1
فازدادت الفكرة بهذا التشابه وضوحا في الأذهان، إذ تعاقبت على إنجلترا غزوتان جرمانيتان بعد انحلال المدينة الرومانية في بريطانيا، وكان بين الغزوتين فترة مداها خمسون عاما أو ستون، أما أولاهما فقد أصابت البلاد بتلف سريع، لكنها لم تلبث أن تصدى لها بطل من أبطال الفرسان هو «آرثر» فصد عن البلاد تلك الغزوة قبل أن تثبت على الأرض أقدامها، لكن لم تمض بعد ذلك بضع عشرات من السنين، حتى جاءت غزوة جرمانية أخرى كانت أكثر نجاحا وأدوم بقاء ... و«مل» هو بمثابة «آثر» في صد الهجمة الألمانية الأولى، وأساتذة أكسفورد هم الذين مكنوا للهجمة الثانية من البقاء.
سادت الفلسفة المثالية المطلقة في إنجلترا (وأمريكا) حتى سنة 1920م، وكان لا بد لمنطق التاريخ أن يغير مجرى الحوادث ليعود إلى الفلسفة الإنجليزية طابعها التجريبي مرة أخرى، لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا - معقل الفكر التجريبي - فيلسوف مثل «برادلي» ويخرج كتابيه المشهورين في «أصول المنطق» و«المظهر والحقيقة» ليقول - كما قال هيجل - إن العقل وحده مستعينا بمنطق فكره يستطيع أن ينبئنا عن العالم شيئا كثيرا دون حاجة منا إلى الحواس وإدراكها، بل يذهب في كتاب «المظهر والحقيقة» إلى أن الفاحص المدقق يرى ظواهر الكون كما تدركها الحواس متناقضة، وإذن فلا بد أن تكون وهما، وأما الكون على حقيقته - إذا كان حتما أن يتسق مع نفسه اتساقا منطقيا - فلا مندوحة لنا عن وصفه بخصائص أخرى غير الخصائص التي تدركها الحواس؛ فالكون على حقيقته يستحيل أن يكون محصورا في مكان أو محدودا بزمان، كما يستحيل أن يكون قوامه هذه الكثرة من الأشياء يرتبط بعضها ببعض بعلاقات، بل يستحيل أن يكون هنالك حتى هذه التثنية التي نزعمها بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ فما الكون - في أيه - إلا حقيقة واحدة مطلقة لا تجزؤ فيها ولا فواصل ولا حدود.
أقول إنه لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا فيلسوف مثالي مثل «برادلي» ليذهب هذا المذهب، وكان لا بد من رجعة للفكر الإنجليزي إلى سابق تياره التجريبي؛ لذلك أخذت بوادر القلق تبدو في كتابات مدرسة جديدة واقعية سيكتب لها الظهور والتفوق في الحلقة الثالثة من القرن العشرين، بعد أن تعمل عوامل الهدم عملها في الفلسفة المثالية التي رسخت بجذورها في الأرض منذ سنة 1880م، والتي كان قيامها على أرض إنجليزية نشازا يدعو إلى القلق، فنشر «جورج مور» سنة 1903م بحثه المشهور «دحض المذهب المثالي»،
2
وأخرج رسل سنة 1912م كتابه «مشكلات الفلسفة»،
3
وفي 1914م كتابه «علمنا بالعالم الخارجي»،
4
كما نشر آخرون هجمات أخرى على الفلسفة المثالية، مثل «برتشارد» في كتابه الذي ينقد فيه نظرية المعرفة عند «كانت»،
Unknown page