الفصل السادس
طيبات طيبة
لما كان الغد وقد اطمأنت الآفاق، بشمس النيل ذات الإشراق، قامت طيبة على قدم وساق، شأن العواصم الكبيرة، عندما تحدث أمور خطيرة، فكانت عوالم الموظفين، ونوادي المحترفين، وهياكل الدين، ومجالس الأعالي والمتوسطين، ولا حديث لها إلا حوادث الأمس في القصر، ولا تساؤل إلا عن نبأ التنازل. هذا عدا المالكين الشوارع المحتلين للميادين، والغادين في الطرق العمومية، الرائحين من أهل الفراغ من الخاصة، وناس البطالة بين العامة، وكان أكثر انهيال هذه الجماهير على النقط القريبة من القصر، والمدانية لدار المحكمة، وللبناء المنعقد فيه مجلس الحكومة الأعلى.
وكانت الضابطة قد بثت الشرطة فلم تخل منها نقطة، وقد قامت بجنب أعوان السلطة شرطة أخرى متطوعة منتظمة خفية، أنشأها الأحرار لتسهر على حفظ نظام اليوم وتحمي صفوه أن يكدره القوم.
فبينما المدينة على هذه الحال من تواصل الزحام، واستمرار انهيال الأقدام، خرج الأمير وشقيقه ضحى على جوادين كريمين، وبينهما هودج الخطيبة السنية محمولا على الأعناق، تحيط بهذا الثالوث الكريم كوكبة من نخبة رجال الحرس الرمسيسي، وهو يسير قاصدا إلى المعبد بين إكبار الشعب وإجلاله، وبين ابتهاجه وابتهاله حتى وصله، وهنالك استقر بالأميرة الهودج ممتنعة عن الدخول، ودخل الأميران على «آمون» حجرته فصليا ثم قربا له القرابين، من كل غال ثمين، وانثنيا بعد ذلك خارجين فشيعا كما استقبلا بمزيد الحفاوة والتوقير، فركبا وأعاد الموكب المسير يؤم معرض الصناعة المستديم.
وكان إنشاء هذا المعرض في العاصمة باقتراح من الأمير؛ فلهذا كان كثير الاهتمام بإصلاحه، والسعي في نجاحه وفلاحه، وتلك شيمة للنفس الكريمة، أنها تحب آثارها وتبالغ لأعمالها في القيمة، فلما بلغه الموكب ترجل الأميران ونزلت الأميرة عن الهودج، ثم دخلوا جميعا، وهنالك أخذ «آشيم» يذكر لخطيبته ويصف، ويشرح ويعرف، وهي ترى من حسن الصناعة وجمالها، وتو آنس من معاني لطفها وجلالها، ما يبهر البصر، ويحير الفكر، والأمير يقول لها: جملة القول يا عزيزتي عن تقدم الصناعة ومبلغها من الإتقان في عهد أبي السعيد أنك إذا أخذت مثلا، عشرة من هذه الجعالي وتمعنت فيها، تبادر إلى ذهنك أن الصانع لها جميعا واحد، مع كون الأمر بخلاف، والجعالي لم تصنعها يد واحدة، بل أيد عشر، وإنما هو الإتقان في طباع كل صانع مصري، وتعلمين أن الإتقان، أعظم أسباب العمران، وأكبر دواعي الحضارة والتمدن.
حتى إذا فرغت الأميرة من هذه الزيارة المفيدة، رفع إليها أحد الصناع أولي الآثار، في تلك الدار، هدية؛ خاتما من ذهب ذا فص من العقيق الأبيض النقي، في حجم العدسة منقوش عليه صورة بحر وأمواج بينها فتاة تعالج الغرق، وكانت هذه الصورة آية في الإتقان، بل غاية ينتهي إليها في فن النقش الإمكان، فتقبلتها الأميرة متظاهرة بالشكر والامتنان، إلا أنها تشاءمت في نفسها؛ إذ كانت كثيرا ما ترى في منامها مناظر فظيعة من هذا القبيل تكون هي فيها محل الغرق.
ثم برح الجماعة، دار الصناعة، فساروا ميممين دار التحف الرمسيسية، وكانت تشتمل على ثمين الأشياء وغاليها، مما أهدي إلى الملك في مدة حكمه الطويلة، فرأت عذراء الهند في هذه الدار من العجائب والغرائب ما أنساها ذكر الخاتم، وما عليه وتلك الأحلام، التي طالما بغضت إليها طيب المنام، حتى لقد بلغ منها البشر والإيناس، أنها أخرجت يتيمة الصين التي كان «طوس» أهداها إليها يوم قدومها بالصفة الرسمية لمنفيس، فناولتها «آشيم» قائلة: وأنا أيضا أودع هذه اليتيمة في هذه الدار، هدية مني لمولانا الملك وتذكارا لزيارتي أنفس تذكار، فأخذها الأمير وتأملها، فإذا هو بتلك الصورة عينها؛ صورة الشؤم المنطبعة على المرآة، فاغتاظ وتهيج ودفعت به الحدة إلى أن ألقى سيدة الدرر في الأرض بقوة فذهبت ألف كسر.
ثم أخذ الأمير بيد خطيبته فخرجا والنجل الثاني يتبعهما، فركب الثلاثة وساروا في مواكبهم قاصدين حقول الملك في الضواحي، وهي بساتين واسعة تجري فيها الأنهار وتتخللها العيون، وقد أرصدها الملك لتربية سوائمه الخصوصية، واقتناء كثير من أجناس الحيوانات الأهلية والغير الأهلية، فكانت دليلا محسوسا على شدة عناية الملك بتربية المواشي، ومزيد اهتمامه بأمر صلاحها ونمائها، وهذا عن علم راسخ عنده بأن مصر واد لا حياة له بدون النبات والحيوان. فلما وصل الركاب الشريف إلى هذه الحقول التي كانت من الآثار الحرية بأن يسعى لها وتزار، دخل الأمراء الثلاثة فلبثوا فيها نحو ساعة بين تنزه وتفرج وتمش وتريض، وقد أعجبت الأميرة بها كثيرا، وكان على بعض تلك البساتين ذكر وأنثى من الظباء يافعان أبدعت الطبيعة شكلهما ، ووفتهما من الظرف قسطهما، وكانا في معزل يتداعبان ويتلاعبان فقر لعين العاشقين هذا المنظر الغرامي اللذيذ، وسأل «آشيم» عن زمن جلب ذينك الظبيين، فأجيب بأن الذكر ابن المحل، بخلاف الأنثى فإنها لم يؤت بها إلا أمس، وبأنهما ائتلفا لأول وهلة، فلا يمشيان إلا معا ولا يرعيان إلا من حشيشة واحدة.
ثم إن الأمير دعا إليه واحدا من البارعين في الصيد والقنص، وأمره بأن يطارد بعض الوحش بين يدي الأميرة؛ زيادة في تسلية خاطرها العالي، فانبرى الرجل يفعل إلا أن «آشيم» وعذراء الهند اشتغلا عنه بالحديث في أول الأمر، ثم تفرغا له ينظران فتكدر صفوهما بغتة؛ إذ رأيا ذاك الفظ الغليظ يطارد الذكر والأنثى المتقدم ذكرهما، فصاح به الأمير كف أيها الرجل، كف أيها الظالم، ولكن صدى الزجر لم يصل إلى الغشوم إلا وهو قد رمى فأصاب الذكر وانذعرت الأنثى لمصرع أليفها، فاستمرت تعدو طائشة نافرة حتى صدها نهر واسع شديد التيار، فسقطت فيه مندفعة بقوة العدو وكانت أنفاسها قد انقطعت من شدة التعب والنصب، فما بلغ الماء خيشومها حتى اختنقت للحين.
Unknown page