمر بها القادم من الشام إلى مصر، وكانت القلزم هذه في حوزة معاوية.

فبعث معاوية إلى صاحب خراجه في القلزم يخبره بمسير الأشتر إلى مصر، وقال له: «فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت.»

فلما مر الأشتر بالقلزم استقبله صاحب خراج معاوية فعرض عليه النزول فنزل عنده، وأتاه بطعام فلما أكل أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سما فلما شربها مات، فظلت مصر بإمرة ابن أبي بكر. فازداد طمع معاوية فيها وهو يرجو منها خيرا، فاستشار ابن العاص فقال: «علي بها، إني فاتحها الأول، ومن أولى بها مني؟» وجرد جيشا كبيرا وسار قاصدا مصر، فلما علم محمد بحملته بعث إلى الإمام يستنجده، وعلمت أسماء بذلك فسارت إليها كما تقدم.

وكان محمد لم ير أسماء منذ افترقا في البصرة يوم خرج مع أخته أم المؤمنين إلى مكة، على أنه علم بما دار بينها وبين الإمام علي على أثر وقعة الجمل في شأن خطبتها للحسن، إذ أخبره الحسن نفسه بذلك وهو لا يدري أنه مناظره عليها. وقد سر محمد مما قاله الإمام علي من أن غموض نسبها يمنع الحسن من زواجه بها، كما سره تحققه من بقاء أسماء على عهده، وأخبره الحسن أيضا أنها سارت إلى بيت المقدس لمعرفة اسم أبيها. ولكنه نظرا إلى اشتغاله بإمارة مصر وما أحاط بها من المشكلات وما قام فيها من الثورات المتوالية، التي أضرم نارها دعاة عثمان في خربتا وغيرها؛ لم يتمكن من مكاتبتها. ولكنه كان يسأل عنها ويتحسس أخبارها، فكان تارة يعرف مقرها وطورا لا يعرفه، وآخر ما علمه أنها كانت في مجلس الإمام علي يوم خالفه أصحابه في قبول التحكيم، وسمع ما أظهرته هناك من الحمية، فتذكر حديثها وتصورها أمامه تشير بيدها وتتكلم وتتهدد، فارتاح لتلك الذكرى واشتاقت نفسه للقياها.

على أنه عاد فتذكر ما رآه الإمام علي من حيلولة غموض نسبها دون اقتران الحسن بها، فقال في نفسه: «إذا عرفت أباها كان أمرها إشكالا فإن الحسن لا يتخلى عنها، وإذا أرادها الحسن وطلبها له أبوه فكيف أطلبها أنا؟» فلما تخيل ذلك عظم عليه الأمر، وتمنى لو بقيت على جهلها نسبها فتكون أقرب إليه، وصورت له الغيرة أن حرمانهما معا منها خير من أن يأخذها أحد غيره.

وما زال يردد هذه التصورات في ذهنه حتى جاءه كتاب منها بموت القسيس وضياع السر، وقد أشارت فيه إلى رغبتها في المعيشة معه بوصفها أختا أو صديقة، فتحقق صدق مودتها وبقاءها على العهد فسر سرورا عظيما، ولبث ينتظر عودتها وهو يكرر تلاوة الكتاب وقد استأنس به لأنه هاج أشجانه بعد أن طال زمن الفراق، وكان كلما تلا الكتاب تصور أسماء واقفة بين يديه تخاطبه ويخاطبها. ولكن استئناسه بوجودها لم يطل لاشتغاله بمهام الحرب، فبينما هو ذات يوم في الفسطاط عاصمة الديار المصرية في ذلك الحين إذ جاءته عيونه بخبر أهل الشام، وأنهم حاملون عليه بقيادة عمرو بن العاص.

وكان عمرو قد كاتب محمدا يطلب إليه التسليم، فأرسل محمد الكتاب إلى علي يستنجده فكتب إليه علي أن يجمع شيعته ويندبهم للقتال ووعده بإنفاذ الجيوش لنجدته. فأخذ محمد في التأهب بمن عنده من الرجال، فجهز كنانة بن بشر في ألفين وسار هو في أثره بألفين.

أما عمرو فإنه دخل مصر من الشرقية وجعل يسرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة وكنانة يلقى كتائبه ويفرقها ، حتى كاد الفشل يحيط بجنود الشام لو لم تأتهم نجدة قوية بقيادة معاوية بن حديج فاشتد أزرهم.

أما جند مصر فلم تأتهم نجدة لتقاعد العراق عما دعاهم إليه علي، ولكنهم حاربوا حربا شديدة دافعوا فيها دفاع الأبطال، ونزل كنانة عن فرسه وما زال يقاتل حتى قتل. •••

سارت أسماء من الكوفة وكانت كلما تقدمت نحو مصر ازداد قلقها على محمد، وكانت قادمة وحدها على جوادها فاضطرها ذلك إلى المسير بجوار المدن استئناسا بالناس ومخافة العطش، فسارت على ضفاف الفرات ثم تحولت إلى الشام حتى وصلت إلى دمشق، فسمعت هناك بمسير حملة عمرو فسألت عما حدث بعد ذلك، فعلمت أنه بعث يستنجد معاوية وأن جيش مصر غالب فسرت، ولم تمكث في دمشق إلا ريثما استراحت وركبت تطوي الصحراء إلى مصر. ولما دنت من العريش وقيل لها إنها على حدود مصر، تذكرت ما قاله رئيس دير البصرة عن أمها وأنها ولدتها في مصر حيث عرفت يزيد هناك، فهاجت أحزانها ولكن تفكيرها في محمد شغلها عن كل ذلك.

ولما دخلت مصر مرت أولا بالفرما، وهي مدينة كانت فيما يجاور بورسعيد الآن، وما كادت تصل إليها حتى أخذت تسأل عن أمر الحرب بين محمد وعمرو، فأخبروها أن ابن العاص جاءته النجدة بعد أن كاد يفشل. ولحظت من خلال حديث القوم أنهم على دعوة عمرو وأنهم ميالون إلى معاوية، فانقبضت نفسها وخرجت من الفرما لا تلوي على شيء، وبحثت عن مكان القتال فقالوا إنه في ضواحي الفسطاط فجدت في السير. وكانت في كل سفرها لا تنام في الليل إلا قليلا حتى وصلت إلى بلبيس، فرأت أهلها في هرج ورأت جماعة من الناس يدخلونها وفيهم من ربط يده أو شد زنده أو عصب رأسه، فعلمت أنهم عائدون من القتال فاضطربت وسألت في ذلك فقالوا: «إن جنود الشام تكاثروا بمن انضم إليهم من أهل مصر الذين هم على دعوة عثمان وقد بايعوا معاوية وهو بعيد، وإن كنانة بن بشر قتل وتشتت جند مصر.» فسألت عن محمد فلم ينبئها بخبره مخبر، فاختلج قلبها في صدرها وقالت: «ومتى كان ذلك؟!» قالوا: «كانت الوقعة أول من أمس، وقد دخل عمرو الفسطاط.»

وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلم تستطع صبرا، فركبت وقصدت إلى مكان الوقعة وعيناها تحدقان فيما أمامها لا تبالي ما يهددها من الخطر.

وسدل الليل نقابه فلم تعد تستطيع النظر إلى بعيد، وخافت أن تضل الطريق ففكرت في الأمر وهي سائرة الهوينى وقد تهيأت للدفاع بسلاحها إذا اعترضها عدو، فلما لبثت أن رأت القمر قد بزغ فتلقته بالترحيب وأحست عند رؤيته بانفراج الأزمة، ولكنها رأت بعضه ناقصا وهو قبيل ربعه الأخير، فخيل إليها لفرط انشغالها بأمر الحرب أنه خارج من المعمعة وقد شطب وجهه بالسيف.

ولما طلع القمر استنارت وجدت في السير تلتمس الفسطاط، وكانت لما خرجت من بلبيس ترى بعض المارة قادمين إليها أفرادا وأزواجا، ولكنها لم تكد تبعد عنها حتى خلت الطريق من الناس، فظنت نفسها سائرة في طريق لا تؤدي إلى الفسطاط، فوقفت وتبينت الجهات جيدا فرأت أنها أخطأت الجهة والتفتت فلم تر أمامها إلا صحراء قاحلة، فرجعت يمينا حتى أصبحت في أرض زراعية وسارت نحو الجنوب، والقمر إلى يسارها يعلو رويدا رويدا حتى أصبح يريها الأشباح عن بعد، ووادي النيل أرض منبسطة لا جبال فيها ولا أودية.

ومضى معظم الليل وهي جادة في سيرها حتى تعبت وجاعت وأحست بالبرد يقرسها، وهو شديد في مصر بعد منتصف الليل حتى في إبان الصيف. فترجلت ومشت لتدفأ، وقادت جوادها والجو هادئ والأرض خالية من الناس لا تسمع غير وقع حوافر جوادها وصهيله.

وبينما هي ماشية تفكر في شأنها إذ سمعت جوادها يصهل وقد أجفل، فالتفتت إلى ما أجفله فرأت شبحا منطرحا أرضا وشمت رائحة منتنة، فدنت من الشبح فإذا هو جثة قتيل جائفة فخفق قلبها وعلمت أنها على مقربة من مكان الوقعة، فتجلدت وقد شعرت منذ رأت تلك الجثة بارتعاش نسبته إلى البرد، وما هو في الحقيقة إلا نتيجة ما طرق ذهنها من التصورات المرعبة عن محمد.

ومشت والجواد وراءها والروائح تتعاظم، ثم رأت جوادها أجفل ثانية إجفالا عظيما من جيفة جواد وراءها جيف كثيرة تطايرت عنها الكواسر، وقد حلقت في الجو وصفقت في طيرانها تصفيقا زاد الفرس إجفالا، فارتبكت في أمرها. وهي تود البحث بين الجيف مخافة أن يكون محمد بينها والجواد يمنعها بإجفاله وصهيله، فعمدت إلى شجرة ربطته إليها وعادت وقلبها يخفق وركبتاها ترتعدان وعيناها تحدقان في تلك الساحة وفيها الجثث مبعثرة هنا وهناك، وبين القتلى من استلقى على ظهره وبسط ذراعيه كأنه يستقبل شيئا يستغيث به وقد جعله البلى جلدا على عظم وأكلت بعضه النسور، ومنهم من انبطح على بطنه وقد قبض بإحدى يديه على رمح وبالأخرى على التراب، ورأت هناك رءوسا مدحرجة وجثثا بلا رءوس تراكم بعضها فوق بعض.

وواصلت سيرها وهي تجر نفسها جرا بين تلك الجيف، وتحاذر أن تدوس على يد أو رجل أو رأس وقلبها يخفق خفقانا شديدا تكاد تسمعه، ولو تأتى لها أن تنظر إلى وجهها في مرآة لرأته أشد امتقاعا من تلك الجثث. وتعبت من التفرس في الوجوه والثياب وأثرت تلك الرائحة الكريهة في رأسها مع ما كانت فيه من التعب والجوع، فأصابها دوار وخافت أن تسقط فوق القتلى فتداركت نفسها وتنحت إلى الشجرة التي ربطت جوادها إليها، وجلست هناك وأسندت رأسها إلى جذعها تلتمس الراحة، ولكن أفكارها ظلت تائهة ولم تبرح صورة محمد مخيلتها. ولم تكد تلقي رأسها حتى غلب عليها النعاس فأغمضت جفنيها، فتمثل لها محمد مقتولا فارتعدت فرائصها ونهضت مذعورة. وبينما هي تنهض رأت الفرس يمد رأسه إلى الأرض فالتفتت فرأته لفظ شيئا مضغه بين أسنانه، فسمعت له صوتا كصوت القصبة إذا كسرت بين الأضراس، ثم ما لبثت أن رأت الفرس يلفظ تلك الهناة فلمحت فيها شيئا أبيض، فتناولته فإذا هو قصبة فيها رق فتبينته فإذا هو كتابها إلى محمد ما زال في قصبته كما أرسلته إليه. فهاجت شجونها وتحققت أن محمدا كان في الوقعة والقصبة معه فسقطت من ثيابه في أثناء القتال، وساءلت نفسها: «أين هو؟!» وكانت قد يئست من وجوده هناك، وفي ذلك اليأس فرج لأنها تحققت نجاته من تلك الوقعة، فلما وجدت كتابها خافت أن يكون محمد قد قتل هناك فعادت إلى الجثث تبحث فيها.

وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو وظهر ما أمامها جليا واضحا كأنها تنظر إليه في رابعة النهار، وكانت لا تحتاج في بحثها عن محمد إلى إمعان نظر، فلو لمحت طرف ثوبه أو بعض عمامته عن بعد لعرفته لأن صورته نصب عينيها، ولكن الأثواب والعمائم تتشابه فلا تسل عن خفقان قلبها كلما رأت شبحا يشبهه. •••

وما زالت على تلك الحال حتى لاح الفجر وتبينت الوجوه فدارت بين القتلى تجدد البحث، فطلع الفجر وهي تجول وتتفرس فلم تر أثرا لمحمد فتحققت أنه لم يقتل في تلك المعركة. فلما سكن روعها أحست بالتعب والنعاس والجوع فالتفتت إلى ما حولها، فرأت بيوتا تكاد تتوارى لبعدها فعلمت أنها منازل أهل القرى، فاتجهت إليها تلتمس طعاما وعلفا لجوادها فوصلت إلى أحدها وحيت أهله. فرأت امرأة معها صبيان عراة يحومون حولها وهي تحلب لهم لبنا من نعجة، فلما رأى الصبيان أسماء قادمة على فرسها صاحوا بأمهم ففزعت وفزعوا جميعا، فتركوا النعجة ودخلوا الكوخ فنادتهم أسماء وطيبت خاطرهم فعادوا، فقالت لهم: «عندكم علف لهذا الجواد؟» قالوا «نعم» واعتذروا من خوفهم بأنهم قاسوا أهوالا كثيرة من المحاربين.

وأكرموا وفادة أسماء وجاءوها باللبن وللجواد بالعلف، والتمست حصيرا تتكئ عليه فنهض صاحب الدار فأخذ الفرس وشده إلى وتد، وجاء بحصير كان قد خبأه تحت فراشه أعواما حرصا عليه، فاتكأت أسماء على ذلك الحصير في ظل الكوخ ونامت نوما عميقا لم تفق منه إلا قبيل الغروب.

ولم تفتح عينيها حتى رأت رسولها الذي أنفذته بكتابها إلى محمد واقفا عند رأسها، فصاحت فيه: «أين كنت؟! وأين هو محمد؟!»

فعض على شفته وأشار بعينيه أن تسكت مخافة أن يسمعها أحد من أهل البيت، فنهضت ونفحت أهل الكوخ بما تيسر لها وسلمت الفرس إلى الرجل ومشت إلى جانبه، وسألته عما يعلمه عن محمد ومكانه وما الذي جاء به إلى ذلك المكان.

فقال: «أبشري يا مولاتي إن محمدا قد نجا من هذه الوقعة.»

فقالت: «وأين هو؟! وماذا تم له؟! أخبرني!»

قال: «إني فارقت محمدا منذ جئته بكتابك، وقد آنست فيه عطفا علي لا أدري سببه، وحيثما توجه سرت في ركابه إما راجلا أو راكبا. ولما كانت الوقعة منذ يومين في هذا السهل وقتل كنانة بن بشر قائد مقدمته، تفرق رجاله حتى أصبح وحيدا فألححت عليه أن يخرج من المعمعة خيرا من أن يقتل.»

فلما وصل الرسول إلى هذا الحد امتقع لون أسماء وشخصت ببصرها لسماع تتمة الحديث، فقال: «وأما هو فعزم على البقاء في ساحة القتال إلى الموت، ولكني ألححت عليه في الخروج فأطاعني، فمشينا حتى انتهينا إلى خربة جنب الطريق بالقرب من هذا الجبل (وأشار إلى المقطم) فأوينا إليها وقضينا يومين بلا طعام ولا ماء، فلما رأيت ظمأ سيدي استأذنته في الخروج لآتيه ببعض الماء والطعام، فأوصاني بأن أبحث عن كتابك فقد كان معه في أثناء المعركة وفقد منه.»

فقالت: «أما الكتاب فقد وجدته بل وجده هذا الجواد. وأين محمد الآن؟ هلم بنا إليه ومعنا الماء.»

فقال: «إنه حيث قلت لك على مسافة قصيرة من هنا.»

قالت: «احمل له الطعام والماء وهلم بنا.»

قال: «أما من خوف علينا؟» قالت: «إن الشمس لا تلبث أن تغيب ويخيم الظلام فلا يرانا أحد، وأرى أن نبقي هذا الجواد هنا لئلا يدل علينا.» فأخذ الرجل الجواد وعاد إلى الكوخ، وبعد قليل رجع بقربة مملوءة ماء وبأرغفة وشيء من الجبن.

وسارت أسماء ورسولها وقد خيم الظلام، وكان يمشي أمامها يدلها على الطريق وهي تكاد تتعثر بأذيالها للهفتها وسرعتها، وقضت مسافة الطريق لا تتكلم لشدة اضطرابها لما تتوقعه من الانفعال عند لقيا محمد.

وقضيا ساعة سائرين لا يكادان يميزان الطريق لو لم يكن جبل المقطم ظاهرا أمامهما في الأفق، فجعلاه وجهتهما ظنا بأن محمدا مختبئ بالقرب منه. وكانا يمران تارة بين خيام وآونة بأعشاش وأكواخ صغيرة، حتى وصلا إلى جانب المقطم فتقدم الرجل وسارت أسماء في أثره، ومشى هو يلتمس الطريق بين أنقاض الخرائب وهي تتبعه وقلبها يدق توقعا للبغتة التي ستصيبها عند اللقاء بعد طول الغيبة.

وبعد هنيهة اختفى الدليل في ظلمة مدلهمة هناك، فنادته بصوت منخفض فقال: «لقد وصلنا»، فدخلت في أثره إلى بيت خرب لم يبق منه إلا الجدران وبعض السقف، ولم تكد تدخل حتى سمعت الرجل يقول: «أين أنت يا مولاي؟» فلم يجبه أحد، فقالت أسماء: «لعله كان هنا»، قال: «نعم، تركته في هذه الخربة.»

قالت: «فلنبحث عنه في غيرها فقد تشابهت الخرائب عليك.» وأخذا يفتشان كل الأماكن المجاورة فلم يقفا له على أثر حتى تعبا وملا التفتيش، فقالت أسماء: «ما قولك في غيابه؟» قال: «لا أدري، وأخشى أن يكون عمرو قد عرف مكانه فبعث من قبض عليه وهو أعزل.»

فلما سمعت ذلك رجف بدنها وقالت: «وكيف العمل الآن؟!» قال: «إني طوع أمرك»، قالت: «عد بنا إلى حيث كنا، نلبث هناك إلى الصباح ثم نسير نستأنف البحث عنه.»

وعادا حتى أتيا الكوخ وعرفاه من صوت الجواد، فإنه حالما اشتم رائحة القادمين صهل ورفس الأرض بحافره، وباتت أسماء عند ضاحية الكوخ. وبكر الرجل في الصباح للبحث عن محمد ومكثت هي في انتظاره.

الفصل الثاني والعشرون

مقتل محمد بن أبي بكر

طال انتظار أسماء عودة رسولها، فقلقت وندمت لأنها لم تخرج معه للبحث عن محمد، وأضحت الشمس ولم يرجع فازداد قلقها ولم يعد يطيب لها مقام، فمشت بين تلك الأكواخ إلى الجهة التي تتوقع أن يكون رسولها قادما منها حتى بعدت مسافة. وبينما هي تتطلع إلى آخر الطريق إذ رأت شبحا مسرعا نحوها عرفت من قيافته أنه رسولها، فاختلج قلبها وحدقت لترى ما يبدو منه، فإذا هو يسرع حتى وصل إليها من شدة التعب وقد احمرت عيناه وكلل العرق جبينه.

فصاحت فيه: «ما وراءك؟! قل! ما خبرك؟! هل وجدت محمدا؟!» قالت ذلك وقلبها يزداد خفقانا.

فقال وهو يلهث لهثا شديدا: «آه يا مولاتي! نعم وجدته، ولكنه ، ولكنه في خطر من القتل ...»

فصاحت: «وكيف ذلك؟! ومن يقتله؟!»

قال: «إنهم علموا بمكانه في الخربة قبل وصولنا إليها أمس ... آه! ضاق صدري من التعب، أمهليني أستنشق الهواء ... دلهم عليه بعض المارة، فحملوه وهو أعزل إلى الفسطاط ...»

فقالت: «وبعد ذلك ماذا جرى؟!»

قال: «لما خرجت في هذا الصباح قصدت إلى الفسطاط رأسا، لأني أعلم أنه لا يبرح مكانه إذا لم يقبضوا عليه، ودخلت الجامع وتظاهرت بالصلاة فرأيت ابن العاص وعبد الرحمن بن أبي بكر أخا سيدي محمد، وسمعت عبد الرحمن يقول لعمرو: «أتقتل أخي صبرا؟! ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه.» فعلمت أن معاوية بن حديج هو الذي قبض عليه ويريد قتله. فطار صوابي ووددت أن أعرف أين هو ابن حديج لأذهب إليه، فسمعت عمرا يقول لأحد رجاله: «اذهبوا إلى ابن حديج وقولوا له أن يكف عن قتل محمد ويأتيني به.» فخرجت في أثر ذلك الرسول حتى وصلت إلى مكان بين الخربة والفسطاط، فرأيت فيه جمعا متكاثفا بينهم ابن حديج ومعه رجاله وقد أحاطوا بمولاي محمد، وقد رق جسمه من العطش والجوع. وتقدم رسول عمرو إلى ابن حديج وأبلغه أمر عمرو فقال: «قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدا؟! هيهات، هيهات!»

ولا تسل عن أسماء عند سماعها هذا النبأ وكيف كان وجهها يتلون، فتطاولت بعنقها وحدقت ببصرها لترى ما تم بعد ذلك وهي تقول: «جزاهم الله شرا على هذا القول! لا، لا، لا أظنه يقتله رغم أمر عمرو، ولكنه أساء الأدب.»

فقال الرجل: «ولو اقتصرت إساءته على ذلك لكان خيرا، ولكنه منع عن سيدي الماء فقد سمعته بأذني يطلب منهم أن يسقوه، فقال له ابن حديج بقحة واستخفاف: «لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا! إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم الغساق!» ...»

فلما سمعت أسماء ذلك قالت: «خسئ النذل!» وأصاخت بسمعها فأتم الرجل كلامه وقال: «فأجابه سيدي محمد: «يا ابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا!» ...»

فلم تعد أسماء تستطيع صبرا على سماع تتمة الحديث وقالت: «وماذا جرى؟!»

قال: «سمعت ابن حديج يقول له: «أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار» ...»

فصاحت أسماء والدمع يتساقط من عينيها وهي تتشدد وتتجلد: «خسئ ابن اليهودية! إنه لا يجسر على ذلك.»

فقال الرجل: «فلما سمعت قول ابن حديج أسرعت إليك بالخبر، لأني رأيت الشر باديا على وجوه القوم.»

فالتفتت أسماء وراءها فرأت الكوخ بعيدا ولا سبيل لها إلى الرجوع إليه لتمتطي جوادها، ولم تعد تطيق الصبر عن المبادرة إلى محمد فسألت: «هل يبعد المكان من هنا؟!» قال: «إنه قريب». فقالت: «هلم بنا إليه!» ومشت وهي لا تدري كيف تنقل قدميها لعجلتها ولهفتها، والرجل لا يستطيع اللحاق بها لأنه كان لا يزال تعبا وليس في قلبه ما في قلبها من نار تتعجل خطواتها. ومضت ساعة وهما سائران دون أن تدرك المكان، فندمت لمجيئها ماشية وقد كانت تظن المسافة أقصر من ذلك.

ثم أشرفا على ساحة فقال الرجل: «كانوا في هذه الساحة، ويلوح لي أنهم ساروا إلى الفسطاط»، فمشت حتى أتت المكان الذي كانوا فيه فرأت آثار دم وكأن شيئا قد جروه جرا، فارتعدت فرائصها وجمد الدم في عروقها وصاحت: «ويلاه! إنهم قتلوه! نعم قتلوه! آه يا محمد يا حبيبي!» فقال لها الرجل: «وكيف عرفت ذلك؟!»

قالت: «أما ترى الدم وآثار جر الجثة؟!» ثم لطمت وانحدر الدمع على خديها، ومشت تتبع آثار الجر وعيناها لا تريان الطريق لما يغشاهما من الدمع، فلم تمش قليلا حتى اشتمت رائحة شواء فمسحت عينيها وتطلعت فرأت دخانا يتصاعد من خربة، فأيقنت أنهم قتلوه وأحرقوه في جوف الحمار كما قالوا.

فهرولت إلى الخربة لا تلوي على شيء، فرأت هناك جيفة حمار حولها النار موقدة وجوفها مشقوق فتفرست في ذلك الشق فرأت من خلال اللهيب رأس محمد مغمض العينين كأنه في سبات عميق، فصاحت: «محمد! آه يا حبيبي! لقد صح قولهم وفعلوا ما أرادوا، قتلهم الله!» وهمت بأن تلقي نفسها في النار فأمسكها الرجل من ثوبها. فلطمت وحلت شعرها وأخذت في الندب والعويل وهي تمسح عينيها كل لحظة وتنظر إلى جثة محمد من خلال اللهيب، فتراه لا يزال نائما فتناديه فلا يجيب، فتهم بأن تلقي نفسها فوقه والرجل يمسكها.

فضاقت بها الحيل فجعلت تدور حوله وتندبه وتندب نفسها وتقول: «يا لشقائي! آه يا حبيبي يا محمد! إنك لم تلق حتفك إلا من سوء طالعي، فلو لم أحبك لم تمت! ويلاه! ويلاه! ماذا أعد من النحوس المحدقة بي؟! لا ريب أني ولدت شؤما على نفسي وعلى كل من هم حولي. نعم، عاكسني الدهر ولكنه لم يصب مني مقتلا لأن آمالي كانت عالقة بحبيبي محمد، وقد صبرت في مصائبي أملا في لقائه، ورضيت من الدنيا أن أكون بقربه. ولكن آه! آه! لولا هذه الآمال لم تقتل يا محمد! لقد قتلت ليتم شقائي، فأنا سبب القتل! ولكن كيف تموت هكذا؟! كيف يختلط جسدك بالتراب؟! بل كيف تموت هذه الميتة وأبقى أنا حية؟! كلا ثم كلا!»

قالت ذلك وألقت نفسها في اللهيب كأنها تعانق محمدا ووجهها فوق وجهه، فأسرع الرجل إلى انتشالها فإذا هي تختلج اختلاج الموت.

فبكى الخادم بكاء مرا وصبر حتى خمدت النار، فجمع رفات الحبيبين ووضعه في قبر واحد وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون!»

Unknown page