ولبثت برهة لم تعد تسمع في أثنائها صوتا، ولكنها ما برحت مضطربة شاخصة بعينيها إلى الجهة التي سمعت الصوت منها، وطال انتباهها حتى لم تعد تستطيع إطباق أجفانها ونسيت موقفها.
وفيما هي كذلك لمحت نورا ضعيفا في دار السجن الصغرى، فاستأنست به وتذكرت مروان فخافت أن يكون قادما إليها، على أنها تشجعت وقالت في نفسها: «فليأت فإما أقتله أو يقتلني فأستريح من هذا الموقف.» ولم تكد تفكر في ذلك حتى رأت النور يتعاظم ويقترب، ثم بان المصباح يحمله رجل عرفت من لباسه وقيافته أنه السجان فهدأ روعها، ونظرت إليه فإذا هو يحمل المصباح في إحدى يديه ويحمل بالأخرى قصعة، فلما دنا من غرفتها تأكدت أنه هو، فلبثت تنتظر ما يبدو منه فإذا هو يقول: «سامحيني يا سيدتي لأني تركتك إلى الآن بلا طعام ولا نور! فإني لم أكن أعرف أنك تنتمين إلى الأمير مروان.»
فلما سمعت ذلك الاسم ارتعدت فرائصها ولكنها لم تجب. وأما السجان فدخل الغرفة ووضع المصباح على الأرض وقدم القصعة وفيها خبز ولحم وهو يقول: «هذا طعام بعث به إليك الأمير مروان، وكلفني أن أنبئك بأنك لن تبيتي في هذا المكان إلا الليلة، وفي الغد ينقلك إلى منزله.» فنفرت منه وقالت: «لا حاجة بي إلى طعام، فارجع من حيث أتيت.»
قال: «لقد قضيت نهارك بلا طعام، ألا تأكلين شيئا؟»
قالت: «لست جائعة. عد بالطعام.»
فعجب السجان لقولها وقد كان يتوقع ارتياحها لعطف مروان عليها، فقال لها: «ولماذا هذا يا سيدتي؟! تناولي لقمة لتسدي جوعك.»
قالت: «خذ الطعام، إني لست جائعة.» قالت ذلك وحولت وجهها عنه.
فقال: «دعي القصعة والمصباح هنا وافعلي بهما ما تشائين، وها أنا ذا عائد.» قال ذلك ورجع.
فلما خلت إلى نفسها ظل بصرها على المصباح تتأمل حركاته والبعوض يحوم حوله وفكرها تائه، وقلبها يخفق كلما تصورت مروان قادما نحوها. وأرادت أن تسند ظهرها إلى الحائط فأحست برطوبته فابتعدت. •••
وعاد السكون إلى المكان مدة طويلة وأسماء في إبان اضطرابها حتى كأنها نسيت وجودها، ثم انتبهت على صوت أقدام تمشي في الغرفة الخارجية بهدوء، فأجفلت وتأكدت أن مروان قادم فخفق قلبها وصعد الدم إلى رأسها وتهيأت للفتك به. وحولت نظرها إلى الخارج فرأت شبحا قادما يخطو خطو السارق المتلصص وقد التف بعباءة، فخافت ولكنها تجلدت لترى ما يبدو منه، فلما دنا من باب الغرفة همت بأن تخاطبه فإذا هو يقول بصوت ضعيف: «لا تخافي يا سيدتي إني جئتك بالفرج، لا تخافي.»
Unknown page