مقدمة
حياته
فلسفته
نصوص مختارة
مراجع عامة
مقدمة
حياته
فلسفته
نصوص مختارة
مراجع عامة
برتراند رسل
برتراند رسل
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
لست في الفلسفة تابعا «برتراند رسل»
Bertrand Russell
في كل ما يذهب إليه؛ ذلك أني قد حددت عقيدتي الفلسفية تحديدا جليا واضحا، وإني لأزداد إيمانا بصواب تلك العقيدة كلما ازددت قراءة ودراسة وتفكيرا، وليست هي بالعقيدة التي يأخذ «برتراند رسل» بكل تفصيلاتها، وإن تكن مسايرة لفكره في الاتجاه والهدف ومنهج البحث.
فأنا أميل بفكري نحو «الوضعية المنطقية» التي تحرم على الفيلسوف - باعتباره فيلسوفا؛ إذ قد يكون الفيلسوف عالما أيضا في هذا العلم أو ذاك - تحرم على الفيلسوف أن يقول عبارة واحدة ليدلي فيها برأي في الطبيعة أو الإنسان؛ لأن الرأي كائنا ما كان، هو من شأن العلماء وحدهم، يقولونه بعد ملاحظة علمية وتجارب يجرونها في المعامل. وعمل الفيلسوف الذي لا عمل له سواه، هو تحليل العبارات التي يقولها هؤلاء العلماء تحليلا يوضحها ويضبطها، وقد يحدث - بل إن هذا هو ما يحدث في معظم الأحيان - أن يتولى العالم نفسه توضيح عباراته وتحليلها، وعندئذ يكون هذا العالم فيلسوفا إلى جانب كونه عالما، لكنه قد يحدث أيضا أن ينصرف العالم إلى موضوع بحثه، دون أن يقف عند هذه الكلمة من كلماته أو تلك العبارة، فيتولى ذلك عنه فيلسوف مختص، وبهذا تصبح الفلسفة تحليلا صرفا، أو إن شئت فقل إنها تصبح «منطقا» بحتا، وتلقي عن عاتقها ذلك الحمل الثقيل الذي تصدت له فيما مضى، حمل الحديث عن الكون في أصوله وغاياته، وهو حديث لم ينته به الفلاسفة إلى شيء، وكان يستحيل عليهم أن ينتهوا إلى شيء؛ لأنه حديث في غير موضوع من هذه الموضوعات التي يجوز فيها الكلام على نحو منتج مفيد.
على أن «رسل» إن لم يكن واحدا من رجال «الوضعية المنطقية»، فهو على رأس طائفة من الفلاسفة المعاصرين، كانت هي التي خلقتها خلقا، وأوحت بها إيحاء مباشرا؛ لأنه منذ باكورة أعماله الفلسفية قد جعل تحليل المدركات العلمية شغله الشاغل، وبوجه خاص مدركات الرياضة، كالعدد واللانهاية؛ لأنه كان رياضيا ممتازا أولا، ففيلسوفا رياضيا ثانيا، فكانت تحليلاته تلك منبها قويا لجماعة من تلاميذه ومن المتأثرين به، أن يجعلوا التحليلات المنطقية للعبارات العلمية، بل للعبارات اللغوية بصفة عامة، هي وحدها المجال المشروع للفلسفة والفيلسوف، وهو رأي أدلى به «رسل» نفسه صراحة،
1
وإن يكن توسع في معناه، بحيث استباح لنفسه أن يكون صاحب مذهب إيجابي في الطبيعة، وفي الإنسان، مما يتناقض مع ذلك المبدأ بمعناه الدقيق.
ومهما يكن من أمر الاختلاف بين «برتراند رسل» وجماعة «الوضعية المنطقية» التي أنتمي إليها، فلهذا الفيلسوف من الجوانب الرئيسية - في عمله وفي شخصه - ما يقربه من عقلي ومن قلبي معا.
فهو - أولا - يريد ويلح في إرادته أن تكون الفلسفة علمية المنهج؛ بحيث تقلع عما تعودته من ضرب في التأملات التي تطير إلى أجواز السماء على جناحي خيال طامح، لكنه جامح، والمقصود بعلمية المنهج الفلسفي نقطتان رئيسيتان؛ أولاهما: أن يتناول الفيلسوف مشكلة جزئية واحدة، ولتكن هذه المشكلة - مثلا - عبارة واحدة من عبارات الكلام، لينتهي في تحليلها إلى نتيجة إيجابية، يصح أن يأتي بعده سواه، فيبني عليها عمله ونتائجه، وبهذا تصبح الفلسفة - كالعلم - عملا يتعاون عليه المتعاقبون، فيزداد بناؤها طابقا فوق طابق، ولا تعود - كما هي حالها على مر القرون السالفة - عملا فرديا، بمعنى أن يبني كل فيلسوف لنفسه بناءه كاملا شامخا؛ ليأتي من بعده فيقوضه تقويضا ليعيد لنفسه بناء جديدا، وهكذا دواليك، حتى لا ترى فرقا ملموسا من حيث التقدم والترقي بين بناء فلسفي يقيمه فيلسوف القرن العشرين، وبناء فلسفي قديم أقامه يوناني في القرن الخامس قبل الميلاد، بل كثيرا ما يرجح القديم الجديد عظمة وشموخا. إن هذا العمل الفردي إن جاز في الآداب والفنون، فهو لا يجوز في نتاج العقل من فلسفة وعلم، نعم يجوز للشاعر أو الفنان أن يعبر عن ذات نفسه كما يشاء، بغض النظر عن سابقيه، لكن مثل هذا الاستقلال الفردي لا يجوز أبدا في المجال العقلي.
وأما النقطة الثانية التي قصدنا إليها من علمية المنهج في التفكير الفلسفي، فهي الأداة التي نستخدمها في تحليلنا للمشكلة الجزئية التي نختارها، وأداة المعاصرين جميعا ممن يهتمون بالفلسفة التحليلية - وعلى رأسهم «رسل» - هي المنطق الرياضي الذي ينصب على العبارة الموضوعة تحت البحث، فإذا هي أقرب ما تكون إلى مسألة في الجبر أو الحساب، ولو كملت لنا هذه الأداة، لاستطعنا أن نحقق الأمل الذي كان يحلم به ليبنتز، وهو أن نتناول مشكلاتنا من هذه الزاوية الرياضية، بحيث يعود الاختلاف في الرأي أمرا ينحسم بالحساب، لا نقاشا حول ألفاظ غامضة المدلول لا ينتهي إلى نتيجة، ولو امتد خلال القرون.
وثاني الجوانب التي تقرب «رسل» من عقلي ومن قلبي، هو هذا الدفاع الحار الذي ينهض به في سبيل حرية الفرد من كل طغيان: طغيان التقاليد الاجتماعية، وطغيان الحكومات؛ فإني لأوشك أن أرى الصدق كل الصدق في دعوى «رسل» بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلها - في أرجاء العالم أجمع، وعلى اختلاف العصور - مؤامرة كبرى يراد بها الحد من حرية الفرد التي كان ينبغي أن تكون هي الأساس وهي المدار لكل نظام في اجتماع أو سياسة. وإن شئت فانظر في أي بلد من بلاد العالم إلى ما يسمونه «التربية» تجدها تسابقا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال «التربية» يسألون: ما الغاية من التربية؟ ثم يجيبون: هي إنتاج «المواطن الصالح»، وصلاحية المواطن هي دائما - كما ينبهنا «رسل» - الموافقة على النظم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى «الصلاحية» هو الثورة على تلك النظم، وإنه لمن عجب - كما يقول فيلسوفنا - «أنه بينما تستهدف الحكومات جميعا إخراج رجال من طراز يؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من نفس الطراز الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر ... فالأمم الغربية جميعا تمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان - يقينا - موضع ريبة من رجال البوليس السري في إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح.»
وثالث الجوانب التي تقرب هذا الفيلسوف من نفسي: هو هذه الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك والجدل؛ انظر مثلا كيف ترن عبارته بالنشوة، وهو يثبت أن الجزء ليس حتما أصغر من الكل الذي يحتويه؛ فالنقط التي في جزء من خط مستقيم مساوية للنقط في الخط كله؛ لأن كلتيهما لانهائية العدد، والأعداد الفردية وحدها مساوية للأعداد كلها من فردية وزوجية معا؛ لأنك لو وضعت سلسلة الأعداد كلها في صف، ثم وضعت الأعداد الفردية وحدها في صف تحته، استطعت أن تجد لكل عدد من السلسلة الأولى عددا يقابله من السلسلة الثانية ... ومثل هذه الفرحة أفرحها كلما تبين لي وجه الخطأ فيما يسلم به الناس تسليما أعمى.
قد يقال - كما قيل في رسل - إن مثل هذه النزعة انقلابية هدامة خطيرة، وإن صاحبها يكون في شخصيته شبيها ب «مفستوفوليس» شيطان «فاوست»، لكنها - في رأيي - ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغير الأفكار والأوضاع الاجتماعية التي قد تتحجر، فيظن الناس أن «صلابتها» تلك هي صلابة الصواب، واستحالة الخطأ. إن أصحاب هذه النزعة هم دائما بمثابة الفدائيين الذين يتسللون إلى حصون العدو، فيمهدون الطريق إلى دكها وتخريبها، والفرض هنا - بالطبع - هو أن ما يراد دكه وتخريبه ومحوه، بناء فاسد يستوجب التغيير والإصلاح. •••
أما بعد، فقد لبث برتراند رسل يكتب أكثر من ستين عاما، حاول خلالها أن يجيب عن أسئلة كثيرة، وأن يحل مشكلات شتى، وبديهي ألا يستقر على رأي واحد دائما إزاء نقطة معينة؛ ولذلك يتحتم على من يريد دراسته أن يتتبع أفكاره الرئيسية في تطورها وتغيرها، وألا يأخذ رأيا له في موضوع معين من كتاب معين على أنه الرأي الذي لم يتناوله صاحبه بعد ذلك بالتعديل أو التبديل.
وإنه لمما يلفت النظر أن فيلسوفنا لم يعرفه الناس بأهم إنتاجه؛ فالكتب التي سيخلد بها في تاريخ الفلسفة، مثل «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة» و«علمنا بالعالم الخارجي» و«تحليل العقل» و«تحليل المادة»، ليست هي الكتب التي أذاعت اسمه، وأشاعت شهرته، بل الذي فعل ذلك هو ما كتبه في الاجتماع والسياسة والتربية، لكنني حين كتبت هذا الكتاب، حاولت أن أهتم بالمهم من فلسفته، بغض النظر عن مدى ذيوعه بين أوساط القراء، وجعلت تتابع الفصول متمشيا - إلى حد كبير - مع التطور الفكري للفيلسوف، كما يظهر هذا التطور في رواية الفيلسوف عن نفسه، وهي التي تراها في الفصل الأول من هذا الكتاب.
فلعلي قد أصبت شيئا من التوفيق في تقديم هذا الفيلسوف المعاصر إلى القارئ العربي، تقديما يحصر إنتاجه الضخم في هذه الصفحات القلائل.
زكي نجيب محمود
حياته
الفيلسوف يروي عن نفسه
1
ماتت أمي وأنا في الثانية من عمري، وكنت في الثالثة حين مات أبي، فنشأت في دار جدي، لورد جون رسل، الذي أصبح فيما بعد «إيرل رسل»، ولم يكد يجيئني أحد بنبأ عن والدي، وهما لورد وليدي أمبرلي، حتى لقد شاع في نفسي إحساس بأن يكون في الأمر لغز غامض لقلة ما عرفته عنهما، فلما بلغت الحادية بعد العشرين أخذت في العلم بشيء من الخطوط الرئيسية في حياة أبي وأمي، وما كان لهما من رأي، فكم دهشت حين رأيتني قد اجتزت المراحل بعينها تقريبا، التي اجتازها أبي في تطور عقله وشعوره.
كان المنتظر لأبي أن يخوض الحياة السياسية جريا على تقليد في عائلة «رسل»، وكانت له في ذلك رغبة، فدخل البرلمان لفترة قصيرة (1867-1868م)، لكنه لم يكن له من المزاج، ولا من الرأي ما قد كان لا بد له منهما إذا أراد لنفسه في السياسة نجاحا، فما إن بلغ من عمره الحادية بعد العشرين، حتى أحس في نفسه كفرا بالمسيحية، وأبى أن يذهب إلى الكنيسة يوم عيد الميلاد، وقد جعل من نفسه تلميذا فصديقا ل «جون ستيوارت مل» الذي علمت منذ أعوام قليلة أنه كان لي أبا في العماد، وكان أبي وأمي قد تبعا «مل» في آرائه، ولم يقتصرا في ذلك على الآراء التي صادفت عند الناس قبولا نسبيا، بل جاوزاها إلى الآراء التي كانت عندئذ تصدم الناس في شعورهم؛ كحق المرأة في الانتخاب، وضبط النسل ، وما إلى ذلك.
أراد لي أبي أن أنشأ في الفكر حرا من القيود، وكذلك أراد لأخي، فأقام علينا وصيين عرفا بحرية التفكير، لكن جدي وجدتي معا سعيا لدى المحكمة المختصة أن تغض نظرها عن وصية أبي، فكان نصيبي أن أنشأ على العقيدة المسيحية؛ ذلك أني انتقلت بعد موت أبي إلى منزل جدي، وكان ذلك عام 1876م، وكان الجد عندئذ في الثالثة بعد الثمانين من عمره، وقد نال منه الضعف الشديد، فشملني بعطف متصل، ولم تبد منه علامة واحدة تدل على ضيقه بزياط الأطفال، لكنه كان أشد ضعفا من أن يكون له في تكويني أثر مباشر، ثم مات جدي عام 1878م، فتولتني بالتعليم جدتي التي ما فتئت تقدس ذكرى زوجها، فكانت أقوى أثرا في توجيهي من أي شخص آخر، غير أني منذ بلغت رشدي جعلت أختلف معها في كثير من آرائها.
كانت جدتي متزمتة العقيدة، صارمة الأخلاق، تزدري الترف ولا تأبه لطعام، تمقت الخمر، وتعد التدخين خطيئة، وعلى الرغم من أنها قد عاشت حياتها ضاربة في مناكب الأرض، حتى استكن جدي في مأواه، إلا أنها لم تكن بطبعها مقبلة على الدنيا، فكانت تقف من المال موقف من لا يكترث به، وهو موقف لا يستطيعه إلا الذين رزقوا منه ما يكفيهم.
أرادت جدتي هذه لأولادها ولأحفادها أن يحيوا حياة نافعة فاضلة، ولم يكن بها ميل أن ينصرف أولئك الأولاد والأحفاد في حياتهم إلى ما تواضع سائر الناس على تسميته بالنجاح، كلا، ولم ترد لهم أن يتزوجوا على أساس الكسب من زواجهم، وكانت بحكم عقيدتها البروتستانتية تؤمن بضرورة أن يكون للأفراد أنفسهم حق الحكم على الأشياء، بحيث يكون لضمير الفرد سلطة عليا، ولما بلغت الثانية عشرة من عمري، أهدت إلي جدتي إنجيلا (وما زلت محتفظا به إلى اليوم)، وكتبت على الورقة التالية لغلافه بعض ما أحبت من آياته، فمنها هذه الآية: «لا يجوز لك أن تتبع كثرة الناس في فعل الشر.» وهذه الآية: «كن قويا شجاعا فاضلا، لا تخف ولا يأخذنك اليأس؛ فربك المولى في رعايتك أينما ذهبت.» فكان لهاتين الآيتين أثر عميق في حياتي، ولا أحسب ذلك الأثر قد أصابه الوهن، حتى بعد أن أمسكت عن الاعتقاد في الله.
تحولت جدتي في السبعين من عمرها إلى عقيدة «الموحدين» (الذين ينكرون ربوبية المسيح)، وأخذت على نفسها في الوقت ذاته أن تنصر الحكم الذاتي لأيرلندة، وراحت تعارض الاستعمار في حرارة، ولقنتني وأنا بعد في نحو السابعة أن أسيء الظن ببلادي في حروبها التي أثارتها في أرض الأفغان وعلى قبائل الزولو، وأما عن احتلال مصر، فلم تحدثني عنه إلا قليلا؛ لأنه من فعل جلادستون الذي وقع من نفسها موقع الإعجاب، وإني لأذكر الآن نقاشا دار بيني وبين مربيتي الألمانية التي قالت لي عندئذ: «إن الإنجليز ما داموا قد دخلوا مصر، فلن يخرجوا منها مهما تكن وعودهم.» فرددت عليها في وطنية مشتعلة قائلا: «إن الإنجليز لم ينكثوا قط وعدا.» دار هذا النقاش منذ ستين عاما، لكن الإنجليز ما زالوا هناك. (كتب رسل هذا عن نفسه في يوليو 1943م.)
كانت مكتبة جدي هي غرفة دراستي وموجهة حياتي، فكان فيها من كتب التاريخ ما أثار اهتمامي، لا سيما أن لأسرتي في التاريخ الإنجليزي مكانا ظاهرا منذ أوائل القرن السادس عشر، ولقد درست التاريخ الإنجليزي على أنه صراع الشعب ضد الملك بغية الحصول على الحرية الدستورية، وأحسست بإعجاب خاص نحو «وليم لورد رسل» الذي أعدم في حكم شارل الثاني، ونتيجة هذه الدراسة في نفسي هي عقيدتي بأن الثورة - كائنة ما كانت - كثيرا ما تكون في ذاتها حقيقة بالثناء.
وحدث حادث عظيم في حياتي عندما كنت في عامي الحادي عشر، وهو أني بدأت دراستي لإقليدس الذي لم يزل عندئذ هو المتن المعترف به في دراسة الهندسة، وأحسست بشيء من خيبة الرجاء حين وجدته يبدأ هندسته ببديهيات لا بد من التسليم بها بغير برهان، فلما تناسيت هذا الشعور، وجدت في دراسته نشوة كبرى، حتى لقد ظلت الرياضة بقية أعوام الصبا تستوعب شطرا كبيرا جدا من اهتمامي، وقد كان اهتماما قائما على أكثر من عنصر واحد ؛ فهو من ناحية لذة خالصة لما استكشفته في نفسي من قدرة خاصة في الرياضة، وهو من ناحية أخرى نشوة لما لمسته من قوة في استدلال النتائج من مقدماتها، ثم هو من ناحية ثالثة شعور بالاطمئنان إزاء ما في الرياضة من يقين، لكن كان أهم من ذلك كله (وقد كنت لم أزل صبيا) أني آمنت بأن الطبيعة تعمل وفق قوانين الرياضة، وأن الأفعال الإنسانية - كحركات الكواكب - يمكن حسابها في دقة إذا ما أسعفتنا القدرة الكافية لذلك! فلما بلغت من عمري الخامسة عشرة انتهيت إلى نظرية شديدة الشبه بنظرية الديكارتيين، إذ شعرت باعتقاد الواثق أن حركات الأجسام الحية إنما تنظمها قوانين الديناميكا تنظيما تاما، وإذن فحرية الإرادة وهم الواهمين، لكنني وقد سلمت بوجود الشعور الواعي عند الإنسان على أنه حقيقة قائمة لا شك في صدقها، لم أستطع أن أذهب مع المادية مذاهبها، ولو أنني أحسست نحوها بعض الميل، لما فيها من بساطة تعليل، ولأنها تنبذ «الكلام الفارغ» في تفسير الكون، وكنت عندئذ لا أزال على عقيدتي في وجود الله؛ لأن برهان «العلة الأولى» قد بدا لي ممتنعا على الدحض.
هكذا لبثت حتى ذهبت إلى كيمبردج في سن الثامنة عشرة، وكنت قد عشت حياة معتزلة إلى حد بعيد؛ ذلك أني نشأت في داري على أيدي مربيات ألمانيات، ومديرات الدار كن ألمانيات أو سويسريات، ثم انتهى أمري بعد ذلك إلى مربين من الإنجليز، فلم أخالط الأطفال إلا قليلا، وحتى إن خالطتهم وجدتهم لا يثيرون من نفسي اهتماما بأمرهم، حتى إذا ما كنت في عامي الرابع عشر أو الخامس عشر، اهتممت بالدين اهتماما شديدا، وجعلت أقرأ مفكرا في البراهين التي تقام على حرية إرادة الإنسان، وعلى خلوده، وعلى وجود الله، وقد كان يشرف على تربيتي لبضعة أشهر أستاذ متشكك، فكنت أجد الفرصة سانحة لمناقشته في أمثال هذه المسائل، لكنه طرد من عمله، ولعلهم طردوه لظنهم أنه يهدم لي أساس إيماني، فإذا استثنيت هذه الأشهر التي قضيتها مع هذا الأستاذ وجدتني قد احتفظت بفكري لنفسي، أدونه في يوميات بأحرف يونانية، حتى لا يقرأها سواي، لهذا كنت أشقى شقاء من الطبيعي أن يعانيه مراهق معتزل عن الناس، وعزوت شقائي عندئذ إلى فقداني لإيماني الديني.
ظللت ثلاثة أعوام أفكر في الدين، معتزما ألا أدع أفكاري تتأثر بأهوائي، فانتهيت بفكري أولا إلى عدم الإيمان بحرية الإرادة، ثم انتهيت إلى نبذ فكرة الخلود، لكنني ظللت على عقيدتي في وجود الله، حتى أتممت عامي الثامن عشر، وعندئذ قرأت في الترجمة الذاتية التي كتبها مل عن حياته، هذه العبارة: «لقد علمني أبي أن سؤالي: «من خلقني؟» ليس بذي جواب؛ لأنه يثير على الفور سؤالا آخر: «ومن خلق الله؟»» وفي اللحظة التي قرأت فيها تلك العبارة، استقر مني الرأي على أن برهان «العلة الأولى» على وجود الله برهان باطل.
أكثرت من القراءة في تلك الأعوام، لكنها لم تكن قراءة موجهة، ولذلك ذهب كثير منها بغير جدوى، فقد قرأت مقدارا كبيرا من الشعر الرديء، وبخاصة شعر «تنسن» و«بايرون»، لكني وقعت آخر الأمر، وأنا في السابعة عشرة من عمري، على «شلي» الذي لم يكن قد أنبأني به أحد، فظل «شلي» لأعوام كثيرة هو الرجل الذي أحببت أكثر من أي رجل آخر بين عظماء الماضي، ثم قرأت كثيرا ل «كارلايل»، وأعجبت بكتابه «الماضي والحاضر»، لكني لم أحب كتابه عن «الملابس»، وأما الرجل الذي كدت أتفق معه في الرأي اتفاقا تاما فهو «مل»، وكان لكتبه «الاقتصاد السياسي» و«الحرية» و«خضوع المرأة» أثر عميق في نفسي، وعلقت على كتابه في المنطق تعليقا مفصلا، لكنني لم أستطع قبول رأيه بأن قضايا الرياضة تعميمات من التجربة، وإن كنت لم أعرف ماذا يمكن لقضايا الرياضة أن تكون إذا لم يكن مصدرها التجربة.
حدث ذلك كله قبل ذهابي إلى كيمبردج، ولو استثنيت الثلاثة الأشهر التي كان يشرف علي خلالها ذلك الأستاذ المتشكك الذي أسلفت ذكره، قلت إني لم أكن قد وجدت حتى ذلك الحين من أعبر له عما يجول بخاطري من أفكار، وقد أخفيت شكوكي الدينية عن أهلي، ذلك أني قلت مرة لمن كان في الدار إني مؤمن بالمذهب النفعي في الأخلاق، فقابلوني بعاصفة من السخرية حملتني على أن أمسك عن التعبير عن فكري أمام أهلي.
فلما ذهبت إلى كيمبردج انفتح أمامي عالم جديد من نشوة ليس لها حدود؛ إذ وجدت للمرة الأولى أنني إذا ما صرحت بفكري، صادف عند السامعين قبولا، أو كان عندهم - على الأقل - جديرا بالنظر، كان «وايتهد» هو الذي اختبرني في امتحان الدخول، وقد ذكرني لكثيرين ممن يكبرونني بعام أو بعامين، وكان من نتيجة ذلك أنه لم يمض أسبوع واحد، حتى التقيت بمن أصبحوا بعد ذلك أصدقاء العمر كله، كان «وايتهد» عندئذ في الجامعة «زميلا» و«محاضرا». وكان طيب القلب إلى حد يبعث على الدهشة، لكنه كان يكبرني بعدد كبير من السنين، بحيث لم يكن مستطاعا أن أتخذ منه صديقا قريبا إلا بعد أن انقضت بضع سنين، والتقيت بكثيرين ممن كانوا في مثل سني، يتميزون بقدرتهم العقلية وتحمسهم وأخذهم الأمور مأخذ الجد، وكانوا يتناولون باهتمامهم أمورا كثيرة خارج نطاق عملهم الجامعي، فيولعون بالشعر والفلسفة، ويناقشون السياسة والأخلاق، وشتى نواحي العالم الفكري، فكنا نجتمع أماسي أيام السبت لندخل في مناقشات تطول حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم نلتقي على إفطار متأخر صباح الأحد، ثم نخرج معا للمشي بقية اليوم، فلم يكن الشبان الممتازون عندئذ قد اتخذوا لأنفسهم وجهة النظر المشوبة بالعجرفة والتشاؤم كالتي انتابت زملاءهم بعد ذلك بأعوام، وشاعت في كيمبردج على أنها البدع الجديد، وكان المسئول عن إشاعة هذه النظرة المتشائمة فيما بعد هو «ليتن ستريتشي»، لا، لم يكن الشبان الممتازون في كيمبردج على عهدنا بهذا التشاؤم وهذه العجرفة، بل نظروا إلى العالم نظرة الأمل، وبدا العالم في أعينهم بغير تشويه، واعتقدنا جميعا اعتقاد الواثق بأن التقدم الذي ظفرت به الإنسانية إبان القرن التاسع عشر سيمضي في طريقه قدما، وأنه في مستطاعنا نحن أن نضيف إلى ذلك التقدم قسطا جديدا له قيمته، لقد كانت أياما سعيدة تلك الأيام، وما أظن الشبان الذين نشئوا منذ عام 1914م بقادرين على تصور تلك السعادة كيف تكون.
كان «ماكتاجارت» بين أصدقائي في كيمبردج، وهو الفيلسوف الهيجلي، وكذلك كان من أصدقائي «لويس دكنسن» الذي أحبه الجميع لدماثة خلقه، و«شارلز سانجر» عالم الرياضة الممتاز الذي تحول بعدئذ إلى دراسة القانون، ثم أخوان شقيقان هما «كرومتن وثيودور ليوولن ديفز»، وهما ابنا أحد رجال الدين، وأبوهما هذا هو أحد اثنين ترجما معا جمهورية أفلاطون ترجمة معروفة، أعني ترجمة «ديفزوفون»، كان هذان الأخوان أصغر وأقدر أسرة أفرادها سبعة، كلهم غاية في الامتياز، وكانت لهما قدرة نادرة على الصداقة، راغبان أشد الرغبة في أن يكونا نافعين للعالم الذي يعيشان فيه، لا يباريهما أحد فطنة، غير أن أصغرهما «ثيودور» غرق في الحمام، ولم يكن بعد قد جاوز المراحل الأولى من سيرة لامعة في خدمة الحكومة، إنني لم أصادف قط رجلين لهما ما كان لذينك الأخوين من حب عميق في نفوس كثير من الأصدقاء، كذلك كان بين من التقيت بهم كثيرا إخوة ثلاثة من أسرة «تريفليان» هم أبناء أخت «ماكولي»، اشتغل أكبرهم بالسياسة عضوا في حزب العمال، لكنه استقال من حكومة العمال حين قصرت في بلوغها من الاشتراكية المدى الذي يرضيه، وأما ثاني الإخوة الثلاثة فقد أصبح شاعرا، نشر - بين كتب أخرى - ترجمة لشعر «لوكريتس» تدعو إلى الإعجاب، وظفر ثالثهم - جورج - بالشهرة مؤرخا، وكان «جورج مور» يصغرني بأعوام قلائل، وقد كان له فيما بعد أبعد الأثر في توجيه فلسفتي.
كانت مجموعة الأصدقاء الذين صحبتهم شديدة التأثر ب «ماكتاجارت»، الذي حملنا بفطنته على دراسة الفلسفة الهيجلية، وقد علمني كيف أنظر إلى الفلسفة التجريبية الإنجليزية نظرة ترى فيها فجاجة وسذاجة، وكنت أميل إلى العقيدة بأن هيجل (وكذلك «كانت» بدرجة أقل) يتصف بعمق هيهات أن تجد له مثيلا في «لك» و«باركلي» و«هيوم» (أئمة الفلسفة الإنجليزية)، بل هيهات أن تجد له مثيلا عند الرجل الذي كنت قد اتخذته لنفسي قبل ذلك إماما روحيا، وأعني به «مل»، كنت في الثلاثة الأعوام الأولى من حياتي في كيمبردج أكثر شغلا بالرياضة من أن أجد فراغا أقرأ فيه «كانت» أو «هيجل»، أما في السنة الرابعة، فقد انصرفت إلى الفلسفة باهتمامي، وكان أساتذتي فيها هم «هنري سدجوك» و«جيمز وورد» و«ستاوت»، وكان «سدجوك» بين هؤلاء يمثل وجهة النظر البريطانية في الفلسفة، وهي وجهة أظنني قد ألممت بها، وجمعت أطرافها، ولذلك لم يكن له عندي من التقدير بادئ ذي بدء بمثل ما كان له عندي آخر الأمر، وأما «وورد» الذي أحببته حبا شديدا، فقد شرح لي الفلسفة الكانتية شرحا مهد الطريق أمامي لدراسة «لوتزه» و«سجفرت»، وأما «ستاوت» فقد كان عندئذ مشيدا ب «برادلي» ونبوغه، حتى لقد قال عنه حين أخرج «برادلي» كتابه «المظهر والحقيقة» إنه قد عرض بكتابه هذا فلسفة الوجود عرضا لا يمكن لإنسان من البشر أن يبزه فيه، وكان «ستاوت» و«ماكتاجارت» معا هما اللذان جعلاني هيجلي النظر، وإني لأذكر لحظة ذات يوم من عام 1894م، حينما كنت سائرا في شارع «ترنتي لين» رأيت فيها بلمحة واحدة من لمحات فكري (أو حسبتني قد رأيت) أن البرهان الوجودي على حقيقة الله برهان سليم، فقد خرجت يومئذ لأشتري علبة تبغ، وبينا كنت في طريق عودتي، قذفت بالعلبة فجأة إلى أعلى، وصحت وأنا ألقفها من الهواء قائلا: «الله أكبر! إن البرهان الوجودي برهان سليم.» عندئذ أقبلت على قراءة برادلي بشغف عظيم، ونزل من نفسي منزلة لم ينزلها فيلسوف سواه.
غادرت كيمبردج عام 1894م، وأنفقت بعد ذلك زمنا طويلا خارج بلادي، فلبضعة أشهر من عام 1894م اشتغلت ملحقا شرفيا في السفارة البريطانية بباريس، حيث كان من واجباتي أن أنسخ الرسائل المطولة لإقناع الحكومة الفرنسية بأن جراد البحر (اللوبستر) ليس من فصيلة السمك، وقد أجابت الحكومة الفرنسية بأنه كان من السمك في سنة 1713م، أي في السنة التي عقدت فيها معاهدة «أوترخت»، لم أجد في نفسي رغبة في السلك السياسي، وتركت السفارة في ديسمبر سنة 1894م، وعندئذ تزوجت وقضيت الشطر الأكبر من سنة 1895م في برلين أدرس الاقتصاد والديمقراطية الاشتراكية الألمانية، ولما كانت زوجة سفيرنا هناك ابنة عمي، فقد دعيت مع زوجتي إلى عشاء في السفارة، لكن زوجتي ذكرت في الحديث أننا قد حضرنا اجتماعا اشتراكيا، فأغلقت السفارة البريطانية بعدئذ من دوننا أبوابها، وكانت زوجتي أمريكية من مدينة فيلادلفيا، فقضينا في أمريكا ثلاثة أشهر من عام 1896م، وزرنا أول ما زرنا هناك منزل الشاعر «وولت وتمان» في مدينة كامدن من ولاية نيوجرسي، إذ كانت زوجتي تعرفه حق المعرفة، وكنت أنا معجبا به أشد الإعجاب، إلا أن هذا الارتحال قد عاد علي بأكبر الفائدة؛ لأنه أبرأني من مرض النظرة الإقليمية الذي أصابتني به كيمبردج، فقد أتيح لي بصفة خاصة أن أطلع على مؤلفات «فيشتراس» الذي لم يذكره لي أبدا أحد من أساتذتي في كيمبردج، ثم استقر بنا المقام بعد هذا الارتحال في كوخ لعامل في مقاطعة سسكس في إنجلترا، وقد أضفنا إلى الكوخ غرفة فسيحة للعمل، وكان لي عندئذ من المال ما يكفيني، بحيث أعيش في ميسرة بغير حاجة إلى عمل أرتزق منه؛ ولذلك استطعت أن أنصرف بفراغي كله إلى الفلسفة والرياضة، ما عدا الأماسي، إذ كنا نملؤها بقراءة التاريخ قراءة مسموعة الصوت.
كانت لي بين عامي 1894م، 1898م عقيدة في إمكان البرهنة بالفلسفة الميتافيزيقية على أشياء كثيرة تقال عن الكون، وهي أشياء أوهمني شعوري الديني عندئذ بأنها موضوعات هامة، وانتهى بي قراري إلى أن أتجه بحياتي إلى الفلسفة، وقدمت رسالة أحصل بها على درجة «الزمالة»، جعلت موضوعها أسس الهندسة، فصادفت الرضا عند «وورد» و«وايتهد»، ولو لم يثنيا عليها لكنت غيرت اتجاهي إلى دراسة الاقتصاد التي بدأتها في برلين، فإني لأذكر ذات صباح إذ كنت سائرا في متنزه «تير جارتن» في برلين كيف وضعت لنفسي خطة مقتضاها أن أكتب سلسلة من الكتب في فلسفة العلوم، صاعدا بها صعودا متدرجا نحو ما هو أكثر تعينا، فأبدأ بتجريد الرياضة، ثم أنتقل خطوة خطوة إلى غاية التعين في علم الحياة (البيولوجيا)، وكذلك رجوت عندئذ أن أكتب سلسلة أخرى من الكتب أعالج بها المشكلات الاجتماعية والسياسية ، بادئا هذه المرة بالعلوم المتعينة منتهيا بما هو مجرد، ثم أقيم آخر الأمر بناء على غرار ما قد صنع هيجل، فأكتب موسوعة أجمع فيها بين النظر والتطبيق، تلك خطة أوحى بها إلي هيجل، فلما انحرفت بفلسفتي بعدئذ عن الاتجاه الهيجلي، بقي لي شيء من تلك الخطة الأولى، ألا ما كان أهمها لحظة، تلك التي صممت لنفسي فيها ذلك البرنامج! وما أزال حتى الآن أحس بذاكرتي ضغطة قدمي على الثلج الذائب، وأشم الأرض اللينة الرطبة التي كانت بشيرا بزوال الشتاء.
لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا؛ من ذلك أني قرأت كتاب هيجل «المنطق الأكبر»، فكان رأيي فيه عندئذ - ولا يزال هو رأيي إلى اليوم - أن كل ما قاله هيجل عن الرياضة كلام فارغ خرج من رأس مهوش، كذلك حدث في ذلك العام ما جعلني أرفض براهين «برادلي» التي أراد بها أن ينفي التكثر في الأشياء لنفيه وجود ما بينها من علاقات، كما رفضت كذلك الأسس المنطقية للمذهب الواحدي، وكرهت النظرة الذاتية التي ينطوي عليها «الحس النقدي» في فلسفة كانت، ولولا تأثير «جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ، فقد اجتاز «جورج مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، لكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال برادلي عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف، إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك الذوق الفطري في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق الذوق الفطري فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها، ولكن ذلك لم يمنعنا عندئذ من الاعتراف أيضا بوجود عالم من المثل الأفلاطونية فيه كثرة، وليس يحده زمن، وهكذا تغير العالم أمام أعيننا، فبعد أن كان هزيلا مقيدا بقواعد المنطق، انقلب فجأة ذا خصوبة وتنوع ومتانة، خذ الرياضة - مثلا - فلماذا لا تكون صادقة في ذاتها صدقا كاملا دون أن نلجأ إلى حسبانها مجرد مرحلة فكرية تؤدي إلى ما بعدها، ولا يكمل صدقها إلا بغيرها من المراحل؟ لقد عرضت جانبا من هذا الرأي في كتابي عن «فلسفة ليبنتز»، وهو كتاب جاء وليد المصادفة؛ ذلك أن «ماكتاجارت» الذي كان مفروضا له أن يحاضر عن ليبنتز في كيمبردج عام 1898م، رغب في السفر إلى نيوزيلانده لزيارة أسرته، فطلب مني أن أحل محله في هذه المحاضرات، فكانت بالنسبة إلي مصادفة سعيدة.
وجاء عام 1900م، فكان أهم عام في حياتي الفكرية، وأهم ما حدث لي فيه زيارتي للمؤتمر الدولي للفلسفة في باريس؛ فقد كانت تقلقني الأسس التي تقوم عليها الرياضة منذ اليوم الذي بدأت فيه دراسة إقليدس، وعمري لم يزد على أحد عشر عاما، ولما أخذت بعد ذلك في قراءة الفلسفة، لم أجد ما يرضيني عند «كانت» أو عند التجريبيين، فلم أطمئن لقول «كانت» عن القضية الرياضية إنها قبلية تركيبية، ولا رضيت بما قاله التجريبيون من أن علم الحساب مؤلف من تعميمات جاءتنا بها التجربة، وذهبت إلى ذلك المؤتمر في باريس، فتأثرت بما لمسته خلال المناقشات من دقة عند «بيانو» وتلاميذه، وهي دقة لم أجدها في سواهم، فطلبت منه أن يطلعني على مؤلفاته فاستجاب، ولم أكد أدرس فكرته دراسة شاملة، حتى رأيتها توسع نطاق الدقة التي ألفناها في علوم الرياضة، بحيث تشمل موضوعات أخرى لبثت حتى ذلك الحين نهبا للغموض الفلسفي! فأقمت بنائي على الأساس الذي وضعه «بيانو»، وأضفت من عندي فكرة «العلاقات»، ولحسن حظي وجدت «وايتهد» راضيا عن منهج البحث الجديد، مدركا لأهميته، فلم نلبث إلا قصيرا، حتى بدأنا نتعاون معا على تحليل موضوعات معينة؛ كتعريف التسلسل، والأعداد الأصلية، والأعداد الترتيبية، ورد الحساب إلى أصول في المنطق، وقد أصبنا التوفيق نجاحا سريعا بعد نجاح لمدة عام تقريبا، نعم كان «فريجه» قد أدى بالفعل كثيرا مما عملناه، ولكننا في البداية لم يكن لنا بذلك علم، وقد كان نصيبي الذي أديته في كتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا) نتيجة عرضت لي بادئ الأمر عرضا، وذلك حين كنت ماضيا في دحض «كانت».
في شهر يونيو من سنة 1901م انتهت هذه الفترة التي امتلأت بنشوة أشبهت النشوة في شهر العسل؛ فقد كان «كانتور» أقام برهانا على أن الأعداد الأصلية لا تنتهي عند عدد يكون بمثابة «العدد الأكبر»، الذي ليس بعده عدد أكبر منه، فطبقت هذا البرهان نفسه على أي مدرك كلي، فانتهيت إلى تناقض قائم في المدرك الكلي، حين لا يكون هو نفسه أحد الأفراد الجزئية المنطوية تحت معناه، وسرعان ما تبين لي أن هذا التناقض إن هو إلا واحد من مجموعة متناقضات ليس لها نهاية ... جاهدت في إزالة هذه المتناقضات، وكنت أظن بادئ ذي بدء أن الأمر لا يستعصي على الحل، لكن سرابا ضللني بعد سراب، فلم أتقدم نحو هدفي خطوة واحدة خلال عامين كاملين (1903-1904م)، حتى إذا ما كان الربيع من سنة 1905م قامت في وجهي مشكلة جديدة ألفيتها ممكنة الحل، فكان حلها بمثابة بصيص من نور، نحو أمل في التغلب على المشكلات الأولى، أما هذه المشكلة الجديدة التي أنارت لي الطريق، فهي مشكلة العبارات الوصفية؛ إذ أوحت إلي الطريقة التي حللتها بها بمنهج جديد.
لقد كنت أول أمري من أتباع المذهب الواقعي، وأنا أستعمل كلمة «الواقعية» هنا بالمعنى الذي قصد إليه المدرسيون في العصور الوسطى بالنسبة إلى المذهب الأفلاطوني؛ إذ «الواقعية» بهذا المعنى تذهب إلى أن الكلمة الكلية لها مسمى قائم بذاته إلى جانب الأفراد الجزئية التي تنطوي تحت ذلك الكلي، أقول إني كنت أول أمري واقعيا بهذا المعنى، فظننت - مثلا - أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3 ... إلخ) أشياء موجودة وجودا قائما بذاته، وكل الفرق بين وجودها ووجود سائر الأشياء التي نصادفها هو أن الأعداد وجودها غير مشروط بزمن، فلا يكون لها ماض وحاضر ومستقبل، بل هي ثابتة الحقائق لا يتعاورها تغير الزمن، فلما هدانا التحليل إلى رد الأعداد إلى فئات من فئات، لم تعد كائنات موجودة وجودا مستقلا كما حسبتها أول الأمر، بل أصبح الموجود هو فئات من أشياء، أي إن الموجود فعلا هو المعدود لا العدد نفسه، وبينما كنت في شغل من تحليل الأعداد، كان الفيلسوف النمساوي «مينونج» - الذي تابعت إنتاجه باهتمام - يطبق براهين المذهب الواقعي (وكلمة الواقعية هنا أيضا مستخدمة بمعناها الأفلاطوني الذي شاع بين مدرسيي العصور الوسطى) على كل عبارة وصفية، بحيث انتهى إلى القول بأن أي عبارة فيها وصف لشيء، فلا بد أن نفترض لذلك الشيء وجودا مهما يكن نوع ذلك الوجود؛ لأنه لو لم يكن موضوع الحديث موجودا لما أمكن التحدث عنه حديثا مفهوما، خذ مثلا عبارة مثل «جبل الذهب غير موجود»، فهذه لا شك قضية صحيحة، وأساس صدقها هو أنه لا وجود لجبل من ذهب، لكن النقطة الهامة هنا هي: كيف استطعنا أن نصف هذه العبارة بالصدق ما لم يكن موضوعها دالا على شيء؟ إنه إذا لم يكن ذا دلالة لأصبحت عبارتنا غير ذات معنى، ولاستحال بالتالي أن نحكم عليها بالصدق، من ذلك يستنتج «مينونج» أن «جبل الذهب» موجود، وإن لم يكن وجوده واقعا في عالم الأشياء المحسوسة، وجوده ضمني، لكنه على كل حال وجود حقيقي، وهكذا قل في سائر العبارات التي تتحدث عن موضوعات خيالية، فلم يقنعني هذا القول من «مينونج»، واشتدت بي الرغبة في التخلص من هذا العالم الوهمي الذي خلقه «مينونج»، وملأه بصنوف الموجودات، فلما تناولت الأمر بالبحث انتهيت إلى نظريتي في العبارات الوصفية، والمهم فيها هو أنها كشفت عن حقيقة، وهي أننا إذا ما حللنا جملة ذات معنى، فلا يجوز لنا الافتراض بأنه ما دامت الجملة في مجملها ذات معنى، فلا بد كذلك أن يكون لكل جزء من أجزائها معناه القائم بذاته؛ فلفظتا «جبل الذهب» يمكن أن تكون جزءا من عبارة ذات معنى مفهوم، لكن اللفظتين وحدهما مستقلتين عن عبارتهما لا يتحتم أن تكونا دالتين على شيء، وما لبثت بعد ذلك أن تبينت أن الأسماء الكلية كلها، أعني الرموز الدالة على فئات، إن هي إلا عبارات وصفية، وحكمها حكم تلك العبارات، في أن الكلمة منها تكون ذات معنى، وهي جزء من جملة، لكنها لا تدل بذاتها على شيء إذا استقلت عن جملتها، وقامت بذاتها.
وأدت بي نظريتي في العبارة الوصفية إلى تناول مشكلة المدلول والمعنى - وهنا أريد أن تنصرف كلمة «المدلول» للألفاظ المفردة، وكلمة «المعنى» للعبارات - وإنها لمشكلة معقدة، فتناولتها بالبحث في كتابي «بحث في المدلول والصدق» (1940م)، وكان لا بد أن يسوقني البحث إلى علم النفس، بل إلى علم وظائف الأعضاء؛ فإنني كلما ازددت تفكيرا فيها قل اعتقادي بأن المنطق مستقل بذاته تمام الاستقلال، ولما كان المنطق - في رأيي - علما أبعد تقدما وأكثر دقة من علم النفس، كان خيرا لنا بالبداهة أن نلجأ إلى المنطق في حل مشكلاتنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وما أمكن بحثه بطرائق المنطق لا ينبغي أن نلجأ فيه إلى علم النفس مثلا ... ها هنا أدركت أن «نصل أوكام» وسيلة منهجية مفيدة.
كان «نصل أوكام» في صورته الأولى ميتافيزيقيا؛ إذ كان مبدأ يراد به الاقتصاد في عدد الكائنات، بمعنى أن كل كائن يمكن الاستغناء عن افتراض وجوده، فلا بد من بتره كأنما نبتر الزائدة بنصل، كنت أنظر إلى «نصل أوكام» - وما زلت - أنظر إليه هذه النظرة أثناء اشتغالي بكتاب «أسس الرياضة» (البرنكبيا ماثماتكا)؛ فعند أفلاطون أن الأعداد الأصلية (1، 2، 3، 4، ...) كائنات قائمة بذواتها، غير أنها كائنات لازمنية، وهي هكذا في كتاب «فريجه»؛ «أصول الحساب»، فلما انتهى بي تحليل العدد إلى اعتباره فئة من فئات، ثم لما تبينت أن الرموز الدالة على فئات إنما هي «رموز ناقصة» - أي إنها ليست بذات معنى في ذاتها، ولا يكون لها مدلولها إلا إذا جاءت جزءا من عبارة - آمنت بأنه ليس ثمة ضرورة عقلية تحتم علينا أن نجعل الأعداد الأصلية كائنات مستقلة بذواتها، ولم يكن برهاني قائما على شيء من الميتافيزيقا، بل جعلت أساس البحث شيئا آخر، هو ما أسميه «بالألفاظ الأولية»، أعني الحد الأدنى من الكلمات التي يمكن جعلها أساسا لكل علم من العلوم، وهي الكلمات التي لا تغني فيها واحدة عن أخرى، ولا يمكن تعريف واحدة بواسطة أخرى، أضرب لذلك مثلا ما صنعه «بيانو» حين أرجع لغة علم الحساب كلها إلى ألفاظ أولية ثلاثة، فجاء بعده «فريجه» كما جاء كذلك كتابنا في أسس الرياضة (برنكبيا ماثماتكا)، وأوضحنا كيف أنه حتى هذه الألفاظ الثلاثة لا ضرورة لافتراضها أساسا نقيم عليه بناء العلوم الرياضية، إذ يمكن ردها وتحليلها إلى الألفاظ الأولية اللازمة لبناء علم المنطق، وبهذا تصبح الرياضة استمرارا للمنطق، ويكون كلاهما قائما على مجموعة واحدة معينة من الألفاظ الأولية، هي التي لا بد منها للسير في قضايا المنطق أولا، فقضايا الرياضة بعد ذلك، وهكذا ترى استغناءنا عن افتراض وجود الأعداد ككائنات قائمة بذواتها، وردها إلى ألفاظ أولية مستخدمة في علم المنطق، ترى كل ذلك قائما على تحليل منطقي لا شأن له بالميتافيزيقا ومجالها. •••
إنك لو استثنيت ما كتبته في المنطق الرياضي، جاز لك القول بصفة عامة بأن سائر كتبي لا تمثل وجهة نظري تمثيلا كاملا؛ فنظرية المعرفة - مثلا - التي عنيت بها عناية كبرى، فيها ما يدل على أساس ذاتي بدرجة لم يكن منها بد؛ لأن السؤال الذي طرحته لأجيب عنه هو: «كيف عرفت أنا ما أعرفه؟» وإذن فنظرية المعرفة لا مفر لها من أن تجعل نقطة ابتدائها هي الخبرة الذاتية، خبرتي أنا، ماذا أدرك من خبراتي الباطنية الذاتية، بل إن هذا الجانب الذاتي من نظرية المعرفة لا يقتصر على نقطة البداية وحدها، بل يجاوزها فيشمل الخطوات الأولى من طريق البحث في الموضوع؛ لأن تلك الخطوات الأولى هي أيضا منحصرة في الذات العارفة، ولما كنت فيما أخرجته من مؤلفات لم أجاوز حتى الآن ببحثي تلك المراحل الأولى من عملية المعرفة، فقد بدوت أمام القراء أكثر ذاتية من حقيقة موقفي، فلست أنا بالفيلسوف المثالي الذي يجعل الحقيقة محصورة كلها في الذات العارفة، ولا أنا بواحد ممن يذهبون مذهب انحصار الذات في نفسها، بحيث لا يكون أمام الإنسان سبيل إلى الخروج عن ذاته إلى حيث العالم الخارجي، بل إني مؤمن بعالم الفيزيقا إيماني بعالم النفس، ومن الأمور التي أراها واضحة بذاتها أن معرفتي تبدأ بخبرتي، والخبرة حالة ذاتية باطنية، وكل ما ليس في حدود خبرتي المباشرة لا سبيل إلى العلم به إلا عن طريق الاستدلال، ويظهر لي أن الفلاسفة - خشية منهم أن يقعوا في مأزق انحصار الذات في نفسها - لم يواجهوا مشكلة المعرفة الإنسانية مواجهة جادة، فتراهم إما تركوا المبادئ الضرورية لعملية الاستدلال، غامضة بحاجة إلى توضيح، أو أنكروا الفارق الذي يميز المعرفة المستمدة من الخبرة المباشرة من المعرفة المستمدة بالاستدلال، فإذا ما أتيح لي الفراغ الذي يمكنني من الاضطلاع ببحث جاد في مشكلة فلسفية، فسيكون موضوعي هو هذه المحاولة في سبيل تحليل العملية الاستدلالية التي تبدأ من طرف الخبرة الذاتية، وتخرج منها إلى عالم الفيزيقا، مفترضا الصدق في تلك الاستدلالات، ثم أبحث عن المبادئ التي بمقتضاها تكون استدلالاتنا من خبراتنا الذاتية إلى الطبيعة الخارجية صادقة، قد يكون الحكم بصدق المبادئ المتضمنة في عملية الاستدلال أمرا مرهونا بالهوى، لكن الذي لا شأن له بأهوائنا، والذي لا بد لنا من قبوله، هو ضرورة الأخذ بهذه المبادئ الاستدلالية إذا أردنا ألا ينحصر وجودنا في حدود ذواتنا وخبراتها المباشرة.
وأنتقل الآن إلى ذكر ما حاولت أداءه في المشكلات الاجتماعية، فلقد نشأت في محيط سياسي، وكان كبار أسرتي يريدون لي أن أسير في حياتي سيرة سياسية، غير أن الفلسفة استثارت من اهتمامي أكثر مما فعلت السياسة، ولما تبين لي في وضوح أن في نفسي استعدادا لها، قررت أن أجعلها مشغلتي الرئيسية في الحياة، وقد آلم جدي هذا الاتجاه مني، حتى لقد أشار وهو يحدثني ذات يوم إلى بحثي في أسس الهندسة بقوله في استخفاف: «هذه الحياة التي عشتها حتى الآن!» كأنما يريد أن يقول لي: هذه الحياة التي أضعتها سدى، ثم أضاف إلى ذلك قائلا في صوت المتحسر: «أوه يا «برتي»، أصحيح ما سمعته أنك تكتب كتابا آخر؟!» ومهما يكن من أمر انصرافي إلى الفلسفة ، فقد لبث في نفسي أثر قوي يميل إلى السياسة أيضا، فلما كنت في برلين عام 1895م درست الديمقراطية الاشتراكية الألمانية التي أحببتها لمناهضتها للقيصر، لكني كذلك كرهتها؛ لأنها - عندئذ - كانت تمثل الماركسية على أصولها، وظللت حينا متأثرا ب «سدني وب» في ميلي إلى النزعة الاستعمارية إلى الحد الذي جعلني أناصر حرب البوير، لكنني أقلعت عن هذه الاتجاه إقلاعا تاما سنة 1901م، ومنذ ذلك التاريخ لم أفتأ أحس كراهية شديدة نحو استخدام القوة في العلاقات البشرية، ولو أني كنت أسلم دائما بضرورة استخدام القوة أحيانا، وجدت في سنة 1903م أن انقلب «جوزف تشمبرلين» عدوا لحرية التجارة، فانطلقت أهاجمه بالكتابة والخطابة، واستندت في معارضتي إياه إلى ما يستند إليه كل داعية إلى التعاون الدولي، وكان لي نصيب فعال في الحركة التي أرادت للمرأة حق الانتخاب، ولما فرغت من كتابي «أسس الرياضة» سنة 1910م، رغبت في دخول البرلمان، وكنت وشيك تحقيق هذه الرغبة، لولا أن علمت لجنة الترشيح عني حرية التفكير فأعرضت.
وجاءت الحرب العالمية الأولى، فوجهت اهتمامي وجهة جديدة، إذ استغرقتني مشكلة الحروب، واجتنابها في المستقبل، فكتبت في ذلك وما أشبهه مؤلفات وسعت من نطاق شهرتي في جمهور القارئين، كان أملي والحرب ناشبة أن تجيء معاهدة السلم ضامنة لاجتناب حروب عظمى في المستقبل، لكن معاهدة فرساي خيبت أملي، وراح كثيرون من أصدقائي يعقدون آمالهم على روسيا السوفيتية، لكنني حين زرتها سنة 1920م لم أجد بها شيئا جديرا بحبي أو حقيقا بإعجابي.
ودعيت إلى الصين، فلبثت فيها نحو عام، وقد أحببت أهل الصين، ولو أني تبينت أن كثيرا من أفضل جوانب حضارتهم سيصيبه الفساد بسبب تأهبهم لمقاومة التيارات الحربية المعادية، فكأنما لم يعد أمامهم - فيما يظهر - إلا أحد أمرين؛ فإما أن يتركوا أنفسهم نهبا للغزاة، وإما أن يسلحوا أنفسهم بسيئات أعدائهم؛ ليتمكنوا من مقاومتهم بمثل أخلاقهم، وعلى كل حال فقد أفادتني الصين فائدة كبيرة، وهي فائدة لا بد أن يفيدها الشرق لكل من يدرسونه من الأوروبيين دراسة فيها عطف وحساسية، ذلك أن الصين قد علمتني كيف أفكر تفكيرا يمتد ليشمل مسافات بعيدة من الزمن، وألا أدع الحاضر بسيئاته باعثا على اليأس، ولولا هذا الدرس الذي تعلمته في الصين، لما احتملت العشرين عاما الماضية بما فيها من مآس على نحو ما احتملتها.
وخلال السنوات التي أعقبت عودتي من الصين، ولد لي الولدان الأولان، فكانا سببا في اهتمامي بالتربية في المراحل الأولى، ولبثت فترة أختص التربية بمعظم جهدي، وقد ظن الناس أني لا بد مناصر للحرية الكاملة في المدارس، لكن ذلك الظن - كظنهم بأني داع إلى الفوضى - خطأ في تصوير وجهة نظري؛ إذ إني أرى أنه لا غنى لنا عن قدر معين من القسر في تربية النشء، كما أنه لا غنى لنا عن مثل ذلك في الحكم، ولو أني أرى إلى جانب ذلك أن في مستطاعنا أن نهتدي إلى طرائق تربوية يكون من شأنها التقليل من ذلك القسر الضروري، ولهذه المشكلة نواحيها السياسية أيضا، فالقاعدة العامة بالنسبة للأطفال والراشدين على السواء، هي أن الناعمين في حياة سعيدة يغلب عليهم أن يكونوا أقل ميلا إلى النزعات الهدامة، ولهذا فهم أقل احتياجا إلى الضوابط عمن هم لا ينعمون بمثل تعمليهم، لكني مع ذلك لا أظن أن الأطفال يسعدون بحرمانهم من الهداية، كما أني لا أعتقد في إمكان ولاء الأفراد لمجتمعهم إذا نحن أرسلنا حبلهم على الغارب، إن تعويد الناشئ على النظام أمر لا نزاع فيه، لكن المشكلة هي إلى أي حد يجوز ذلك؛ لأن الإسراف في الشدة قد يأتي بعكس المطلوب؛ إذ إن إحباط الغرائز الطبيعية في الطفل لا بد منته به إلى تذمر من العالم وضيق به، وهذا بدوره كثيرا ما ينتهي إلى العنف والقسوة؛ فقد كان مما استرعى انتباهي إبان الحرب 1914-1918م أمر صعقت له، هو ما لاحظته أول الأمر من أن معظم الناس في نشوة نفسية بسبب قيام الحرب! وواضح أن ذلك نتيجة علل كثيرة بعضها تربوي، نعم إن في وسع الوالدين أن يؤديا شيئا كثيرا لوليدهما، لكن التربية على نطاق واسع ينبغي أن تكون من عمل الدولة، وبالتالي لا بد أن تسبقها إصلاحات في السياسة والاقتصاد، ومهما يكن من أمر، فقد رأيت العالم عندئذ يسير رويدا نحو الحرب ونحو الدكتاتورية، ووجدت أنني لا أملك أن أعمل عملا يفيد، فأسرعت الخطى عائدا إلى حظيرة الفلسفة وتاريخ الفكر.
فلسفته
(1) رسل في تيار عصره
التجريبية هي طابع الفلسفة الإنجليزية في شتى مراحلها، فهكذا كانت عند «بيكن» في القرن السادس عشر، وهكذا كانت عند «لك» في القرن السابع عشر، وهكذا كانت عند «هيوم» في القرن الثامن عشر، وهكذا كانت عند «مل» في القرن التاسع عشر، وهكذا هي اليوم عند «رسل» في القرن العشرين، فهؤلاء جميعا عمادهم الأول هو الخبرة المباشرة يدركونها في أنفسهم، وهو المعطيات الحسية تتلقاها حواسهم من ظواهر الطبيعة الخارجية مرئية ومسموعة وملموسة ... إلخ، فإن ركب الإنسان لنفسه بعد ذلك صورة عن العالم، جعل المعطيات الحسية قوامها والخبرة المباشرة لحمتها وسداها، والأمر بعد ذلك بحاجة إلى تحليل نرى به كيف يرتد علمنا بأنفسنا وبالعالم إلى خبراتنا وحاضراتنا الحسية، وفي هذا التحليل وضروبه يكون اختلاف السبل بين هؤلاء الفلاسفة التجريبيين الذين يلتقون عند نقطة الابتداء.
على أن في هذه الصورة إسرافا في التبسيط، فإنما أردت بها قبل كل شيء أن أبرز العلاقة التي تربط «برتراند رسل» بأسلافه من مواطنيه، وأن أبين في وضوح كيف جاء فيلسوفنا حلقة من سلسلة تتابعت حلقاتها على تشابه بينها في الصورة العامة، وإن اختلفت في تفصيلاتها اختلافا بعيدا، غير أن ظهور هؤلاء الأعلام متتابعين على مر القرون في مجرى الفكر التجريبي في إنجلترا لم يمنع ظهور موجات من الفلسفة المثالية حينا بعد حين، بل قد بلغت تلك الموجات المثالية أحيانا من الشدة في الفكر الإنجليزي، بحيث خيل للدارس أنها قد طغت على ما عداها، فأغرقته إلى غير رجعة، لكنها كانت لا تلبث طويلا، حتى يتصدى لها واحد من هؤلاء الفلاسفة التجريبيين، فما يزال بها مقاومة، حتى تنحسر ويعود للفكر الإنجليزي مجراه الأصيل.
ولنضرب لهذه الموجات من الفلسفة المثالية كيف تطغى على الفكر الإنجليزي حينا لتعود فتنحسر عنه ، موجتين طغتا على فترتين متواليتين إبان القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد جاءت أوائل القرن على أيدي نفر من الشعراء والكتاب الذين أعجبتهم المثالية الألمانية متمثلة في «كانت» و«هيجل» فراحوا ينقلونها تلخيصا وتعليقا في شعرهم ونثرهم، ومن هؤلاء «كولردج» و«كارلايل»، وإذا أردنا أن نضم الفكر الأمريكي الإنجليزي في حركة واحدة، قلنا إن «إمرسن» قام في أمريكا بنفس الدور الذي قام به «كولردج» و«كارلايل» في إنجلترا من حيث إشاعة المثالية الألمانية في المجال الفكري، لكن لم يلبث هذا الغزو الفكري أن تصدى له «جون ستيوارت مل» بفكره التجريبي، فأرجع التقاليد الإنجليزية إلى تيار الفلسفة كما كانت على يدي «لك» و«هيوم»، ومن أبرز أعماله في هذا السبيل كتابه في «المنطق»، وكتابه في المذهب المنفعي في الأخلاق.
لكن المثالية الألمانية عادت في أواخر القرن التاسع عشر إلى غزوة جديدة للفكر الإنجليزي، وكانت غزوتها هذه المرة أشد توفيقا وأرسخ جذورا؛ لأنها هذه المرة لم تجعل أداتها نفرا من الشعراء والكتاب غير المختصين بالدراسات الفلسفية، بل جعلت أداتها هذه المرة أساتذة الفلسفة في جامعة أكسفورد: «جرين» و«برادلي» و«كيرد» و«بوزانكت»؛ اتجه هؤلاء جميعا نحو المثالية المطلقة في فلسفاتهم، حتى لتسمى هذه الحركة الفكرية إلى يومنا هذا باسم «مدرسة أكسفورد» في التاريخ الفلسفي المعاصر، والذي يقرب من المعاصر، كما تسمى أحيانا باسم «الهيجلية الإنجليزية»؛ لأن فلسفة هيجل كانت أقوى سطوعا في مؤلفات هؤلاء الأساتذة من أن تخطئها العين العابرة، على أن «كانت» كان له كذلك في تلك الحركة أثره العميق، وما دمنا قد ضممنا الفكر الأمريكي إلى الفكر الإنجليزي في الغزوة الألمانية الأولى، وقلنا إن «إمرسن» كان وسيلتها، فكذلك اجتمعت أمريكا إلى إنجلترا في حركة فكرية واحدة هذه المرة أيضا، وكان من أبرز من عاونوا الفلسفة المثالية الألمانية على الانتشار في غزوتها الثانية هو «جوزيا رويس» الذي كان عندئذ أستاذا للفلسفة في جامعة هارفارد.
ولهاتين الغزوتين الفكريتين الألمانيتين اللتين تعاقبتا على الفلسفة الإنجليزية في القرن التاسع عشر؛ أما أولاهما فقد منيت بفشل سريع ذريع على يدي «مل»، وأما ثانيتهما فكانت فتحا إلى جانب كونها غزوا؛ لأنها دامت واستقرت واعتصمت بحصن فكري حصين هو جامعة أكسفورد، أقول إن لهاتين الغزوتين شبها في تاريخ إنجلترا، لفت الأنظار إليه الأستاذ «ه. ه. برايس» في محاضرة ألقاها في أكسفورد في شهر يوليو سنة 1947م،
1
فازدادت الفكرة بهذا التشابه وضوحا في الأذهان، إذ تعاقبت على إنجلترا غزوتان جرمانيتان بعد انحلال المدينة الرومانية في بريطانيا، وكان بين الغزوتين فترة مداها خمسون عاما أو ستون، أما أولاهما فقد أصابت البلاد بتلف سريع، لكنها لم تلبث أن تصدى لها بطل من أبطال الفرسان هو «آرثر» فصد عن البلاد تلك الغزوة قبل أن تثبت على الأرض أقدامها، لكن لم تمض بعد ذلك بضع عشرات من السنين، حتى جاءت غزوة جرمانية أخرى كانت أكثر نجاحا وأدوم بقاء ... و«مل» هو بمثابة «آثر» في صد الهجمة الألمانية الأولى، وأساتذة أكسفورد هم الذين مكنوا للهجمة الثانية من البقاء.
سادت الفلسفة المثالية المطلقة في إنجلترا (وأمريكا) حتى سنة 1920م، وكان لا بد لمنطق التاريخ أن يغير مجرى الحوادث ليعود إلى الفلسفة الإنجليزية طابعها التجريبي مرة أخرى، لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا - معقل الفكر التجريبي - فيلسوف مثل «برادلي» ويخرج كتابيه المشهورين في «أصول المنطق» و«المظهر والحقيقة» ليقول - كما قال هيجل - إن العقل وحده مستعينا بمنطق فكره يستطيع أن ينبئنا عن العالم شيئا كثيرا دون حاجة منا إلى الحواس وإدراكها، بل يذهب في كتاب «المظهر والحقيقة» إلى أن الفاحص المدقق يرى ظواهر الكون كما تدركها الحواس متناقضة، وإذن فلا بد أن تكون وهما، وأما الكون على حقيقته - إذا كان حتما أن يتسق مع نفسه اتساقا منطقيا - فلا مندوحة لنا عن وصفه بخصائص أخرى غير الخصائص التي تدركها الحواس؛ فالكون على حقيقته يستحيل أن يكون محصورا في مكان أو محدودا بزمان، كما يستحيل أن يكون قوامه هذه الكثرة من الأشياء يرتبط بعضها ببعض بعلاقات، بل يستحيل أن يكون هنالك حتى هذه التثنية التي نزعمها بين الذات العارفة والشيء المعروف؛ فما الكون - في أيه - إلا حقيقة واحدة مطلقة لا تجزؤ فيها ولا فواصل ولا حدود.
أقول إنه لم يكن مما يتفق وطبائع الأشياء أن يظهر في إنجلترا فيلسوف مثالي مثل «برادلي» ليذهب هذا المذهب، وكان لا بد من رجعة للفكر الإنجليزي إلى سابق تياره التجريبي؛ لذلك أخذت بوادر القلق تبدو في كتابات مدرسة جديدة واقعية سيكتب لها الظهور والتفوق في الحلقة الثالثة من القرن العشرين، بعد أن تعمل عوامل الهدم عملها في الفلسفة المثالية التي رسخت بجذورها في الأرض منذ سنة 1880م، والتي كان قيامها على أرض إنجليزية نشازا يدعو إلى القلق، فنشر «جورج مور» سنة 1903م بحثه المشهور «دحض المذهب المثالي»،
2
وأخرج رسل سنة 1912م كتابه «مشكلات الفلسفة»،
3
وفي 1914م كتابه «علمنا بالعالم الخارجي»،
4
كما نشر آخرون هجمات أخرى على الفلسفة المثالية، مثل «برتشارد» في كتابه الذي ينقد فيه نظرية المعرفة عند «كانت»،
5
ولم نقل شيئا عن تيارات أخرى أخذت تحفر حفرا عميقا تحت الأسس التي يقوم عليها بناء المذهب المثالي، كالتحليلات الرياضية والمنطقية التي قام بها رسل في كتابه «أصول الرياضة»،
6
الذي أصدره سنة 1903م، وفي كتابه الذي اشترك معه فيه «هوايتهد» وهو «أسس الرياضة»،
7
الذي فرغ رسل من قسطه فيه سنة 1910م، وهي تحليلات كانت بعيدة المدى، عميقة الأثر، ولم تكن سريعة النتائج في هدم الفلسفة المثالية، وكذلك لم نقل شيئا عن الاتجاه البراجماتي في أمريكا، على أيدي «بيرس» و«وليم جيمس» كيف كان كالمعاول الهادمة للمثالية السائدة في العقدين الأولين من القرن العشرين.
هذه الثورة على الفلسفة المثالية قد جاءت إلى هؤلاء الثائرين على درجات؛ فليس منهم واحد لم يبدأ حياته الفلسفية مغمورا بالمثالية الكانتية أو الهيجلية، ثم أخذت تعمل في نفسه العوامل الدافعة إلى رفضها، فثار عليها جميعا أو على بعضها، حتى إذا ما جاء عام 1920م كان الاتجاه الغالب بشكل قاطع جازم نحو واقعية جديدة، هي التي تتمثل في برتراند رسل إلى حد كبير، ولما كان عدد كبير من أنصارها من أساتذة كيمبردج، سميت المدرسة أحيانا «بمدرسة كيمبردج» ليتم التقابل بينها وبين «مدرسة أكسفورد» في الفلسفة؛ إذ كانت أكسفورد - كما أسلفنا لك القول - مركزا للفلسفة المثالية، فقامت تناهضها كيمبردج مركزا للفلسفة الواقعية التحليلية، ولقد أسلفنا لك في الفصل الأول ما رواه «رسل» عن نفسه في خطوات تطوره الفكري؛ فمن ذلك قوله: «لقد حدثت لي خلال عام 1898م عدة أحداث جعلتني أنفض عن «كانت» وعن «هيجل» في آن معا ... ولولا «تأثير جورج مور» في تشكيل وجهة نظري لفعلت هذه العوامل فعلها بخطوات أبطأ؛ فقد اجتاز «مور» في حياته الفلسفية نفس المرحلة الهيجلية التي اجتزتها، ولكنها كانت عنده أقصر زمنا منها عندي، فكان هو الإمام الرائد في الثورة، وتبعته في ثورته وفي نفسي شعور بالتحرر؛ لقد قال «برادلي» عن كل شيء يؤمن به «الذوق الفطري» عند الناس إنه ليس سوى «ظواهر»، فجئنا نحن وعكسنا الوضع من طرف إلى طرف؛ إذ قلنا إن كل ما يفترض «الذوق الفطري» عندنا بأنه حق فهو حق، ما دام ذلك «الذوق الفطري» في إدراكه للشيء لم يتأثر بفلسفة أو لاهوت، وهكذا طفقنا - وفي أنفسنا شعور الهارب من السجن - نؤمن بصدق «الذوق الفطري» فيما يدركه، فاستبحنا لأنفسنا أن نصف الحشيش بأنه أخضر، وأن نقول عن الشمس والنجوم إنها موجودة، حتى لو لم يكن هناك العقل الذي يعي وجودها.»
وكتب للواقعية الجديدة أن تسود في إنجلترا سيادة مطلقة مدى عشرة أعوام - من 1920م إلى 1930م - وبعدئذ جاورتها حركة أخرى تولدت عنها، هي حركة «الوضعية المنطقية».
ونستطيع أن نجمل المعالم البارزة في اتجاهات الفلسفة الواقعية الجديدة في ثلاث نقط أو أربع؛ فهي أولا حركة تنصرف باهتمامها الأكبر إلى نظرية المعرفة بدل الميتافيزيقا، إلى الإنسان كيف يعرف ما يعرفه، فلئن كان الفلاسفة الميتافيزيقيون السابقون لهم يعنون بإقامة بناءات فلسفية متسقة يحاول البناء الواحد منها أن يشمل الكون كله بمن فيه وما فيه، كأنه حقيقة واحدة بغير تجزئة ولا فواصل؛ فقد جاء هؤلاء الواقعيون الجدد يفتتون المشكلات الفلسفية ليعالجوها واحدة بعد واحدة، دون أن يعنوا في كثير أو قليل بأن تكون هذه المشكلات أو لا تكون أجزاء من مسألة واحدة كبرى، ومن هذه المشكلات الجزئية، بل في مقدمتها وعلى رأسها، مشكلة المعرفة الإنسانية كيف تكون.
وأهم ما تتصف به نظرية المعرفة عندهم هو بعدها عن الذاتية بقدر المستطاع؛ فأنا حين أعرف شيئا عن العالم الخارجي، فإنما أكشف عن شيء موجود فعلا خارج ذاتي، كان موجودا قبل معرفتي إياه، وسيظل موجودا بعدها، ولم تغير معرفتي تلك من حقيقة الشيء المعروف؛ لأنه كائن مستقل عن العقل الذي يعرفه، وإن غيرت معرفتي لذلك الشيء شيئا، فإنما غيرت من نفسي أنا، لا من ذلك الشيء الخارجي الذي عرفته، وقد غيرت من نفسي حين نقلتها من حالة جهل إلى حالة علم، المعرفة كشف عما هناك، وليست هي بعملية من الخلق المنطقي الذي يتم تركيبه داخل عقلي بغض النظر عما هو كائن خارج العقل؛ كما يذهب المثاليون.
إنني لأكاد أوقن أن قارئ هذه الخلاصة سيبتسم لنفسه متسائلا: كيف يحتاج الأمر إلى مدرسة فكرية جديدة تنهض وتجاهد، وعلى رأسها أعلام مثل «جورج مور» و«برتراند رسل» وغيرهما، لتقول: إنني إذا أدركت وجود هذه الشجرة التي أمامي، فلأن هنالك خارج ذاتي شجرة، وأن تلك الشجرة في واقعها الخارجي لا تتأثر بإدراكي إياها، كيف يمكن أن يحتاج الأمر في ذلك إلى تحليل وتعليل وهجوم ودفاع، والأمر كله لا يتطلب أكثر من الإدراك الفطري لنقول فيه هذا القول؛ فرجل الشارع في سذاجته يعلم - ولا يتطرق إلى علمه في ذلك شك - بهذا الذي جاءت الواقعية الجديدة لتقرره بعد جهاد وثورة ... والقارئ المتعجب بمثل هذه الأسئلة إنما يضع إصبعه على محور المدرسة الواقعية الجديدة، وهو أن ما يدركه الإنسان بذوقه الفطري أساس للحق، فلو رأينا الذوق الفطري يقول شيئا، والفلسفة أو اللاهوت تقول شيئا آخر، فالصادق هو الذوق الفطري، ومن هنا جازت تسمية هذه الفلسفة الواقعية الجديدة بفلسفة «الذوق الفطري» (أو «الإدراك الفطري» أو «الفهم المشترك» أو «الحس المشترك» أو ما شئت من ترجمة للعبارة الإنجليزية
Common Sense ).
ولا بد لمثل هذا القارئ المستنكر المتعجب أن يذكر لنفسه أن هذا الذي يظنه إدراكا فطريا لا يجوز فيه الجدل، هو بعينه الذي يتصدى لإنكاره المثاليون على كافة مدارسهم؛ فالمدارس المثالية كلها مجمعة على أن الشيء المعروف ليس مستقلا عن العقل العارف، وفي رأيهم أن العالم في حقيقته هو هذا الذي يعرفه الإنسان عنه بعقله لا الذي يدركه من ظواهره بحسه، حتى «كانت» الذي هو من أكثر المثاليين اعتدالا وبعدا عن التطرف في مثاليته، يجعل العالم صنيعة العقل ومقولاته إلى حد كبير.
إذن فنظرية المعرفة والرأي فيها والاهتمام بها هي من أهم ما يميز المدرسة الواقعية الجديدة، لكن هذا الطابع فيها يستلزم مميزا آخر، هو رأيها في معيار الصدق، فمتى يجوز لنا أن نقول عن عبارة إنها صادقة، سواء كان ذلك في العلم أو في الحياة اليومية؟
كان المثاليون يأخذون بمعيار «الاتساق» أساسا لصدق العبارة، أعني أن تكون العبارة على «اتساق» مع غيرها مما يقال، بحيث لا يكون ثمة تناقض فيما نقوله عن الكون؛ خذ الهندسة - مثلا - لتوضح لك فكرة المثاليين، فعلى أي أساس نحكم على نظرية هندسية من نظريات إقليدس بأنها صواب؟ الجواب هو: تكون النظرية صوابا لو اتسقت مع سائر النظريات، ومع سائر الفروض والتعريفات والمسلمات، بحيث تجيء نتيجة محتومة لما سبقها ومقدمة ضرورية لما بعدها، وإذا كان بين أجزاء البناء الهندسي مثل هذا «الاتساق» كان بناء صحيحا، وكان كل جزء منه صادقا، وهكذا قل في مجموعة العبارات التي نصف بها الكون؛ فهي صادقة إذا تكاملت في بناء بين أجزائه اتساق لا يسمح للواحدة أن تناقض الأخرى ... وإذا نحن أخذنا بهذا المعيار في صدق العلم والفلسفة، وشتى ما ننطق به عن أنفسنا وعن العالم الخارجي، نتج إمكان أن يوصد الإنسان دون نفسه أبواب غرفته ، ويظل ينسج من فكره أقوالا مختلفة عن العالم، لا يتحرى فيها شيئا سوى أن يتسق بعضها مع بعض، حتى إذا ما تكامل له منها بناء شامل، تقدم به على أنه وصف للكون ... هذا ما يعمله الرياضيون حين ينشئون نظرياتهم في الرياضة، وهذا ما يعمله الميتافيزيقيون حين يقيمون بناءاتهم الفلسفية، وهذا ما يريدنا المثاليون على اصطناعه كلما أردنا تفكيرا سليما.
أما المدرسة الواقعية الجديدة، فترى في معيار الصدق رأيا آخر يتفق ورأيها في عملية اكتساب المعرفة، فما دام الشيء الذي أعرفه موجودا خارج ذاتي، وكل ما أفعله إزاءه هو أن أكشف عنه، ثم أضع ما عرفته عنه في عبارة أو عبارات فلا بد - لكي تكون تلك العبارة أو العبارات صادقة - أن يكون ثمة «تطابق» بين الوصف والموصوف؛ معيارهم في الصدق هو «التطابق» بين القول والموضوع الذي قيل فيه ذلك القول، وليس حتما أن تكون مجموعة الأقوال التي أقولها عن العالم مما يكمل بعضه بعضا في بناء واحد؛ إذ قد لا يكون في العالم هذه «الواحدية»، بل قد يكون - كما هو رأي الواقعيين فيه - قوامه كثرة متجاورة، أو متعاقبة من أشياء أو من حوادث.
وصفة ثالثة يتميز بها المذهب الواقعي الجديد هي اهتمام أصحابه بالعلوم، وبصفة خاصة اهتمامهم بعلم الطبيعة والرياضة؛ فكثيرون منهم أولئك الذين اشتغلوا بالفلسفة بعد دراستهم لعلم الطبيعة أو للرياضة دراسة تخصص، وعلى كل حال فليس المقصود باهتمام الفلسفة المعاصرة بالعلوم وبالرياضة أنها تسعى إلى ما يسعى إليه العلم من جمع الحقائق واستدلال القوانين، بل المقصود هو أنها تأخذ من العلم مبادئه وطرائقه ومدركاته الكلية، فلئن كان العلم يسعى إلى تصنيف الحقائق في مجموعات مستعينا في ذلك بالقوانين العلمية، فهذه القوانين العلمية نفسها هي بمثابة المادة الخامة للفلسفة، ولكن بأي معنى؟ بمعنى أن الفيلسوف المعاصر يجعل فلسفته تحليلا للعلوم في مبادئها وقوانينها، فإذا كان المبدأ الذي منه يبتدئ علم ما طريق سيره هو «س»، فمهمة الفيلسوف هي أن يحفر الأرض تحت «س» هذه ليرى على أي العناصر الأولية ترتكز ، خذ لذلك مثلا تحليل برتراند رسل للعدد؛ فعلم الحساب يبدأ سيره من سلسلة الأعداد: صفر، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة ... إلخ، من هذه الأعداد يجري عملياته جمعا وطرحا وضربا وقسمة ... إلخ، لكن ليس من شأن علم الحساب أن يحلل هذه الأعداد ذواتها، ترى هل تكون سلسلة الأعداد مفروضة علينا فرضا كنقطة ابتداء أم ترانا إذا ما حللناها ألفيناها ترتد إلى أوليات سابقة عليها في عملية التفكير؟ لكي يجيب «رسل» عن هذا السؤال، غاص في تحليلات (ستكون موضوع الفصل التالي من هذا الكتاب)، وانتهى إلى نتيجة هي أن العدد فكرة مركبة، عناصرها هي الفئات من الأشياء التي يمثلها كل عدد على حدة؛ فمثلا في العالم مجموعات من أشياء قوام كل مجموعة منها سبعة أعضاء، كأيام الأسبوع، والسماوات السبع، وهذه المقاعد السبعة التي في غرفتي إلى آخر هذه المجموعات المسبعة الأعضاء في أنحاء العالم كله، ونريد أن نرمز إلى هذه الفئات المسبعة باسم واحد؛ لنضمها كلها في مجموعة واحدة، أو في فئة واحدة؛ لما بينها من شبه يجمعها، وهو كون كل واحدة منها متطابقة في عدد أفرادها مع سائرها، فإذا أطلقت عليها رمز «7» كان تحليل هذا الرمز في حقيقيته هو أنه رمز دال على فئة من فئات، أي مجموعة من مجموعات أشياء بينها تشابه في وجه من الوجوه ... إذن فالعدد الذي يبدأ عنده علم الحساب ليس في ذاته فكرة أولية بسيطة، بل سبقته فكرة «الفئة» التي يكون بين أفرادها تشابه يبرر وضعها في مجموعة واحدة، ولما كانت فكرة «الفئات» من بين الأفكار الرئيسية في علم المنطق، كان علم الحساب - وكانت الرياضة كلها - نابتة من جذور ضاربة فيما وراء الحساب والرياضة؛ إذ تمتد إلى أوليات المنطق.
هذه التحليلات وأشباهها في أصول الرياضة والعلم الطبيعي هي ما نعنيه حين نقول إن فلاسفة الواقعية الحديثة يهتمون بالعلوم والرياضة، وينصرفون بمجهودهم إلى تحليل أصولها، وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم ما قلناه من أن مبادئ الرياضة وقوانين العلوم هي المادة الخامة للفلسفة وتحليلاتها، حتى لقد صح القول بأن الفلسفة لم تعد شيئا سوى المنطق التحليلي.
وهذا الاتجاه التحليلي في الفلسفة المعاصرة يسلمنا إلى صفة رابعة تتميز بها هذه الفلسفة، وهي وضوح الأسلوب والتخلص من الزخارف اللغوية التي هي من خصائص العقل المهوش، ولا أظنني أجاوز الصواب إذا زعمت بأن الفلاسفة المثاليين يجعلون غموض العبارة شرطا للعمق الفلسفي؛ إذ كيف تكون - في رأيهم - عميق الفكر دون أن تكون صعب الفهم معقد الأسلوب غامض العبارة؟ أما أصحاب الفلسفة التحليلية المعاصرة، فلا يسمحون لأنفسهم بذكر كلمة واحدة بغير تحديد معناها، ولا بذكر عبارة واحدة لا تتسم بالوضوح، بل بالنصوع الذي لا يدع عند القارئ مجالا للتخبط والضلال في تلمس المعنى المراد، كان محالا عليهم أن يجعلوا مهمة الفلسفة الأساسية تحليلا وتوضيحا لقضايا العلوم دون أن يبدءوا بأنفسهم، فلا يكتبون إلا ما هو بين واضح، وليس أدل على وضوح الكتابة الفلسفية في كل ما أنتجه الفلاسفة على مر القرون، من فيلسوفنا «برتراند رسل».
هذا المنهج التحليلي نفسه، وهذه الكتابة التحليلية الواضحة التي تحدد معانيها تحديدا لا يدع سبيلا إلى غموض أو التواء، هما نقطة الابتداء التي تفرعت عندها مدرسة جديدة تولدت عن الفلسفة الواقعية، وقد جعلت تلك المدرسة الجديدة التحليل والتحديد والتوضيح غايتها الأولى والأخيرة التي لم تعد - في رأيها - للفلسفة غاية سواها، وإنما أعني بها مدرسة الوضعية المنطقية، فهي «وضعية»؛ لأنها ترفض الميتافيزيقا، وهي «منطقية»؛ لأن رفضها للميتافيزيقا قائم على تحليل العبارات الميتافيزيقية نفسها لبيان خلوها من المعنى، فهي - إذن - لا ترفض «ما وراء الطبيعة» على أساس مذهبي، بمعنى إحلال مذهب محل مذهب، بل ترفضها على أساس منطقي، ما دامت عباراتها لا تتوافر فيها شروط الكلام المقبول التي من أهمها أن تكون العبارة مما يمكن تحقيقه للتثبت من صوابه أو خطئه.
وليس هذا مكان الاستطراد في تفصيلات «الوضعية المنطقية»، وحسبنا منها في هذا الموضع أن نقول إن رجالها الأولين كانوا من تلاميذ برتراند رسل في كيمبردج، والحركة كلها نتيجة متأخرة لما كان رسل قد قام به منذ ثلاثين عاما من تحليلات منطقية، و«رسل» هو الذي قدم بمقدمة طويلة لكتاب لدفج فتجنشتين «رسالة في الفلسفة والمنطق»،
8
وهو كتاب يعد بمثابة الإنجيل للوضعية المنطقية، ولما مات «فتجنشتين» (29 أبريل 1951م في كيمبردج) كتب عنه برتراند رسل
9
يقول: «لما التقيت لقاء التعارف بفتجنشتين أخبرني أنه معتزم أن يكون مهندسا، وذهب إلى مانشستر، وهذا الهدف نصب عينيه، غير أنه خلال دراسته للهندسة أغرم بالرياضة، ثم خلال دراسته للرياضة أغرم بأصول الرياضة، وسأل الناس في مانشستر - كما أنبأني - إن كان ثمة موضوع كهذا، وإذا كان قد تناوله بالدرس واحد من العلماء، فأجابوه بأن مثل هذا الموضوع قائم، وأنه يستطيع أن يزداد بالأمر علما إذا هو زارني في كيمبردج، وهكذا فعل ... (وأخذ في الدراسة معي) وسرعان ما تقدم في المنطق الرياضي بخطى واسعة، ولم يلبث أن ألم بكل ما كان عندي من علم أستطيع تعليمه إياه، وأظنه لم يكن حينئذ يعرف «فريجه» معرفة شخصية، لكنه قرأه وأعجب به إعجابا شديدا، ولم أعد أراه بطبيعة الحال خلال حرب 1914-1918م، لكنني تلقيت منه خطابا بعد الهدنة بقليل، كتبه من «مونت كاسينو» أخبرني فيه أنه وقع في الأسر، وكان معه - لحسن الحظ - مخطوطه (الذي هو كتابه «رسالة في الفلسفة والمنطق») فاستخدمت كل ما أملك من قوة لأحمل الحكومة الإيطالية على إطلاق سراحه من الأسر، ثم التقيت به في لاهاي، حيث ناقشنا كتابه «رسالة ...» سطرا سطرا ...»
هذه «الوضعية المنطقية» التي جاءت فرعا عن «الواقعية الجديدة»، ونتيجة متأخرة للتحليلات المنطقية التي قام بها رسل في كتابيه «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة»، هي في الحقيقة مزيج من تجريبية ومنطق رياضي، فأهم ما أنتجته هذه المدرسة الجديدة هو - في اعتقادي - هذا الكشف التحليلي الرائع الذي ثبت أساس الفلسفة التجريبية إلى الأبد، وأعني به الكشف عن طبيعة الرياضة والمنطق بواسطة تحليل قضاياهما؛ ذلك أن أكبر مشكلة كانت تقف في وجه التجريبيين هي هذه: إذا قلنا إن العلم أساسه التجربة الحسية، فبماذا نعلل يقين الرياضة والمنطق مع أن قضايا هذين العلمين لا تأتي عن طريق الحواس ؟ فالنتيجة التي انتهت إليها «الوضعية المنطقية» في ذلك هي أنه بتحليل قضايا هذين العلمين تبين أنها جميعا تحصيل حاصل، ولا تقول شيئا جديدا، فالقضية في الرياضة - مثل قولنا 2 + 2 = 4 هي قضية «تكرارية»، وليست قضية «إخبارية»، إنها تكرر شيئا واحدا في لفظين، وإنما اتفقنا على أن يكون اللفظان أو الرمزان بمعنى واحد بحكم تعريفنا لهما، كقولك مثلا إستانبول هي القسطنطينية، والصديق هو أبو بكر، فمصدر اليقين في الرياضة هو أنها لا «تخبرنا» بجديد، وإذن فلم يعد هنالك ما يبرر الاحتجاج بالرياضة، ويقينها على الفيلسوف التجريبي الذي يقول إن مصدر كل علم جديد هو الحواس، وبالخبرة الحسية وحدها يكون حكمنا على الكلام الذي ينطق به الناس بالصدق أو بالكذب، والنتيجة النهائية التي ينتهي إليها «الوضعيون المنطقيون» هي أنه إذا لم تكن العبارة التي أمامك «إخبارية» تعتمد في خبرها على الحواس، ولم تكن «تكرارية» - كما في الرياضة - تحصل حاصلا، ولا تضيف علما جديدا، إذن فهي كلام فارغ من المعنى، وهذا هو ما قصد إليه هيوم في عبارته التي ذكرها، في ختام كتابه «بحث في العقل البشري»: «إذا تناولنا بأيدينا كتابا كائنا ما كان، في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلا، فلنسأل أنفسنا: هل يحتوي هذا الكتاب على شيء من التدليل المجرد فيما يختص بالكمية والعدد؟ كلا، هل يحتوي على شيء من التدليل التجريبي فيما يختص بأمور الواقع والوجود؟ كلا! إذن فألق به في النار؛ لأنه عندئذ يستحيل أن يحتوي على شيء سوى سفسطة ووهم.»
تيار الفكر الفلسفي المعاصر - إذن - يمكن تلخيصه في هذه العبارة الآتية: موجة مثالية من فلسفة «كانت» وفلسفة «هيجل» سيطرت على إنجلترا (وأمريكا) منذ سنة 1880م إلى 1920م، فثورة واقعية أخذت تفعل فعلها في مقاومة تلك الموجة المثالية منذ بداية القرن العشرين، حتى إذا ما كان عام 1920م كانت لها السيادة، وعلى رأس هذه الثورة «رسل» و«مور»، وأضرابهما من فلاسفة «مدرسة كيمبردج»، وعن هذه «الواقعية الجديدة»، ومنهجها التحليلي تفرعت شعبة أطلقت على نفسها اسم «الوضعية المنطقية»، استمدت بدايتها وهدايتها من المنهج التحليلي الذي استخدمه فلاسفة «الواقعية الجديدة»، وإن تكن قد استقلت وحدها بنتائج - كإنكار الميتافيزيقا - قد لا يوافقها عليها رجال «الواقعية الجديدة»، ومنهم «رسل».
على أن هاتين الجماعتين: جماعة الواقعية وجماعة الوضعية المنطقية - ومنهما يتألف تيار الفكر المعاصر في إنجلترا وأمريكا بوجه عام - إن اختلفتا في بعض النواحي، فلا شك أنهما متفقان على روح واحدة في البحث، هي التي يمكن أن نصف بها الفلسفة المعاصرة، وهي التحليل المنطقي لكثير جدا مما كان يسمى فيما مضى «بالمشكلات الفلسفية»، بحيث تبين أن تلك «المشكلات» الكبرى لم تكن في حقيقة أمرها إلا غموضا في العبارات اللغوية التي صيغت فيها تلك «المشكلات»، ويكفي أن تصب ضوءا تحليليا على التركيب اللغوي لتلك العبارات لتنحل «المشكلات»، أو قل لتتبخر في الهواء، نعم إن رجال الفلسفة التحليلية المعاصرة لا ينتهون بتحليلاتهم هذه إلى «بناءات» فلسفية شامخة تبهر العيون، وتفتن الألباب كبناءات الفلاسفة الميتافزيقيين من أمثال أفلاطون وسبينوزا وهيجل، لكنهم في نتائجهم «المتواضعة» أقرب جدا إلى العلماء من حيث الصلابة والتعاون الذي يجعل الواحد منهم مكملا للآخر ومضيفا إليه، هذا إلى النتيجة البالغة الخطورة التي انتهوا إليها في تحليل الرياضة مما أزال المشكلة الكبرى في المعرفة الإنسانية: لماذا تكون تلك المعرفة يقينا في الرياضة، واحتمالا في العلوم الطبيعية؛ فلقد شهد تاريخ الفلسفة اتجاهين رئيسيين قسما الفلاسفة مجموعتين مختلفتين: أما أولهما فاتجاه رياضي بمعنى الرياضة عند فيثاغورس، وهو المعنى الذي تكون فيه الرياضة ضربا من المعرفة قريبا من التصوف، يبلغ اليقين، ولا يستخدم الحواس في سبيله إلى ذلك اليقين، وتلك هي الفلسفة المثالية التي تنسج من العقل فلسفاتها متسقة الأجزاء في بناءات متكاملة على نحو ما يخرج الرياضي - كإقليدس مثلا - بناء نظرياته الرياضية، وأما ثاني الاتجاهين فهو طبيعي تجريبي، يلتفت إلى الطبيعة الخارجية، ويجعل تجربة الحواس وسيلة العلم، وأما الفلسفة التحليلية المعاصرة، فقد أفلحت في استخراج العنصر الفيثاغوري من أصول الرياضة، وفي بيان أن الرياضة تحصيلات حاصل، وبذلك يزول الألغاز في يقين نتائجها بالنسبة إلى العلوم الطبيعية، وما تنتهي إليه من نتائج تتفاوت في درجات احتمالها وقربها من اليقين دون أن تبلغ قط ذلك اليقين الكامل، وبهذه التفرقة الواضحة بين «القضية التكرارية» في الرياضة و«القضية الإخبارية» في العلوم الطبيعية استقامت نظرية المعرفة على أيدي رجال التحليل المعاصرين «فالمدرسة التجريبية التحليلية الحديثة ... تختلف عن تجريبية «لك» و«باركلي» و«هيوم» بكونها أولا أدمجت الرياضة (مع العلوم الطبيعية) في بناء واحد، وبأنها ثانيا طورت في منهج البحث أداة منطقية قوية، وبهذا استطاعت أن تعالج عددا معينا من المشكلات، فتقدم لها حلولا محدودة عليها من طابع العلم أكثر مما عليها من طابع الفلسفة، ومن مميزاتها إذا قارناها بالفلسفات التي أقام بها أصحابها «بناءات» متسقة الأجزاء، أنها استطاعت أن تتناول مشكلاتها واحدة بعد واحدة، بدل أن تخلق بجرة واحدة من القلم نظرية شاهقة عن الكون بأسره، إنني لا أشك أبدا في أنه إذا كانت المعرفة الفلسفية في حدود المستطاع، فلا يكون ذلك إلا بأمثال هذه المناهج، كذلك لا شك عندي في أنه بفضل هذه المناهج قد اهتدينا إلى حل كثير من المشكلات القديمة حلا نهائيا».
10 (2) الفلسفة الرياضية
11
سنقوق إلى القارئ في هذا الفصل شرحا لتحليل «العدد» عند «رسل» لنضع به أمامه نموذجا مصغرا لما يقوم به فيلسوفنا من تحليلات في فلسفة الرياضة؛ إذ يتعذر أن نجعل فصلا واحدا من كتاب صغير شاملا لكل ما قام به الفيلسوف في هذا الباب.
على أننا لا بد أن نقدم للموضوع بمقدمة موجزة نشرح بها للقارئ المعنى المقصود «بفلسفة العلم» رياضة كان ذلك العلم، أو أي فرع شئت من سائر العلوم، فالكتاب العلمي - كائنا ما كان موضوعه - إنما يتألف من عبارات كلامية وصيغ رمزية، أكثرها مما نطلق عليه اسم «اللغة الشيئية»،
12
ونحن نعني بهذا الاسم مجموعة الرموز - من الألفاظ وغيرها - التي نصف بها الأشياء الواقعة وصفا مباشرا، كأن أقول عن شعاع معين من الضوء إنه ساقط على مرآة معينة، وإن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس.
ونقول إن الكثرة الغالبة من العبارات والصيغ الرمزية في كتاب علمي مؤلفة من «لغة شيئية»؛ لأن رجال العلوم يستخدمون الألفاظ وما إليها من رموز ليقرروا بها أحكاما عن الأشياء الواقعة، لكنك مع ذلك قد تجد في الكتاب العلمي - إلى جانب العبارات الشيئية - طائفة أخرى من العبارات لا يراد بها أن تصف الأشياء وصفا مباشرا، بل يراد بها أن تتحدث عن غيرها من ألفاظ وعبارات مما ورد في الكتاب العلمي نفسه أو في غيره؛ مثال ذلك أن يبين المؤلف بأن العبارة «س» والعبارة «ص» متناقضتان، أو أن الواحدة منهما نتيجة تلزم عن الأخرى أو ما أشبه ذلك، فها هنا لا يحدثنا المؤلف عن «الأشياء» نفسها التي هي موضوع العلم الذي نكون بصدده، بل يحصر حديثه في «مدركات» ذلك العلم، أو إن شئت فقل إنه ها هنا يتحدث عن «اللفظ» المستخدم في وصف الأشياء ليبين مضموناته، أو ما يقوم بين أجزائه من علاقات وهكذا، وأمثال هذه العبارات التي تتحدث عن سواها - لا عن الأشياء الخارجية مباشرة - تسمى «باللغة الشارحة»
13 - أو اللغة التي تتحدث عن لغة - تمييزا لها من «اللغة الشيئية» التي سبقت الإشارة إليها؛ فالعبارات الشيئية في الكتاب العلمي هي التي تعبر عن النظرية العلمية التي يريد العالم أن يتقدم بها، وأما العبارات الشارحة للعبارات الشيئية، فليست جزءا من تلك النظرية العلمية ذاتها، بل هي تنتمي إلى ميدان آخر غير ميدان العلم نفسه؛ إذ تنتمي إلى ما نسميه بفلسفة ذلك العلم، وبالطبع لا تكون أي عبارة تقال عن عبارة أخرى فلسفة علمية، لكن العكس صحيح، أي إن كل جزء من فلسفة العلم هو جملة شارحة لجملة أخرى.
14
وبتطبيق ذلك على الرياضة يكون الفرق بين الرياضة وفلسفتها هو أن الرياضة تستخدم رموزا وعلامات، مثل الأعداد وأحرف الهجاء والعلامات الدالة على الجمع والطرح والضرب والقسمة والتساوي وما إلى ذلك، ثم تركب من تلك الرموز والعلامات صيغات ومعادلات دون أن تقف عند هذه الرموز والعلامات نفسها بالتحليل؛ بعبارة أخرى هي التي تستخدم الرموز والعلامات المعروفة مادة لحديثها، لكنها لا تصب الحديث على الرموز والعلامات ذواتها، فتقول الرياضة - مثلا - إن «1 + 0 = 1»، لكنها تستبعد من مجالها تحليل معاني الواحد والصفر والزيادة والتساوي، فإذا ما تناول باحث هذه الرموز ببحثه، وجعلها هي نفسها موضوع حديثه، كان قوله «فلسفة رياضية».
ونضع هذا المعنى في عبارة أخرى، فنقول إننا إذا ما بدأنا السير من رموز الرياضة المألوفة كان أمامنا أحد اتجاهين للسير، فإما أن نتجه من نقطة البداية إلى أعلى، أو أن نتجه منها إلى أسفل، أو إن شئت فقل إننا إما أن نجعل سيرنا إلى أمام، أو أن نجعله إلى وراء، أما ما نسميه عادة «بالرياضة»، فهو سير إلى أمام، أو هو بناء إلى أعلى، أي إننا نمضي من الأعداد وغيرها من العلامات نحو عمليات تركيبية من جمع وطرح إلخ، ثم نظل نمضي في عمليات تزداد تعقيدا وتركيبا كلما علونا في سلم الدراسة الرياضية، وأما الاتجاه الثاني فهو سير من الأعداد وغيرها من العلامات إلى ما وراءها؛ إذ نحللها إلى عناصر أبسط منها، فنجد أنها رغم كونها نقطة ابتداء في الرياضة إلا أنها هي نفسها نتيجة لعمليات فكرية سابقة لها، فهذا الاتجاه الثاني هو بمثابة الحفر تحت تلك البدايات لنهتدي إلى أسسها الأولى، وهذا هو ما نسميه بفلسفة الرياضة.
15
والأعداد هي نقطة الابتداء في دراسة الرياضة، عندها يبدأ الطفل دراسته، حتى ليخيل إلينا أنها - كما تبدو في ظاهر أمرها - أبسط المدركات الرياضية، بمعنى أنها الأساس الأول الذي لا تسبقه خطوة أخرى، مع أنها في الحقيقة على درجة بعيدة من التركيب، ولا يظهر ذلك فيها إلا بعد تحليل طويل دقيق، كالذي قام به كثيرون من علماء الرياضة والمنطق المحدثين، وعلى رأسهم «رسل»، الذين أظهروا بتحليلاتهم أن فكرة العدد لا تأتي إلا بعد أن تسبقها خطوات عقلية أبسط منها، ثم بينوا أن هذه الخطوات العقلية السابقة إنما تقع كلها في مجال المنطق، وإذن فالخطوة الأولى من التفكير الرياضي إن هي إلا مرحلة متقدمة من شوط فكري يبدأ مع الأصول الأولى للمنطق، وبهذا تكون الرياضة في حقيقة أمرها استمرارا للمنطق.
فإذا لم يكن العدد بهذه البساطة التي تبدو، وإذا كان في حقيقة أمره مركبا من عناصر كثيرة أبسط تأتي في الفكر سابقة عليه، فلماذا - إذن - نتخذه في تعليم الناشئ نقطة ابتداء؟ يجيب عن ذلك «رسل» في فاتحة كتابه «مدخل إلى الفلسفة الرياضية»
16
بقوله إنه كما أن أيسر الأجسام إدراكا هي تلك التي لا تكون شديدة القرب، ولا تكون شديدة البعد، وهي أيضا تلك التي لا تكون شديدة الصغر ولا شديدة الكبر، فكذلك أيسر الأفكار العقلية إدراكا هي التي لا تكون شديدة التركيب ولا شديدة التبسيط، وهذه الشروط متوافرة في العدد؛ فلا هو شديد البساطة، ولا هو شديد التركيب، بحيث يتعذر إدراكه على الناشئ الصغير، ولذلك يسهل عليه فهمه كنقطة ابتداء يمضي بعدها إلى دراسة التركيبات الرياضية، ثم إذا أراد بعد اكتمال نضجه الرياضي أن يفلسف الرياضة، مضى في سيره وراء العدد ليكشف عن العناصر البسيطة التي منها يتألف ويتركب.
إننا قد ألفنا العدد في دراستنا وفي حياتنا اليومية إلفا يخدعنا، بحيث نظن أنه كان بهذه السهولة من الفهم والإدراك عند الإنسان الأول كما هو عندنا اليوم، لكن الإنسان الأول لا بد أن يكون قد سلخ من التاريخ دهرا طويلا قبل أن يدرك أن هنالك تشابها بين عصفورتين ويومين، بحيث يستخدم رمزا واحدا هو العدد «2» ليرمز به إلى هذا الجانب الذي تتشابه فيه العصفورتان واليومان!
17
ولا بد كذلك أن يكون الإنسان الأول قد قضى شطرا كبيرا من دهره - حتى بعد إدراكه للأعداد التي يعد بها الأشياء - قبل أن يدرك أن «الواحد» عدد كسائر الأعداد ودع عنك هذا العسر الشديد الذي لا بد أن يكون الإنسان قد صادفه قبل أن يعلم أيضا أن «الصفر» هو الآخر حلقة من سلسلة الأعداد، ولعلك لا تدري أنه لا اليونان القدماء ولا الرومان قد عرفوه، فكانت الأعداد عندهم - كما هي عند كثير جدا من الناس في يومنا هذا - تبدأ من «1»، وذلك على اعتبار أن الصفر لا يعد شيئا، وجاء إدراك السفر متأخرا جدا في التاريخ، حتى لترجع نشأته إلى العرب .
فما هو العدد؟ يقول «رسل» إنه سؤال طالما ألقاه السائلون، ولكنه لم يجد الجواب الصحيح إلا في زماننا هذا، وكان أول من قدم الجواب الصحيح هو «فريجه»
Frege
سنة 1884م، غير أن تعريف «فريجه» للعدد ظل مجهولا حتى جاء «رسل»، فكشف للناس عنه سنة 1901م.
18
ويجمل بنا قبل أن نخوض في تعريف العدد، أن نقول كلمة مختصرة في المقصود «بالتعريف» في الرياضة.
يقول «رسل» في كتابه «أصول الرياضة»
19
إنه إذا كانت لدينا مجموعة معينة من مدركات، ثم كان لدينا حد معين يراد تعريفه بواسطة تلك المجموعة من المدركات، فإن ذلك التعريف يكون ممكنا في حالة واحدة فقط، وهي أن يكون ذلك الحد المراد تعريفه مرتبطا ببعض تلك المدركات ارتباطا يتفرد به دون أي حد آخر، ويمكن شرح هذا الذي يقوله «رسل» في تعريف الحدود الرياضية على الوجه الآتي: افرض أننا قد بدأنا فسلمنا بأننا نعرف معاني مجموعة من الألفاظ هي: «أ، ب، ج، د»، ثم افرض أننا قد أردنا أن نعرف رمزا مجهولا هو «س» بواسطة تلك الرموز المعلومة لنا، فإن تعريفنا للرمز «س» يكون كاملا من الوجهة المنطقية لو أننا حللنا «س» إلى بعض تلك العناصر، كأن نقول مثلا إن معنى «س» هو «أ ج» بشرط ألا يعني هذان العنصران (أعني أ ج) إلا هذا الحد وحده (أي الحد «س») فلا يكون هناك حد آخر غير «س» يقال عنه أيضا إنه مساو للعنصرين «أ ج».
هذا هو التعريف في الرياضة عند «رسل»،
20
فهو أن نبدأ بقائمة من الألفاظ الأولية التي نقبلها بغير حاجة منا إلى تعريفها، وبواسطتها نعرف ما شئنا من الألفاظ الرياضية الهامة على النحو الذي ذكرناه، فحين يهم الرياضي بتعريف حد من حدوده، فلا يكفيه أن يحلل ذلك الحد إلى ما شاء من عناصر، بل لا بد له أن يتقيد في هذا التحليل بقائمة أمامه وضعت قبل أن يهم بتعريف ما يراد تعريفه، وتشتمل هذه القائمة على المدركات الأولية التي قبلناها بغير تعريف، أعني المدركات اللامعرفات، ولا بد بطبيعة الحال أن تكون هذه اللامعرفات الأولية منحصرة في أقل عدد ممكن، فكما يبتغي الرياضي أن يستدل أكبر عدد ممكن من النظريات من أقل عدد ممكن من الفروض، فكذلك تراه في مرحلة تعريفه لألفاظه الرياضية يحاول أن يحدد معاني أكبر عدد ممكن من الألفاظ بواسطة أقل عدد ممكن من اللامعرفات.
ها هنا نستطيع أن نضع أصابعنا على المهمة التي اضطلع بها المناطقة الرياضيون المحدثون أمثال «فريجه» و«رسل» و«وايتهد» وغيرهم، فقد كان الرأي الغالب - وإلى هذا الرأي ذهب «بيانو»
- وأتباعه
21 - هو أن لكل فرع من فروع الرياضة - كالحساب مثلا أو - الهندسة - ألفاظا أولية خاصة، أعني ألفاظا يقبلها المشتغلون بذلك الفرع من فروع الرياضة على أنها لا تحتاج إلى تعريف، وأنها هي التي بواسطتها يتم تعريف ما عداها من ألفاظ في ذلك الفرع، فتكون تلك الألفاظ الأولية اللامعرفة بمثابة نقطة الابتداء التي لا تسبقها خطوة وراءها، فكان الرأي إلى زمن قريب هو أن بعض المدركات الأولية في علم الحساب - وكان العدد من بين تلك المدركات الأولية - لا مناص من قبولها على أنها من البساطة في تكوينها والابتدائية في أسبقيتها، بحيث لا نحتاج في تعريفها إلى سواها، وبناء على ذلك لم ير الرياضيون ضرورة لتعريف العدد.
أما المناطقة الرياضيون فقد ذهبوا إلى غير ذلك في تحليلهم؛ إذ رأوا أن الرياضة البحتة بكافة فروعها تشترك في مجموعة واحدة من اللامعرفات الأولية، وأن هذه اللامعرفات الأولية إن هي إلا المدركات الرئيسية في علم المنطق، مثل: «فئة»، «استدلال»، «صادق» (أعني الصدق في القضايا) إلخ، فإذا رأيت في قضية رياضية ألفاظا لم تعرف غير هذه المدركات المنطقية، كان ذلك دليلا على أنها ليست من قضايا الرياضة البحتة،
22
فإذا وفق المناطقة الرياضيون في بيان أن الرياضة البحتة بكافة فروعها، يمكن رد قضاياها جميعا إلى عبارات لا تشتمل على غير الثوابت المنطقية مضافا إليها متغيرات، حققوا بذلك ما يبتغون، وهو أن يبينوا أن الرياضة البحتة استمرار للمنطقية وجزء منه.
وننظر الآن في تعريف العدد؛ لنرى كيف أمكن رده إلى مدركات منطقية:
ينبغي أولا أن نلاحظ الفرق بين ثلاثة أشياء: (1)
المجموعة التي نعدها. (2)
العدد نفسه الذي نعد به تلك المجموعة. (3)
فكرة العدد بصفة عامة.
ولتوضيح هذه الأشياء الثلاثة التي لا بد من التمييز بينها؛ أقول: افرض أن أمامك ثلاثة رجال، فهذا الثالوث من الرجال هو المجموعة المعدودة، وهو شيء غير العدد «3» الذي نعد به تلك المجموعة، بدليل أن هذا العدد «3» نفسه يمكن تطبيقه على ثالوثات أخرى غير الرجال الثلاثة الذين تراهم أمامك الآن، فتطلقه على ثلاثة طيور وثلاثة أحجار وثلاثة مصابيح وغير ذلك، وما دمنا نطلق رمزا واحدا هو «3» على هذه المجموعات المختلفة من أشياء، فلا بد أن يكون بين تلك المجموعات صفة مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستخدم الرمز «3»، ثم نعود فنفرق بين عدد معين مثل «3» أو «صفر» أو «9» وبين فكرة العدد بصفة عامة، فهذه الأعداد المختلفة إن هي إلا أفراد من فئة تجمعها، وما كانت لتجتمع في فئة واحدة لولا أن بينها صفة مشتركة هي التي نقصد إليها إذا ما تحدثنا عن «العدد» بصفة عامة، فالعدد «3» والعدد «صفر» والعدد «9» أفراد مختلفة الدلالات بعضها عن بعض، لكنها على اختلافها تنطوي تحت فئة واحدة هي «العدد»؛ لأن بينها جانبا مشتركا، وهذا الجانب المشترك في سلسلة الأعداد كلها هو المعنى المراد «بالعدد» إذا استعملنا الكلمة بصفة عامة، كما أن «طه» و«الحكيم» و«العقاد» أسماء لأفراد ينطوون - على ما بينهم من اختلاف - تحت فئة واحدة؛ هي مجموعة الأدباء، وإذن فلا بد أن يكون بينهم صفة مشتركة هي التي نقصد إليها حين نستعمل كلمة «أديب» بصفة عامة.
و«العدد» الذي سنتناول تحليله ورده إلى مدركات منطقية، هو «العدد» بالمعنى الثاني من المعاني الثلاثة السابقة، أو «العدد» الذي يكون متعينا محدد القيمة مثل «1» أو «3» أو «صفر»، كان الرياضيون إلى عهد غير بعيد، إذا أرادوا العدد استثنوا من الأعداد العدد «1»، وجعلوه غير قابل للتعريف ليعرفوا به سائر الأعداد، فيكون العدد «2» مثلا هو «1 + 1»، والعدد «3» هو «2 + 1» وهكذا، لكنها طريقة معيبة من عدة وجوه ؛ فهي فضلا عن أنها تفرق بين العدد «1» وبين بقية الأعداد، كأنه ليس واحدا منها، وفضلا عن أنها تستخدم فكرة الجمع المرموز لها بالعلامة + دون تعريف وتحديد، كأنها لا تحتاج إلى شيء من ذلك، أقول إنها فضلا عن هذين العيبين فيها، فإنها لا تنطبق إلا على الأعداد النهائية دون الأعداد اللانهائية، فلئن صح أن أي عدد نهائي من سلسلة الأعداد الطبيعية مثل «7» أو «532» يمكن تعريفه بتكرار العدد «1» كذا من المرات، فذلك لا يصح على العدد اللانهائي مثل مجموعة النقط في الخط المستقيم.
وقد أصبح اليوم في مستطاعنا التغلب على هذه الصعاب؛ فأولا قد بلغنا بفضل «كانتور»
Cantor
23
حدا من القدرة على تحليل الأعداد اللانهائية وفهمها يمكننا ونحن نعالج البحث في الأعداد وطبيعتها، من تعريفها تعريفا ينطبق عليها جميعا، النهائية واللانهائية على حد سواء. وثانيا قد مكنتنا الدراسات الحديثة في المنطق الرياضي من تحليل فكرة الجمع التي ترمز لها بالعلامة +، ولم نعد نلقي بهذا الرمز إلقاء كأنه شيء لا يتطلب التعريف، أو كأنه شيء يتعذر تحليله وتعريفه. وثالثا أصبح في مستطاعنا أن نعرف الصفر والواحد بنفس الطريقة التي نعرف بها سائر الأعداد، ولم يعد بنا حاجة إلى استثناء الواحد، وجعله شيئا قائما بذاته يستخدم في تعريف غيره من الأعداد بغير أن يتناوله هو نفسه التعريف.
24
وللسير في محاولة تعريف الأعداد طريقان؛ كلاهما يتخلص من عيوب الطريقة التي أسلفناها: طريق سلكه «كانتور» و«بيانو»، وطريق آخر سلكه «رسل» لعله أقرب إلى الكمال في تلافي كل ما يمكن تلافيه من أوجه النقص.
أما الطريق الأول فهو محاولة تعريف العدد بالتجريد، ومعنى ذلك أن تفحص مجموعة أو أكثر من المجموعات التي تنطوي تحت عدد معين، كالعدد «3» مثلا، فتتناول بالبحث ثلاثة رجال وثلاثة طيور وثلاثة أشجار إلخ، ثم تجرد هذه المجموعات الثلاثية من الصفات الخاصة المميزة لكل منها صفة بعد صفة، حتى يتبقى لديك بقية لا تكون صفة خاصة بمجموعة الرجال الثلاثة أو بمجموعة الأشجار الثلاثة، فتكون هذه الصفة الباقية بعد عمليات التجريد، هي التي نسميها بالعدد «3».
غير أن «رسل» يوجه إلى هذه الطريقة نقده، فيقول: إنه قد يتبقى لدينا بعد عمليات التجريد صفات لا حصر لعددها؛ إحداها فقط هي الصفة التي تصف طبيعة العدد، وعندئذ لا نجد بين أيدينا ما نميز به هذه الصفة الواحدة المطلوبة من سائر الصفات التي بقيت معها بعد عمليات التجريد.
فبدل أن نحاول تعيين الصفة المشتركة للفئات المتشابهة عددا - والتشابه بين فئتين يحدده أن تكون بينهما علاقة واحد بواحد
25 - فخير من ذلك أن ننظر إلى الفئة التي تضم تلك الفئات المتشابهة؛ فأمامك الآن - مثلا - ثلاثة رجال وثلاثة طيور وثلاثة أشجار وثلاثة مصابيح وثلاثة كتب إلخ، فبدل أن تحاول استخراج الصفة المشتركة بينها، لتكون هي معنى العدد «3»، ضمها جميعا في حزمة واحدة، وتصور أنك قد ضممت معها في هذه الحزمة عينها كل الثلاثات الممكنة في هذا العالم، يتكون لك فئة كبيرة تحتوي على فئات صغيرة، كل واحدة منها تشبه الأخرى، هذه الفئة الكبيرة من الفئات الصغيرة، هي معنى العدد «3». والفرق بين هذه الطريقة في تعريف العدد، وبين طريقة التجريد السابقة، هو - بلغة المنطق - الفرق بين تعريف الشيء بماصدقاته وتعريفه بمفهومه؛ طريقة التجريد تعرف العدد بالمفهوم، وطريقة الفئات المتشابهة في فئة واحدة تضمها، تعرف العدد بالماصدقات.
26
وتعريف العدد بأنه فئة من فئات متشابهة، ينطبق على كل عدد من سلسلة الأعداد بغير استثناء، فهو ينطبق على الصفر كما ينطبق على العدد «1»،
27
فالصفر هو الفئة التي تضم مجموعة الفئات الفارغة، والفئة الفارغة هي التي ليس لها أفراد، كفئة العنقاوات مثلا، فاجمع أمثال هذه الفئة الفارغة جميعا في فئة واحدة، تكن هذه الفئة الواحدة هي معنى الصفر، وكذلك قل في العدد «1» فهو فئة كبيرة تضم بين جنباتها مجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والفئة التي تكون ذات عضو واحد هي تلك التي لا يكون لها إلا مسمى واحد في عالم الأشياء، مع إمكان أن يوجد غيره إذا توافرت الصفات المميزة له في فرد آخر
28
مثل قولنا: «جرم يدور حول الأرض»، ونقصد بذلك «القمر»، فليس هنالك سوى القمر جرما يدور حول الأرض، لكننا على استعداد أن نطلق العبارة الوصفية نفسها «جرم يدور حول الأرض» على أي جسم آخر يتبين لنا أن هذه هي صفته، فاجمع كل الفئات ذات العضو الواحد في حزمة واحدة بخيالك يكن لك بذلك معنى العدد «1».
فتعريف «رسل» للعدد على هذا النحو، هو في الحقيقة بمثابة تعريف الاسم بالإشارة إلى مسماه، ولشرح ذلك أقول: افرض أنك تريد أن تشرح كلمة «أخضر» لطفل صغير، فلو حاولت أن تحدد له معنى الكلمة بصفات مجردة، كنت تتبع الطريقة التي اتبعها «كانتور» و«بيانو» في تعريف العدد، وهي طريقة التجريد، أما إذا أخذته إلى بقعة خضراء، وقلت له: انظر إلى هذه البقعة، فاللون «الأخضر» معناه هو الفئة التي تشتمل على جميع الأشياء الملونة بلون شبيه بهذا اللون الذي تراه أمامك، فهذا بعينه ما يريده «رسل» في تعريفه للعدد، إذ هو يعرف أي عدد بأنه الفئة التي تشمل جميع الفئات التي تكون شبيهة بفئة معينة، فإذا أردت أن تعرف معنى العدد «3» فانظر إلى ثالوث من الرجال مجتمعين معا، وقل إن العدد «3» معناه هو الفئة التي تشمل كل الفئات التي تكون كل منها شبيهة بهذه الفئة من الرجال التي أراها أمامي.
قد يسأل سائل: ألسنا حين نضم الفئات ذوات العدد الواحد في فئة كبيرة تشملها، فتكون هذه هي معنى ذلك العدد؟ ألسنا بذلك نفرض أسبقية علمنا بمعنى العدد قبل محاولة تحديد معناه؟ فنحن نقول - مثلا - إن العدد «3» معناه هو الفئة الكبيرة التي تحتوي على فئات صغيرة كل منها ثالوث معين، فتصور أننا حزمنا ثلاثة رجال في حزمة، وثلاثة طيور في حزمة، وثلاثة كتب في حزمة إلخ، ثم تناولنا هذه الحزمات جميعا فربطناها في حزمة واحدة كبيرة، فإن هذه الحزمة الكبيرة تكون هي مدلول العدد «3»، والاعتراض الذي نقدمه الآن هو هذا: كيف أتيح لنا أن نجمع هذه الثالوثات في حزمة واحدة ما لم يكن لدينا علم سابق بمعنى العدد «3»؟ وإذا كان لدينا هذا العلم السابق به، فما فائدة تعريفه بعد ذلك ما دمنا قد فرضنا معرفة سابقة به؟ والرد على هذا الاعتراض هو أننا لا نضم هذه الحزمات الصغيرة معا على أساس عددها، بل على أساس التشابه الذي بينها، وليس التشابه هو نفسه العدد، إنما تكون الفئتان متشابهتين إذا كان بين أفراد الواحدة منهما وأفراد الأخرى علاقة واحد بواحد، أعني أن يكون كل حد من حدود إحدى المجموعتين مقابلا لحد واحد لا أكثر من حدود المجموعة الأخرى، فمثلا إذا فرضنا في مجتمع ما أن كل رجاله وكل نسائه متزوجون، وأنه لا يباح في هذا المجتمع إلا زوجة واحدة لكل زوج، وإلا زوج واحد لكل زوجة، فعندئذ نحكم بأن عدد الرجال مساو لعدد النساء دون أن يكون بنا حاجة إلى عد الأفراد في كل من المجموعتين؛ إننا نحكم على هاتين المجموعتين بالتشابه، أي بأن بينهما علاقة واحد بواحد، ولا يقتضي ذلك منا أن يكون لنا سابق علم بعدد كل منهما.
وقد يعود الاعتراض من جديد بأنه إذا كنا سنبدأ الشوط في تعريفنا للعدد بجمع الفئات المتشابهة، وإذا كان التشابه معناه المنطقي هو أن تكون بين أفراد الفئتين المتشابهتين علاقة واحد بواحد، فإن إدراك هذه العلاقة نفسها بين الفئات المتشابهة يفترض إدراكنا للعدد «1»، لكن هذا الاعتراض لا يقوم على أساس قويم؛ لأن كل ما نطلبه لكي نحكم بوجود علاقة واحد بواحد بين مجموعتين هو أن تكون لدينا القدرة على تمييز الأفراد في كل من المجموعتين، وبعدئذ نستطيع أن نربط فردا من هذه بفرد من تلك، حتى إذا ما وجدنا أن كل فرد من هذه المجموعة قد ارتبط بفرد من تلك المجموعة، بحيث استنفدت الأفراد في كلتا المجموعتين، قلنا إن هاتين المجموعتين متشابهتان، دون أن نعلم عدد الأفراد هنا أو هناك، ودون أن يكون لدينا أي علم بفكرة العدد إطلاقا.
وواضح أننا إذ نعرف العدد بأنه فئة من فئات، فالعدد «صفر» هو رمز لمجموعة الفئات الفارغة، والعدد «1» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضو الواحد، والعدد «2» رمز لمجموعة الفئات ذوات العضوين كالأزواج، والعدد «3» هو رمز لمجموعة الثالوثات وهلم جرا، أقول إننا إذ نعرف العدد بأنه فئة من فئات، فإننا بذلك نكون قد حللنا هذا المدرك الرياضي الأساسي إلى مدركات ليست من الرياضة، بل هي مدركات من علم آخر هو المنطق؛ لأن «فئة» مدرك من مدركات المنطق لا الرياضة.
هذا هو المقصود حين نقول إن المناطقة الرياضيين المحدثين يحاولون رد الرياضة إلى منطق، أي إنهم يحاولون تحليل المدركات الرياضية إلى مدركات منطقية، فليس المقصود بقولنا إن المناطقة المحدثين يحاولون أن يبينوا أن الرياضة استمرار للمنطق، ليس المقصود بهذا أننا داخل حدود الرياضة نستخدم مبادئ المنطق في استدلال نظرية من نظرية، أو معادلة من معادلة، مع بقاء الرياضة علما قائما بذاته مستندا إلى مصطلحات خاصة به تكون منه بمثابة نقطة الابتداء، ولا تكون قابلة للتعريف أو التحليل؛ لأنه إذا كان هذا هو المقصود كان المراد هو أن الرياضة مثل من أمثلة كثيرة يمكن فيها تطبيق المبادئ المنطقية في عمليات الاستدلال، لكن المعنى المقصود بقولنا إن الرياضة استمرار للمنطق هو أننا نريد أن نبين إمكان تحويلها إلى بناء منطقي خالص كأي جزء آخر من أجزاء المنطق الخالص؛ وذلك بأن نبين إمكان استغنائنا عن المصطلحات الرياضية، وحلها إلى مدركات منطقية.
29 ،
30 •••
كان حديثنا فيما مضى يتناول الأعداد النهائية المحددة المعلومة القيمة، وها نحن أولاء نتناول الآن نوعا آخر من الأعداد، هو العدد اللانهائي؛ لنرى ماذا يكون من أمره في ضوء التحليل الحديث.
ومشكلة اللانهاية قد تعد المشكلة الرئيسية في الفلسفة الرياضية؛
31
ذلك أن الفئة من الأشياء حين تكون نهائية - أي ذات عدد محدد - كان أي جزء منها أقل عددا من عدد الفئة في مجموعها، وأما الفئة اللانهائية - كمجموعة النقط في الخط المستقيم - فلا يكون الأمر فيها كذلك؛ لأن أي جزء من الخط فيه من النقط عدد يساوي عدد النقط في مجموعة الخط كله؛ لأن عدد النقط في كل من الحالتين لا نهائي، واللانهائي بالطبع متساو في جميع حالاته، فمتى تكون الفئة لا نهائية؟
افرض أن «ف» رمز لفئة ما لا نهائية، وأن «ف » رمز لفئة أخرى لا نهائية تكونت بحذف أحد حدود «ف»، وليكن هذا الحد المحذوف هو «س»، فعندئذ قد يحدث أو لا يحدث أن تكون الفئة الجديدة «ف » شبيهة بالفئة الأصلية «ف»، فمثلا إذا كانت «ف» هي فئة الأعداد النهائية
32
كلها، وإذا كانت «ف » هي فئة الأعداد النهائية محذوفا منها الصفر، فإننا نجد أن «ف » و«ف» متشابهتان، بمعنى أننا نستطيع أن نجد لكل عدد من أعداد الفئة الأولى عددا مقابلا له من أعداد الفئة الثانية، أي إنه سيكون بين الفئتين علاقة واحد بواحد - ووجود هذه العلاقة بين فئتين هو معنى كونهما متشابهتين - إذ ستجري الفئتان هكذا:
0
1
2
3
4 ...
إلى ما لا نهاية
1
2
3
4
5 ...
إلى ما لا نهاية
نقول إن هاتين الفئتين سترتبطان إحداهما بالأخرى بعلاقة واحد بواحد، أي إن كل عضو من الفئة الأولى سيقابله عضو من الفئة الثانية، دون أن نضطر إلى حذف حد من حدود الأخرى، ومعنى ذلك أن الفئتين متساويتان، رغم كون الأولى بادئة بحلقة سابقة على الحلقة التي تبدأ منها الثانية.
لكن افرض أن «ف» هي سلسلة الأعداد النهائية حتى عدد «ن» - حين يكون «ن» نفسه عددا نهائيا - وأن «ف » مؤلفة من نفس أعداد «ف» ما عدا الصفر، فعندئذ «ف» و«ف » لا تكونان متشابهتين؛ لأن الثانية ستنقص حدا عن الأولى، حتى إذا ما حاولنا وصلهما بعلاقة واحد بواحد، بقي من حدود السلسلة الأولى حد لا نجد ما نربطه به من حدود السلسلة الثانية.
ففي الحالة التي يمكن أن نحذف من «ف» حدا، بحيث تتكون لدينا بعد هذا الحذف فئة جديدة هي «ف »، ثم نجد أنه - رغم هذا الحذف - لا تزال الفئتان متشابهتين، قلنا عن «ف» إنها فئة لا نهاية، وأما الحالة التي لا يمكن فيها ذلك، فإن «ف» تكون فئة نهائية محدودة بعدد معلوم.
33
وكذلك تكون الحال بالإضافة كما هي بالحذف، أعني أننا إذا أضفنا إلى «ف» حدا جديدا، فتكونت بذلك فئة هي «ف »، ثم وجدنا أننا رغم هذه الإضافة ما زلنا نجد الفئتين متشابهتين أي مرتبطتين بعلاقة واحد بواحد كانت «ف» فئة لا نهائية، أما إذا أجرينا هذه الإضافة إلى «ف» فتكونت فئة جديدة هي «ف »، بحيث يحدث بين الفئتين اختلاف يتعذر معه الربط بعلاقة واحد بواحد، كانت «ف» فئة نهائية.
والخلاصة هي أن الفئة اللانهائية هي التي لا تتغير بحذف أحد حدودها ولا بإضافة حد جديد إليها.
ومن هنا تنشأ المشكلات والنقائض في نظر الفلاسفة؛ ذلك لأنهم لا يعلمون عن طبيعة العدد ما قد كشف عنه الرياضيون في عصرنا الحديث، فيحسب الفيلسوف من هؤلاء أن الأعداد كلها سواء، فإن كان العدد النهائي - كالعدد 9 مثلا - يتغير بإضافة واحد إليه كما يتغير بحذف واحد منه، فكذلك يتغير العدد اللانهائي - في ظن أولئك الفلاسفة - بالإضافة إليه أو بالحذف منه، ومن ثم تبدأ المشكلة عندهم.
لكن «كانتور»
34
قد انتهى بأبحاثه في الرياضة إلى أن الأعداد النهائية تختلف عن الأعداد اللانهائية في نقطتين:
فأولا:
لا تخضع الأعداد اللانهائية - كما تخضع الأعداد النهائية - لما يسمى بالاستقراء الرياضي الذي خلاصته أنه إذا كان «ن» عددا نهائيا، فالعدد الناتج من إضافة «1» إلى «ن» يكون نهائيا كذلك، ويكون مختلفا عن «ن»، وبهذا يمكن أن نبدأ بالصفر، ثم نكون سلسلة أعداد بإضافات متوالية، في كل خطوة منها نضيف «أ»، بحيث يستحيل أن يشترك عددان مختلفان من أعداد السلسلة في تال واحد؛ فلكل عدد تاليه الذي يتكون بإضافة «أ»، والذي يختلف عنه، أما الأعداد اللانهائية فليست كذلك، فالعدد اللانهائي لا يتغير بإضافة «أ» إليه، ولا تتكون من الأعداد اللانهائية سلسلة بمثل هذه الإضافات المتوالية.
وثانيا:
أن العدد اللانهائي - على خلاف في ذلك مع العدد النهائي - يساوي جزءه، فالكل والجزء في هذه الحالة يكونان مؤلفين من حدود عددها في الكل مساو لعددها في الجزء.
وها هنا سينفر الفلاسفة منا؛ لأنهم سيرون في هذا القول تناقضا لا يشكون فيه، إذ عندهم أن الجزء لا بد حتما أن يكون أصغر من الكل الذي يحتويه، «لكن الفيلسوف الذي يقول هذا لو تفضل علينا بمحاولة البرهنة على وجود التناقض المزعوم، لرأى لنفسه أن مثل هذه البرهنة مستحيلة، إلا إذا سبقها تسليم بالاستقراء الرياضي ... وإذن فهو مضطر أن يقول إن إنكارنا للاستقراء الرياضي أمر ينقض نفسه بنفسه، غير أن هذا الفيلسوف لم يفكر في الأمر إلا قليلا، أو قل إنه لم يفكر فيه إطلاقا، ويجمل به أن يدرس الموضوع قبل أن يصدر فيه حكما؛ لأنه سيعلم أن الاستقراء الرياضي يمكن إنكاره بغير الوقوع في تناقض، وهكذا ستزول إلى الأبد تلك المتناقضات التي يظنها ملازمة لمشكلة اللانهائي.»
35
ونعيد هذا القول في عبارة أيسر فهما، فنقول إن مشكلة اللانهائي قد نشأت عند الفلاسفة؛ لأنهم ظنوا أن ما ينطبق على الأعداد النهائية لا بد كذلك أن ينطبق على الأعداد اللانهائية، كأنما يتحتم أن تكون الأعداد كلها من صنف واحد، وكأنما يستحيل أن يكون بينها اختلاف يجيز لنا أن نقول في بعضها ما لا نقوله في بعضها الآخر.
نعم، إن القول بأن الكل وجزءه يمكن أن يتساويا في عدد الحدود، قول لا يسهل قبوله عند الإدراك الفطري الساذج، كأنما الإنسان بفطرته مهيأ للحكم على الجزء بأنه أصغر حتما من الكل الذي يحتويه، مهما يكن نوع هذا الكل وذلك الجزء، لكن تحليلنا للأعداد اللانهائية ينتهي بنا إلى أن الإدراك الفطري لا ينبغي أن يركن إليه في هذا الموضوع؛ لأن الحقيقة التي لا مناص من قبولها هي أن الكل والجزء يتساويان في الأعداد اللانهائية، وأن عدم تساويهما إنما يكون محتوما في مجال الأعداد النهائية وحدها. (3) المنطق وعالم الواقع
36
أمامك ألفاظ وعبارات مكتوبة مقروءة، أو منطوقة مسموعة، وسؤالنا الآن هو هذا: إلى أي حد يمكن استدلال حقيقة العالم الخارجي من هذه الألفاظ والعبارات؟ أتكون اللغة مرآة للعالم الواقع أو لا تكون؟
يلقي «رسل» على نفسه سؤالا كهذا،
37
ثم يسرع إلى إثبات جوابه مجملا بأن هنالك - في رأيه - علاقة بين الطريقة التي تبنى بها عبارات اللغة والطريقة التي تترابط بها حوادث العالم التي تشير إليها تلك العبارات، ثم يستطرد ليقول إن العلاقة التصويرية القائمة بين ألفاظ اللغة وبين غيرها من حقائق الكون، قد تناولها معظم الفلاسفة فانقسموا إزاءها شيعا ثلاثا: (أ)
فلاسفة يستدلون خصائص العالم من خصائص اللغة، وهؤلاء هم من بين الصف الأول من كبار الفلاسفة، أمثال بارمنيدس وأفلاطون وسبينوزا وليبنتز وهيجل وبرادلي. (ب)
وفلاسفة يرون أن المعرفة الإنسانية كلها محصورة في دائرة ما يعرفه الناس من ألفاظ وعبارات، أعني أنهم لا يرون وسيلة ينفذون بها خلال اللغة إلى حيث الحقيقة الخارجية التي تعبر عنها تلك اللغة، ومن هؤلاء فريق «الاسميين»، وطائفة من رجال الوضعية المنطقية. (ج)
وطائفة ثالثة من الفلاسفة تذهب إلى أن ثمة جانبا من المعرفة يستحيل على اللغة أن تعبر عنه، مع أنهم إذ يقررون ذلك تراهم يحاولون استخدام هذه اللغة نفسها ليدلوا بها على تلك المعرفة ذاتها، ومن هؤلاء جماعة المتصوفة، وبرجسون، وفتجنشتين.
فأما هذه الطائفة الثالثة، فيمكن أن نغض عنها النظر لما في موقفها من تناقض صريح، وأما الطائفة الثانية فليس من اليسير قبول وجهة نظرها لما تكتنفها من مشكلات، أقل ما يذكر منها هو أنني أعلم عن عبارات اللغة نفسها حقائق ليست في ذاتها جزءا من اللغة، كأن أعرف مثلا أي الألفاظ قد ورد في هذه العبارة وبأي ترتيب ورد، وأما الطائفة الأولى التي تعتقد أن من اللغة وتركيبها يمكن استدلال حقيقة العالم وطبيعته، فهي التي تستحق النظر والتحليل، ذلك أن «رسل» يعتقد - كما يعتقد أفراد هذه الطائفة من الفلاسفة - بأن للغة دلالة على حقيقة العالم الخارجي وطبيعته، غير أنه يتخذ لنفسه في هذا الاتجاه موقفا خاصا به، هو الذي سنتناوله بالشرح فيما يلي.
من أهم الأبحاث التي نشرها «رسل»، فبسط فيها جانبا هاما من جوانب فلسفته، بحث نشره عام 1918م، وأطلق عليه اسم «فلسفة الذرية المنطقية»،
38
حيث شرح وجهة نظره في التشابه الشديد القائم بين تركيب اللغة وتركيب العالم، وهو إنما أطلق هذا الاسم ليعبر به عن خلاصة رأيه، فهي فلسفة «ذرية»؛ لأنه يذهب إلى أن العالم قوامه كثرة من أشياء، معارضا بذلك الفلسفة المثالية التي تجعل من الكون كلا واحدا متسق الأجزاء، وهذه الذرية «منطقية»؛ لأن الأجزاء التي ينتهي إليها بعد التحليل هي ذرات عقلية لا طبيعية مادية بالمعنى السائر المفهوم من هاتين اللفظتين.
حلل اللغة إلى وحداتها الأولية، تجد وحدتها هي «القضية» أي الجملة التي تدل على «واقعة» من وقائع العالم، وما «القضية» إلا مركب رمزي قوامه رموز هي الألفاظ، والعلامة المميزة للقضية هي إمكان وصفها بالصدق أو بالكذب، فالمركب الرمزي، أي اللفظي، لا يكون وحدة لغوية إذا استحال علينا بحكم طبيعته أن نقول عنه إنه صادق أو كاذب، فإذا كان لديك قضية كهذه: «هذه البقرة صفراء»، ثم إذا كان في عالم الأشياء بقرة صفراء هي التي تشير إليها تلك القضية، كان لديك جانبان لو حللتهما ألفيت بينهما شبها كالذي يكون بين شيء مصور وصورته، وماذا نعني «بالتشابه»؟ نعني به أن يكون بين الشبيهين «علاقة واحد بواحد» أي إن لكل جزء من أجزاء الشبيه جزءا يقابله في شبيهه، فإذا كان الأمر كذلك، ثم إذا كانت اللغة مركبة من أجزاء، وليست هي بالكائن الواحد البسيط، كان عالم الواقع كذلك مركبا من أجزاء، وليس هو بالكائن الواحد البسيط.
ويسمي «رسل» القضية البسيطة التي لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، بالقضية الذرية،
39
مثل قولي وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب الذي أمامي الآن: «هذه بقعة صفراء»، فإن تركب من هذه القضايا البسيطة اثنان أو أكثر لتتكون منها جملة، كان لنا بذلك قضية مركبة،
39
مثل قولي وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب المذكور: «هذه بقعة صفراء مستطيلة»؛ لأن هذه الجملة تنحل إلى جزأين بسيطين هما: «هذه بقعة صفراء» و«هذه بقعة مستطيلة».
وليست القضايا الذرية (البسيطة) كلها من نوع واحد، بل هي تتدرج في تسلسل متصاعد بالنسبة إلى عدد حدودها التي ترتبط بنوع العلاقة المذكورة فيها، ويقابل هذا التسلسل المتصاعد في القضايا الذرية تسلسل متصاعد شبيه به في وقائع العالم؛ فأول الدرجات في تسلسل القضايا الذرية (البسيطة) قضية قوامها شيء وصفته، كقولنا: «هذه البقعة صفراء» فها هنا تجد «حدا» واحدا هو «هذه البقعة» والصفة المنسوبة إليه وهي اللون الأصفر، ويمكن تسمية هذه القضية بالقضية «الواحدية»، ويتلوها في سلم الصعود قضية «ثنائية» يكون قوامها حدين بينهما علاقة تربطهما، كقولي «القلم على يمين الدواة»، ويتلو هذه قضية «ثلاثية» يكون قوامها ثلاثة حدود بينها جميعا علاقة واحدة تربطها في مجموعة واحدة، مثل «الكتاب بين الدواة والقلم»، ويتلو هذه قضية «رباعية»، فقضية «خماسية» وهكذا. وأحب قبل أن أترك هذه النقطة أن أنبه القارئ إلى حقيقة هامة، وهي أن أرسطو في «منطقه» حين حلل القضايا قد فاتته هذه الفوارق، وجعل القضايا كلها من النوع الأول، الذي تكون القضية فيه مؤلفة من حد واحد وصفته، أو بالاصطلاح المنطقي مؤلفة من موضوع ومحمول ... وكما يكون هذا التسلسل في القضايا، يكون كذلك في وقائع العالم الخارجي، فهكذا العالم مؤلف من وقائع كثيرة بسيطة، تختلف فيما بينها باختلاف عدد «الحدود»، أو قل عدد «الأشياء» التي ترتبط بعلاقة ما في مجموعة واحدة.
وينبغي أن نلاحظ ها هنا إذا ما ضمت قضية ذرية إلى غيرها بأداة مثل واو العطف أو كلمة «أو» أو كلمة «إذا» إلخ، فإنه يتكون لنا بذلك قضية مركبة، لا يكون لها ما يقابلها بين وقائع العالم، إذ وقائع العالم كلها بسيطة، وإنما يكون ضم بعضها إلى بعض في عبارات اللغة وحدها، ولكي أزيد ذلك شرحا أقول: إنني إذا شاهدت أمامي واقعتين مثل (1) غياب الشمس و(2) نزول المطر، ثم ربطت بين الواقعتين في عبارة واحدة مركبة بواسطة واو العطف، فقلت: «غابت الشمس ونزل المطر»، فإن ذلك لا يجعل من الواقعتين واقعة واحدة، بل سيظلان في العالم الخارجي واقعتين، وبعبارة أخرى ليس هنالك في عالم الأشياء شيء يقابل «واو العطف»، بل إن هذه «الواو» التي تضم حقيقة إلى حقيقة أخرى هي مجرد أداة منطقية نستخدمها نحن لربط الحقائق البسيطة، دون أن تكون هي نفسها دالة على حقيقة قائمة بذاتها. وخلاصة القول هي أن القضايا الذرية يقابلها في العالم وقائع ذرية، فإذا ما ركبت من الذرات مجموعة كان هذا التركيب مقتصرا علي وعلى طريقتي في تركيب الكلام دون أن يكون له مقابل في عالم الأشياء، فهذا العالم قوامه بسائط، ولهذا كان صدق القضية الذرية البسيطة متوقفا على مطابقتها للواقعة التي جاءت تلك القضية لتصفها، وأما صدق القضية المركنة، فمرهون بصدق أجزائها، كل جزء على حدة، فلو أردت التحقق من صدق العبارة المركبة «غابت الشمس ونزل المطر» كان لا بد لي من حلها إلى جزأيها؛ لأطابق بين كل جزء بسيط من هذين الجزأين وبين الواقعة الخارجية التي تقابله، فأتحقق من «غياب الشمس»، ثم من «نزول المطر» إذ قد تصدق الأولى وحدها دون أن تصدق معها الثانية.
إذا أردت التثبت من صدق عبارة صادفتك، فلا مندوحة لك عن تحليلها أولا - إذا كانت عبارة مركبة - إلى بسائطها التي تتركب منها، أي تحليلها إلى القضايا الذرية التي منها تتألف، ما دامت القضية الذرية وحدها هي التي يمكن المطابقة المباشرة بينها وبين الواقعة الخارجية التي تقابلها، ويتحتم بالبداهة أن يكون موضوع القضية الذرية اسما جزئيا، أعني أنه لا بد للقضية الذرية - لكي تبلغ آخر درجات البساطة - أن يدور الحديث فيها عن كائن جزئي واحد، بحيث أستطيع أن أدير إلى ذلك الكائن الجزئي حواسي؛ لأدرك إدراكا مباشرا إن كان ذلك الكائن الجزئي في الخارج على الحالة التي تزعمها العبارة المقولة عنه.
وها هنا نضع إصبعنا على نوع المعرفة الذي يجعله «رسل» أساس المعرفة اليقينية كلها، وأعني به «المعرفة بالاتصال المباشر»،
40
وكل ما عداها من صنوف المعرفة إنما هو مستدل منها، فما هي «المعرفة بالاتصال المباشر»؟ هي باختصار انطباع المعطيات الحسية على أعضاء الحس منك، فإذا نظرت إلى هذه المنضدة - مثلا - فليست المنضدة كلها بما يمكن معرفته بالاتصال المباشر؛ لأنك لا ترى «منضدة»، ولا تحس بأصابعك «منضدة»، إنما ترى «لمعة من الضوء» هو لونها، وتحس درجة معينة من «الصلابة» وهكذا، وإذن فما قد عرفته «بالاتصال المباشر» هو هذه الإحساسات المباشرة، أما إذا عدت فركبت من مجموعة هذه المعطيات الحسية «منضدة»، فهذا التركيب الناتج إنما يأتي خطوة ثانية بعد الخطوة الأولى، هو في الحقيقة «استدلال»، وليس هو بالمعرفة المباشرة، هو - باصطلاح «رسل» - معرفة بالوصف،
41
وليس معرفة مباشرة، المعرفة بالاتصال المباشر هي الخبرة المباشرة التي نستخدمها بعد ذلك في تركيبات عقلية، وتلك الخبرة المباشرة وحدها هي المعرفة اليقينية المؤكدة، وأما ما نستدله منها بعد ذلك - كائنا ما كان - فمعرض للخطأ .
إننا نقول عن معرفتنا إنها بالاتصال المباشر أو بالخبرة المباشرة حين يكون موضوع المعرفة حاضرا حضورا مباشرا، لو وقفت إزاء «العقاد» وجها لوجه كنت بمثابة من يعرفه بالاتصال المباشر، أما إذا عرفته عن طريق تسميته ب «مؤلف سارة» فقد عرفته بالوصف، ولما كانت المعرفة بالاتصال المباشر تقتضي أن يكون بينك وبين الشيء المعروف صلة مباشرة، كانت تلك المعرفة مجرد وعي منك بوجود الشيء المعروف دون أن يكون هنالك حكم منك عليه بأي وجه من الوجوه. وعيك بوجود لمعة الضوء المنبعثة من المنضدة التي أمامك، هو معرفة بالاتصال المباشر، أما معرفتك بأن هذه «منضدة» فذلك «حكم»، وإذن فهو نتيجة مترتبة على الخبرة المباشرة، وليس هو في ذاته بالخبرة المباشرة، نقول ذلك لأنه قد يخيل إليك للوهلة الأولى أن إدراكك «للأشياء» المحسوسة من حولك كالمقاعد والمناضد وما إلى ذلك هو من قبيل الإدراك المباشر، ومن ثم فهو مما يصح أن يكون موضوعات للقضايا الذرية البسيطة التي هي الخطوة الأولى والمؤكدة من بناء العلم الإنساني، مع أن كل «شيء» من هذه الأشياء التي تدركها بحواسك هو في الحقيقة «تركيبة» عقلية بنيتها لنفسك من خبراتك المباشرة؛ إذ بنيتها مما أدركته قبل ذلك من لمعات الضوء ولمسات الصلابة ... إلخ.
42
وأعود الآن إلى ما بدأت به وهو أنك إذا أردت التثبت من صدق عبارة صادفتك، فلا مندوحة لك عن تحليلها أولا - إذا كانت عبارة مركبة - إلى بسائطها التي تتركب منها، أي تحليلها إلى القضايا الذرية التي منها تتألف، ويتحتم أن يكون موضوع القضية الذرية «حاضرة حسية» أو «حاضرة عقلية» مما لا يحتاج إدراكه إلى شيء أكثر من مجرد الوعي «بحضور» الموضوع المدرك، إن بناء المعرفة الإنسانية قائم على أساس هذه المعطيات الأولية التي يدركها الإنسان إدراكا مباشرا، ولا تكون هذه المعطيات الأولية موضع شك؛ لأنها ليست «بأحكام» تصيب فيها أو تخطئ، وجدير ها هنا بالذكر أن نقول إن «رسل» حين أراد أن يعين أنواع المعطيات الأولية، لم يقتصر بادئ ذي بدء على المعطيات الحسية، بل أضاف إليها أوليات أخرى؛ كإدراكنا للعلاقات، وإدراكنا للمعاني الكلية، وإدراكنا للذات العارفة،
43
وإذا أردت عبارة تلخص لك لباب المجهود الفلسفي الذي بذله «رسل» بقية حياته الفلسفية بعد هذا الموقف الذي اتخذه بادئ أمره، فقل إنه محاولة أن يبتر «بنصل أوكام»
44
كل الزوائد التي ظنها في بداية الأمر «أوليات» تعطى، فتقبل بغير تحليل، ثم تبين له أنها «تركيبات» مستنتجة، وليست هي بالمعطيات الأولية، ولذلك وجب حذفها من قائمة المعرفة المباشرة اليقينية إلى قائمة المعرفة بالوصف، هكذا فعل حين حلل المعاني الكلية إلى عناصرها الأولية، وحين حلل العدد (وقد أسلفنا تحليله للعدد في الفصل السابق)، وحين حلل الذات، وحين حلل الأشياء المادية، بحيث انتهى إلى موقفه الأخير الذي رد فيه الكون كله إلى «هيولى محايدة» لا هي بالعقل ولا هي بالمادة ... لكن هذا الإجمال في القول لا غناء فيه، وسبيلنا في الفصول التالية أن نفصل هذا الإجمال.
لسنا نخطئ إذا قلنا إن مهمة الفلسفة عند «رسل» هي تحليل القضايا - وبخاصة قضايا العلوم - تحليلا يرد موضوعاتها إلى الأوليات البسيطة التي منها تتألف، فإذا كانت القضية تتحدث عن «س»، ثم أمكن تحليل «س» إلى عناصر أبسط هي «أ، ب، ج» وجب حذف «س»؛ حتى لا تتعدد الكائنات التي نفترض وجودها كمقومات للعالم، وهكذا نظل نحذف ما لا تستدعيه الضرورة إلى أن ننتهي إلى الحد الأدنى من المقومات التي لا بد من افتراضها لنفسر بها العالم ... وهذا هو ما اصطلح على تسميته ب «نصل أوكام» الذي أصبحت تتميز به فلسفة «رسل».
ولقد سمي هذا «النصل» بنصل «أوكام» نسبة إلى «وليم الأوكامي» الذي عاش في النصف الأول من القرن الرابع عشر، وعرف في تاريخ الفلسفة بمبدئه المشهور الذي شاع في صورة النص الآتي: «لا يجوز لنا أن نكثر من الكائنات بغير ضرورة تدعو إلى ذلك» غير أن النص الذي ورد في كتاباته مختلف عن هذه العبارة التي شاعت عنه، وإن تكن خلاصة الرأي في النصين واحدة، والنص المذكور في كتاباته هو: «إنه من الخطل أن نصطنع عددا أكثر فيما يمكن أن نستغني فيه بعدد أقل.» ومعنى ذلك أنه مهما يكن نوع العلم، الذي أنت مشتغل به، فإن وجدت أن تعليلك للظواهر التي هي موضوع بحثك لا يستلزم منك الزعم بوجود كائن ما، فليس من الصواب أن نفترض وجود ذلك الكائن، ويقول «رسل» وهو في معرض الحديث عن «نصل أوكام»: «إنني وجدت هذا المبدأ مفيدا أكبر الفائدة في التحليل المنطقي.»
45
وتطبيقا لهذا المبدأ الهام حذف «رسل» ما حذف من الكائنات التي افترض وجودها الفلاسفة بغير موجب، بل التي افترض وجودها «رسل» نفسه في بدء حياته الفلسفية، ومن هذه الكائنات المحذوفة مسميات الألفاظ الكلية، ولشرح ذلك أقول:
هنالك أفراد من الناس، زيد وعمرو وخالد، لكل فرد منهم اسمه الخاص كما ترى، فلو صادفنا اسم من هذه الأسماء، وأردنا أن نعرف مدلوله في عالم الواقع أشرنا إلى الشخص المسمى بذلك الاسم، لكن إلى جانب أسماء الأعلام هذه توجد ألوف من أسماء كلية مثل إنسان وشجرة ومنزل وكتاب، ماذا تعني كلمة «إنسان» مثلا؟ أو بعبارة أخرى: ما المسمى الذي تشير إليه هذه الكلمة؟ هبني زعمت لك أني قابلت «إنسانا» في الطريق، فستفهم عني ما أريد، دون أن يكون في مستطاعك أن تعلم أي فرد من أفراد الناس قابلت في الطريق؛ لأن كلمة «إنسان» تنطبق على هذا وهذا وذلك من أفراد الناس، وإذن فهي كلمة بغير مدلول متعين، هي اسم بغير مسمى معلوم في عالم الأشخاص، ولهذا وجد الفلاسفة المثاليون أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجود كائن عقلي يضاف إلى الأفراد المشخصة، هو الذي نقصد إليه، ونسميه حين نستخدم كلمة «إنسان»، وهكذا قل في «شجرة» و«منزل» و«كتاب» وألوف الأسماء الكلية الأخرى، وبهذا نخلق لأنفسنا عالما بأسره إلى جوار عالمنا هذا الذي يحيط بنا ونعيش فيه، عالم الأفراد الجزئية.
أقول إن الفلاسفة المثاليين قد اضطروا إلى هذا الفرض، على أساس أن لكل كلمة من كلمات اللغة مدلولها، وإلا لكانت لغوا باطلا، وما دامت هذه الكلمات الكلية مفهومة المعنى حين ترد في الحديث ، فلا بد أن يكون لها مدلولاتها، ثم ما دمنا لا نجد هذه المدلولات في عالم الجزئيات، فلا بد لنا من افتراض عالم فكري يحتوي على مدلولات تلك الكلمات الكلية.
وقد كانت هذه تكون نتيجة سليمة لو صحت مقدماتها، وهي أن الكلمات الكلية «أسماء»، وإذن فلا محيص لنا عن افتراض وجود مسميات لها، لكن ها هنا يأتي «رسل» بتحليله المنطقي لهذه الكلمات ليدل به على أن الكلمة منها ليست اسما، بل هي «وصف»، وقد يوجد الفرد الذي يوصف بذلك الوصف، وقد لا يوجد، أو بعبارة أخرى، كلمة مثل «إنسان» هي في الحقيقة عبارة وصفية بأسرها، وليست العبارات الوصفية بذاتها دليلا على وجود أفراد لها؛ إذ في مستطاعي أن أنسج من الخيال عبارة وصفية لا تنطبق على أي فرد من أفراد العالم الواقع.
قارن بين عبارة تحدثك عن فرد واحد مثل «العقاد مستقيم على ساقين»، وعبارة تحدثك عن اسم كلي مثل: «الإنسان مستقيم على ساقين» تجد أن العبارة الأولى قضية ذرية بسيطة تقابلها واقعة ذرية بسيطة، بحيث إذا أردت التحقق من صدقها كان عليك - وفي مستطاعك - أن تقارن القضية التي هي بمثابة الصورة اللفظية بالواقعة التي هي بمثابة الحقيقة المصورة، كان عليك - وفي مستطاعك - أن تقصد إلى الفرد الواحد الذي يسمونه بالعقاد لترى إن كان حقا يستقيم على ساقين كما تزعم الصورة اللفظية أو لم يكن، فإن كان صدقت القضية وإلا فقد كذبت.
أما إذا أردت التحقق من صدق العبارة الثانية «الإنسان مستقيم على ساقين»، فلن يكون أمامك سبيل إلى ذلك إلا أن تقع على فرد من مجموعة الأفراد الذين ينطوون جميعا تحت كلمة «إنسان»، وإذن فأنت بمثابة من يحلل كلمة «إنسان» إلى صورة كهذه : «س إنسان» و«س مستقيم على ساقين»، أعني أنك بمثابة من يقول إنه لا سبيل إلى تحقيق ما يقال عن «الإنسان» إلا إذا وجدت له أفرادا أولا، ثم بعد ذلك ترى إن كان لهؤلاء الأفراد من الصفات ما هو مزعوم لهم في العبارة الأصلية.
وهذه الصورة الرمزية «س إنسان» التي لا بد فيها من أن يتبدل مجهولها «س» بمعلوم من الأفراد الحقيقيين في دنيا الواقع، قبل أن ننتقل إلى الخطوة الثانية، وهي النظر إلى ذلك الفرد المعلوم الذي سنملأ باسمه مكان الرمز «س» لنرى إن كان ذلك الفرد يتحقق فيه أنه مستقيم على ساقين، أقول إن هذه الصورة الرمزية ليست قضية كاملة، بدليل أنها تفقد شرط القضية، الذي هو إمكان التحقق من صدقها أو كذبها، وبديهي أنك لا تستطيع هذا ما دام موضوع الحديث رمزا مجهولا هو «س»، لا، ليست هذه الصورة الرمزية بقضية كاملة، بل هي ما يسميه «رسل» ب «دالة قضية»،
46
ولما كانت دالة القضية لا يكون لها معنى بذاتها، حتى نستبدل فيها بالرمز المجهول اسما معلوما، تبين الفرق الشاسع بين عبارة تحدثك عن فرد وأخرى تحدثك عن كلمة كلية.
الكلمة الكلية بمثابة عبارة ناقصة، هي وصف ينتظر الفرد المعين الذي يوصف به، وقد لا يكون لمثل هذا الفرد وجود، وعندئذ تظل الكلمة الكلية بغير مدلول، وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالة على أوصاف عامة وجود كائنات تكون بمثابة المسميات لتلك الكلمات، قد أخطئوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، فالجملة المحتوية على كلمة كلية، أي على عبارة وصفية (لأن الكلمة الكلية هي في حقيقتها عبارة وصفية) هي دالة قضية، أعني أنها رمز ناقص، ولا يجوز الحكم عليها بصدق أو بكذب إلا إذا رددناها أولا إلى قضية بأن نملأ مكان الرمز المجهول باسم فرد معلوم، لو قلنا عبارة كهذه مثلا عن «الإنسان»: «الإنسان فان»، وأردنا أن نجعل منها رمزا كاملا في دلالته، تحتم علينا أن نضع مكان الكلمة الكلية «إنسان» اسم علم يدل على فرد معين مثل «العقاد»، وعندئذ فقط يصبح الكلام مما يجوز التحقق من صدقه أو كذبه؛ إذ في مستطاعنا الرجوع إلى عالم الواقع، لنجد فيه فردا اسمه «العقاد» فنلاحظه لنعلم إن كان فانيا حقا كما تزعم لنا العبارة الأصلية، وبهذا نكون قد تخلصنا من كلمة «إنسان»، على حين أننا إذا أبقينا كلمة «إنسان» على حالها، وظللنا نصفها بكذا وكذا، ثم رجعنا إلى عالم الأفراد المحسوسة، ولم نجد بينها هذا «الإنسان» العام الذي ليس فردا بذاته من الأفراد، شطح بنا الوهم إلى افتراض وجود كائن عقلي هو الذي نعنيه بكلمة «إنسان» الكلية، وافتراض أن وجود ذلك الكائن الموهوم يقتضي عالما عقليا يقوم فيه، كما فعل أفلاطون مثلا في نظرية المثل، هكذا نبتر بنصل أوكام مسميات الألفاظ الكلية، إذ لم نعد نرى ضرورة تستلزم افتراض وجود هذه الكائنات.
معرفة الأفراد الجزئية هي معرفة بالاتصال المباشر، ومعرفة الكليات هي معرفة بالوصف، ولا بد لكل معرفة بالوصف أن ترتد إلى معرفة بالاتصال المباشر إذا ما أردنا التثبت من صدق دلالتها، فإن وجدنا أن التركيبة العقلية الوصفية المتمثلة في لفظة كلية لا تنطبق على أفراد جزئية مما يقع في عالم الواقع لم يجز لنا أن نفرض لتلك التركيبات العقلية مدلولات خارجية، وتحتم علينا أن نبقيها هكذا على حالها تركيبات منطقية بغير مدلولات جزئية، فتظل رموزا ناقصة غير ذات معنى كامل، حتى تجد الأفراد الجزئية التي تجعل لها معنى، فإن استحال بحكم التركيبة الوصفية نفسها أن تجد لها أفرادا جزئية مما يمكن الوقوع عليه بالخبرة المباشرة، كانت تلك التركيبة الوصفية كائنا ميتافيزيقيا، ووجب حذفها؛ لأنها يستحيل أن تكون بين مقومات العالم.
من هذه الكائنات الميتافيزيقية الواجب حذفها لاستحالة وقوعها في الخبرة المباشرة، تلك العناصر التي افترض الفلاسفة - بل التي افترض رجل الشارع بإدراكه الفطري - أنها قائمة في الأشياء لتلتف حولها ظواهر تلك الأشياء، وأضرب لذلك مثلا للتوضيح فأقول: هذه منضدة أمامي، أفترض فيها أنها «شيء مادي» على درجة تزيد أو تقل من الثبات والدوام، فهي اليوم ما كانت بالأمس وما ستكون غدا، فماذا يأتيني منها في تيار خبرتي المباشرة؟ كل ما يأتيني منها لمعات متلاحقة من اللون تختلف درجة لمعانها باختلاف الضوء الساقط عليها، وباختلاف وقفتي منها، ودرجات من الصلابة أحسها حين أضغطها بأصابعي، ودرجات من الصوت أسمعها إذا ما نقرتها بيدي أو بغيرها وهكذا، إن سطحها المستطيل لتختلف «استطالته» باختلاف الزاوية التي أنظر إليه منها، وإذن فالذي يأتيني منها في خبرتي المباشرة هي هذه المعطيات الحسية التي تجيء متتابعة في مجموعات يختلف بعضها عن بعض كثيرا أو قليلا، لكني إذا أردت التحدث عنها، فأردت مثلا أن أقول إن الدواة قائمة عليها، تراني مسوقا بفطرتي إلى جعلها «شيئا» متماسكا صلبا ثابتا أطلق عليه كلمة واحدة لتكون له اسما، ثم أشير إلى هذا الاسم في حديثي، فأقول - مثلا - الدواة على المنضدة، كأنما «المنضدة» وكأنما «الدواة» شيئان ثابتان، وكأنهما ليستا مجرد «تركيبتين» من مجموعة معطيات حسية جاءتني عن طريق هذه الحاسة أو تلك.
ولما وجد الناس، بل لما وجد الفلاسفة، أنفسهم يتحدثون عن «الأشياء» على هذا النحو، بحيث يجعلون «للشيء» كيانا واحدا، ثم لما أدركوا تغير ظواهر الشيء بتغير وجهات النظر إليه، زعموا أن «للشيء» عنصرا أو جوهرا ثابتا تتعلق به تلك الظواهر المتغيرة، وهذا العنصر أو هذا الجوهر الثابت هو الذي أعنيه حين أستخدم كلمة واحدة أسميه بها، وإذن فليس معنى كلمة «منضدة» عندهم هو هذه اللمعات اللونية، وهذه اللمسات بالأصابع، بل هو ذلك المركز الخفي الذي لا تدركه الحواس، ومع ذلك يرون أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجوده ليستقيم لكلامهم معناه، وليستقيم للأشياء وجودها وثباتها ودوامها.
وبهذا تعددت الكائنات، ففي العالم - في رأي هؤلاء الفلاسفة وفي رأي رجل الشارع صاحب الإدراك الفطري - جانبان: ظاهر وحقيقة، أو قل: فيه مجموعتان من الكائنات؛ مجموعة المعطيات الحسية العابرة المتغيرة، ومجموعة العناصر التي تحفظ للأشياء ذاتيتها وكيانها.
وتطبيقا لمبدأ «نصل أوكام» الذي نبتر به كل كائن نفرض وجوده بغير موجب يدعو بالضرورة إلى ذلك الفرض، ينتهي «رسل» إلى الاكتفاء في تفسيره للعالم بمجموعات ظواهره ، مستغنيا عن «العنصر» أو «الجوهر» أو «النواة» التي كان يفرض وجودها في كل «شيء» ليسهل تصوره «شيئا» متصل الوجود، وإذن «فالمنضدة» عند «رسل» هي ظاهرتها الحسية تتجمع في مجموعات لا يربطها رباط سوى «وجهة النظر» إليها، إننا مضطرون إلى الاكتفاء بهذه الظاهرات ما دمنا نحدد أنفسنا بحدود خبراتنا المباشرة؛ لأن هذه الظاهرات وحدها هي التي تجيء عن طريق الخبرة المباشرة، وأعود فأذكرك بنوعي القضية عند «رسل»: قضية ذرية، وقضية مركبة، وبأن القضية الذرية البسيطة وحدها هي التي يمكن التحقق من صدقها، فإذا كان لدينا قضية مركبة وجب تحليلها إلى أجزائها الذرية لنقابل بين كل جزء وبين ما يقابله من واقعة بسيطة في العالم الخارجي، وإذا كان ذلك كذلك، فكل جملة أقولها لك عن «شيء» ما، كقولي مثلا إن المنضدة مستطيلة؛ لا بد من تحليلها إلى أجزائها الذرية، وتحليل «المنضدة» إلى العناصر الأولية التي منها تركبت في ذهني «شيئا»، يقتضيني أن أفتتها إلى المعطيات الحسية المتعاقبة التي جاءتني منبعثة منها، بحيث أنتهي إلى سلسلة طويلة من قضايا ذرية، الواحدة منها تكون على هذه الصورة الآتية أو ما يشبهها «هذه اللمعة الضوئية مستطيلة» إلخ؛ إذ من سلسلة اللمعات الضوئية، وما إليها من معطيات حسية أقيمت «التركيبة» المنطقة التي أطلقت عليها كلمة «منضدة».
وهكذا قل في «الذات» الإنسانية؛ فكما جاءتك من «المنضدة» معطيات حسية متعاقبة، هي كل ما جاءك منها، ثم تبرعت من عندك إسرافا بعنصر غيبي يمسك هذه الظاهرات بعضها ببعض؛ ليجعل منها «شيئا» واحدا، فكذلك في الفرد من الناس، «كالعقاد» مثلا، كل ما جاءك منه، بل كل ما يمكن أن يجيئك منه، معطيات حسية متعاقبة من لون وصوت إلخ، فلو اقتصرت على خبرتك المباشرة عنه، لقلت إن اسم «العقاد» إنما يطلق على سلسلة طويلة من هذه المعطيات الحسية، لكنك هنا أيضا تتبرع له إسرافا بعنصر غيبي تفرض وجوده داخل كيانه ليمسك تلك الظاهرات الجزئية في فرد واحد له وجود متصل ثابت، و«نصل أوكام» الذي نبتر به هذه الكائنات الزائدة التي نسرف في افتراض وجودها، يقتضينا أن نتخلص من هذه الفروض التي ليس لها ضرورة منطقية تقتضيها.
47
المحور الأساسي الذي يدور حوله المجهود الفلسفي عند «رسل» هو - كما أسلفنا - أن يتعقب بالتحليل صنوف الكائنات التي يفرض الناس وجودها، حتى يرد منها ما يمكن رده إلى سواها، بحيث ينتهي آخر الأمر إلى أقل عدد ممكن من تلك الكائنات، أعني الكائنات الأولية التي ندركها بالخبرة المباشرة، والتي لا بد من الاعتراف بوجودها أساسا للكون، ولمعرفتنا بالكون، وقد بدأ «رسل» حياته الفلسفية بالتسليم بوجود عدد من هذه الكائنات الأولية؛ إذ سلم في كتابه «مشكلات الفلسفة» بوجود «المعاني الكلية» و«العلاقات الكائنة بين الأشياء» و«الذات الإنسانية» إلى جانب تسليمه بالمعطيات الحسية؛ ظنا منه عندئذ أن المعطيات الحسية وحدها لا تغني عن افتراض وجود تلك الأوليات المزعومة، لكنه راح بعدئذ يحلل هذه الأشياء ليجد أن بعضها فروض زائدة يمكن الاستغناء عنها بغيرها، فالذات الإنسانية فرض لا ضرورة له ما دام التزامنا بالمعرفة اليقينية يقتضينا أن نقف عند الخبرة الحسية المباشرة، وليس في هذه الخبرة المباشرة «ذات»، بل كلها معطيات حسية تأتينا من صاحب تلك «الذات» المزعومة، و«المعاني الكلية» لا ضرورة لافتراض وجودها كائنات مستقلة قائمة بذواتها ما دام المعنى الكلي يمكن تحليله إلى صيغة رمزية تعتمد على الأفراد الجزئية في اكتسابها لمعناها، وهكذا.
فكأنما السؤال الرئيسي الذي ألقاه «رسل» على نفسه ليجيب عنه جوابا يكون صميم فلسفته، هو هذا: «ما هو أقل عدد ممكن من الأشياء البسيطة التي نقبلها بغير تعريف لتكون لنا نقطة ابتداء، وما هو أقل عدد ممكن من المقدمات التي نقبلها بغير برهان، بحيث يمكننا من تلك الأشياء وتلك المقدمات أن نعرف الأشياء التي هي بحاجة إلى تعريف، وأن نقيم البرهان على الأشياء التي هي بحاجة إلى برهان؟»
48
ولماذا يريد أن يصل إلى الحد الأدنى من الأوليات التي لا تحتاج إلى تعريف أو برهان؟ يريدها لتكون له بمثابة البداية المؤكدة التي يمكن أن نستدل منها بعدئذ سائر المعرفة استدلالا - لو كان في ذاته سليما - انتهى بنا إلى نتائج مؤكدة أيضا، أو بعبارة أخرى، إن وصولنا بالتجليل إلى أوليات المعرفة يضمن لنا الحد من الأخطاء التي يمكن أن نتعرض لها، «فافرض مثلا أنك قد أقمت علمك الفيزيقي على عدد معين من الكائنات وعدد معين من المقدمات، ثم افرض بعد ذلك أنك تستطيع بقليل من البراعة أن تستغني عن نصف تلك الكائنات ونصف تلك المقدمات، فإنك بغير شك تستطيع بذلك أن تقلل من استهدافك للخطأ؛ ذلك لأنه لو كان عندك في البداية عشرة كائنات وعشر مقدمات، فإن الخمسة التي تستبقيها ستكون على حالها من حيث سلامتها من الخطأ، لكن العكس غير صحيح، أي إنه إذا كانت الخمسة التي استبقيتها بمنجاة من الخطأ، فالعشرة الأولى لا يتحتم أن تكون كذلك بمنجاة من الخطأ، وعلى ذلك فإنك تقلل من خطر الوقوع في الخطأ كلما قللت من عدد الكائنات والمقدمات، إنني حين تحدثت عن المنضدة، فقلت عنها إنني لن أفترض لها وجود عنصر دائم تنطوي عليه ظواهرها، فقد كان ذلك مثالا لهذا الذي أقوله الآن؛ ذلك لأنه في كلتا الحالتين [حالة افتراض وجود العنصر الذي تتعلق به الظواهر، وحالة افتراض عدم وجوده، وأن ليس هناك إلا ظواهر تتعاقب]، أمامنا الظواهر المتعاقبة، فإذا استطعت أن تمضي إلى النهاية بغير افتراض وجود المنضدة الميتافيزيقية الدائمة، فإن خطر الخطأ يكون أقل منه في الحالة الأولى، لكن لا بد أن نلاحظ أن خطر الخطأ لا يقل بالضرورة إذا أنت أخذت على نفسك أن تنكر وجود المنضدة الميتافيزيقية، تلك هي ميزة «نصل أوكام»؛ إذ إنه يقلل خطر الوقوع في الخطأ».
49 (4) الإنسان ظاهرا وباطنا
50
يقول رسل في مقدمة كتابه «تحليل العقل» ما يأتي: «هذا الكتاب نتيجة محاولة أردت بها أن أوفق بين اتجاهين مختلفين؛ أحدهما اتجاه في علم النفس، والآخر في علم الطبيعة؛ إذ أراني عاطفا على الاتجاهين معا، ولو أنهما عند النظرة الأولى قد يبدوان متعارضين، فمن جهة يميل كثير من علماء النفس - وبخاصة أتباع المدرسة السلوكية - نحو موقف هو في جوهره مادي، على الأقل في منهجه إن لم يكن كذلك في أصوله الميتافيزيقية؛ فهم يجعلون علم النفس مرتكزا على علم وظائف الأعضاء وعلى الملاحظة الخارجية، وهم يميلون إلى النظر إلى المادة على أنها شيء أكثر صلابة وأبعد عن الشك من العقل، لكن علماء الطبيعة في الوقت نفسه - وخصوصا أينشتين وغيره من أنصار نظرية النسبية - ماضون شيئا فشيئا في جعل «المادة» أقل مادية مما كانت، وعالمهم يتألف من «حوادث» منها نشتق «المادة» بطريقة التركيب المنطقي ...
والنظرة التي توفق - فيما يبدو لي - بين الاتجاه المادي في علم النفس وبين الاتجاه اللامادي في علم الطبيعة هي النظرة التي أخذ بها وليم جيمس وأصحاب الواقعية الجديدة من الأمريكيين، وهي نظرة مؤداها أن «هيولى» العالم لا هي بالعقلية ولا بالمادية، بل هي «هيولى محايدة» منها يتكون العقل والمادة كلاهما، وقد حاولت في هذا الكتاب أن أتوسع في هذه النظرة في شيء من التفصيل بالنسبة إلى الظواهر التي هي موضوع البحث في علم النفس.»
51
ولئن كان هذا الوصف برنامجا لكتابه «تحليل العقل»، فهو كذلك صورة مختصرة لرأي «رسل» في الإنسان؛ لأنه في رأيه هذا يمزج بين النظرتين؛ النظرة التي تجعل من الإنسان سلوكا صرفا يخضع للملاحظة الخارجية، والنظرة التي تجعل بعض جوانب الإنسان أحداثا نفسية يدركها صاحبها بالملاحظة الباطنية دون أن تظهر إلى المشاهد الخارجي في صورة سلوكية، فالإنسان تتناوله بالبحث طائفة من علوم، فيتناوله التاريخ الطبيعي باعتباره حيوانا كسائر الحيوان له موضعه من سلسلة التطور، ويتناوله علم وظائف الأعضاء باعتباره جسدا يرد على البيئة المحيطة به ردودا تحفظ له الحياة، ويتناوله علم الاجتماع باعتباره عضوا في جماعات مختلفة كالأسرة والأمة، ويتناوله علم النفس باعتباره فردا يسلك ضروبا معينة من السلوك، وفي مستطاعه أن يتجه بانتباهه إلى باطن نفسه؛ ليدرك ما يدور في نفسه، ولا ريب في أن هذه الملاحظة الباطنية التي يقوم بها الإنسان إزاء نفسه هي التي أوحت إلى الناس بالرأي التقليدي الذي يفرق بين العقل والجسم، فالجسم هو جانبنا الذي يستطيع أن يشهده الآخرون، والعقل هو جانبنا الخاص الذي لا يستطيع إدراكه إلا صاحبه.
وقد جرى العرف بين الكثرة الغالبة من الفلاسفة بأن «المعرفة» شيء باطني ينظر إليه من الداخل، فنلاحظه في أنفسنا بأنفسنا، وليس هو بالظاهرة البادية التي يستطيع مشاهدتها الآخرون، وقد شاء لنا حسن الحظ أن يكون الناس في حيواتهم اليومية أكثر موضوعية وأقرب إلى الواضع من هؤلاء الفلاسفة، فتراهم ينظرون إلى «المعرفة» نظرتهم إلى الشيء الذي يمكن أن يشاهد ويختبر، ومن ثم كانت الامتحانات مثلا، وكان اهتمامنا بالطرائق التي يرد بها الناس على العوامل المختلفة في بيئاتهم، فهذه الردود التي ترد بها على بيئتك هي نصيبك من «المعرفة».
فإذا أردنا تحليل «المعرفة» البشرية، كان حتما علينا أن نحلل ما يحدث حين يرد الإنسان على بيئته في موقف معين، ولنضرب لذلك مثالا: هبك تشاهد سباقا، فصحت في اللحظة المناسبة قائلا: «بدأ السباق»، فإن هذه الصيحة منك هي رد على حوادث بيئتك، فما الذي حدث حتى انتهى بك الأمر إلى هذه الصيحة؟ حدثت حادثات تقع في أربع مراحل: (1)
انتقلت موجات ضوئية من مصدر خارجي إلى عينيك. (2)
واهتزت الأعصاب بين العينين والمخ. (3)
وحدثت حوادث في المخ. (4)
وانتقلت اهتزازات من المخ إلى حلقك ولسانك، فكانت منك تلك الصيحة ...
والمرحلة الأولى من هذه المراحل الأربع تتبع علم الطبيعة؛ لأنها تابعة لعلم الضوء، والمرحلتان الثانية والرابعة تتبعان علم وظائف الأعضاء، وأما المرحلة الثالثة فهي وإن تكن كذلك مما يجوز أن يبحثه علم وظائف الأعضاء، إلا أن علم النفس قد تناولها، وجعلها جزءا من ميدان بحثه، ولعله فعل ذلك حين قصر علم وظائف الأعضاء في مدى دقته العلمية بالنسبة إلى ما يجري في المخ من حادثات ... هذه المراحل الأربع في تلك الحادثة، وإن تكن شديدة التعقيد في تفصيلاتها، إلا أنها أبسط ما يمكن ضربه من أمثلة على عمليات المعرفة البشرية.
كان الرأي القديم أميل إلى قسمة تلك المراحل التي نجتازها في عملية المعرفة التي ندرك بها حوادث البيئة ونرد عليها، قسمين مختلفين؛ هما «الإدراك» من جهة، و «الإرادة» من جهة أخرى، فبالأول «نعرف» وبالثانية «نفعل»، على أن «الإدراك» و«الإرادة» كليهما عمليتان «عقليتان» لا تقتصران على أن تكونا مجرد سلسلة من حركات في موجات الضوء، أو في أعصاب الجسد، وكانت العلاقة التي تصل تلك العمليات «العقلية» بالجهاز العصبي لغزا يحير الفلاسفة، أما «رسل» فرأيه أن اللغز قد زال عنه السر،
52
وأن موضوع «المعرفة» هو في طريقه إلى الانتقال من مجال التخمين إلى مجال الدقة العلمية، و«الإدراك» و«الإرادة» مرحلتان من عملية واحدة، وما هذه العملية الواحدة سوى «فعل» وحركة في هذا الجزء أو ذاك، وليس الأمر أمر تأمل أو ضرب في غيب مجهول.
وقد أراد السلوكيون في علم النفس - وعلى رأسهم واتسن - أن يعللوا ضروب المعرفة كلها، عند الإنسان والحيوان على السواء، بمبدأ واحد، وهو مبدأ «الأفعال المنعكسة الشرطية»، أو «ردود الأفعال المكتسبة»، ونصه كما يلي: «إذا تعرض جسم حيوان أو جسم إنسان مدة كافية لمؤثرين، فإن أحدهما يصبح كافيا وحده لاستدعاء الرد الذي كان يستدعيه المؤثر الثاني.» وموقف رسل إزاء هذا المبدأ في تعليل «المعرفة» هو أنه لا يراه وحده كافيا لتعليل المعرفة بشتى ضروبها، لكنه يوافق على أنه مبدأ غاية في الأهمية؛ لأنه يفسر شرطا كبيرا جدا من عمليات التعلم، وهو ينظر إليه على أنه الصورة الحديثة لمبدأ قديم، هو مبدأ «ترابط المعاني» أو «تداعي الأفكار» الذي كانت له أهمية بالغة في الفلسفة، وفي الفلسفة الإنجليزية بنوع خاص، غير أن هذا المبدأ قد ظهر الآن على ضوء مبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية، فانطوى تحته باعتباره أحد نتائجه.
ذلك أن المبدأ الجديد - مبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية - يشمل ميدانا أوسع جدا من الميدان الذي يشمله مبدأ «تداعي الأفكار» القديم؛ فالذي «يتداعى» أو «يترابط» بعضه مع بعض ليس «أفكارا»، بل «حركات جسدية»، وأول ما يمتاز به هذا النظر الجديد هو أن الحيوان يدخل مع الإنسان في تفسير واحد إذا كان التعلم عند كليهما حركات جسدية تترابط؛ لأن «الأفكار» إن جازت بالنسبة للإنسان فافتراضها في الحيوان إمعان في التخمين ، هذا إلى أن الحركات الجسدية يمكن إخضاعها للملاحظة الخارجية، على حين أن «الأفكار» لا سبيل إلى ملاحظتها إلا من الداخل، بحيث يلاحظ الإنسان نفسه دون أن يتاح لغيره أن يشاركه في تلك الملاحظة.
وإذن فهو كسب علمي كبير أن نرد «المعرفة» الإنسانية إلى وحدات حركية تترابط، أي أن نردها إلى عادات جسدية، فنستغني بذلك عن «العقل» وما يحيط بافتراض وجوده من إلغاز وغموض لا تدعو إليهما ضرورة علمية، غير أن «رسل» لا يريد أن يندفع وراء السلوكيين إلى آخر المدى؛ إذ تراه يتحفظ فيقول: إن ردود الأفعال المكتسبة أحيانا لا تفسر بعض ظواهر السلوك، فمثلا رائحة الفلفل تسبب عطاسا، فإذا ما ربطنا بين الفلفل نفسه وبين كلمة «فلفل»، ثم غاب الفلفل وبقيت الكلمة وحدها، فإنها لا تسبب العطاس عند قارئها أو سامعها، مع أنها كان ينبغي أن تحدث هذا الأثر لو صدق قانون الأفعال المنعكسة الشرطية صدقا مطلقا. وكذلك هنالك من الأفعال - في رأي رسل - ما يأتي نتيجة للحدس (أو البصيرة)، ولا يكون فعلا منعكسا.
53
ومهما يكن من أمر الأفعال المنعكسة الشرطية من حيث كفايتها أو عدم كفايتها لتفسير السلوك بشتى ضروبه، فهي مميز واضح يميز الكائنات الحية من الأشياء الأخرى التي تشترك مع تلك الكائنات في القدرة على الإحساس بالبيئة المحيطة، فليست الكائنات الحية وحدها هي التي تستطيع أن تحس ما حولها وترد عليه ردودا مناسبة؛ فللآلات العلمية - مثلا - كمقاييس الضغط والحرارة، حساسية دقيقة؛ ذلك أننا نصف الشيء بالحساسية لمؤثر معين إذا كان سلوكه في حضور ذلك المؤثر يخالف سلوكه في غيابه، فلوحة آلة التصوير حساسة للضوء، والبارومتر حساس للضغط الجوي، والترمومتر حساس للحرارة وهكذا، حتى ليجوز لنا القول في هذه الحالات وأمثالها إن الآلة «تدرك» إدراكا حسيا ذلك المؤثر الذي أعدت الآلة لتكون حساسة له، غير أننا نقول ذلك على سبيل المجاز، ونشعر بأن الإدراك الحسي عند الكائن الحي يختلف عنه في الآلة العلمية، فأين يكون موضوع الاختلاف؟
الجواب التقليدي عن هذا السؤال هو أن الكائن الحي يختلف عن الآلة العلمية الحساسة لمؤثراتها بما لدى الكائن الحي من «شعور»، لكن هذا الجواب - سواء أخطأ أو أصاب - قائم على استدلال لا على ملاحظة موضوعية خارجية؛ لأنك لا ترى «شعورا» في الكائن الحي الذي يسلك سلوكا يرد به على بيئته نتيجة لما تلقاه من تلك البيئة من مؤثرات، أما الإجابة التي تعتمد على الملاحظة الموضوعية وحدها، فهي أن الكائن الحي يختلف في «إدراكه الحسي» عن الآلة العلمية بأنه حساس لمجموعة منوعة من المؤثرات، على حين أن الآلة العلمية يغلب أن تكون حساسة لمؤثر من نوع واحد، فعلى الرغم من أن الآلة العلمية قد تكون أشد حساسية من حاسة الإنسان المختصة بإدراك نفس الأثر الذي تحسه تلك الآلة العلمية، فلوحات آلات التصوير تلتقط من المرئيات البعيدة ما لا تستطيع التقاطه عين الإنسان، والترمومتر يسجل من الاختلافات في درجات الحرارة ما يعجز عن إدراكه الإنسان بحاسة لمسه، وهكذا. أقول إنه على الرغم من ذلك، فإنه ليس من سبيل إلى ربط الصلات بين آلة التصوير الميكروسكوبية والميكروفون والترمومتر إلخ، في كائن واحد يرد بطريقة مطردة على مجموعة المؤثرات المختلفة التي تتلقاها «حواسه»، مع أن للإنسان هذه القدرة على ربط الصورة المرئية بالصوت المسموع وبالإحساسات اللمسية.
على أن هذا الفارق بين الكائن الحي وبين الشيء المادي الحساس قد يعترض عليه بأننا قد نصل بمقدرتنا العلمية في المستقبل إلى حد يمكننا من صنع الجهاز الآلي الذي يشتمل على مجموعة «الحواس» في آن واحد، ويربط تأثراتها ربطا شبيها بما يتم عند الكائن الحي، فها هنا نضيف فارقا آخر - لعله الفارق الأساسي، أو ربما كان الفارق الوحيد - بين الكائن الحي والآلة الحساسة، وهو القدرة على القيام بأفعال منعكسة شرطية، فانظر - مثلا - إلى آلة أعدت لتكون حساسة للقروش، بحيث يوضع فيها القرش فترد عليه بإخراج قطعة من الحلوى، ثم حاول أن تكون فيها فعلا منعكسا شرطيا، بحيث يكفي أن تبرز أمامها قرشا، أو تنطق أمامها بكلمة قرش لتخرج لك قطعة الحلوى، فالأفعال المنعكسة التي تؤديها الآلة ستظل دائما أفعالا مباشرة لا يمكن أن تتم إلا نتيجة للمؤثر الأصلي، وما كذلك الكائن الحي، الذي إذا قرنت له الطعام بصوت الجرس عدة مرات، كان صوت الجرس بعد ذلك كافيا وحده لإحداث رد الفعل، وهو إفراز اللعاب.
الأفعال المنعكسة الشرطية، أو ردود الأفعال المكتسبة، هي من أهم المبادئ التي تستطيع بها أن تفهم الإنسان فهما يقوم على التجارب العلمية، ولا يعتمد على الضرب في غيب مجهول وروحانيات غامضة ملغزة، لكن «رسل» على الرغم من أنه يتجه هذا الاتجاه في تفسير الإنسان وسلوكه، إلا أنه لا يراه وحده كافيا، ومن الجوانب التي يقصر فيها ذلك المبدأ عن التعليل المقبول - في رأي «رسل» - جانب الذاكرة؛ كيف يتذكر الإنسان حادثا مضى؟
تستعمل كلمة «الذاكرة» بمعان مختلفة، فهي أحيانا تستعمل بمعنى واسع حين يراد بها القدرة على تكرار عادة اعتدناها، فأنت مثلا تستعين بالذاكرة على ربط رباط الرقبة، وعلى السباحة والمشي والكلام، لكنها أحيانا أخرى تستعمل بمعنى ضيق، بحيث يراد بها القدرة على استعادة حادثة مضت، فبينا ترى المعنى الواسع للكلمة يبيح للناس أن يستخدموها في حالة الحيوان - كالكلب مثلا - حين «يتذكر» وجه صاحبه، أو يتذكر اسمه حين ينادي به، بل يبيح لهم أن يعللوا الأفعال الغريزية بالذاكرة؛ إذ هي في رأيهم تذكر الفرد الواحد لتجارب أسلافه، وإن «دارون» ليذهب في هذا الاستعمال للكلمة بمعناها الواسع إلى حد يستبيح معه لنفسه أن يتحدث عن «ذاكرة النبات»، ترى فيلسوفا مثل «برجسون» يرفض هذا الاستعمال للكلمة، ولا يجعل «العادة» نوعا من الذاكرة، ويصر على أن الكلمة لا تعني معناها الحقيقي، إلا إذا أردنا بها استعادة حادثة وقعت في الماضي، وربما وقعت مرة واحدة، بحيث لم ينشأ عنها «عادة»؛ لأن العادة تتطلب التكرار.
عند أصحاب المذهب السلوكي - وعلى رأسهم الدكتور واتسن - أن «الذاكرة» ليست إلا عادات، حتى ليرون أن موضوع الذاكرة لا يحتاج إلى دراسة خاصة؛ لأنه فرع من موضوع أشمل هو «العادة»، وحتى ليحرم السلوكي على نفسه أن يستخدم كلمة «ذاكرة»، حتى لا يختلط عليه الأمر، فيظن أن لها معنى خاصا بها غير المعنى المفهوم من كلمة «عادة».
54
ومن الأمثلة التي يسوقها السلوكيون ليبينوا أن «الذاكرة» ليست إلا عادة جسدية تكونت، تجربة أجريت على فأر في متاهة، فقد احتاج الفأر في المرة الأولى إلى أربعين دقيقة ليخرج من المتاهة، وبعد خمس وثلاثين محاولة تعلم أن يخرج من المتاهة في ست ثوان دون أن يخطئ مرة واحدة في التماس طريقه داخل المتاهة، ثم أبعد عن المتاهة ستة أشهر، فلما أعيد إليها خرج منها في دقيقتين، وأخطأ في محاولته ست مرات، فهذا مثل يوضح إلى أي حد استطاع الفأر أن يحتفظ بما تعلمه في المرة الأولى.
ومثل تجريبي آخر؛ قرد وضع في صندوق من صناديق التجارب، فاحتاج أول مرة إلى عشرين دقيقة ليفتح الصندوق، وظل القائمون بالتجربة يعيدونه إلى الصندوق مرة بعد مرة، وفي كل مرة يقل الزمن الذي يتطلبه القرد لفتح الصندوق، حتى كانت المرة العشرون استطاع أن يفتحه بعد ثانيتين، ثم أبعد عن الصندوق ستة أشهر، فلما أعيد إليه استطاع أن يفتحه في أربع ثوان.
هكذا يتعلم الحيوان، ويحتفظ بما تعلمه، وإنما الذي تعلمه واحتفظ به هو عادات جسدية، فإن قلنا عن الفأر أو عن القرد إنه بعد ستة أشهر «تذكر» خبرة الماضي، كان معنى قولنا هذا هو أن العادة التي تعودها بقيت لديه، وكذلك الحال في الإنسان؛ فهكذا يتعلم، وهكذا يحتفظ بتجاربه، وفي هذا الاحتفاظ بعاداته التي تعودها يكون ما نسميه بالذاكرة، ولم يكن «برجسون» على صواب حين اعترض بالحادثة التي تحدث مرة واحدة، ويستعيدها الإنسان بعد ذلك؛ لأن «العادة» قد يكفي لتكوينها فعل الشيء مرة واحدة، بحيث إذا عاد المؤثر مرة ثانية عاد الفعل على النحو الذي تم به في المرة الأولى.
هذه خلاصة ما قاله السلوكيون، وهو رأي في الذاكرة لا يوافق عليه رسل إلا إلى حد محدود، إذ يرى أن هنالك حالات كثيرة يصعب تفسيرها بمجرد الترابط الحركي في الجسد؛ فقد أتذكر حادثة وأعبر عنها بصور لفظية مختلفة، فلو كان التذكر مجرد ترابط آلي ربط بين الحادثة وعادات كلامية، لاقتضى الأمر أن أعبر عن الحادثة الماضية بصيغة كلامية واحدة هي التي اقترنت بها عند حدوثها أول مرة.
إنه إذا كانت الأمانة العلمية تقتضينا ألا نندفع في انتصارنا لمبدأ بعينه - كمبدأ السلوكيين في الأفعال المنعكسة الشرطية وتفسيره للسلوك الإنساني - بحيث نغض النظر عن الاستثناءات التي تعترض إطلاقنا لذلك المبدأ إطلاقا بغير قيد، فإنه كذلك ينبغي لنا ألا نقلل من شأن مبدأ بعينه إذا رأيناه منافيا لما نود أن يثبت صوابه، فما أكثر الناس الذين يتمنون أن يقال لهم عن الإنسان إنه كائن روحاني ملغز، ويكرهون أن يزعم لهم زاعم بألا روحانية في الإنسان ولا إلغاز، وأنه ممكن التفسير والتعليل بمبدأ تجريبي علمي كمبدأ الأفعال المنعكسة الشرطية الذي أخذ به السلوكيون، وموقف «رسل» من هذا المبدأ هو أن يأخذ به إلى آخر حد يستطيع أن يذهب معه إليه، حتى إذا ما بقيت بقية من جوانب الإنسان يتعذر تعليلها بهذا المبدأ، حاول تعليلها على أساس آخر.
فمن أوجه النشاط الإنساني التي كثيرا ما تؤخذ على أنها دليل على أن للإنسان «عقلا»، وأن الإنسان ليس مجرد كائن عضوي يمكن تدريبه بردود الأفعال المكتسبة، بحيث يصبح سلوكه كله بمثابة عادات جسدية، قدرته على استدلال نتيجة من مقدمتها، فتسمع قائلا يقول: كيف يتم هذا الاستدلال إذا لم يكن هنالك «عقل» يستدل؟ إن الآلة مهما دقت لا تستدل شيئا من شيء، ولو كان الإنسان آلة ترد على مؤثرات معينة ردودا معينة بالغريزة أو بالتدريب، لما كان الاستدلال في مقدوره.
لكن انظر إلى الأمر نظرة أدق تجد هذا «الاستدلال» إن كان استدلالا قياسيا من النوع الذي أخذ به أرسطو في منطقه، فهو بمثابة إثبات للحقيقة الواحدة في عبارتين مختلفتين، إذ هو تكرار في النتيجة لما جاء في المقدمة، وليس في هذا ما يرفع الإنسان عن مستوى الآلات الحاسبة، وأما إن كان استدلالا استقرائيا مستمدا من الخبرة، فهو يرتد إلى الصورة الآتية، وهي: إن «أ» و«ب» ظاهرتان تلازمتا دائما، فالمرجح أنهما سيظلان دائما متلازمين، بحيث إذا وقعت «أ» أمكن الاستدلال بأن «ب» كذلك ستقع معها؛ مثال ذلك أن أرى وضع الورق في النار، واحتراقه متلازمين دائما، فإذا ما وضعت ورقة في النار توقعت لها أن تحترق.
فإن كانت هذه هي صورة الاستدلال الاستقرائي في صميمه، لم يكن الاستدلال سوى صديقنا القديم، وهو قانون الترابط، أو بعبارة أخرى هو قانون الأفعال المنعكسة الشرطية، ونعيد هنا ذكر هذا القانون، وهو أنه إذا استدعى حادث معين ردا معينا، ثم إذا اقترن هذا الحادث بشيء آخر، فإن هذا الشيء الآخر وحده يصبح كافيا لاستدعاء ذلك الرد الذي لم يكن يستدعيه بادئ ذي بدء إلا الحادث الأول، هذا مبدأ ينطبق على الإنسان في جهازه العضلي، وفي إفراز غدده، ومن ثم فهو يفسر ما للإنسان من سلوك وعواطف. فمثلا لو أنزلت الأذى بطفل وثار فيه الغضب منك، فإن مجرد الطلوع عليه بوجهك بعد ذلك كاف لإثارة غضبه، حتى ولو لم تنزل به أذى، ثم يكون اسمك بعد ذلك - الذي سيرتبط عند الطفل بوجهك - كافيا لإثارة سخطه، وإن اقترن اسمك بعد ذلك بصناعة معينة كطب العيون، كان طب العيون وحده مثيرا لسخطه، وقد يقرأ بعد ذلك فلسفة اسبينوزا، فيعلم عن اسبينوزا أنه كان صانعا لعدسات المناظير فيكرهه ويكره فلسفته معه، وقد تنتقل هذه الكراهية إلى الفلسفة كلها، ثم إلى اليهود؛ لأن اسبينوزا يهودي ... وهكذا يمضي الترابط في سلسلة طويلة، في كل حلقة من حلقاتها يقترن المؤثر الأصلي بمؤثر مصاحب، فينتقل الأثر بعد ذلك إلى هذا المؤثر المصاحب، بحيث يكفي وحده لإثارة رد الفعل الذي كان يثيره المؤثر الأصلي.
وليس في هذا الترابط شيء لا تلاحظ مثله في الحيوان، فيكفي أن تذهب إلى حيوان بطعامه عدة أيام، حتى ترتبط عنده صورتك بالطعام، فإذا ما رآك بعد ذلك جرى وراءك كما يجري وراء الطعام سواء بسواء، والصورة الرمزية لهذه الحالات كلها هي ما يأتي: كان المؤثر «أ» ينتج رد الفعل «ج»، ثم اقترن «أ» بعامل مصاحب هو «ب»، فأصبح «ب » وحده كافيا لاستدعاء رد الفعل «ج»، كما كان يستدعيه «أ» سواء بسواء، وكل شيء يمكن أن ينوب عن كل شيء في إحداث الأثر المطلوب، وكلمات اللغة هي من أحسن الأمثلة التي توضح لنا كيف يمكن أن يقوم شيء مقام شيء آخر في استدعاء رد الفعل نفسه، فإن كان لشيء ما عندك رد فعل معين، كالخوف أو الغضب أو الحب إلخ، ثم اقترن ذلك الشيء باسمه، فإن اسمه بعد ذلك يصبح كافيا لإثارة العاطفة نفسها أو الانفعال نفسه الذي كان يثيره المؤثر الأصلي، فلو قال لك قائل: «إن بيتك قد شبت فيه النار» كان وقع هذه العبارة عندك مساويا لرؤية النار بعينيك وهي تشتعل في بيتك.
والاستدلال الاستقرائي هو هذه العملية الترابطية نفسها، فلك إن شئت أن تسميه بالاستدلال الفسيولوجي؛ لاعتماده على أعضاء الجسد، وما تؤديه من وظائف.
فعملية الاستدلال - ما أخطأ منه وما أصاب - يمكن تحليلها في كثير جدا من الحالات إلى نفس المبدأ الذي رأيناه يفسر لنا جوانب أخرى من سلوك الإنسان، وهو مبدأ ردود الأفعال المكتسبة الذي تتساوى فيه الكائنات العضوية جميعا من إنسان وحيوان. •••
غير أن هذه المبدأ، وإن استطاع تعليل الشطر الأكبر من السلوك الإنساني، فهو - كما رأينا - يعجز عن تفسير نواح من الإنسان، وإذن فلا بد - في رأي «رسل» - من النظر إلى الإنسان نظرة «داخلية» نكمل بها نظرتنا إليه نظرة «خارجية» موضوعية سلوكية، أو بعبارة أخرى، لا بد من إضافة «التأمل الباطني» إلى «الملاحظة الخارجية» لنظفر بالطريقتين متعاونتين بحقيقة الإنسان الشاملة لشتى نواحيه.
كلنا يعرف أن يقين ما نعلمه عن طريق التأمل الباطني هو الأساس الذي بنى عليه ديكارت فلسفته التي كانت فاتحة الفلسفة الحديثة؛ ذلك أن ديكارت كان حريصا على أن يبني فلسفته على يقين بحت لا يداخله الشك؛ لذلك جعل يشك في كل ما أمكن أن يشك فيه، فشك في حقيقة العالم الخارجي كله، لكنه لم يستطع أن يشك في وجود نفسه؛ لأنه مهما تشكك في ذلك فستظل أمامه حقيقة لا مجال للشك فيها، وهي حقيقة كونه في حالة من الشك، ولو لم يكن موجودا لما استطاع أن يشك، وإذن فهو موجود ما دام يشك، أو هو موجود ما دام يفكر ... فلما أدرك هذه الحقيقة اليقينية أخذ يبني العالم من جديد باستدلالات يتلو بعضها بعضا، ومما يلفت النظر أن عالمه الجديد الذي انتهى إليه لم يختلف في كثير عن العالم الذي كان يعتقد في وجوده قبل أن يأخذ في شكه.
وها هنا نلتمس مجالا طريفا للمقارنة إذ نقارن بين «ديكارت» و«واتسن» صاحب المذهب السلوكي، فكلا الرجلين يريد أن يبني على أساس سليم يقيني لا يتطرق إليه الشك، وكلا الرجلين قد أدرك كم يعتقد الناس في صحة أشياء دون أن يقيموا ذلك الاعتقاد على مبرر من المنطق، غير أن الرجلين يختلفان فيما يراه كل منهما جديرا باليقين، وصالحا أن يكون نقطة ابتداء؛ فما اعتقد «واتسن» أنه يقيني لا شك فيه هو بعينه ما اعتقد «ديكارت» أنه موضع للشك، والعكس أيضا صحيح، أي إن الجانب الذي تنكر له «واتسن» واطرحه ونبذه، هو بعينه الجانب الذي جعله «ديكارت» يقينا يؤخذ به في غير ريبة ولا شك، فالدكتور واتسن لا يسلم إلا بالجسد، وما يظهر عليه من سلوك، قاذفا في اليم بكل «الباطنيات» الغيبية التي لا ترتكز على ملاحظة خارجية يشترك فيها كل من أراد أن يلاحظ، «كالشعور» و«الفكر» و«العقل» وما إلى ذلك، على حين أن «ديكارت» قد غض النظر أول ما غضه عن الملاحظة الخارجية وما تأتينا به من علم؛ لأن وسيلة تلك الملاحظة الخارجية هي الحواس، والحواس قد تخدع، وجعل أساسه اليقيني هو ملاحظته الباطنية لما يدور في نفسه، فكان «الشك»، أو قل كان «الفكر» عنده أساس اليقين كله ... فلئن كان «ديكارت» قد برهن على وجود نفسه بفكره، فإن «واتسن» قد برهن على وجود نفسه بما يؤديه جسده من سلوك، فمقدمات اليقين عنده هي الفئران في المتاهات، وهي الغدد والعضلات وما إليها، فماذا نحن قائلون إزاء رجلين كهذين يوقن أحدهما بما يشك فيه الآخر؟ أي الموقفين نختار، أم أن لكل منهما جانبا من الصواب وجانبا من الخطأ؟
هذا الأخير هو موقف «رسل»؛ ليس الصواب كله في الملاحظة الخارجية التي تحصر نفسها في سلوك الإنسان الظاهر، وليس الصواب كله في التأمل الباطني لحالات الشعور، إنما الصواب وسيلته الطريقان معا، وليس هنا مجال النقد التفصيلي «لدريكارت» أو «واتسن»؛ فحسبنا أن نقول إن «ديكارت» خرج على مبدئه في الاعتماد على التأمل الباطني منذ عبارته الأولى: «أنا أفكر»؛ لأن الحالة الباطنية التي بررت له أن يقول هذه العبارة إنما هي حالة واحدة جزئية من حالات التفكير، وإذن فلم يكن هناك «أنا» ولا كان هناك «فكر» بمعناه الكلي، فكل ما كان له الحق في تقريره بناء على خبرته الباطنية المباشرة هو «ثمة حالة شك»، أو «ثمة حالة تفكير»، إن كلمة «أنا» وكلمة «أفكر» كلاهما نتيجة لعملية استدلالية، وليست هي بالمعطى المباشر، فلو اقتصر ديكارت على المعطيات المباشرة وحدها، أعني المعطيات الشعورية الجزئية التي ترد على الذهن واحدة بعد أخرى، دون أن يستخلص من هذه السلسلة «عنصرا» دائما ثابتا يطلق عليه كلمة «أنا»، ودون أن يطلق على مجموعة الجزئيات كلمة واحدة هي «أفكر»، ثم لو جعل هذه المعطيات الشعورية الجزئية يقينية لا يتطرق إليها الشك، لكان موقفه هو موقف «رسل» إزاء المعطيات الشعورية؛ لأنها عنده أساس لليقين، على شرط ألا أستدل من وجودها على وجود مسمياتها الخارجية؛ فاللمعة الضوئية التي تقع في خبرتي حين أصف تلك الخبرة بأنها «رؤية الشمس» يقين لا شك فيه، ما دمت لا أستدل من حدوث هذه الخبرة الداخلية على وجود مؤثر خارجي هو «الشمس»، فإذا فسرنا «الفكر» الذي جعله ديكارت أساس اليقين، بأنه هو الحالات الشعورية التي تقع في خبرتنا الباطنية، فندركها إدراكا مباشرا، كان ديكارت على صواب حين لم يخالجه الشك في يقين تلك الخبرة.
وكما يوافق «رسل» على يقين الخبرات الباطنية المباشرة، يرى كذلك أن السلوكيين قد أصابوا بعض الصواب في اعتمادهم على الملاحظة الخارجية. إن موقف السلوكيين يتلخص فيما يأتي : (1) أكثر الحقائق نصيبا من اليقين هي تلك التي يستطيع مشاهدتها عدد كبير من الناس، أعني أنها هي الحقائق «العامة» المعروضة للجميع، وليست هي بالحقائق «الخاصة» التي يدركها صاحبها وحده بتأمله الباطني؛ فمثل تلك الحقائق الموضوعية هي أساس العلوم الطبيعية. (2) والعلوم الطبيعية قادرة على شرح كل الحقائق المشاهدة التي يمكن ملاحظتها في السلوك البشري، أو بعبارة أخرى يمكن تفسير الإنسان بتلك العلوم وحدها. (3) ليس هنالك ما يبرر الاعتقاد بأن للإنسان جوانب لا يمكن معرفتها بالملاحظة الخارجية، وأنه لا بد لنا من التماس طرق أخرى غير الملاحظة الخارجية إذا أردنا العلم بتلك الجوانب. (4) والتأمل الباطني بصفة خاصة، باعتباره طريقة يمكن بواسطتها ملاحظة ما لا يمكن ملاحظته من الخارج، إنما هو وهم وخرافة لا بد من اقتلاعها من جذورها لكي نصل إلى علم صحيح بالإنسان. (5) ونتيجة لهذا فلا مبرر يدعونا إلى الظن بأن للإنسان جانبا خفيا اسمه «فكر» إذا أردنا بهذه الكلمة شيئا غير السلوك الجسدي الظاهر في شتى ضروبه ومنها الكلام.
ويوافق «رسل» على الثلاثة الأولى من المبادئ الخمسة المذكورة، ويرفض الرابع والخامس منها، ويعتقد أن خطأ السلوكيين راجع إلى عدم إلمامهم التام بما يقوله علم الطبيعة الحديث، ولو قال السلوكيون «إن كل ما يمكن معرفته عن الإنسان تكون معرفته بنفس الطريقة التي نعرف بها حقائق علم الطبيعة» لوافقهم «رسل»؛ لأنه يعتقد أن حقائق الطبيعة - كحقائق النفس - إنما يكون العلم بها في الواقع عن طريق الملاحظة الباطنية، ولو أنه قد يتبادر إلينا للوهلة الأولى أننا في علمنا بالطبيعة نعرف أشياء خارجية؛ ذلك لأنك حين تدرك بحواسك شيئا خارجيا، فسينتهي بك التحليل لعمليتك الإدراكية حتما إلى هذه النتيجة، وهي أن إدراكاتك كلها من بصرية وسمعية ولمسية إلخ، هي في رأسك، فحين تقول: «أرى الشمس» فالأمر في الواقع هو إدراك لشيء حدث في باطن نفسك.
يتتبع «رسل» بعض الظواهر «العقلية»
55
كالصور الذهنية التي ترتسم في عقولنا دون وجود مؤثر في الخارج يطابقها - كما يحدث مثلا حين نتذكر صورة غرفة وما فيها من أثاث، وكما يحدث في أحلام اليقظة وأحلام النوم - وكالخيال والذاكرة، والعاطفة والرغبة والإرادة، يتتبع هذه الظواهر «العقلية» بالتحليل ليبين أن المذهب السلوكي وحده لا يكفي لتفسيرها، أو بعبارة أخرى لا تكفي الملاحظة الخارجية وحدها لإدراك حقائقها، ولا بد إلى جانب ذلك من الملاحظة الباطنية التي يلاحظ بها الإنسان نفسه وما يدور فيها.
ففيما يتعلق بالصور الذهنية، فإن السلوكيين ينكرون قيامها، فيحسن أن نحدد المراد «بالصور الذهنية» في رأي مؤيديها قبل الرد على السلوكيين بشأنها. إننا إذا أقفلنا عيوننا أمكننا أن نستعيد بعض الصور البصرية عن المناظر والوجوه التي مرت بها في تجاربنا الماضية، كذلك نستطيع استعادة أنغام وأصوات سمعناها فيما مضى، كما نستطيع أن نستعيد الصورة اللمسية لفراء ننظر إليه دون أن نلمسه، لكننا نعلم ماذا تكون الخبرة اللمسية لو مررنا عليه بأكفنا ... هذه تجارب في حياتنا لا سبيل إلى إنكارها، لكن موضع الاختلاف في الرأي هو كيف نصف هذه التجارب وأشباهها.
يقول السلوكيون في تفسير الصور الذهنية إنها نتيجة حوادث تحدث في الأعصاب والمخ على نحو ما حدث بالضبط حين أدركنا المؤثرات الخارجية التي تكون هذه الصور الذهنية صورها، ماذا يحدث في شبكية العين مثلا حين تنظر إلى صورة لنابليون فتراها؟ الجواب عن هذا السؤال هو نفسه الجواب عن السؤال الآخر وهو: ماذا يحدث حين أستعيد صورة نابليون التي رأيتها في لحظة ماضية؟ فلو كان الإدراك الحسي عند وقوعه عبارة عن حركة مادية في أجزاء معينة من جسم الإنسان الرائي، فكذلك تكون استثارة الصورة الذهنية في حالة غياب المدرك الحسي؛ هذا تفسير، وتفسير آخر يأخذ به السلوكيون أيضا هو أنك إذ تنظر إلى صورة نابليون - مثلا - تتحرك أعضاء النطق بكلمة نابليون (سواء تم النطق بصوت مسموع، أو اقتصر على نطق داخلي لم يبلغ درجة الصوت المسموع)، وعندئذ يحدث ارتباط عضلي عصبي بين الحركات الجسدية التي تحدث عند رؤية الصورة والحركات الجسدية التي تحدث عند النطق بالكلمة، بحيث يكفي فيما بعد أن أنطق بالكلمة وحدها، فتعود الصورة لعودة مجموعة الحركات الجسدية التي تؤدي إليها.
هذا ما يقوله السلوكيون في تفسير الصور الذهنية، ويراه «رسل» غير كاف للتفسير في كثير من الحالات، وفي ذلك يقول إنه إذا سئل سؤالا عن غرفة مرت عليه في خبرته الماضية، وأراد الإجابة عنه، وجد نفسه مضطرا إلى أن يستعيد صورة الغرفة في ذهنه ليجيب ، كما يحدث تماما لو أنه سئل السؤال نفسه عن غرفة مرئية، ثم نظر إلى أثاث الغرفة ليجيب، ويؤكد «رسل» أنه إذ يستعيد صورة ذهنية لتجربة ماضية، فإن الصورة تأتيه أولا والكلمات المتعلقة بها ثانيا، بل إن هذه الكلمات قد لا تأتي مصاحبة للصورة أبدا، مما يدل على خطأ السلوكيين في ظنهم بأن الأمر كله ارتباط بدني حركي بين مجموعتين من الحركات العضلية العصبية؛ المجموعة التي تكون الكلمات، والمجموعة التي تكون صورة.
وننتقل إلى موضوع الذاكرة؛ فها هنا أيضا يرى «رسل» أن النظرية السلوكية إن أمكن الأخذ بها إلى حد بعيد، فهي وحدها لا تكفي لتعليل هذه الظاهرة تعليلا كاملا، إن السلوكي لا يرى ضرورة لاستعمال كلمة «ذاكرة»؛ لأن الأمر فيها هو نفسه الأمر في «العادات»، فإذا «تذكر» الفأر طريقه في المتاهة نتيجة لخبرته الماضية، فليس في «تذكره» هذا عنصر إضافي يضاف إلى «العادات» الجسدية التي تعودها الفأر، بحيث إذا ما كرر حدوثها كان له السير في الطريق الصواب، ولا فرق بين الفأر وهو يكرر هذه العادات الجسدية المحفوظة وبين الطفل وهو يكرر قوله: «7 × 6 = 42»؛ فهذا التكرار اللفظي - أي العضلي؛ لأن «العادة» هنا تكون في حركات اللسان وعضلات النطق إلخ - هو من قبيل تكرار الفأر لمجموعة الحركات التي تؤدي به إلى التماس طريقه في المتاهة، إذن فما نسميه «ذاكرة» هو عند السلوكي «عادات»، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنها تتوقف على الحركات الجسدية وحدها بغير داع إلى افتراض حقيقة «عقلية» تستحيل على الملاحظة الخارجية.
ويسأل «رسل»: كيف إذن نستطيع أن نفسر شعورها في حالة التذكر بأن ما نتذكره حادثة «مضت»؟ من أين يأتي هذا الشعور «بالماضي» مع أنه لم يكن ضمن العناصر المدركة حين وقعت الحادثة أول مرة؟ لو كان الأمر في «التذكر» شبيها بتسجيل حوادث صوتية على قرص الحاكي، بحيث إذا ما أدرنا القرص مرة أخرى حدثت الحوادث الصوتية نفسها في المرة الثانية كما حدثت في الأولى، لما وجدنا هذا التباين في الشعور بين الحالتين؛ لأنه لا شك في أننا نشعر إزاء الحادثة عند وقوعها أول مرة أنها حادثة «حاضرة»، ثم نشعر عند «تذكرها» أنها حادثة «ماضية» بدليل أننا نغير في الكلمات التي نستخدمها في الوصف في كل من الحالتين؛ ففي الحالة الأولى نستعمل الفعل المضارع، وفي الحالة الثانية نستعمل الفعل الماضي، إن قرص الحاكي لا يفعل ذلك، فإذا سجل الآن صوتك وأنت تقول لحبيبتك: «إني أحبك»، ثم أدرته بعد أيام لما غير في العبارة بحيث يقول: «إني أحببتك يوم الأربعاء الماضي»، وإذن فهناك في التذكر عنصر «ذاتي»، وليس الأمر كله موضوعيا صرفا يخضع للملاحظة الخارجية وحدها.
الخلاف الرئيسي بين «رسل» والسلوكيين في تفسير الإنسان، هو في اعترافه بضرورة الملاحظة الباطنية للظواهر العقلية التي يستحيل ملاحظتها من الخارج، على أنه بموقفه هذا لا يأخذ بما أخذ به علم النفس التقليدي من قسمة الإنسان إلى جانبين مستقل أحدهما عن الآخر كل الاستقلال في طبيعته: عقل من ناحية، وجسم من ناحية أخرى، بل يرد الجانبين معا إلى «هيولى محايدة» عنها يتفرع الجانبان معا، فلا هو بالمادي الذي يرد كل ظواهر العالم بما في ذلك الظواهر الفكرية إلى مادة، ولا هو بالمثالي الذي يرد ظواهر العالم كلها بما فيها الظواهر المادية إلى عقل، ولا هو بالاثنيني الذي يعترف بجانبي المادة والعقل، ويجعلهما حقيقيتين قائمتين جنبا إلى جنب، لكنه واحدي من طراز فريد، فالعالم كله مؤلف من عنصر محايد لا هو بالعقل ولا هو بالمادة، بل العقل والمادة كلاهما مؤلف منه على اختلاف بينهما في طريقة التأليف، وكان الذي أوحى إليه بهذه الفكرة هو وليم جيمس، فقد نشر وليم جيمس رأيه عن «الشعور» في مقال مشهور جعل عنوانه: «هل «الشعور» موجود؟»
56
قال فيه إن ما كان يطلق عليه اسم «الروح» وتخيله الناس شبحا كائنا بذاته داخل الجسم، إن هو إلا حالة يكون الإنسان فيها «عارفا» لهذا أو لذلك من الأشياء أو الأفكار؛ فكلمة «الشعور» أو «الوعي» إنما هي اسم على غير مسمى، وإن كنا نقصد بالمسمى كائنا قائما بذاته أو مبدأ من المبادئ الأولى، وأولئك الذين لا يزالون يستمسكون بوجوده فإنما هم يستمسكون بهباء أو صدى أو صوت خافت خلفته وراءها «الروح» في هواء الفلسفة بعد أن زالت هي واختفت من عالم الوجود؛ ويمضي جيمس في مقاله هذا فيقول إنه لا يعني بإنكاره الشعور إنكارا «للأفكار»؛ فالأفكار لا شك في وجودها، إنما الذي ينكره هو أن يكون ثمة إلى جانب «الأفكار» شعور قائم بذاته كأنه كائن بين الكائنات؛ كل ما هنالك هو مجموعة أفكار ترتبط بعلاقات فتسميها في ارتباطها هذا معرفة، فإذا استعملنا «الشعور» ليدل على العلاقات القائمة بين مجموعة أفكارنا، لم يكن في ذلك من بأس؛ على ألا نفهم من لفظ «الأفكار» كائنات صنعت من عنصر غير الذي صنعت منه الأشياء التي هي أفكار عنها؛ فالرأي عند جيمس هو أن المادة الخامة - أو الهيولى - التي صنع منها العالم ليست من طرازين: مادة وعقل، بل هي هيولى واحدة ترتب على نحو فنسميها عقلا، وهو يوضح رأيه هذا بتشبيه الألوان وهي في صندوقها معروضة في الدكان، ثم وهي موزعة على لوحة فإذا هي صورة فنية؛ إنها في الحالة الأولى تكون «مادة» معروضة للبيع، وفي الحالة الثانية تكون روحانية في أدائها ما تعبر عنه؛ وهكذا تكون الخبرة، أو قل يكون كل جزء من أجزاء الخبرة، فهو في سياق ما يقوم بدور العارف وهو نفسه في سياق آخر يقوم بدور الشيء المعروف، أو بعبارة أخرى فإن كل جزء من خبرتنا يكون «فكرا» حينا ويكون «شيئا» حينا آخر.
ويقول «رسل» تعليقا على رأي جيمس هذا: «عقيدتي هي أن جيمس قد أصاب في رفضه الشعور باعتباره كائنا قائما بذاته، وأن الواقعيين الأمريكيين قد أصابوا بعض الصواب - وإن لم يكن كل الصواب - في اعتبارهم العقل والمادة كليهما مؤلفين من هيولى محايدة، لا هي بالعقلية ولا هي بالمادية إذا عزلناها وحدها»،
57
ويمضي «رسل» في توضيح وجهة نظره فيقول إن هذه الهيولى المحايدة قد تتخذ وضعا يبيح لنا أن نسميها «عقلا»، وقد تتخذ وضعا آخر يبيح لنا أن نسميها «طبيعة مادية»، وقد تكون في موضع آخر يجوز فيه الوصفان؛ فإحساساتنا من مرئي ومسموع إلخ ... من الصنف الثالث لأنك قد تنظر إليها من زاوية، فإذا هي تابعة لعلم النفس، أو تنظر إليها من زاوية أخرى، فإذا هي تابعة لعلم الطبيعة، وأما الصور الذهنية فتنتمي إلى ما يصح أن نسميه بالعالم العقلي الخالص، بينما الحوادث التي لا تكون جزءا من خبرات الإنسان أبدا (إن وجد مثل هذه الحوادث)، فهي تنتمي إلى ما يكون العالم الطبيعي الخالص، وبناء على هذا التقسيم ترى هنالك ضربين مختلفين من العلاقات السببية، فضرب منهما ينطبق على عالم الطبيعة، وآخر ينطبق على مجال علم النفس، فمثلا قانون الجاذبية قانون للطبيعة، وقانون الترابط قانون للنفس، بينما الإحساسات خاضعة لقوانين الطبيعة والنفس معا، وبالتالي فهي «محايدة» بالمعنى الدقيق.
58 ،
59 (5) عالم من حوادث
60
أول سؤال يلقيه الفيلسوف على نفسه إذا ما فكر في عالم الطبيعة هو هذا: مم تتألف المادة؟ وحين يلقي «رسل» على نفسه هذا السؤال لا يجد مناصا من الإجابة عنه بما يجيب به علم الطبيعة الحديث؛ «إذ ليس في وسع فلسفة أن تتنكر للتغيرات الانقلابية التي طرأت على آرائنا في الطبيعة، وهي تغيرات لم يجد العلماء بدا من الأخذ بها لثبوتها، بل ينبغي لنا أن نلقي بالفلسفات التقليدية جانبا لنبدأ بدءا جديدا لا ينطوي إلا على قليل من التقدير للنسقات الفلسفية السابقة ... وإنه لمن التواضع الزائف أن نبالغ في قيمة ما خلفته القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر من الميتافيزيقا.»
61
إن ما يقوله علم الطبيعة عن المادة، بل عن العالم الطبيعي بصفة عامة، مما يهم الفيلسوف، إنما يقع في قسمين أساسيين هما: بناء المادة أولا، ونظرية النسبية ثانيا.
أما عن بناء المادة، فقد كانت نظرياته حتى عام 1925م قائمة على الفكرة القديمة، وهي أن المادة لا تتعرض للزوال، وأنها مؤلفة من ذرات صلبة لا تقبل الانقسام، ثم تغير الرأي على يدي عالمين ألمانيين هما «هايزنبرج» و«شريدنجر»، بحيث أصبحت المادة أبعد ما تكون عن تلك الصلابة المزعومة لها وباتت أقرب ما تكون إلى ما يقوله الروحانيون عن الروح.
كانت الصورة التي اتخذتها النظرية القديمة في القرن التاسع عشر هي أن الطبيعة المادية مؤلفة من عدد معين من العناصر، وأن كافة المواد مركبة من تلك العناصر الأولية، فالمادة من المواد المركبة مؤلفة من مجموعات ذرية، وكل مجموعة منها مؤلفة من ذرات تنتمي إلى عناصر مختلفة من تلك العناصر الأولية، فالماء - مثلا - مادة مركبة من مجموعات ذرية، كل مجموعة منها مؤلفة من ذرتين من الأيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين، ويمكن فصل هذين النوعين من الذرات أحدهما عن الآخر بالتحليل الكهربائي، وكان المفروض أن الذرة الواحدة من عنصر ما وحدة لا تقبل التغير أو الزوال، والعناصر الأولية التي منها كانت تتألف سائر المواد يبلغ عددها اثنين وتسعين عنصرا (أو هذا هو العدد الذي كان ينبغي للعناصر الأولية أن تبلغه لو ملئت الفجوات الشاغرة في سلسلة العناصر المعروفة فعلا، وكان عددها سبعة وثمانين عنصرا)، وكان لكل عنصر من تلك العناصر الأولية رقم يدل عليه، فالأيدروجين أولها، والهليوم ثانيها، واليورانيوم ثالثها، وهكذا حتى تبلغ العنصر الثاني بعد التسعين.
فلما أن كشف العلم عن فاعلية الراديوم، اضطر إلى تغيير نظره إلى الذرات، فلم تعد الذرة - كما كانت - غير قابلة للزوال أو التغير، إذ وجد أن الذرة من عنصر معين يمكن تحليلها إلى ذرة من عنصر آخر، فمثلا إذا ما تحللت ذرة الراديوم نشأ عنها نوع من الرصاص يختلف بعض الاختلاف عن الرصاص الذي نستخرجه من مناجمه، هذه الظواهر وأمثالها انتهت بالعلم إلى نتيجة جديدة، هي أن الذرة بناء مركب يمكن تحويله إلى نوع آخر غير نوعه إذا فصلنا عنه بعض أجزائه.
وتتابعت بعد ذلك الكشوف الحديثة عن المادة وطبيعتها، فإذا هي ترتد بالتحليل إلى نوعين من الوحدات هما الإلكترونات والبروتونات (أو الكهارب السالبة والكهارب الموجبة)، وكل من هذين النوعين متشابه الوحدات، أي إن الإلكترونات كلها على شبه تام بعضها ببعض، وكذلك البروتونات على شبه تام بعضها ببعض، والفرق بين البروتون والإلكترون - فوق أن الأول يحمل كهرباء موجبة والثاني يحمل كهرباء سالبة - هو أن كتلة البروتون تساوي كتلة الإلكترون 1835 مرة، ومن خصائص هذين النوعين من الوحدات الكهربية أن أجزاء كل نوع منها ينفر بعضها من بعض، لكنها تنجذب للنوع الآخر، فالإلكترونات يطرد بعضها بعضا، والبروتونات يطرد بعضها بعضا، لكن الإلكترون والبروتون يجذب أحدهما الآخر.
والذرة هي بناء مركب من النوعين معا؛ فذرة الأيدروجين - وهي أبسط الذرات تركيبا - تتألف من بروتون واحد وإلكترون واحد يدور حوله كما يدور كوكب حول الشمس، وأما سائر العناصر فالذرة منها تتركب من نواة مؤلفة من عدد من البروتونات والإلكترونات، وحول هذه النواة يدور عدد من الإلكترونات، والبروتونات التي في النواة تزيد عددا عن الإلكترونات التي في النواة، وهذا النقص في عدد إلكترونات النواة يعوضه الإلكترونات التي تدور حول النواة، وعدد البروتونات التي في النواة هو الذي يحدد وزن العنصر.
هذا ما يقوله علم الطبيعة اليوم عن تركيب المادة، والذي يهم الفيلسوف من هذا الوصف هو أن «المادة» لم تعد «شيئا». بل زال عنها ذلك الشيء القديم، وأصبحت كهارب وإشعاعات، وإذن فهذه المناضد والمقاعد، وهذه الأشجار والأنهار، والشمس والقمر والنجوم، بل وهذا الخبر الذي نأكله، كل هذه الأشياء قد أصبحت في حقيقتها إشعاعات كهربائية، أو إن شئت فقل إن كل «شيء» من هذه «الأشياء» قد فقد «شيئيته»، وبات في حقيقته سلسلة من حوادث، لكننا سنعود إلى فكرة «الحوادث» هذه بعد قليل.
وأما ما يهم الفيلسوف من نظرية النسبية في علم الطبيعة الحديث، فذلك أنها قد تخلصت من الزمان الواحد الذي يشغل الكون كله، والمكان الواحد الذي يمتد ما امتد الكون كله، فاستبدلت نظرية النسبية بهما فكرة جديدة هي فكرة المكان المندمج في الزمان اندماجا يجعلهما حقيقة واحدة يكون الزمان فيها بعدا رابعا يضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة.
الإنسان بإدراكه الفطري، وعلم الطبيعة فيما قبل النسبية، كلاهما كانت العقيدة عنده هي أنه إذا حدث حادثان في مكانين مختلفين، فلا بد أن يكون هنالك جواب حاسم لهذا السؤال: هل حدث الحادثان في وقت واحد؟ أما بعد نظرية النسبية، فقد تغيرت وجهة النظر إلى حقيقة المكان والزمان تغيرا جعل الإجابة عن هذا السؤال محالا، فافرض وجود شخصين «أ» و«ب» في نقطتين بينهما مسافة بعيدة، وقد زود كل منهما بمرآة وبوسيلة يرسل بها إشارات ضوئية، فعندئذ ستتتابع الحوادث التي تحدث للشخص «أ» تتابعا زمنيا بغير شك، وكذلك الحال بالنسبة للحوادث التي تحدث لزميله «ب»، أما إذا أردنا أن نقارن بين ترتيب الحوادث عند «أ» بترتيبها عند «ب» فها هنا تكون المشكلة؛ فلو فرضنا أن مكان «أ» هو الأرض، ومكان «ب» هو الشمس، وأن «أ» أرسل إشارة ضوئية إلى «ب»، فإن المرآة التي مع «ب» ستعكسها لتعود إلى «أ» بعد مدة زمنية معينة، هي في هذه الحالة ست عشرة دقيقة، ومن الطبيعي أن نقول إن الزمن الذي استغرقته الإشارة الضوئية في طريقها إلى «ب» هو نصف الزمن الذي استغرقته من لحظة الإرسال إلى لحظة العودة، لكن كان يكون ذلك لو كان «أ» و«ب» ثابتين في مكانيهما، أما وكل منهما يتحرك، فإنه من المحال أن نقرر في يقين متى يكون وصول الإشارة إلى «ب»، وأي حادثة من الحوادث التي تحدث للشخص «أ» تكون «قبل» أو «بعد»، أو «متآنية» مع لحظة وصول الإشارة إلى «ب»، وباختصار فإن مقارنة اللحظات الزمنية عند «أ» لا يمكن مقارنتها باللحظات الزمنية عند «ب» مما يجعل لكل منهما زمانه الخاص، بحيث لا يشتركان معا في زمان واحد شامل.
62
وهذه النسبية في الزمن لها مقابلها في المكان أيضا، فما المكان؟ هل مدينة لندن مكان؟ إذا قلت نعم فتذكر أن الأرض تدور حول نفسها، وأن مدينة لندن تواجه الشمس آنا وتبعد عنها آنا، أي إنها تدور مع دوران الأرض ، ولا يكون لها مكان واحد مستقر ثابت، فهل الأرض مكان؟ لكن الأرض تدور حول الشمس، فهي آنا هنا وآنا هناك، وإذن فهي الأخرى لا تستقر في مكان واحد ثابت، فهل الشمس مكان؟ لكنها تتحرك بالنسبة للنجوم، وإذن فكل ما نستطيعه إذا أردنا أن نتحدث عن مكان ما هو أن نقرنه بزمن معين، فنقول - مثلا - «مدينة لندن في اللحظة الفلانية»، وبهذا تحدد مكانها في العالم.
هكذا أصبح المكان - كما أصبح الزمان - نسبيا، ولم يعد في الإمكان أن نتحدث عن الكون كله على أنه بأسره في لحظة زمنية واحدة معينة، ومما أدت إليه نسبية المكان والزمان أن وجبت مراجعة قانون الجاذبية كما وضعه نيوتن؛ لأن ذلك القانون كان يستند - فيما يستند إليه - إلى كون المكانين اللذين بينهما مسافة يشتركان في لحظة زمنية بعينها، بحيث تستطيع حساب الجاذبية لجسم في المكان الأول إذا ما سقط إلى المكان الثاني، وكذلك تجب مراجعة الهندسة لتوضع على أساس جديد؛ إذ كانت هندسة إقليدس تفرض ثبات المكان وشموله للكون كله، فالخط المستقيم - مثلا - كان المفروض فيه أنه مسار معين يمتد في مكان ثابت، أجزاؤه كلها - أي نقطه - موجودة معا في آن واحد، أما الآن فقد بات ما يبدو خطا مستقيما عند مشاهد لا يكون كذلك بالنسبة لمشاهد آخر في مكان آخر.
لا بد إذن من البدء في فهم العالم الطبيعي فهما جديدا، وأول طريق تسلكه لهذا الفهم الجديد هو أن تزيل عن عالم الطبيعة صلابته وتماسكه، وأن تترجمه إلى لغة أخرى غير لغة «الأشياء» التي كنا نستخدمها من قبل، فتترجمه إلى «حوادث»، بحيث تتحدث عن الشيء المعين على أنه سلسلة متتابعة من حوادث بدل أن تتحدث عنه على أنه «جسم» له حدود متعينة وثبات ودوام، فما الجسم من الأجسام المادية إلا خط طويل من حوادث، هو تاريخ يمتد مع الزمن، ولا يمكن فهم وجوده إلا على هذا الامتداد الزمني المتغير لحظة بعد لحظة؛ هذه المنضدة التي أمامي، أو هذا القلم الذي أمسك به، هو في حقيقته كالنغم الذي يتطلب وقتا للفراغ من عزفه، بحيث لا يوجد كله في لحظة واحدة، فإذا سألت أين النغم ومتى؟ لم يكن الجواب بتحديد نقطة مكانية واحدة، ولا لحظة زمانية واحدة، بل كان الجواب الصحيح هو أنه سلسلة من حوادث تعاقبت في فترة زمنية، وهكذا تكون الحال بالنسبة إلى المنضدة وإلى القلم وغيرهما من سائر الأشياء، فإن كنت أرى المنضدة الآن مستقرة في مكان محدد، فالذي أراه هو الحالة الراهنة من سلسلة حالاتها التي تمتد من أول تاريخها، وستمتد إلى آخر ذلك التاريخ، فالموجود الآن من المنضدة هو «حادثة» من مجموعة الحوادث التي منها يتألف تاريخها، والذي يخلع على المنضدة وحدتها الشيئية هو ارتباط تلك الحوادث في تاريخ واحد، كما أن الذي يخلع على النغمة وحدتها هو ارتباط أجزائها في سلسلة واحدة من الحوادث.
63
عالم الطبيعة هو مجموعة كبرى من الحوادث، غير أن هذه الحوادث يرتبط بعضها ببعض بأنواع من العلاقات ارتباطا يوحي إلينا بفكرتي الزمان والمكان، تتعاقب الحوادث في نقطة مكانية فنقول: «ماض وحاضر ومستقبل.» وتتجاور الحوادث بحيث تكون واحدة على يمين الأخرى أو يسارها أو فوقها أو تحتها، فنقول: «هذا المكان أو ذاك.»
ويكون بين الحادثتين المتجاورتين (والتجاور يكون في الزمان كما يكون في المكان) مسافة يمكن قياسها، وهذه المسافة التي تفصل الحادثتين قد تكون مسافة من مكان، وقد تكون فترة من زمن، وإنما تكون المسافة زمنية حين يكون الجسم الواحد بعينه موجودا في الحادثتين معا، أعني حين تكون الحادثتان جزءين من تاريخ ذلك الجسم، وتكون المسافة مكانية حين تكون الحادثتان في جسمين، أعني أن تكون إحداهما جزءا من تاريخ شيء ما، وتكون الأخرى جزءا من تاريخ آخر لشيء آخر.
ولكي تحدد لحادثة من حوادث العالم وضعها مكانا وزمانا، يلزمنا أربعة أرقام؛ أحدهما يدل على اللحظة الزمنية والثلاثة الأخرى تدل على أبعاد المكان الثلاثة، فافرض مثلا أن حدثت حادثة لطائرة، فلا يتحدد وضع هذه الحادثة إلا بأربعة أرقام هي خط الطول وخط العرض والارتفاع عن سطح البحر، ثم الوقت بحساب جرينتش.
إنه لا مندوحة لنا - إذا ما أردنا أن نفهم عالم الطبيعة فهما صحيحا على أساس العالم الحديث - من تدريب خيالنا تدريبا جديدا، بحيث يتصور الأشياء كما يريد له العلم الحديث أن يتصورها، وإنما نحتاج إلى هذا التدريب؛ لأن التصور الجديد لا يجري مع الإدراك الفطري في طريق واحد؛ فالإدراك الفطري ينظر إلى المنضدة على أنها «شيء» صلب متماسك متعين الحدود، وأما العلم الحديث فيريد لنا أن نتصور المنضدة إشعاعات تتابع حوادثها في خيط طويل يمتد مع الزمن كما هي الحال في النغمة الموسيقية سواء بسواء، إننا حين نتحدث عن «الذرة» ترانا أميل إلى تصورها شيئا ثابتا ككرة صغيرة لها حدودها وأوضاعها الثابتة، مع أنها شحنة كهربائية لا تفتأ إلكتروناتها تغير من مواضعها كأنها خلية من النحل لا تستقر نحلة فيها على حالة واحدة في مكان واحد، إن قولنا عن ذرة بأنها موجودة هو بالضبط كقولنا إن نغمة موسيقية موجودة، فإن كانت النغمة تتطلب خمس دقائق لعزفها، فنحن لا نقول عنها إنها شيء معين، فرد موجود كله طول الدقائق الخمس، بل نتصورها سلسلة نبرات متصل بعضها ببعض في تعاقب، بحيث يتكون من خيطها نغمة واحدة، وهكذا الذرة سلسلة من حادثات متعاقبة يتكون من خيطها حقيقة واحدة، ولئن كانت الرابطة في نبرات النغم هي الوحدة الجمالية، فإن الرابطة في حوادث الذرة هي الوحدة السببية.
وها هنا نقع على كلمة خطيرة، هي كلمة «السببية»؛ إذ يستحيل أن نفهم الطبيعة فهما صوابا إلا إذا غيرنا وجهة نظرنا إلى هذه العلاقة السببية التي تصل الحوادث بعضها ببعض، والنقطة الجوهرية في هذا التغير هي أن نستل من «السببية» ما كنا نفرضه فيها من «قوة» أو «إلزام» يربط السبب بالمسبب، فقد كنا إذا ما قرعت كرة كرة أخرى فحركتها، نتصور أن الكرة الأولى قد «ألزمت» الكرة الثانية بالحركة، وأنها استخدمت «قوة» في تحريكها، كذلك كنا إذا ما سقط حجر من أعلى إلى أسفل نتصور أن «قوة» الجاذبية قد أرغمت الحجر إرغاما على السقوط، هكذا كنا نتصور السببية «قوة» تنتقل باللمس المباشر من السبب إلى نتيجته، أو تنتقل على بعد كما هي الحال في الجاذبية.
لا بد أن تستل هذه «القوة» المزعومة من العلاقة السببية، إذ ليس هناك إلا تتابع بين الحوادث لوحظ اطراده، فجعلناه قانونا من قوانين الطبيعة، نعم إن «القوة السببية» طريقة يستخدمها الإدراك الفطري في فهم الحوادث، فترانا نقول مثلا إن الناس يشيدون المنازل ويعبدون الطرق، ونقصد بذلك أنهم بقوة إرادتهم كانوا سببا في حدوث ما حدث، ونقول عن رجل إنه «قوي» الإرادة حين نعني أن إرادته سببية في مجال واسع، وترانا كذلك لا نستغرب أن تتحرك كرة البلياردو إذا دفعناها بالعصا، وأن تتحرك العربة إذا شدها حصان، وأن يرتفع الحمل إذا حمله إنسان بقوة ساعديه، كل هذه أمثلة لا نستغرب حدوثها؛ لأنها تقع كما يتصور الإدراك الفطري حدوث الحوادث، وهو أن يكون هناك سبب ذو «قوة» يلزم عنه مسبب بحكم الضرورة، ومن أمثال هذه الحوادث التي يتدخل فيها الإنسان بإرادته نشأت فكرة «القوة» في الأسباب التي تكون بين حوادث الطبيعة، أو بعبارة أخرى، قد خلعنا إرادتنا البشرية على الحوادث في عالم الطبيعة، بحيث تصورنا الحادثة التي تكون سببا لوقوع حادث آخر كالإنسان الذي يدفع الكرة بعصاه، أو كالحصان الذي يجر العربة وراءه.
لكن لا سبيل إلى فهمك الطبيعة على حقيقتها إلا إذا أخرجت منها هذه الفكرة البشرية، فكرة «القوة»؛ إذ الطبيعة كل ما فيها حوادث تتعاقب أو تتعاصر، فإذا ما رأينا ضربا من التجاور بين الحوادث قد اطرد، قسنا ما بين الحوادث من مسافة مكانية أو فترة زمانية واستخرجنا ما قد يكون واحدا من قوانين الطبيعة، دون أن نزعم أن واحدة من الحوادث قد «ألزمت» أخرى على أن تتبعها أو تقع معها في آن واحد؛ ولذلك ليس ما يمنع منطقيا أن تكون الحوادث على ترتيب آخر غير الذي وقعت عليه، وعندئذ تتغير قوانين الطبيعة التي نسجل بها ما نلاحظه.
وإذا أردت أن تفهم العلاقة بين «أ» التي هي السبب و«ب» التي هي المسبب؛ كيف أنها علاقة لا «إلزام» فيها، فاقلب الوضع مسببا لسبب، وذلك جائز؛ لأننا كما يجوز أن نستنتج من السبب نتيجته، كذلك نستنتج من النتيجة سببها، فإذا جاءك خطاب فأنت على حق إذا استنتجت من ذلك أن أحدا قد كتب هذا الخطاب، ولكنك لا ترى أن تسلمك للخطاب قد «ألزم» الراسل أن يكتبه، وإذا كانت فكرة «الإلزام» منتقية بين النتيجة وسببها، فكذلك تنتفي بين السبب ونتيجته، ونعود فنقول إن فكرة «الإلزام» هذه صفة بشرية لا تعرفها حوادث الطبيعة، وهي ذات معنى في حياة الإنسان؛ إذ نقول عن الإنسان إنه «ملزم» بكذا وكذا من الأفعال حين يضطر إلى فعله اضطرارا رغم ميوله الطبيعية ورغباته الغريزية، ولو لم يكن عند الإنسان هذه الميول والرغبات التي قد يجيء ما يقاومها لما كان للإلزام معنى في حياته، ولما كانت ظواهر الطبيعة ليست مما له «ميول» أو «رغبات» إذن فهي ليست مما يوصف بالإلزام والاضطرار، وإذا أردت توضيحا لما نريده حين نقول إن حوادث الطبيعة إنما تحدث حدوثا وتقع وقوعا، ولا «قوة» هناك ولا «إلزام» يرغمها على ذلك الحدوث وهذا الوقوع، فانظر إلى صورتها في المرآة، انظر مثلا في المرآة إلى صورة رجل يدفع كرة البلياردو بالعصا فتتحرك الكرة، فأنت عندئذ لا تقول إن تتابع الحوادث كما يبدو في المرآة يتضمن «قوة» في العصا هي التي حركت الكرة، إنما تنظر إليها في تتابعها فقط تتابعا منزوعا منه كل ضرورة واضطرار، وهكذا تكون العلاقة بين الحوادث في الطبيعة ذاتها، وإن أوهمتك طبيعتك البشرية بغير ذلك.
على أنه إذا لم يكن بين مجموعتي الحوادث اللتين نطلق عليهما لفظتي «سبب» و«مسبب» قوة في الأولى تضطر الثانية إلى الحدوث، فبينهما علاقات ترتبطان بها، وهذه العلاقات هي التي نقيسها ونصوغ من أرقام المقاييس قوانين الطبيعة، وقد تكون هذه العلاقات السببية قائمة بين ذرات الشيء الواحد، فنتوهم لارتباطها بعضها مع بعض أنها تكون «شيئا»، وهي في الواقع حوادث تجمع بعضها إلى بعض، فليس هنالك فارق جوهري من حيث الشيئية أو العنصرية بين الإلكترون في الذرة الواحدة وبين شعاع الضوء؛ فكل منهما في حقيقته خيط من حوادث، ومع ذلك ترانا في حالة شعاع الضوء نميل إلى تصوره على هذه الصورة، على حين أننا في حالة الإلكترون نود أن نتصوره «شيئا» متحركا، مع أنه لا فرق بين الحالتين، وبالتالي لا فرق بين شعاع الضوء في تكوينه من سلسلة من حوادث وبين المنضدة التي هي مجموعة من ذرات، كل ذرة منها كشعاع الضوء في تكوينها.
ويترتب على هذا التغير في وجهة نظرنا إلى تكوين الأشياء بعض التغييرات الجوهرية في اعتقاداتنا عن العالم الطبيعي، فمثلا ترانا بحكم إدراكنا الفطري لا نتصور كيف يمكن أن تكون هنالك حركة بغير «شيء» يتحرك، لكن وجهة النظر الحديثة تقتضي هذا رغم ما يوهمنا به إدراكنا الفطري، والعجيب في أمرنا هو أننا نستسيغ فكرة وجود الحركة بغير وجود «الشيء» المتحرك في بعض المجالات دون بعضها، فمثلا نجيز الحديث عن «الحركة» في المسرحية، أو في القطعة الموسيقية دون أن نتطلب لهذه «الحركة» متحركا يكون موجودا وجودا كاملا في كل لحظة من لحظات الأداء، وذلك هو ما نريد لأنفسنا أن نتصوره في سائر «الأشياء»؛ لا بد لنا من تصور «الشيء» كائنا ما كان على أنه كالمسرحية أو كالقطعة الموسيقية، خيط من حوادث يرتبط بعضها ببعض بعلاقات سببية معينة، فيكون بينها من الوحدة ما يبرر لنا أن نطلق على «الشيء» اسما واحدا، لكن لا يجوز أبدا أن نزل في الخطأ حين نرى «اسما» أو «كلمة» فنقول إن مسمى ذلك الاسم، أو مدلول هذه الكلمة لا بد أن يكون شيئا واحدا بذاته، فما أطلقنا الاسم الواحد على مجموعة كبرى من الحوادث، أو من الحالات، إلا على سبيل التيسير في التعبير والتفاهم، وكما نخطئ حين نتصور «الشيء» وحدة واحدة متماسكة، لا خيطا من حوادث، نخطئ مرة أخرى حين نقول عن ذلك «الشيء» إنه «تحرك» حين نرى مجموعة الحوادث التي هي مؤلف منها ليست في مكان واحد، ولعل أبسط ما يوضح لك الموقف على حقيقته هو أن ترى شريط السينما، وطريقة تصويره للحوادث، فأنت إذا رأيت رجلا يسقط من قمة بناء مرتفع، قلت مدفوعا بإدراكك الفطري إن «الجسم» الواحد قد تحرك من مكان إلى مكان، لكن صور ما وقع على شريط سينمائي، تجد أن ما صورته عدد كبير من الأحداث المتعاقبة، وأن ظنك الأول بأنه «شيء» واحد قد تحرك إنما هو ظن خاطئ لا يصور حقيقة الواقع، فحقيقة الواقع هي هذا الذي صورته آلة السينما على شريطها: حوادث تتابعت خيطا طويلا. •••
وما دامت الطبيعة قد ارتدت بالعلم الحديث إلى مجموعات من حوادث بعد أن كانت «أشياء» مادية لها صلابة وتماسك، ثم ما دامت الحياة العقلية هي كذلك خيط من حوادث، أو سلسلة من حالات فكرية وشعورية، دون أن يكون هنالك «شيء» واحد يمسكها في وحدة مما يصح أن نطلق عليه «عقلا» أو «وعيا» قائما بذاته، أفلا تكون المادة والعقل من طبيعة واحدة متجانسة؟
هكذا نشأت نظرية «الواحدية المحايدة» أو «الهيولى المحايدة» عند رسل، مستوحيا إياها من المقال المشهور الذي كتبه وليم جيمس بعنوان «هل للوعي وجود؟» «الواحدية المحايدة» نظرية مؤداها أن العقل والمادة ليسا ضربين من الموجودات مختلفين اختلافا جوهريا، بل العقل والمادة كلاهما مشتق من «هيولى» محايدة لا هي عقل ولا هي مادة، لكن أجزاءها إذا ما ارتبطت بمجموعة معينة من العلاقات أسميناها عقلا، وإذا ارتبطت بمجموعة أخرى من العلاقات أسميناها مادة، وأما المادة الخامة، أو «العجينة» أو المبدأ الذي منه يتكون العقل والمادة كلاهما فعلى الحياد، لا هو هذا ولا تلك، لا هو عقل ولا مادة، والأمر في ذلك شبيه بأن تتناول عددا من الحصى المتجانس، وترصه مرة على هيئة مربع، ثم ترصه مرة أخرى على هيئة دائرة، فالمربع والدائرة بالطبع بناءان مختلفان، لكنهما معا مؤلفان من مادة بعينها لم يصبها تغير بين الحالتين، وإنما الذي تغير هو العلاقات الكائنة بين قطع الحصى، كانت علاقات من نوع معين، فكان الناتج مربعا، ثم كانت من نوع آخر، فكان الناتج دائرة، وهكذا قل في العقل والمادة، يتألفان من مقومات هي هي بعينها لم تتغير في كلتا الحالتين، وإنما ارتبطت أجزاؤها بنوع من العلاقات، فكانت «عقلا»، ثم ارتبطت بنوع آخر من العلاقات، فكانت شيئا ماديا.
إن ما نسميه شيئا ماديا - كالمنضدة التي أمامي مثلا - هو كما أسلفنا خيط من حوادث، فهذه المنضدة هي سلسلة طويلة من لمعات ضوئية تختلف قليلا أو كثيرا حسب النقطة التي يراها منها الرائي، وهي سلسلة طويلة من لمسات بالأصابع أو براحة اليد مثلا، وهي سلسلة طويلة من موجات صوتية تحدث حين تنقرها بأصبعك أو تخبطها بأي جسم آخر، وهكذا، هي باختصار هذه الحزمة الكبيرة جدا من معطيات حسية تبعثرها في كل نقطة من نقط المكان يصلها بها خط مستقيم، ولا تنتظر إلا جهازا عصبيا لكائن حي يوضع في أية نقطة من هاتيك النقط المكانية، فيكون لها وجود عقلي عند من يدركها، فليست المنضدة إلا هذه «الظاهرات» من لمعات الضوء والشكل واللمس والصوت، وليس وراء «الظاهرات» عنصر غيبي خفي يمسكها في «شيء» واحد كما يتصور الإدراك الفطري.
وأما ما نسميه «بالعقل» في فرد من الأفراد، فهو أيضا سلسلة طويلة من حاضرات حسية، وصور ذهنية، دون أن يكون هنالك عنصر غيبي خفي يمسك تلك السلسلة المتتابعة في وعاء واحد يدوم على الزمن.
ولكي نفهم نظرية الواحدية المحايدة فهما واضحا، افرض أن العالم الطبيعي قوامه شيئان فقط: كتاب نرمز له بالرمز «أ»، ومنضدة نرمز لها بالرمز «ب»، فأينما وقفت سترى الكتاب وسترى المنضدة، على اختلاف يسير أو كبير في درجة اللون وفي الشكل وفي الحجم، فهذه كلها ستختلف بقربك مما ترى أو بعدك عنه، فما معنى ذلك؟ معناه أن الكتاب له «ظاهر» موجود في كل نقطة مكانية؛ أي إنه موجود بظواهره في كل أرجاء المكان، وكذلك المنضدة موجودة بظواهرها في كل أرجاء المكان؛ الكتاب والمنضدة هما بمثابة مركزين يشعان خيوطا من لون وشكل وحجم، فإذا جاء إنسان مدرك ووقف في نقطة معينة التقط ما في تلك النقطة من ظواهر الكتاب، أو ظواهر المنضدة، أو ظواهرهما معا إن كانت الخيوط المنبعثة منهما متلاقية في تلك النقطة؛ تلك الظواهر المنبعثة من المركزين موجودة في كل أرجاء المكان غير مدركة، ثم تصبح ظواهر مدركة حيثما تلقاها بصر في كائن حي، وإذن ففي كل نقطة من أرجاء الكون يتكون «منظور» للكون على استعداد أن يضاف إليه جهاز عصبي وأعضاء حس، فينشأ كون مدرك ... ولك الآن أن تزيد من عدد أشياء الكون، بدل أن تقتصر على كتاب ومنضدة يشعان الظواهر فتتلاقى في نقاط الكون، لك أن تزيد من عدد الأشياء كما تريد، فلا يتغير الموقف؛ إذ ستظل كل نقطة من نقاط الكون مكانا «لمنظور» تتلاقى فيه الظواهر المنبعثة من كافة الأشياء التي تصلها بذلك المكان خطوط مستقيمة، فإذا ما أضيف إلى ذلك المكان جهاز عصبي بما فيه من أعضاء الحس، تكون كون مدرك.
فالإشعاعات التي تنبعث من الأشياء، أي الظاهرات التي تنتشر من الأشياء في أرجاء المكان هي الهيولى المحايدة التي تتكون منها المادة والعقل معا، فإذا جمعت الظاهرات التي انبعثت من مصدر بعينه كان لك بذلك «شيء» مادي، وإذا جمعت هذه الظاهرات كما تتلاقى في نقطة معينة موضوع فيها جهاز عصبي وأعضاء حس كان لك بذلك «عقل»، فالمقومات في كلتا الحالين هي هي لم تتغير، تجمع على نحو فتكون شيئا ماديا، وتتجمع على نحو آخر فتكون عقلا.
بهذه النظرية المحايدة استطاع «رسل» أن يتغلب على مشكلات ثلاث مما كانت تصطدم به الفلسفات السابقة؛ فهو أولا قد تخلص من الثنائية التي كانت لا تجد سبيلا إلى وصل المادة بالعقل، أو العقل بالمادة، مما أدى إلى شق العالم إلى نصفين بينهما فجوة مستحيلة العبور، كهذه الفجوة التي خلقها ديكارت بين المادة من جهة، والعقل من جهة أخرى؛ إذ هما عنده مختلفان في الكيف اختلافا لا سبيل إلى التوفيق فيه، فالعقل في جوهره مفكر لا يحل في مكان، المادة في جوهرها تحل في مكان ولا تفكر.
ثم استطاع «رسل» بفلسفته - ثانيا - أن يتخلص من العنصر الغيبي الخفي، الذي كان يلجأ إليه الفلاسفة دائما في تفسير الأشياء الجوامد والأحياء على السواء؛ فهذه المنضدة مثلا لم تكن مجرد مجموعة من ظاهرات لا ترتكز على شيء، بل كان لا بد للظاهرات المفككة من مشجب داخلي تتعلق به وتستند إليه، حتى يكون للمنضدة ذاتية ودوام، وكذلك قل في الإنسان؛ فلم يكن مقبولا عند الفلاسفة كما هو ليس بمقبول عند الإدراك الفطري في الحياة اليومية أن يكون الفرد من الإنسان سلسلة من حالات، وخيطا من حوادث دون أن يكون وراء ذلك «عقل» أو «وعي» قائم بذاته يمسك هذه الحالات، ويربط هذه الحوادث في شخص له ذاتيته واستمراره، وثالثا حل «رسل» بنظرية «الهيولى المحايدة» مشكلة قديمة هي نسبية الإدراك الحسي؛ فقد كان مما أشكل على الفلاسفة أن يكون الشيء الواحد مختلفا عند مختلف الأفراد الذين يدركونه بحواسهم، بحيث لو نظر عدة أفراد إلى هذه المنضدة التي أمامي، فكل واحد من هؤلاء يرى استطالة سطحها على صورة غير التي يراها زميله، ويرى درجة لونها على نحو يختلف عما يرى زميله وهكذا، وهو اختلاف يتبدى واضحا إذا ما هم هؤلاء الأفراد برسم المنضدة كل كما يراها، فعندئذ تجد الرسوم متباينة لتباين وجهات النظر، وها هنا كان ينشأ السؤال: ما حقيقة المنضدة ما دامت تبدو على هذه الصور المختلفة عند مختلف الأفراد، بل تبدو مختلفة في اللحظات المختلفة من حياة الفرد الواحد؟ لكن الإشكال يزول إذا أخذنا بنظرية «الهيولى المحايدة»؛ لأن حقيقة المنضدة - كما أسلفنا - هي ظواهرها المنتشرة في أرجاء المكان، ففي كل نقطة مكانية لها ظاهر ممكن الإدراك، وهذه الظواهر المتعددة مختلفة باختلاف أجزاء المكان، وإذن فلو ظهرت المنضدة على صورتين مختلفتين لمشاهدين عند نقطتين مختلفتين فلا إشكال هناك؛ لأنهما لا يريان «شيئا» واحدا كما كان يظن قديما حين كان يظن أن الشيء المادي جسم متعين المكان، أما وقد انحل إلى حوادث، أي إلى ظاهرات أو معطيات حسية، فكل حادثة منها، أو كل ظاهرة، هي إحدى الحقائق الكثيرة التي من مجموعها تتكون المنضدة. (6) في التربية والأخلاق والسياسة
64
لو كنا لنلخص الأهداف التي جاهد برتراند رسل كل هذا الجهاد الطويل في سبيل تحقيقها في حياة الناس أفرادا وجماعات، كلما جعل حياة الناس موضوع بحثه وحديثه، لانحصرت هذه الأهداف في كلمة واحدة؛ هي «الحرية»، حتى لقد ظن كثير من ناقديه أن الرجل قد أسرف في دفاعه عن الحرية وهجومه على خصومها إسرافا حدا بهم أن يصفوه بالفوضى، فما أكثر ما يقال عن «رسل» إنه يوهن بمعاوله من قوائم المجتمع، وإن الحالة التي تشيع في نفسه الرضا هي أن ينمحي من المجتمع تماسكه، وأن ينطلق الأفراد أحرارا حرية مطلقة بغير القيود الضابطة والشكائم الملجمة التي بغيرها لا يكون مجتمع ولا تستقر حياة، دع عنك أن ترقى تك الحياة وتتقدم.
لكن ليقل هؤلاء الناقدون ما شاءوا؛ فالرجل نصير للحرية، جاد في نصرته لها، فالنظام الاجتماعي كثيرا ما يكون في حقيقته مؤامرة كبرى على حرية الأفراد، فلا يكاد يولد الطفل وينشأ، حتى يغمسه ذووه ومواطنوه غمسا في ثقافة المجتمع الذي جاء عضوا فيه، ولا ينفكون يلقنونه ماذا يعتقد وكيف يسلك، بغض النظر عن سلامة تلك العقائد أو صواب هذا السلوك، فليس المهم عندهم أن تكون العقيدة سليمة، أو أن يكون السلوك صوابا، بل المهم هو أن تكون هذه هي عقائد سائر أفراد المجتمع، وهكذا يسلكون، وإذن فحتم محتوم على الناشئ الجديد أن ينصب مع غيره في قالب واحد، وإلا فهو الشاذ الذي يستحق أن يوضع موضع السخرية، ويكون الطفل في أعين الناس جديرا بالإعجاب والثناء، حين يكون وادعا يؤدي ما يؤمر بأدائه، ولا يبيح لنفسه أن يناقش الكبار في صواب ما يأمرونه بفعله، وبهذا تصبح عملية التربية قائمة على أساس التجانس بين هذا الناشئ وبين بقية أفراد المجتمع، وعمل المربي - والدا كان أو معلما - هو أن يقلم في الناشئ شذوذه ويشذب ما قد يبدو في منحاه من غرابة عن المألوف، نعم، فهنالك نمط معين، وعمل التربية هو أن تصوغ الناشئين على غرار ذلك النمط القائم، والناشئون إنما يكونون بلا حول أو قوة وهم بعد في مرحلة الطفولة، وإذن فعملية التربية هي في صميمها استغلال لهذه الطفولة العاجزة، حتى عن وقاية نفسها.
لكن لصالح من يكون هذا الاستغلال؟ يجيب «رسل» بأنه استغلال لصالح الدولة من جهة، والكنيسة من جهة أخرى، أي لصالح الحكومة ورجال الدين؛ فالدولة من صالحها أن تجعل من النشء «مواطنين » صالحين، لكن ماذا تعني كلمة «مواطن» هنا إن لم تعن فردا ينشأ على احترام الأوضاع القائمة؟ لأنه إذا نشأ ناشئ على الثورة ضد تلك الأوضاع القائمة لم يكن بالبداهة مواطنا صالحا في رأي الدولة القائمة، لا بل «المواطن الصالح» هو الذي لا يعترف لنفسه بوجود بالقياس إلى قيام تلك الدولة، بحيث إذا ما أصاب الدولة خطر كان حتما على «المواطن الصالح» أن يضحي بنفسه في سبيلها،
65 ،
66
وأما الدين فهو كذلك من ناحيته يكون عاملا على أن ينشأ الفرد راضيا بما قسم له في الحياة الدنيا، أعني ألا ينشأ ثائرا داعيا إلى انقلاب، ومن ثم ترى الدين معينا للدولة على بقاء الأنظمة القائمة، وعلى أن يصاغ النشء على نموذجها وغرارها، وقد خصص «رسل» القول عن هذه النقطة في الديانة المسيحية؛ لأنها هي التي تعنيه في ميدان التربية؛ لأنها هي الديانة السائدة في بلاده التي هو معني بتربية أبنائها؛ يقول: «إنه لمن المقطوع بصحته فيمن يقبلون التعاليم المسيحية قبولا حقيقيا عميقا، أنهم ينزعون إلى التقليل من خطورة طائفة من الشرور كالفقر والمرض، على أساس أن الفقر والمرض هما من شئون هذه الحياة الدنيا، ويصادف مذهب كهذا هوى في نفوس الأغنياء، وربما كان ذلك نفسه هو السبب في أن معظم قادة الحكم متدينون عميقو التدين؛ لأنه لو كان هنالك حياة أخرى ولو كانت الجنة هي الجزاء الذي يعوض عن الشقاء في هذه الأرض، فنحن إذن على صواب إذا أقمنا العوائق في سبيل إصلاح الحياة على الأرض، ولا بد لنا من الإعجاب بهذه التضحية التي يبديها قادة الصناعة [وكاسبو المال] الذي يؤثرون صالح غيرهم على صوالحهم؛ إذ يأذنون لغيرهم أن يحتكروا لأنفسهم العذاب على هذه الأرض ، وهو عذاب قصير الأمد، لكنه موفور الربح [في الحياة الأخرى].»
67
إذن فالمشكلة الرئيسية في التربية - كما هي المشكلة الرئيسية في السياسة والأخلاق - هي كيف ينبغي للعلاقة بين الفرد والمجتمع أن تكون، فأمامنا الناشئ الذي نريد تنشئته وتربيته من ناحية، وأمامنا من ناحية أخرى هذه الهيئات التي تتسابق إلى اغتصاب عقله وقلبه، فعلى الرغم من تعدد المدارس الفكرية في التربية، فأهم ما يهمنا منها مدرستان متعارضتان: إحداهما تجعل التربية مواءمة بين الطفل وبيئته وثقافة تلك البيئة، والأخرى تجعل التربية تنمية لنفس الطفل واستعداداته الطبيعية؛ بعبارة أخرى، يريد الفريق الأول من رجال التربية أن تكون الغاية من عملية التربية هي أن يحدث التجانس بين الطفل والمجتمع المحيط به، وبديهي أن هذا التجانس لا يكون بتغيير أوضاع المجتمع ليتفق مع طبائع الطفل، بل يكون بتهذيب طبائع الطفل وتغييرها، حتى تلتئم مع أوضاع المجتمع، بينما يريد الفريق الثاني أن تحصر عملية التربية اهتمامها في الطفل ذاته لتنمو طبيعته بغض النظر عن ملاءمة تلك الطبيعة مع ثقافة المجتمع المحيط به أو عدم ملاءمتها، أو بعبارة أخرى فإن موضع الخلاف بين المدرستين هو هذا: أنربي الطفل ليكون «مواطنا» أم نربيه ليكون «فردا»؟ أما النوع الأول فيقتضي أن أحد من فرديته بما فيه مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها، وأما النوع الثاني فمؤداه أن تنمو الفردية بما يحقق طبيعتها بغير أن يحدد مجرى نمائها ولاء لهذا أو لذلك من مختلف العوامل الاجتماعية.
لكننا حين نهم باختيار أحد الطرفين، لا نلبث أن نتبين أن الوضع على حقيقته ليس هو اختيارا لهذا الطرف أو ذاك؛ إذ الحياة لا تكون إلا جماعة، والجماعة لا تكون بغير تعاون أفرادها، وإذن فسرعان ما يتحول سؤالنا فلا يصبح: أيكون الإنسان مواطنا أم فردا؟ بل يصبح: كيف يمكن للإنسان أن يكون فردا ومواطنا في آن معا؟
للإجابة عن هذا السؤال الأخير، نقول على سبيل التقديم إن خير الإنسان إنما يكون بإشباع جوانبه الثلاثة: العقل والوجدان والإرادة، لقد عبر الإنسان عن أمله في نفسه حين صور الله بخياله؛ لأنه إذا رسم لنفسه تلك الصورة، وضع فيها الكمال الذي يصبو إليه، فكيف تخيل الإنسان صورة الله؟ تخيله «حكيما رحيما قويا» أي تخيله كائنا ذا عقل يدرك الحكمة، وذا وجدان يبعث على الرحمة، وذا إرادة لها قوة العمل والتنفيذ، وهكذا يريد الإنسان أن يكون.
أما جانب العقل وجانب الوجدان فلا يثيران إشكالا؛ لأن الفرد يستطيع أن يبلغ بهما أقصى حدودهما دون أن يطغى بهما على سائر أفراد المجتمع، فلا ضير على هؤلاء الأفراد أن تبلغ بعقلك أسمى مراتب الحكمة، ولا ضير عليهم أن يرق وجدانك، بحيث يحقق الرحمة والحب والعطف، وأما الجانب الثالث - جانب الإرادة - فهو صميم المشكلة وأساسها؛ لأنك إذ تمارس قوة الإرادة من نفسك كان حتما أن يتأثر غيرك من أعضاء المجتمع؛ لأنه كلما اتسع نطاق تنفيذك لما تمليه إرادتك ضاق تبعا لذلك مجال الحرية عند الآخرين، إن المشكلة محلولة بالنسبة لله كما تصورناه؛ لأنه وحده في الكون، فيستطيع أن ينفذ إرادته كيف شاء، فلا يحتاج لشيء أن يكون سوى أن يقول له كن فيكون ... وهكذا يتمنى الإنسان لنفسه لولا أن معه آخرون، فربما قال الإنسان لشيء كن، فيكون على غير ما يريده الآخرون، وعندئذ تتعارض الإرادات وتتضارب؛ ولذلك كان أكثر الحالات إشباعا لطبيعة الفرد هي أن يكون دكتاتورا مطاعا لو استطاع.
لو كان الفرد من الإنسان يعيش في كون وحده كما هي الحال مع الله لما كان هنالك إشكال في التربية أو الأخلاق بالنسبة لذلك الفرد الواحد، فتربيته هي أن يبلغ بجوانبه الثلاثة من عقل ووجدان وإرادة حدودها القصوى، ولا تلزمه «أخلاق»؛ لأنه ليس إلى جانبه سواه تتطلب معاملته تحديدا لسلوكه، لكن الفرد من الناس لا يعيش وحده، وإذن فلا مناص من تحديد إرادته بالتربية وبالأخلاق، حتى لا يطغى بها على سواه؛ بعبارة أخرى يمكن للفرد من الناس أن يتشبه بالله في مداركه العقلية وفي عواطفه الوجدانية، لكنه يستحيل عليه أن يتشبه به في ممارسة قوة إرادته.
أظننا بهذا التحليل قد أسقطنا شيئا من الضوء على مشكلتنا الأساسية، وهي كيف أربي الناشئ، بحيث أوفق فيه بين الفرد والمواطن؛ لأننا وجدنا الإشكال منحصرا في مجال إرادته، فمن جهة تستوجب طبيعته منه أن يكون طاغية نافذ السلطان، ومن جهة أخرى تستوجب حياته الاجتماعية أن يحد من تلك الإرادة التي تريد أن تسود سيادة مطلقة ، وبهذا أصبح سؤالنا الرئيسي هو هذا: كيف أوفق في الفرد بين إرادته المطلقة وإرادته المقيدة؟ وعن هذا السؤال يجيب رسل بقوله أن ليس هنالك - فيما يظهر - حل حاسم، وأقل ما يجوز لنا المطالبة به هو ألا تنتقص من إرادة الفرد المطلقة إلا بالحد الأدنى الذي يقتضيه كونه مواطنا؛ فالفرد أولا والمواطن ثانيا، فلا نقيدن من إرادة الفرد الحرة إلا للضرورة التي ليس عنها محيص.
68
وتطبيق هذا المبدأ متروك للمدرس في دروسه، فهو الذي يطلق العنان لطبيعة التلميذ آنا لكي تعبر عن نفسها تعبيرا فرديا حرا، وهو الذي يلجم تلك الطبيعة آنا آخر حرصا على صوالح الآخرين، وهو الذي يزن المقدار الذي يجرعه للطفل من ثقافة قومه، بحيث لا تنطمس شخصيته الناقدة انطماسا يقضي عليها ... لكن ما أضخم العبء الذي ألقاه «رسل» على المدرس؛ فما أهون أن تضع المبدأ قائلا: ينبغي أن يكون هنالك اتزان بين جانب الفرد من التلميذ وجانب المواطن منه! وما أعسر أن ترسم الحدود الفاصلة عند التطبيق، بحيث تخرج الناشئ فردا مستقلا بشخصيته، ومواطنا مستعدا للتضحية بشخصيته في آن معا! •••
والشكائم التي تفرض على الإنسان لتضبط سلوكه ضبطا يتوسط به بين فرديته من جهة، ووطنيته من جهة أخرى، إن هي إلا القواعد التي تتفرع عن مبادئ الأخلاق؛ فالأخلاق هي في رأي «رسل» مجموعة من مبادئ عامة تعين على تحديد القواعد التي يجري السلوك على مقتضاها،
69
فليس عمل الأخلاق - بمعناها الفلسفي - هو أن تحدد للإنسان كيف ينبغي أن يسلك في ظروف معينة؛ لأن مثل هذا الإرشاد العملي هو من واجب الوعظ الديني وما إليه، بل عمل الأخلاق هو تعقب القواعد الخلقية إلى أصولها التي تفرعت عنها.
قواعد الأخلاق تخلف باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف الجنس والعقيدة، وهي بصفة عامة تختلف باختلاف الظروف المحيطة بالعمل، فمتى يجوز الكذب مثلا؟ قد يجيب مجيب بغير روية: إنه لا يجوز أبدا، لكنك تكذب إذا قابلت مغتالا يعدو في جنون وراء رجل يريد أن يقتله، ثم سألك: هل رأيت إلى أين مضى فلان؟ ثم أليس الكذب مقبولا في فن الحروب؟ بل ألا يكذب القساوسة حين يكتمون سر من اعترف لهم بسره؟ ألا ينبغي أن يكذب الأطباء ليطمئنوا مرضاهم؟ كل هذه ظروف تقتضي الكذب، لكن الذي يقرر صواب الكذب في ظروف معينة هو الوعظ والإرشاد الاجتماعي، وليس هو من علم الأخلاق.
خذ مثلا آخر لتغير القواعد الخلقية بتغير الظروف ووجهات النظر: هل يجوز أن يقتل الزوج عاشق زوجته؟ تجيب الكنيسة أن لا، ويجيب الإدراك الفطري السليم أن لا، لكن القانون يجيب أن نعم؛ إذ إنه كثيرا ما يبرئ القاتل في مثل هذه الظروف.
تلك أمثلة تبين كيف تتغير قواعد الأخلاق، أما مبادئ الأخلاق التي هي من شأن الفلسفة أن تقررها فثابتة وشاملة، فمهما تغيرت القواعد الخلقية من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، فهي دائما تتخذ صيغة الأمر أو ما يشبهها، فترى القاعدة الخلقية توجب على الناس أن يفعلوا كذا، وألا يفعلوا كيت، فماذا يعني «الوجوب» في مثل هذه الحالة؟ لو استطعنا الجواب عن هذا السؤال على هذه الصورة أو تلك، فجوابنا سيكون مقررا لمبدأ الأخلاق الذي نعنيه حين نقول إن مبادئ الأخلاق بمعناها الفلسفي أثبت من قواعد الأخلاق وأشمل.
كان معنى «الوجوب» الأخلاقي، الذي يجعل من الفعل فضيلة، بادئ ذي بدء طاعة صاحب السلطان، ولا فرق بين أن يكون صاحب السلطان الذي «يوجب» على الناس قواعد سلوكهم إلها أو حاكما أو عادة من العادات التي جرت بها التقاليد، لكن الفلسفة ترفض هذا المعنى للوجوب الخلقي، أعني أنها ترفض أن يكون مبدأ الأخلاق هو طاعة صاحب الأمر كائنا من كان، ورفضها قائم على عدة أسباب؛ منها أن الأوامر الخلقية التي يأمرنا بها صاحب السلطان - مهما يكثر عددها - فهي أقل من أن تشمل ظروف الحياة كلها، خذ لذلك مثلا الوصايا العشر، فلو أخذت بهذه الأوامر العشرة على أنها أساس السلوك الخلقي، فهل تعلم إن كان جائزا للناس أو غير جائز أن يتبعوا قاعدة الذهب في معاملاتهم الاقتصادية؟ وإذا أردنا أن نجعل الوصايا العشر أساسا لسلوكنا إلى الحد الذي تمتد إليه تلك الوصايا، ثم لنا بعد ذلك أن نتبع قاعدة المنفعة الاجتماعية في الحكم على أنواع السلوك التي لا تدخل في نطاق تلك الوصايا كان ذلك مما لا يرضى عنه الفيلسوف؛ لأنه يحاول أن يجد للسلوك الصواب كله مبدأ واحدا، ومن الأسباب التي تجعلنا نرفض أن يكون الوجوب نتيجة أمر من صاحب الأمر، أننا إذا ما سألنا: كيف عرفنا أن هذه هي الأوامر التي أمر بها صاحب الأمر؟ كان الجواب أنها تعرف بالوحي إن كان مصدرها الله، وتعرف بالعرف إن كان مصدرها التقاليد، وتلك من مصادر المعرفة التي لا يقرها فيلسوف.
إذا كنا نرفض أن تكون طاعة صاحب الأمر هي مصدر «الوجوب» الخلقي، فما مصدره؟ هنالك جواب ثان هو في رأي «رسل» أدنى إلى الصواب من الجواب الأول، وهو أن مصدر الوجوب نابع من الداخل - داخل الإنسان - لا آت إليه من خارج؛ فالأعمال تكون خيرا لو صدرت عن كذا وكذا من العواطف الإنسانية، وتكون شرا لو صدرت عن طائفة أخرى من تلك العواطف، ويمكن القول بصفة عامة إن كل عمل يصدر عن «الحب» فهو خير، وأما ما يصدر عن «الكراهية» فهو شر. ويعلق «رسل» على هذا الرأي بقوله إنه وإن يكن رأيا صحيحا من الوجهة العملية، إلا أنه ناقص من الوجهة الفلسفية؛ إذ يراه بدوره نتيجة لمبدأ أعم وأشمل، فما الذي يجعل حافز الحب خيرا، وحافز الكراهية شرا؟
70
وهنالك جواب ثالث عن سؤالنا: ما مصدر الوجوب الخلقي؟ ما الذي يجعل الفعل خيرا أو شرا؟ إذ هنالك فريق يجعل مبدأ الحكم على الفعل بخير أو بشر ليس هو ما سبق الفعل من أمر صدر من آمر، أو من عاطفة انبثق منها الفعل، بل أساس الحكم هو ما يلحق الفعل من نتائج، فهكذا يقول المذهب المنفعي في الأخلاق الذي يرى أن السعادة هي الخير، وأن أساس السلوك إذن ينبغي أن يكون ما ترجح به كفة السعادة في هذه الدنيا، فإن أردت الحكم على فعل ما بالخير أو بالشر ، فاسأل أولا، ما نتائجه من حيث تحقيق السعادة لبني الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟
وهنالك جواب رابع عرف به «ج. إ. مور» وهو أن الخير صفة في الفعل تدرك إدراكا مباشرا، وليست هي بالنتيجة التي نستدل عليها من مقدمات أو مؤخرات، فكما تنظر إلى هذه البقعة اللونية، فتقول إنها صفراء لإدراكك المباشر للونها الأصفر، فكذلك تنظر إلى الفعل الصواب، فتقول إنه خير لإدراكك عنصر الخير فيه إدراكا مباشرا، وهنا يقول رسل: «قد كنت فيما سبق معتنقا لهذا الراي، ثم أقلعت عنه لأسباب منها ما قرأته لسانتيانا في كتابه «رياح المذاهب»، وقد أصبح رأيي الآن هو أن الخير والشر متفرعان عن الرغبات الفطرية، ولست أعني بذلك أن الخير هو ما نرغب فيه؛ لأني أعلم أن رغبات الناس متضاربة، على حين أن الخير - في رأيي - هو في أساسه فكرة اجتماعية غايتها أن تقضي على ما بين الناس من تضارب، وهذا التضارب لا يكون بين مختلف الأفراد فحسب، بل يكون كذلك بين رغبات الشخص الواحد في أوقات مختلفة، بل وفي الوقت الواحد، حتى وإن يكن في حياته وحيدا مثل روبنسن كروسو»،
71
وسينتهي بنا التحليل إذا بدأناه من هذه النقطة إلى أن الخير هو في إحداث الاتزان بين متضارب الرغبات.
الخير بالنسبة إلى الفرد الواحد هو التنسيق بين رغباته، خذ مثلا لذلك فردا واحدا يعيش وحده مثل روبنسن كروسو، تجد تضاربا عنده في بعض لحظات حياته بين التعب والجوع، فهو الآن راغب في الراحة، لكنه لو استراح وأمسك عن العمل، فقد ينتج عن ذلك انعدام القوت في يوم مقبل، فلا يجد ما يشبع به الجوع عندئذ، فإذا ما غلب نفسه الآن وحملها على العمل، موازنا في ذلك بين رغبتين؛ رغبة حاضرة في ترك العمل، ورغبة مستقبلة في الحصول على القوت، ثم غلب رغبة على رغبة على هذه الصورة التي يضحي بها رغبة حاضرة أقل في سبيل رغبة مستقبلة أكبر، كان في عمله هذا كل الخصائص التي يتسم بها المجهود الخلقي، وترانا أحسن ظنا بمن يبذل مثل هذا الجهد منا بمن لا يبذله؛ لأن في بذله ضبطا للنفس، وتحكما فيها، وهكذا تستطيع أن تتصور الحياة الخلقية لرجل مثل روبنسن كروسو كائنة في الموازنة بين رغباته، وتغليب بعضها على بعض على صورة تحقق له اتساقا في شتى جوانب حياته، والظاهر أن الإدراك الفطري السليم وحده كاف لهداية الإنسان إلى الحكم الصواب في أي الرغبات أولى بالتحقيق من غيرها، فمن ذا يتعذر عليه الحكم حين تكون الموازنة مثلا بين رغبتين؛ إحداهما رغبة في توسيع المعرفة، وأخرى في تخدير الإنسان لنفسه بمخدر؟! فكلتا الرغبتين تستهدفان شعورا بالسعادة، لكننا ندرك على الفور أن السعادة المتحققة من الرغبة الأولى أدوم وأفضل من السعادة المتحققة من الرغبة الثانية، فلو رسونا بغتة على الجزيرة التي يسكنها روبنسن كروسو، ووجدناه يقضي فراغه في دراسة النبات على تلك الجزيرة، كان ذلك في رأينا أفضل مما لو وجدناه مخمورا، وأساس التفضيل هو مبدأ اتساق الحياة.
وكذلك قل في المجتمع؛ فالخير بالنسبة للمجتمع هو أيضا قائم على أساس التنسيق بين رغبات أفراده المتضاربة، وإذن فالمبدأ الأخلاقي الأسمى هو هذا: «اعمل العمل الذي ينشأ عنه التنسيق بين رغبات أفراد المجتمع؛ فذلك أفضل من العمل الذي يؤدي إلى التنافر بين هؤلاء الأفراد»، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجتمع، صغر أو كبر، ينطبق على مختلف رغبات الفرد الواحد، وينطبق على أفراد الأسرة، والمدينة، والوطن، كما ينطبق على العالم كله إذا كان العمل الفردي ذا أثر في العالم كله.
ولتحقيق هذا المبدأ وسيلتان: الأولى أن ننشئ من النظم الاجتماعية ما يساعد على التنسيق بين رغبات الأفراد، بحيث لا يعود أمامها مجال تتنافر فيه إلا بأضيق حد ممكن، والثانية أن نربي الأفراد تربية تحملهم على الاتجاه برغباتهم وجهة لا ينتج عنها التضارب مع رغبات الآخرين بقدر المستطاع، والوسيلة الأولى هي من شأن السياسة والاقتصاد، والوسيلة الثانية هي مجال التربية.
واضح مما أسلفناه أن الإنسان إذا ما حكم على فعل بأنه خير، كانت صفة الخير هذه - في رأي «رسل» - معبرة عن رغبته الذاتية في ذلك الفعل، ولم تكن صفة موضوعية في الفعل ذاته، وبصفة عامة فإن الحديث عن القيم تعبير عن حالة وجدانية عند المتحدث، وليس هو بالحديث الذي يصف شيئا في عالم الواقع؛ فحين يقول القائل مثلا إن الكراهية شر والحب خير، فكأنما يقول: وددت لو لم يكن بين الناس كراهية، وأن يسودهم الحب، فإذا فرضنا أن شخصين اختلفا في الحكم على فعل بأنه خير، فليس هنالك فيصل موضوعي يرجع إليه في قبول أحد الرأيين ورفض الآخر، ولذلك كان عبثا أن يتجادل اثنان فيما اختلفا فيه من أحكام القيم، ولذلك أيضا كانت وسيلة الوعظ بهذا الفعل أو ذاك مما يحسبه الواعظ خيرا، هي الخطابة والتأثير في الشعور، لا الاحتكام إلى الحجة العقلية، إذ ليس للعقل من حجة يقيمها ليؤيد ضربا من الأخلاق دون ضرب،
72
بعبارة أخرى نستخدم فيها لغة المنطق: ليست الأحكام الخلقية مما يوصف بصواب أو بخطأ، وبالتالي لا يجوز لها أن تكون علما أو جزءا من علم، فليس بين وقائع العالم الخارجي وحقائقه وقائع أو حقائق خلقية كما يكون هنالك - مثلا - ضوء وصوت وحرارة، وإذن فليس الحكم الخلقي تقريرا عن واقعة أو وصفا لحقيقة، إنما هو انفعال معبر عن حالة نفسية أشبه بانفعال الغاضب أو النشوان؛ فكل اختلاف بين الناس على تقدير الأفعال تقديرا خلقيا هو من قبيل اختلافهم في الذوق، ولا سبيل إلى حسم ذلك الاختلاف بينهم إلا إذا كانوا منذ البداية قد اتفقوا على مبادئ بعينها، وعندئذ ينحصر الخلاف في هل تنطبق تلك المبادئ المتفق عليها على الأفعال التي اختلف في تقويمها.
ومع ذلك كله فليست العبارات الدالة على أحكام خلقية هي من قبيل العبارات الذاتية الصرفة، التي لا تعدو حدود قائلها؛ لأنه مما يميز العبارة الأخلاقية أن قائلها يعبر بها عن رغبة يتمنى أن يطبقها الناس جميعا في سلوكهم، وفي هذه الرغبة في تعميم القاعدة ظل من الموضوعية طفيف.
وهكذا ترى أن ثمة عالمين يعيش فيهما الإنسان، يختلف الواحد منهما عن الآخر اختلافا بعيدا؛ أولهما هو عالم الطبيعة، وثانيهما عالم القيم، يعيش الإنسان في عالم الطبيعة جزءا منه؛ فأفكاره العقلية وحركاته البدنية خاضعة لنفس القوانين التي تسير بمقتضاها الذرات والنجوم، وأما في عالم القيم فالطبيعة كلها لا تزيد على أن تكون جزءا من مملكة فسيحة الأرجاء يجلس الإنسان على عرشها، ويفرض عليها ما شاء لها من معايير، فهناك تكون الكلمة العليا لأذواقنا وخيالنا وتقديرنا، ولا يمكن لقوة خارج أنفسنا أن تصف أحكامنا تلك بالضلال والخطأ، نحن الذين نخلق قيم الخير، وقيم الجمال، ونخلعها على الأشياء، ولا سلطان علينا في ذلك، فبينما نحن في عالم الطبيعة أشياء كسائر الأشياء الخاضعة لقوانين لم تكن من صنعنا، ترانا في عالم القيم، عالم الخير والجمال، ملوكا ذوي سلطان نحكم بما نشاء بغير حساب.
73 •••
إذن فهذه ثنائية واضحة في النظر إلى الحياة الإنسانية؛ فللإنسان مجالان يقضي فيهما حياته، وينشد فيهما مثله العليا، لكنهما مجالان بينهما هوة سحيقة يوشك ألا يكون بينهما صلة تربط بينهما؛ فمن جهة هنالك عالم الطبيعة وما يقابله من علوم تنشد الحقيقة العارية التي لا تعرف القيم من خير أو شر أو جمال أو قبح، ومن جهة أخرى هنالك عالم القيم الأخلاقية والجمالية التي هي صنيعة الإنسان، وميوله الذاتية، ومن ثم كان النتاج الفكري لهذا الفيلسوف منقسما قسمين لا يعتمد الواحد منهما بالضرورة على الآخر، فله منطق تحليلي ومذهب فلسفي في الطبيعة، وتفسيرها من ناحية، وكذلك له من ناحية أخرى مجموعة قيمة من آراء في الأخلاق والتربية والسياسة والاجتماع، دون أن يكون بين الناحيتين رباط يربطهما في نسق واحد، ولا عجب؛ فهو أحد الفلاسفة المعاصرين الذين نبذوا الفكرة التقليدية في الفلسفة، وأعني بها فكرة أن يقيم الفيلسوف من أشتات فكره بناء واحدا متماسك الأطراف؛ إذ الفلسفة في رأي هؤلاء المعاصرين تحليل يواجه كل مشكلة على حدة بما تقتضيه طبيعتها.
على أن هذه الآراء الكثيرة التي أدلى بها «رسل» في كثير من كتبه عن الحياة الإنسانية ليست بغير محور تدور حوله على اختلافها وتعددها، فالمحور الواضح في كل تفكيره الإنساني من أخلاق وتربية وسياسة واجتماع هو الدفاع عن حرية الفرد ما استطاع إلى ذلك من سبيل؛ كانت حرية الفرد هي مدار فكره حين فكر في التربية، وهي مدار فكره حين فكر في الأخلاق، وهي كذلك مدار فكره حين فكر في السياسة والاجتماع.
ولعل أقصر طريق نصل به إلى لباب فكره في السياسة هو أن نسأل السؤال الآتي: ما موقفه إزاء المذهب الماركسي؟ ذلك لأن هذا المذهب هو بغير شك أقوى المذاهب السياسية الاجتماعية التي سادت العالم في القرن الأخير، أعني في الفترة الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ويستحيل على فيلسوف سياسي اجتماعي أن يتجاهله، بل حتم عليه أن يلاقيه مؤيدا أو معارضا أو معدلا.
فإذا أردت عن هذا السؤال جوابا يلخص لك موقف «رسل» من مذهب ماركس - وبالتالي يوضح فلسفته السياسية - فعليك بمبدئه الأساسي الذي ذكرناه لك فيما سلف أكثر من مرة، وهو الدفاع عن حرية الفرد ضد أي عدوان مهما يكن مصدره، ومهما تكن غايته، وإذا كان ذلك كذلك، فهو مناهض للماركسية بكل قوته؛ لأنها تنتهي إلى الاعتداء على حريات الأفراد، وطمسهم في لجة المجموع، وهي كذلك تمجد العامل بيديه على حساب المشتغل بفكره، وفضلا عن ذلك فهي تتخذ من حرب الطبقات ومن الكراهية بين أفراد المجتمع حافزا للتقدم، مع أنه محال على الإنسان أن يتقدم على أساس من الحسد والحقد؛ «فليس هنالك الكيمياء التي يمكن بها أن نستخرج من الكراهية وفاقا بين الناس واتساقا.»
74
وإذا كان قد رفض الشيوعية نظاما سياسيا واجتماعيا، فبديهي أنه كذلك يرفض النظم الفاشية على اختلافها؛ ذلك لأنه في حالة الشيوعية قد يقبل الغاية منها، ولكنه لا يوافق على الوسائل المؤدية إلى تلك الغاية، كما بدت هذه الوسائل في الروسيا مثلا، نعم إنه قد يقبل الغاية من الشيوعية؛ لأنه لا يكتم ثورته على الرأسمالية سواء كانت في صورتها التنافسية التي سادت القرن التاسع عشر، أو في صورتها الاحتكارية التي تسود اليوم، فأما النظم الفاشية فهي مرفوضة غاية ووسيلة ؛ لأنها رأسمالية وهي قائمة على إشعال روح القومية، وهي منافية للديمقراطية، ثم هي فوق ذلك كله تفرق بين الناس أجناسا وطبقات، فالجنس الآري ممتاز عندها بالقياس إلى غير الآري، والصفوة ممتازة بالقياس إلى غمار الناس وسوداهم.
وقد كنا نود من فيلسوف ناقم ناقد للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة، مثل «رسل» أن يفكر لنا في نظام نقيمه مكان هذه الأنظمة الفاسدة، كما فعل فلاسفة كثيرون من قبله، لكنه اكتفى بالنقد وأسرف فيه، نظر إلى المستقبل، وما يمكن أن يتمخض عنه، فماذا رأى؟ رأى مجتمعا سيسوده العلم وطرائقه، وهو يقصد بهذا الوصف مجتمعا يريد له أولو الأمر فيه شيئا، فيدبرون له الخطط على أساس علمي، بحيث ينتج لهم ما أرادوا، وكما ازداد أولو الأمر قدرة على صياغة مجتمعاتهم في القوالب التي أعدوها لها، ازدادت تلك المجتمعات إمعانا في «العلمية» التي يتوقع لها «رسل» أن تسود في مقبل الأيام، فساسة المستقبل سيقيمون بناء سلطانهم على نتاج العلوم في تشكيل الناس معتمدين في ذلك على الدعاية، وعلى ما يسمونه تربية وعلى وسائل النشر من صحافة وسينما وراديو، كل هذه ستكون في أيديهم وسائل تمكنهم من التحكم في استجابات الناس للمؤثرات المختلفة، وكل ذلك قائم في حقيقة الأمر على مصدرين علميين هما التحليل النفسي ونظرية السلوكيين في الأفعال المنعكسة، أو بعبارة أخرى سيعتمد ساسة المستقبل على فرويد وبافلوف، وسيكون معنى الاستقرار الاجتماعي في نظر هؤلاء الساسة هو أن ينصب الأفراد جميعا في قالب واحد ليخرجوا نمطا واحدا، بحيث يستشعرون في حالتهم تلك كل السعادة والرضا،
75
سيستمد حكام المستقبل طمأنينة نفوسهم من قدرتهم على توجيه شعوبهم توجيها مدبرا محكما، وسيستمد الناس سعادتهم ورضاهم من ضروب اللهو، ومن إباحة الغريزة الجنسية إباحة ستتخلص فيها من مغزاها الاجتماعي؛ ذلك لأنه لا يبعد على حكومات المستقبل أن تحصر عملية النسل في نسبة صغيرة من الناس لا تزيد عن 25٪ من النساء، و5٪ من الرجال ينسلون أطفالا تتولى الدولة تدريبهم وحبهم في قوالبها.
هكذا يمضي «رسل» في رسم صورة المستقبل كما يتوقعها ما لم يلجم الإنسان نزعته العلمية بالقيم التي ينبغي أن يخلقها لنفسه خلقا؛ ليرسم لنفسه مثله العليا، وعلى رأسها الحرية الفردية، ثم يكل إلى التربية بثها في النفوس.
قائمة بأهم مؤلفات برتراند رسل (1)
German Social Democracy (v. 7 of “Studies in Economics and
204.
وهو مجموعة محاضرات ألقيت في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. (2)
An Essay on the Foundations of Geometry. Cambridge, at the University Press, 1897. p. 201. (3)
A Critical Exposition of the Philosophy of Leibniz. Cambridge, at the University Press. XVI, p. 311 (Second edition: George Allen & Unwin, 1937). (4)
The Principles of Mathematics. Cambridge, at the University
(Second edition (with a new introduction), 1938; George Allen and Unwin.)
وهو يحتوي على ما يأتي:
الجزء الأول:
اللامعرفات في الرياضة. (1) تعريف الرياضة البحتة، (2) المنطق الرمزي، (3) اللزوم وحالات اللزوم الصوري، (4) أسماء الأعلام والصفات والأفعال، (5) دلالة اللفظ، (6) الفئات، (7) دالات القضايا، (8) المتغيرات، (9) العلاقات، (10) التناقض.
الجزء الثاني:
العدد. (11) تعريف الأعداد الأصلية، (12) الجمع والضرب، (13) النهائي واللانهائي، (14) نظرية الأعداد النهائية، (15) جمع الحدود وجمع الفئات، (16) الكل والجزء، (17) الكليات اللانهائية، (18) النسبة والكسور.
الجزء الثالث:
الكمية. (19) معنى المقدار الكمي، (20) مدى الكمية، (21) الأعداد باعتبارها رموزا تدل على المقدار الكمي: المقاييس، (22) الصفر، (23) اللانهاية، اللامتناهي في الصغر والاستمرار.
الجزء الرابع:
الترتيب. (24) أصول التسلسل، (25) معنى الترتيب، (26) العلاقات اللاتماثلية، (27) الاختلاف في اتجاه العلاقة والاختلاف في العلامة، (28) في الفرق بين السلسلة المفتوحة والسلسلة المقفلة، (29) المتواليات والأعداد الترتيبية، (30) نظرية «ددكند» في العدد، (31) المسافة.
الجزء الخامس:
اللانهاية والاستمرار. (32) ترابط السلسلة العددية، (33) الأعداد الحقيقية، (34) النهايات والأعداد الصماء، (35) التعريف الأول للاستمرار عند «كانتور»، (36) الاستمرار الترتيبي، (37) الأعداد الأصلية فيما بعد النهائي، (38) الأعداد الترتيبية فيما بعد النهائي، (39) حساب اللامتناهي في الصغر، (40) اللامتناهي في الصغر واللانهائي الزائف، (41) حجج فلسفية حول اللامتناهي في الصغر، (42) فلسفة العنصر المستمر، (43) فلسفة اللانهائي.
الجزء السادس:
المكان. (44) الأبعاد والأعداد المركبة، (45) الهندسة الفراغية، (46) الهندسة الوصفية، (47) الهندسة العشرية، (48) العلاقة بين الهندسة العشرية والهندسة الوصفية والفراغية، (49) تعريفات المكان بمعانيه المختلفة، (50) استمرار المكان، (51) حجج منطقية ضد النقط، (52) نظرية «كانت» في المكان.
الجزء السابع:
المادة والحركة. (53) المادة، (54) الحركة، (55) السببية، (56) تعريف العالم الديناميكي، (57) قوانين الحركة عند نيوتن، (58) الحركة المطلقة والحركة النسبية، (59) ديناميكا هيرتس .
ملحق (أ) النظريات المنطقية والرياضية عند «فريجه».
ملحق (ب) نظرية الأنماط. (5)
Cambridge, at the University Press, 1910. X VI, p. 674 (Second edition, 1935).
وهو يحتوي على ما يأتي:
مقدمة: قائمة أبجدية للقضايا مشارا إليها بأسماء: (1)
تفسير مبدئي للأفكار والرموز. (2)
نظرية الألفاظ المنطقية. (3)
الرموز الناقصة.
الجزء الأول:
المنطق الرياضي. (أ) نظرية الاستنباط، (ب) نظرية المتغيرات الظاهرة، (ج) الفئات والعلاقات، (د) منطق العلاقات ، (ه) جمع الفئات وضربها.
الجزء الثاني:
الحساب في الأعداد الأصلية. (أ) الفئات ذوات العضو الواحد وذوات العضوين، (ب) الفئات الفرعية، والعلاقات الفرعية، والأنماط النسبية، (ج) علاقات واحد بكثير، وكثير بواحد، وواحد بواحد، (د) المختارات، (ه) العلاقات الاستقرائية.
ملحق (أ): نظرية الاستنباط في القضايا المشتملة على متغيرات ظاهرة.
ملحق (ب): الاستقراء الرياضي.
ملحق (ج): دالات الصدق وغيرها، قائمة من تعريفات. (4)
VI, p. 185.
وهو مجموعة الفصول الآتية: (1)
عناصر علم الأخلاق (نشرت سنة 1908م). (2)
عبادة رجل حر (نشرت سنة 1903م). (3)
دراسة الرياضة (نشرت سنة 1907م). (4)
المذهب البراجماتي (نشرت سنة 1909م). (5)
تصور وليم جيمس لمعنى الصدق (نشرت سنة 1908م). (6)
النظرية الواحدية في الصدق (نشرت سنة 1906م). (7)
في طبيعة الحق والباطل (نشرت سنة 1906م).
ملحوظة: أعيد نشر بعض هذه الفصول في كتب أخرى، وسيلي ذكر ذلك في حينه. (8)
Cambridge, at the University Press, 1912, XXXI, p. 742 (Second edition, 1927).
وهو يحتوي على ما يأتي:
الجزء الثالث: (الجزءان الأول والثاني في المجلد الأول) حساب الأعداد الأصلية. (أ) تعريف الخصائص المنطقية للأعداد الأصلية، (ب) الجمع والضرب والتحليل الإيضاحي، (ج) النهائي واللانهائي.
الجزء الرابع:
حساب العلاقات. (أ) التشابه الترتيبي وأعداد العلاقات، (ب) جمع العلاقات وحاصل ضرب علاقتين، (ج) مبدأ الفوارق الأولى، وضرب العلاقات وتحليلها الإيضاحي، (د) حساب أعداد العلاقات.
الجزء الخامس:
التسلسل. (أ) النظرية العامة للتسلسل، (ب) في القطاعات والأجزاء والامتدادات والمشتقات، (ج) في الاتجاه نحو نقطة واحدة، ونهايات الدالة. (9)
The Problems of Philosophy; Home University Library, 1912. VIII, p. 255.
للكتاب ترجمة عربية بقلم الدكتور عطية هنا والدكتور عماد الدين إسماعيل، وهو يحتوي على ما يأتي:
مقدمة (1) المظهر والحقيقة، (2) وجود المادة، (3) طبيعة المادة، (4) المثالية، (5) المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف، (6) في الاستقراء، (7) في معرفتنا بالمبادئ العامة، (8) كيف تكون المعرفة القبلية ممكنة، (9) عالم الكليات، (10) في علمنا بالكليات، (11) في المعرفة الحدسية، (12) الحق والباطل، (13) المعرفة والخطأ والرأي المحتمل، (14) نهايات المعرفة الفلسفية، (15) قيمة الفلسفة. (10)
Cambridge, at the University Press, 1913. VIII, p. 491 (Second edition, 1927).
وهو يحتوي على ما يأتي:
الجزء الخامس: (بقية ما جاء بالمجلد الثاني) التسلسل. (د) السلسلة الكاملة الترتيب، (ه) السلسلة النهائية واللانهائية، وكذلك الأعداد الترتيبية، (و) السلسلة المحكمة، والسلسلة الجذرية، والسلسلة المستمرة.
الجزء السادس:
الكمية. (أ) تعميم العدد، (ب) المجموعات الموجهة، (ج) المقاييس، (د) المجموعات الدورية. (11)
Our Knowledge of the External World As a Field For Scientific Method in Philosophy.
George Allen and Unwin, 1914. IX. p. 245.
وهو مجموعة المحاضرات التي يطلق عليها اسم «محاضرات لاؤل»، وقد ألقاها في مدينة بوستن في شهري مارس وأبريل عام 1914م.
والكتاب يحتوي على ما يأتي:
مقدمة (1) الاتجاهات المعاصرة، (2) المنطق باعتباره جوهر الفلسفة، (3) علمنا بالعالم الخارجي، (4) عالم الفيزياء وعالم الحس، (5) نظرية الاستمرار، (6) مشكلة اللانهائية منظورا إليها من وجهة تاريخية، (7) النظرية الوضعية في اللانهاية، (8) في فكرة السبب، مع تطبيقها على مشكلة الإرادة الحرة. (12)
Unwin, 1916. p. 252. (Published in America under the title: Why Men Fight.) (13)
Justice in War-Time. George Allen and Unwin, 1916. IX, P. 243.
وهو مجموعة مقالات نشرت متفرقة. (14)
172. (15)
Mysticism and Logic and Other Essays. Longmans and Green & Co., 1918, VI, p. 243.
ثم نشر في طبعات أخرى.
وهو مجموعة فصول نشرت متفرقة، ويحتوي على ما يأتي: (1)
التصوف والمنطق (نشرت سنة 1914م). (2)
مكان العلم في تربية حرة (نشرت سنة 1913م). (3)
عبادة رجل حر (نشرت سنة 1903م). (4)
دراسة الرياضة (نشرت سنة 1907م). (5)
الرياضة والميتافيزيقا (نشرت سنة 1901م). (6)
في المناهج العلمية في الفلسفة (نشرت سنة 1914م). (7)
مقومات المادة كما ينتهي إليها التحليل (نشرت سنة 1915م). (8)
علاقة المعطيات الحسية بعلم الطبيعة (نشرت سنة 1914م). (9)
في فكرة السبب (نشرت سنة 1913م). (10)
المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف (نشرت سنة 1911م). (11)
Roads to Freedom: Socialism, Anarchism and Syndicalism. George Allen and Unwin, 1918. XVIII, p. 215. (12)
495-527; also Monist, July 1919; v. 29, pp. 32-63. (13)
Introduction to Mathematical Philosophy. George Allen and Unwin. VIII, p. 208.
ويحتوي على ما يأتي:
مقدمة (1) سلسلة الأعداد، (2) تعريف العدد، (3) النهائية والاستقراء الرياضي، (4) تعريف الترتيب، (5) أنواع العلاقات، (6) تشابه العلاقات، (7) الأعداد الجذرية، والأعداد الحقيقية، والأعداد المركبة، (8) الأعداد الأصلية اللانهائية، (9) السلسلة اللانهائية والأعداد الترتيبية، (10) النهايات والاستمرار، (11) النهايات واستمرار الدالات، (12) المنتخبات وبديهية التكاثر، (13) بديهية اللانهاية والأنماط المنطقية، (14) عدم الاتساق ونظرية الاستنباط، (15) دالات القضايا، (16) الوصف، (17) الفئات، (18) الرياضة والمنطق. (14)
The Practice and Theory of Bolshevism. George Allen and Unwin, 1920. p. 192. (15)
The Analysis of Mind. George Allen & Unwin, 1921. p. 310.
وهو مجموعة محاضرات ألقيت في لندن وبكين، ويحتوي على ما يأتي: (1) أوجه النقد التي وجهت حديثا إلى «الشعور»، (2) الغريزة والعادة، (3) الرغبة والشعور، (4) تأثير التاريخ الماضي على الحوادث الراهنة في الكائنات العضوية الحية، (5) القوانين السببية في علمي النفس والطبيعة، (6) التأمل الباطني، (7) تعريف الإدراك الحسي، (8) الإحساس والصور الذهنية، (9) الذاكرة ، (10) الألفاظ والمعنى، (11) الأفكار الكلية والفكر، (12) الاعتقاد، (13) الحق والباطل، (14) الانفعالات والإرادة، (15) خصائص الظواهر العقلية. (16)
The Problems of China. The Century Co. (New York), 1922. p. 276. (17)
Introduction to Ludwig Wittgenstein’s “Tractatus Logico-Philosophicus”, 1922, pp. 7-23. (18)
The Prospects of Industrial Civilization. In Collaboration with Dora Russell. George Allen & Unwin, 1928. V. p. 287. (19)
The ABC of Atoms. Kegan Paul, 1928, p. 175. (20)
The ABC of Relativity. Harper & Bros; Kegan Paul, 1925. p. 237. (21)
What I believe. New York, Dutton & Co., 1925. p. 87. Kgan Paul, 1925. p. 95. (22)
On Education Especially in Early Childhood. George Allen & Unwin, 1926. p. 319. (23)
The Analysis of Matter. Kegan Paul, 1927. VIII, p. 408.
ويحتوي على ما يأتي: (1) طبيعة المشكلة (مقدمة).
الجزء الأول:
التحليل المنطقي لعلم الطبيعة. (2) علم الطبيعة فيما قبل النسبية، (3) الإلكترونات والبروتونات، (4) نظرية الكم (الكوانتا)، (5) النظرية الخاصة في النسبية، (6) النظرية العامة في النسبية، (7) طريقة الشد والجذب، (8) المساحة التطبيقية، (9) الثوابت وتفسيرها الفيزيائي، (10) نظرية قابل، (11) مبدأ قانون التفاضل، (12) المقاييس، (13) المادة والمكان، (14) التجريد في علم الطبيعة.
الجزء الثاني:
علم الطبيعة والإدراك الحسي. (15) من الإدراك الحسي الأولي إلى الإدراك الفطري، (16) من الإدراك الفطري إلى علم الطبيعة، (17) العلم التجريبي، (18) علمنا بأمور الواقع الجزئية، (19) المعطيات الأولية، الاستدلالات، الفروض، النظريات، (20) النظرية السببية في الإدراك الحسي، (21) الإدراك الحسي والنظرة الموضوعية، (22) الاعتقاد في قوانين عامة، (23) الجوهر، (24) أهمية التكوين البنائي في الاستدلال العلمي، (25) الإدراك الحسي من وجهة نظر علم الطبيعة، (26) أشباه للإدراك الحسي من أشياء غير عقلية.
الجزء الثالث:
التكوين البنائي للعالم الطبيعي. (27) الجزئيات والحوادث، (28) تكوين النقط، (29) الترتيبات الزمان مكانية، (30) القوانين السببية، (31) القوانين السببية الخارجية، (32) الزمان مكان الفيزيائي والإدراكي، (33) الدورية والتسلسل الكيفي، (34) أنماط الحوادث الطبيعية، (35) السببية والفاصل في الزمان والمكان، (36) أصل الزمان مكان، (37) علم الطبيعة والواحدية المحايدة، (38) تلخيص وخاتمة. (24)
An Outline of Philosophy. George Allen and Unwin, 1927. p. 307.
ويحتوي على ما يأتي: (1) الشكوك الفلسفية.
الجزء الأول:
الإنسان من خارج. (2) الإنسان وبيئته، (3) عملية التعلم في الحيوان والصغار، (4) اللغة، (5) الإدراك الحسي منظورا إليه نظرة موضوعية، (6) الذاكرة منظورا إليها نظرة موضوعية، (7) الاستدلال باعتباره عادة، (8) المعرفة مبحوثة من وجهة نظر سلوكية.
الجزء الثاني:
العالم الطبيعي. (9) بناء الذرة، (10) النسبية، (11) القوانين السببية في علم الطبيعة، (12) علم الطبيعة والإدراك الحسي، (13) المكان الفيزيائي والمكان الإدراكي، (14) الإدراك الحسي والقوانين السببية الطبيعية، (15) طبيعة ما نعلمه عن الفيزياء.
الجزء الثالث:
الإنسان من داخل. (16) ملاحظة الإنسان لنفسه، (17) الصور الذهنية، (18) الخيال والذاكرة، (19) تحليل الإدراك الحسي عن طريق الملاحظة الباطنية، (20) هل هناك شعور؟ (21) الانفعال والرغبة والإرادة، (22) الأخلاق.
الجزء الرابع:
الكون. (23) بعض فلسفات الماضي العظيمة، (24) الحق والباطل، (25) سلامة الاستدلال، (26) الحوادث والمادة والعقل، (27) مكانة الإنسان في الكون. (25)
Sceptical Essays. George Allen and Unwin, 1928. p. 256.
ويحتوي على ما يأتي: (1)
تمهيد في قيمة الشك (نشرت سنة 1928م). (2)
الأحلام والواقع. (3)
هل يأخذ العلم بالخرافة ؟ (نشرت سنة 1926م). (4)
هل يمكن للإنسان أن يلتزم العقل؟ (5)
الفلسفة في القرن العشرين (نشرت سنة 1924م). (6)
السلوكية والقيم. (7)
المثل الأعلى في السعادة عند الشرقيين والغربيين. (8)
ما يقترفه أخيار الناس من شر (نشرت سنة 1926م). (9)
الحاجة إلى شك سياسي (نشرت سنة 1923م). (10)
الفكر الحر والدعاية الرسمية (نشرت سنة 1922م). (11)
الحرية والمجتمع (نشرت سنة 1926م). (12)
المقابلة بين الحرية والسلطة في التربية. (13)
علم النفس والسياسة (نشرت سنة 1924م). (14)
خطر الحروب المذهبية. (15)
Marriage and Morals. George Allen and Unwin, 1929. p. 320.
ويحتوي على ما يأتي: (1) ضرورة أخلاقية جنسية ، (2) حيث تكون الأبوة مجهولة، (3) المجال الذي يسيطر فيه الوالد، (4) عبادة الجنس، والزهد والخطيئة، (5) الأخلاقية المسيحية، (6) حب العاشقين، (7) تحرير المرأة، (8) إحاطة المعرفة الجنسية بالتحريم، (9) مكان الحب من حياة الإنسان، (10) الزواج، (11) العهر، (12) زواج التجربة، (13) الأسرة في يومنا الراهن، (14) الأسرة في سيكولوجية الفرد، (15) الأسرة والدولة، (16) الطلاق، (17) السكان، (18) تحسين النسل، (19) الحياة الجنسية وسعادة الفرد، (20) مكان الجنس في القيم الإنسانية، (21) خاتمة. (16)
The Conquest of Happiness. George Allen and Unwin, 1930. p. 249. (17)
The Scientific Outlook. New York, Norton & Co., 1931. X, p. 277.
ويحتوي على ما يأتي:
تمهيد
الجزء الأول:
المعرفة العلمية. (1) أمثلة من الطريقة العلمية، (2) خصائص الطريقة العلمية، (3) تصور الطريقة العلمية، (4) الميتافيزيقا العلمية، (5) العلم والدين.
الجزء الثاني:
الأساليب العلمية. (6) بدايات الأساليب العلمية، (7) الأساليب المتبعة في المادة الجامدة، (8) الأساليب المتبعة في علم الحياة، (9) الأساليب المتبعة في علم وظائف الأعضاء، (10) الأساليب المتبعة في علم النفس، (11) الأساليب المتبعة في المجتمع.
الجزء الثالث:
المجتمع العلمي. (12) المجتمعات المتكونة بطرائق مصطنعة، (13) الفرد والكل، (14) الحكومة العلمية، (15) التربية في مجتمع علمي، (16) التكاثر بطريقة علمية، (17) العلم والقيم. (18)
Education and Social Order. George Allen & Unwin, 1933. p. 245. (Iin Norton’s edition, called “Education and the Modern World”.) (19)
Freedom and Organization 1814-1914, George Allen and Unwin, 1934. VIII, p. 471. (20)
In Praise of Idleness, New York, W.W. Norton & Co., 1935. VIII, p. 270. (21)
Religion and Science. New York, Henry Holt & Co., 1935. p. 271.
ويحتوي على ما يأتي: (1) أسس النزاع، (2) ثورة كوبرنيق، (3) الثورة، (4) الخرافة والطب، (5) النفس والجسم، (6) الجبرية، (7) التصوف، (8) غائية الكون، (9) العلم والأخلاق، (10) خاتمة. (22)
Which Way to Peace? London, Michael Joseph Ltd., 1936. p. 224. (23)
& Co., 1938. p. 315.
ويحتوي على ما يأتي: (1) الحافز إلى القوة، (2) القادة والتابعون، (3) صور القوة، (4) قوة الكهنة، (5) قوة الملوك، (6) القوة السافرة، (7) قوة الثورة، (8) القوة الاقتصادية، (9) القوة فوق الرأي، (10) مصادر القوة، (11) نماء المنظمات، (12) قوى الحكومات وأشكالها، (13) المنظمات والفرد، (14) التنافس، (15) القوة وقوانين الأخلاق، (16) فلسفات القوة، (17) أخلاقية القوة، (18) ترويض القوة. (24)
An Inquiry Into Meaning and Truth. George Allen and Unwin, 1940. p. 445.
وهي مجموعة المحاضرات التي يطلق عليها «محاضرات وليم جيمس»، ألقاها في جامعة هارفارد، ويحتوي الكتاب على ما يأتي:
تمهيد (1) ما اللفظة؟ (2) الجمل والتركيب اللفظي وأجزاء الكلام، (3) الجمل التي تصف الخبرة ، (4) اللغة الشيئية، (5) الكلمات المنطقية، (6) أسماء الأعلام، (7) الجزئيات المتمركزة في الذات، (8) الإدراك الحسي والمعرفة، (9) المقدمات العرفانية، (10) القضايا الأساسية، (11) المقدمات الواقعية، (12) تحليل المشكلات الخاصة بالقضايا، (13) دلالة الجمل: (أ) نظرة عامة، (ب) التحليل النفسي للدلالة، (ج) التركيب اللفظي والدلالة، (14) اللغة كأداة للتعبير، (15) ماذا «تعني» الجمل؟، (16) الحق والباطل، (17) الحق والخبرة، (18) المعتقدات العامة، (19) الماصدقات والذرية، (20) قانون الثالث المرفوع، (21) الصدق وطريقة التحقق منه، (22) الدلالة وإمكان التحقق من الصدق، (23) إمكان الإثبات الجائز، (24) التحليل، (25) اللغة والميتافيزيقا. (25)
History of Western Philosophy. George Allen and Unwin, 1946. p. 916.
وللكتاب ترجمة عربية بقلم الدكتور زكي نجيب محمود. (26)
Human Knowledge: Its Scope and Limits. George Allen and Unwin, 1948. p. 538.
ويحتوي على ما يأتي:
تمهيد
الجزء الأول:
عالم العلم. (1) المعرفة الفردية والاجتماعية، (2) عالم الفلك، (3) عالم الفيزياء، (4) التطور البيولوجي، (5) فسيولوجيا الإحساس والإرادة، (6) علم العقل.
الجزء الثاني:
اللغة. (1) استعمالات اللغة، (2) التعريف بالإشارة، (3) أسماء الأعلام، (4) الجزئيات المركزة في الذات، (5) ردود الأفعال المؤجلة: المعرفة والاعتقاد، (6) الجمل، المدلولات الخارجية للأفكار والمعتقدات، (8) الصدق: صوره المبدئية، (9) الكلمات المنطقية والباطل، (10) المعرفة العامة، (11) الوقائع والاعتقاد والصدق والمعرفة.
الجزء الثالث:
العلم والإدراك الحسي. (1) معرفة الوقائع ومعرفة القوانين، (2) الانعزال الذاتي، (3) الاستدلال الاحتمالي كما يمارسه الإدراك الفطري، (4) الفيزياء والخبرة، (5) الزمن في الخبرة، (6) المكان في علم النفس، (7) العقل والمادة.
الجزء الرابع:
المدركات العلمية (1) التفسير، (2) الألفاظ الأولية، (3) البناء التكويني، (4) البناء التكويني والألفاظ الأولية، (5) الزمن: العام منه والخاص، (6) المكان في الفيزياء الكلاسيكية، (7) الزمان مكان، (8) مبدأ التفرد، (9) القوانين السببية، (10) المكان زمان والسببية.
الجزء الخامس:
الاحتمال (1) أنواع الاحتمال، (2) الاحتمال الرياضي، (3) نظرية التكرار المحدود، (4) نظرية ميزس ورايشنباخ، (5) نظرية كينز في الاحتمال، (6) درجات التصديق، (7) الاحتمال والاستقرار.
الجزء السادس:
مصادرات الاستدلال العلمي (1) أنواع المعرفة، (2) أهمية الاستقراء، (3) مصادرة الأنواع الطبيعية، (4) المعرفة المجاوزة للخبرة، (5) الخيوط السببية، (6) البناء التكويني والقوانين السببية، (7) التفاعل، (8) الاستدلال بالتمثيل، (9) خلاصة المصادرات، (10) حدود الاتجاه التجريبي. (27)
Authority and the Individual. George Allen and Unwin, 1949. p. 125. (28)
Human Society in Ethics & Polities George Allen, and Unwin, 1954. p. 239.
نصوص مختارة
من مؤلفات برتراند رسل
النص الأول: الرياضة وفلسفتها
الرياضة دراسة - إذا ما بدأناها بأكثر أجزائها إلفا لنا - أمكن متابعتها في أحد اتجاهين متضادين، والاتجاه الذي نألفه أكثر من الآخر هو الاتجاه البنائي الذي ينحو بنا نحو تركيب يزداد تدريجا: فمن الأعداد البسيطة إلى الكسور، ثم إلى الأعداد الحقيقية فالأعداد المركبة، ومن الجمع والضرب إلى التفاضل والتكامل ، وهكذا نمضي في السير إلى الرياضيات العليا، وأما الاتجاه الثاني الذي لا نألفه بمثل ما نألف الاتجاه الأول، فيمضي مستعينا بالتحليل نحو ازدياد مطرد في التجريد والبساطة المنطقية، فبدل أن نسأل قائلين: ماذا يمكن تعريفه واستنباطه من المسلمات التي بدأنا بها، نسأل قائلين: ماذا عسانا واجدوه من أفكار أكثر تعميما يمكن بواسطتها أن نعرف، وأن نستنبط ما كنا قد اتخذناه نقطة ابتداء؟ هذا السير في الاتجاه المضاد، هو الذي يميز الفلسفة الرياضية إذا قورنت بالرياضة المعتادة، لكن ليكن مفهوما أن هذه التفرقة ليست بتفرقة في الموضوع [الذي تدرسه الرياضة وفلسفتها معا]، بل هي تفرقة في الحالة العقلية التي يصطنعها الباحث، إن علماء الهندسة من الإغريق الأولين، حين انتقلوا من القواعد العملية التي كان يستخدمها المصريون في مساحة الأرض، إلى القضايا العامة التي يمكن بها تفسير تلك القواعد، ومن ثم انتقلوا إلى بديهيات إقليدس ومصادراته، كانوا بهذا ينتقلون في مجال الفلسفة الرياضية حسب التعريف الذي أسلفناه، حتى إذا ما بلغوا في سيرهم مرحلة البديهيات والمصادرات، كان استخدامهم لها في العمليات الاستنباطية - كالذي نراه عند إقليدس - من اختصاص الرياضة بمعناها المألوف، إن التفرقة بين الرياضة والفلسفة الرياضية إنما تعتمد على نوع الاهتمام الذي يحفز الباحث، وعلى المرحلة التي يكون البحث قد بلغها، لا على القضايا التي هي موضوع البحث نفسه.
مدخل إلى الفلسفة الرياضية، ص1-2
MATHEMATICS AND MATHEMATICAL
Mathematics is a study which, when we start from the most familiar portions, may be pursued in either of two opposite directions. The more familiar direction is constructive; towards gradually increasing complexity: from integers to fractions, real numbers, complex numbers; from addition and multiplication to differentiation and integration, and on to higher mathematics. The other direction, which is less familiar, proceeds, by analysing, to greater and greater abstractness and logical simplicity; instead of asking what can be defined and deduced from what is assumed to begin with, we ask instead what more general ideas and principles can be found, in terms of which what was our starting-point can be defined or deduced. It is the fact of pursuing this opposite direction that characterises Mathematical philosophy as opposed to ordinary mathematics. But it should be understood that the distinction is one, not in the subject matter, but in the state of mind of the investigator. Early Greek geometers, passing from the empirical rules of Egyptian land-surveying to the general propositions by which those rules were found to be justifiable, and thence to Euclid’s axioms and postulates, were engaged in mathematical philosophy, according to the above definition; but when once the axioms and postulates have been reached, their deductive employment, as we find it in Euclid, belonged to mathematics in the ordinary sense. The distinction between mathematics and mathematical philosophy is one which depends upon the interest inspiring the research, and upon the stage which the research has reached; not upon propositions with which the research is concerned.
Introduction to Mathematical Philosophy. pp. 1-2
النص الثاني: تعريف العدد
هبنا قد وضعنا كل الأزواج في حزمة، وكل الثالوثات في أخرى، وهكذا؛ فبهذه الطريقة نحصل على حزمات مختلفة من مجموعات، كل حزمة منها تتألف من كل المجموعات التي لها عدد معين من الحدود، وبهذا تكون كل حزمة فئة أعضاؤها هي هذه المجموعات، أي أعضاؤها هي فئات، وإذن فكل حزمة تكون فئة من فئات، فالحزمة المؤلفة من جميع الأزواج - مثلا - فئة من فئات؛ إذ كل زوج منها فئة ذات عضوين، والحزمة كلها المؤلفة من أزواج هي فئة قوامها عدد لا نهاية له من أعضاء، كل عضو منها فئة ذات عضوين.
فكيف يمكننا الجزم بأن مجموعتين تنتميان إلى حزمة بعينها؟ الجواب الذي يبرز نفسه أمامنا هو هذا: «انظر كم عضوا تحتوي عليه كل مجموعة، وضع المجموعتين في حزمة واحدة إذا كانت كل منهما محتوية على نفس العدد الذي تحتوي عليه المجموعة الأخرى»، لكن هذا الجواب فيه افتراض سابق بأننا قد فرغنا من تعريف العدد، وأننا نعرف كيف نعلم عدد الحدود التي تتألف منها كل مجموعة، فلقد ألفنا عملية العد إلفا قد يجعل مثلا هذا الافتراض السابق يفلت منا فلا نلاحظه، ومع ذلك فالواقع هو أن العد - رغم إلفنا له - عملية غاية في التركيب من الوجهة المنطقية، فضلا عن أنه لا يجدي - باعتباره وسيلة للكشف عن عدد الحدود التي تحتوي عليها مجموعة ما - إلا إذا كانت تلك المجموعة نهائية العدد، غير أن تعريفنا للعدد لا يجوز أن يفترض مقدما بأن كل الأعداد نهائية، وعلى كل حال فنحن لا نستطيع - بغير الدوران في حلقة مفرغة - أن نستخدم العد في تعريف الأعداد؛ لأن الأعداد هي التي نستخدمها في العد، وعلى ذلك فلا غنى لنا عن طريقة أخرى نقرر بها متى يكون لمجموعتين نفس العدد من الحدود ...
ولما كانت فكرة التشابه هي من الوجهة المنطقية مفروضة مقدما في عملية العد، وهي من الوجهة المنطقية كذلك أبسط من العد، وإن تكن أقل إلفا لنا ... ففي مقدورنا - إذن - أن نستخدم فكرة «التشابه عند الحكم على مجموعتين بأنهما ينتميان إلى حزمة بعينها».
المدخل إلى الفلسفة الرياضية، ص14-17
DEFINITION OF MUMBER
We can suppose all conples in one bundle, all trios in another, and so on. In this way we obtain various bundles of collections, each bundle consisting of all the collections that have a certain number of terms. Each bundle is a class whose members are collections, i.e. classes; thus each is a class of classes. The bundle consisting of all couples, for example, is a class of classes: each couple is a class with two members, and the whole bundle of couples is a class with an infinite number of members, each of which is a class of two members.
How shall we decide whether two collections are to belong to the same bundle? The answer that suggests itself is: “Find out how many members each has, and put them in the same bundle if they have the same number of members.” But this presupposes that we have defined numbers, and that we know how to discover how many terms a collection has. We are so used to the operation of counting that such a presup-position might easily pass unnoticed. In fact, however, counting, though familiar, is logically a very complex operation; moreover it is only available, as a means of discovering how many terms a collection has, when the collection is finite. Our definition of number must not assume in advance that all numbers are finite; and we cannot in any case, without a vicious circle, use counting to define numbers, because numbers are used in counting. We need, therefore, some other method of deciding when two collections have the same number of terms.
The notion of similarity is logically presupposed in the operation of counting, and is logically simpler though less familiar ...
We may thus use the notion of “similarity” to decide when two collections are to belong to the same bundle.
Introduction to Mathematical Philosophy, pp. 14-17
النص الثالث: المنطق والرياضة (1) الرياضة البحتة هي طائفة القضايا التي تأخذ هذه الصورة: «ق تستلزم ك» حين تكون «ق» و«ك» قضيتين محتويتين على متغير واحد أو أكثر، بحيث تكون المتغيرات في إحداهما هي نفسها المتغيرات في الأخرى، وبحيث لا تشتمل «ق» أو «ك» على ثوابت البتة ما عدا الثوابت المنطقية، والثوابت المنطقية كلها عبارة عن أفكار يمكن تعريفها باستخدام الحدود الآتية: لزوم، علاقة حد بفئة هو عضو فيها، الفكرة التي تعبر عنها كلمة «بحيث»، فكرة العلاقة، وغير هذه من الأفكار التي قد تكون متضمنة في الفكرة العامة عن القضايا التي هي من الصورة المذكورة، أضف إلى هذه الأفكار كلها حقيقة أخرى، وهي أن الرياضة تستخدم فكرة ليست في ذاتها من مقومات القضايا التي هي موضوع الرياضة، وأعني بها فكرة الصواب.
مبادئ الرياضة، ص3 (2) علاقة الرياضة بالمنطق وثيقة جدا، فكون الثوابت الرياضية جميعا ثوابت منطقية، وأن مقدمات الرياضة كلها إنما تختص بتلك الثوابت، يبين لنا - فيما أعتقد - بيانا دقيقا ما قصد إليه الفلاسفة حين قالوا عن الرياضة إنها قبلية، إذ الواقع هو أننا إذا ما قبلنا جهاز المنطق، فإن الرياضة بكافتها تلزم بالضرورة، وأما الثوابت المنطقية نفسها فطريقة تعريفها لا تكون إلا بمجرد ذكرها؛ لأنها من الأولية بحيث تكون كافة الخصائص التي يمكن بواسطتها تعريف تلك الطائفة من الثوابت مما لا بد أن يفترض مقدما بعض أفراد الطائفة، ومع ذلك فمن الوجهة العملية يتخذ تحليل المنطق الرياضي وسيلة للكشف عن الثوابت المنطقية، إن تمييز الرياضة من المنطق أمر جزاف إلى حد بعيد، ولكن إذا كان هذا التمييز بينهما أمرا مرغوبا فيه، فيمكن بيانه على النحو الآتي: يتألف المنطق من مقدمات الرياضة بالإضافة إلى جميع القضايا الأخرى التي لا تتناول قط إلا الثوابت المنطقية، ومعها المتغيرات دون أن تكون مستوفية لشروط تعريف الرياضة كما قدمناه (انظر «أ»)، وأما الرياضة فتتألف من جميع ما يترتب من نتائج على المقدمات المذكورة التي تثبت لزومات صورية مشتملة على متغيرات، بالإضافة إلى بعض تلك المقدمات نفسها؛ على شرط أن يكون فيها تلك المميزات، وعلى ذلك فبعض مقدمات الرياضة، مثل المبدأ المنطوي عليه هذا القياس: «إذا كانت «ق» تستلزم «ك» و«ك» تستلزم «ر»، كانت «ق» تستلزم «ر»» ينتمي إلى الرياضة، على حين أن بعضا آخر مثل قولنا «اللزوم علاقة» ينتمي إلى المنطق لا إلى الرياضة، ولولا رغبتنا في التزام الاستعمال الشائع، لجاز لنا أن نوحد بين الرياضة والمنطق، وأن نعرف كلا منهما بأنه طائفة القضايا المشتملة على متغيرات فقط مع ثوابت منطقية، لكن احترام العرف يؤدي بي إلى الأخذ بالتفرقة المذكورة، على ألا أنسى أن قضايا معينة تنتمي إليهما معا.
أصول الرياضة، ص8-9
LOGIC AND MATHEMATICS (1) Pure Mathematics is the class of all propositions of the form “p implies q” where p and q are propositions containing one or more variables, the same in the two propositions, and neither p nor q contains any constants except logical constants. And logical constants are all notions definable in terms of the following: Implication, the relation of a term to a class of which it is a member, the notion of 'such that’, the notion of relation, and such further notions as may be involved in the general notion of propositions of the above form. In addition to these mathematics uses a notion which is not a constituent of the propositions which it considers, namely the notion of truth.
The Principles of Mathematics, p. 3 (2) The connection of mathematics with logic is exceedingly close. The fact that all mathematical constants are logical constants, and that all the premisses of mathematics are concerned with these, gives, I believe, the precise statement of what philosophers have meant in asserting that mathematics is
a priori . The fact is that, when once the apparatus of logic has been accepted, all mathematics necessarily follows. The logical constants themselves are to be defined only by enumeration, for they are so fundamental that all the properties by which the class of them might be defined presuppose some terms of the class. But practically, the method of discovering the logical constants is the analysis of symbolic logic. The distinction of mathematics from logic is very arbitrary, but if a distinction is desired, it may be made as follows. Logic consists of the premisses of mathematics, together with all other propositions which are concerned exclusively with logica constants and with variables but do not fulfil the above definition ljo mathematics (I). Mathematics consists of all the consequences of the above premisses which assert formal implications containing variables, together with such of the premisses themselves as have these marks. Thus some of the premisses of mathematics, e.g. the principle of the syllogism, “if p implies q and q implies r, then p implies r”, will belong to mathematics, while others, such as “implication is a relation”, will belong to logic but not to mathematics. But for the desire to adhere to usage, we might identify mathematics and logic, and define either as the class of propositions containing only variables and logical constants; but respect for tradition leads me rather to adhere to the above distinction, while recognizing that certain propositions belong to both sciences.
The Principles of Mathematics, pp. 8-9
النص الرابع: المعرفة بالاتصال المباشر والمعرفة بالوصف
سنقول إن لدينا اتصالا مباشرا بشيء ما إذا كنا على وعي بذلك الشيء وعيا مباشرا دون أن تتوسط في ذلك أية عملية استدلالية أو أية معرفة بحقائق، وعلى ذلك فحين تكون منضدتي حاضرة أمامي، فأنا على اتصال مباشر بالمعطيات الحسية التي منها يتألف ظاهر المنضدة؛ لونها وشكلها وصلابتها ونعومتها إلخ؛ فكل هذه أشياء أكون على وعي مباشر بها حين أكون للمنضدة رائيا ولامسا، فالدرجة المعينة من الضوء التي أراها قد يقال عنها أشياء كثيرة - فقد أقول عنها إنها بنية، وانها أميل إلى الدكنة وهكذا، غير أن أمثال هذه الأقوال - وإن تكن تضيف إلى علمي علما بحقائق عن اللون، إلا أنها لا تجعل علمي باللون ذاته أفضل مما كان عليه من قبل، فإذا ما كان الأمر أمر معرفة اللون ذاته - بالمقارنة إلى معرفة حقائق عن اللون - فأنا أعرف اللون معرفة كاملة شاملة حين أراه، ويستحيل حتى من الوجهة النظرية أن أضيف إلى علمي ذاك باللون ذاته شيئا، وهكذا تكون المعيطات الحسية التي منها يتألف ظاهر منضدتي أشياء بيني وبينها اتصال مباشر، أشياء أعرفها مباشرة في حالها التي هي عليها.
أما معرفتي بالمنضدة باعتبارها شيئا ماديا فهي - على عكس ذلك - ليست معرفة مباشرة، فالمنضدة كما هي إنما أحصل على علمي بها عن طريق الصلة المباشرة بالمعطيات الحسية التي منها يتألف ظاهرها، وقد رأينا [في الفصل الأول من الكتاب] أنه يمكن الشك - دون إغراق في السخف - فيما لو كان للمنضدة وجود على الإطلاق، على حين أنه محال علينا أن نشك في معطياتها الحسية؛ فمعرفتي بالمنضدة [باعتبارها شيئا ماديا] هي من النوع الذي سأطلق عليه اسم «المعرفة بالوصف»، فالمنضدة هي «الشيء المادي الذي عنه يصدر كذا وكذا من المعطيات الحسية.» هذا القول يصف المنضدة، ووسيلة الوصف هي المعطيات الحسية؛ فلكي نعرف أي شيء عن المنضدة، فلا بد من معرفة حقائق تربطها بأشياء يكون لنا بها اتصال مباشر؛ إذ لا بد أن نعرف أن «كذا وكذا من المعطيات الحسية صادرة عن شيء مادي»، وليس هنالك حالة عقلية واحدة نكون فيها على وعي مباشر بالمنضدة [باعتبارها شيئا ماديا]، وكل علمنا بالمنضدة هو في حقيقة أمره علم بحقائق عقلية، أما الشيء الواقع الذي هو المنضدة فلسنا على علم به إطلاقا، إذا أردت دقة في القول؛ ذلك لأن ما نعلمه هو وصف، كما نعلم أيضا أن ثمة شيئا واحدا فقط هو الذي ينطبق عليه ذلك الوصف، ولو أن الشيء نفسه لا يقع في علمنا وقوعا مباشرا، وفي مثل هذه الحالة نقول عن معرفتنا بالشيء إنها معرفة بالوصف.
مشكلات الفلسفة، ص73-75
KNOWLEDGE BY ACQUAINTANCE AND KNOWLEDGE BY DESCRIPTION
We shall say that we have
acquaintance
with anything of which we are directly aware, without the intermediary of any process of inference or any knowledge of truths. Thus in the presence of my table I am acquainted with the sense-data that makes up the appearance of my table-its colour, shape, hardness, smoothness, etc.; all these are things of which I am immediately conscious when I am seeing and touching my table. The particular shade of colour that I am seeing may have many things said about it-I may say that it is brown, that it is rather dark, and so on. But such statements, though they make me know truths
about
the colour, do not make me know the colour itself any better than I did before: so far as concerns knowledge of the colour itself, as opposed to knowledge of truths about it I know the colour perfectly and completely when I see it, and no farther knowledge of it itself is even theoretically possible. Thus the sense- data which make up the appearance of my table are things with which I have acquaintance, things immediately known to me just as they are.
My knowledge of the table as a physical object, on the contrary, is not direct knowledge. Such as it is, it is obtained through acquaintance with the sense-data that make up the appearance of the table. We have seen that it is possible, without absurdity, to doubt whether there is a table at all, whereas it is not possible to doubt the sense-data. My knowledge of the table is of the kind which we shall call “knowledge by description”. The table is “the physical object which causes such-and- such sense-data.” This
describes
the table by means of the sense-data. In order to know anything at all about the table, we must know truths connecting it with things with which we have acquaintance: we must know that “such-and-such sense-data are caused by a physical object”. There is no state of mind in which we are directly aware of the table; all our knowledge of the table is really knowledge of
truths , and the actual thing which is the table is not, strictly speaking, known to us at all. We know a description, and we know that there is just one object to which this description applies, though the object itself is not directly known to us. In such a case, we say that our knowledge of the object is knowledge by description.
The Problems of Philosophy, pp. 73-75
النص الخامس: الكون وأجزاؤه
تميل النظرة التقليدية إلى أن تتخذ من الكون نفسه موضوعا لمحمولات متعددة لا يمكن حملها على أي شيء جزئي مما يحتويه الكون، وأن تجعل من وصف الكون بمثل هذه المحمولات المميزة له موضوع اختصاص للفلسفة، أما أنا - فعلى عكس ذلك - أذهب إلى أنه ليس هنالك قضايا مما يكون «الكون» فيها موضوعا، وبعبارة أخرى، ليس هنالك شيء اسمه «الكون»، مذهبي هو أن ثمة قضايا عامة قد تقال عن كل شيء جزئي على حدة، مثل قضايا المنطق، لكن ذلك لا يقتضي أن تكون مجموعة الأشياء الموجودة مكونة لكل يمكن اعتباره شيئا آخر يضاف إلى سائر الأشياء، وبذلك يمكن جعله موضوعا لمحمولات، وكل ما يقتضيه كلامي هو القول بأن هنالك خصائص توصف بها الأشياء جميعا شيئا شيئا، فالفلسفة التي أود أن أناصرها يمكن أن نطلق عليها اسم الذرية المنطقية، أو التعددية المطلقة؛ لأنني في الوقت الذي آخذ فيه بوجود أشياء كثيرة، أنكر أن يكون هنالك كل واحد مكون من هذه الأشياء.
من فصل «المنهج العلمي في الفلسفة»
في كتاب «التصوف والمنطق»، ص107 من طبعة بليكان
THE UNIVERSE AND ITS PARTS
The traditional view would make the universe itself the subject of various predicates which would not be applied to any particular thing in the universe, and the ascription of such peculiar predicates to the universe would be the special business of philosophy. I maintain, on the contrary, that there are no propositions of which the 'universe’ is the subject; in other words, that there is no such thing as the 'universe’ what I do maintain is that there are general propositions which may be asserted of each individual thing, such as the propositions of logic. This does not involve that all the things there are form a whole which could be regarded as another thing and be made the subject of predicates. It involves only the assertion that there are properties belonging to the whole of things collectively. The philosophy which I wish to advocate may be called logical atomism or absolute pluralism, because, while maintaining that there are many things, it denies that there is a whole composed of those things.
On Scientific method in
Mysticism and Logic, p. 107 Pelican edition
النص السادس: المصطلحات الأولية في العلوم
كل ما يقال في علم من العلوم يمكن قوله بواسطة الكلمات التي تتكون منها مجموعة المصطلحات الأولية؛ لأنه أينما ترد كلمة يكون لها تعريف بكلمات غيرها ، يمكننا أن نضع مكانها العبارة التي تعرفها، ثم إذا كانت هذه العبارة مشتملة على كلمات لها تعريف بكلمات غيرها، لجأنا مرة أخرى إلى أن نضع مكانها العبارة التي تعرفها، وهكذا دواليك حتى لا يبقى أمامنا كلمات يمكن تعريفها بكلمات غيرها، والواقع أن الحدود التي يمكن تعريفها زوائد يجوز حذفها، بحيث لا يبقى إلا الكلمات التي لا تعريف لها، فهذه هي التي لا غنى لنا عنها، أما إذا سألت: أي الحدود هي التي تعتبر بغير تعريف، وجدت أن الأمر هنا جزاف إلى حد ما، خذ مثلا قائمة حساب القضايا - وهي أبسط مثل لنسق صوري وأكمله - فستجد أنه في مستطاعنا أن نعتبر كلمتي «أو» و«ليس» بغير تعريف، أو أن تعتبر كلمتي «واو العطف» و«ليس» - بغير تعريف، ثم لنا كذلك أن نختار من كلمتين كهاتين إحداهما فقط لنجعلها بغير تعريف، وقد تكون هذه الواحدة هي هذه: «ليس هذا أو ليس ذاك»، أو «ليس هذا وليس ذاك»، وهكذا يمكن القول بصفة عامة إننا لا نستطيع الجزم بأن الكلمة الفلانية لا بد أن تكون واحدة من المصطلحات الأولية في العلم الفلاني، وأكثر مما يمكن قوله هو أن ثمة مجموعة أو أكثر من مجموعات المصطلحات الأولية تنتمي إليها الكلمة المشار إليها.
ولنضرب مثلا بالجغرافيا، وهنا سأفرض أن مصطلحات الهندسة قد تم الاتفاق عليها، فبعدئذ نجد أن أول ما يحتاجه علم الجغرافيا بصفة خاصة هو طريقة لتعيين خط الطول وخط العرض، ولهذا التعيين يكفينا أن يكون بين مصطلحاتنا الأولية هذه الكلمات: «جرينتش» و«القطب الشمالي» و«غربي كذا»، لكنه من الواضح أن أي مكان آخر يمكن أن يقوم مقام «جرينتش» كما يمكن للقطب الجنوبي أن يحل محل القطب الشمالي، وأما العلاقة «غربي كذا» فليست في الحقيقة ضرورية؛ لأن خط العرض عبارة عن دائرة على سطح الأرض في مستو عمودي على القطر النافذ خلال القطب الشمالي، وأما بقية الكلمات المستعملة في الجغرافيا الطبيعية مثل «يابس» و«ماء» ومثل «جبل» و«سهل» فيمكن تعريفها بمصطلحات من علم الكيمياء وعلم الطبيعة وعلم الهندسة، وهكذا يبدو لي أن ما يلزمنا هما كلمتا «جرينتش» و«القطب الشمالي»؛ لكي نجعل من الجغرافيا علما يبحث في سطح الأرض لا أي جرم آخر؛ فبسبب وجود هاتين الكلمتين (أو كلمتين أخريين تحققان الغاية نفسها) استطاعت الجغرافيا أن تروي مستكشفات الرحالة، وليلاحظ أن هاتين الكلمتين متضمنتان أينما ذكرنا خط الطول وخط العرض.
المعرفة الإنسانية، ص259-260
MINIMUM VOCABULARY
Everything said in a science can be said by means of the words in a minimum vocabulary. For whenever a word occurs which has a nominal definition, we can substitute the defining phrase; if this contains words with a nominal definition, we can again substitute the defining phrase, and so on, until none of the remaining words have nominal definitions. In fact, definable terms are superfluous, and only undefined terms are indispensable. But the question which terms are to be undefined is in part arbitrary. Take, for example, the calculus of propositions, which is the simplest and most completed example of a formal system. We can take “or” and “not” as undefined, or “and” and “not”; instead of two such undefined terms, we can take one, which may be “not this or not that” or “not this and not that”, Thus in general we cannot say that such-and-such a word
must
belong to the minimum vocabulary of such-and-such a science, but at most that there are one or more minimum vocabularies to which it belongs.
Let us take geography as an example. I shall assume the vocabulary of geometry already established; then our first distinctively geographical need is a method of assigning latitude and longitude. For this it will suffice to have a part of our minimum vocabulary “Greenwich”, “the North Pole”, and “West of”; but clearly any other place would do as well as Greenwish, and the South Pole would do as well as the North Pole. The relation “West of” is not really necessary, for a parallel of latitude is a circle on the earth’s surface in a plane perpendicular to the diameter passing through the North Pole. The remainder of the words used in physical geography, such as “land” and “Water”, “mountain” and “plain”, can now be defined in terms of chemistry, physics, or geometry. Thus it would seem that it is the two words “Greenwich” and “North Pole” that are needed in order to make geography a science concerning the surface of the earth, and not some other spheroid. It is owing to the presence of these two words (or two others serving the same purpose) that geography is able to relate the discoveries of travellers. It is to be observed that these two words are involved wherever latitude and longitude are mentioned.
Human Knowledge; pp. 259-260
النص السابع: تشابه العقل والمادة
علم الطبيعة ينظر إلى مجموعة الظواهر كلها لقطعة من المادة على أنها وحدة، بينما يعنى علم النفس بطائفة معينة فقط من تلك الظواهر نفسها، وسنحصر حديثنا الآن في سيكولوجية الإدراك الحسي، فنلاحظ أن الإدراكات الحسية إن هي إلا ظاهرات معينة مما تظهر به الأشياء المادية، [ومن وجهة نظرنا] نستطيع أن نعرف تلك الطائفة من الظاهرات بأنها هي ظواهر الأشياء حين تلتقي في أماكن تكون فيها أعضاء الحس والأجزاء المناسبة من الجهاز العصبي جزءا من الوسيط المعترض في الطريق، والأمر في ذلك هو بالضبط كالأمر في لوحة فوتوغرافية تتلقى انطباع مجموعة من النجوم على صورة مختلفة حين يكون المنظار المقرب (التلسكوب) جزءا من الوسيط المعترض، فكذلك المخ يتلقى انطباعا [من الأشياء] مختلفا حين تكون العين والعصب البصري جزءا من الوسيط المعترض، والانطباع الناشئ من مثل هذا الوسيط المعترض يسمى بالإدراك الحسي، وهو مما يهتم به لذاته علم النفس؛ إذ أهميته عندئذ لا ترجع إلى مجرد كونه جزئيا من مجموعة الجزئيات المترابطة التي هي قوام الشيء المادي الذي ندركه بذلك الإدراك الحسي.
فهنالك وسليتان لتصنيف الجزئيات؛ إحداهما هي أن تضم معا تلك الظاهرات التي تعتبر عادة ظاهرات لشيء مادي معين ظهرت في أماكن مختلفة، وهذه الطريقة هي - بصفة عامة - طريقة علم الطبيعة، وهي تؤدي إلى تركيب الأشياء المادية على أنها مجموعات من أمثال تلك الظاهرات، وأما الوسيلة الأخرى فهي أن نضم معا ظواهر الأشياء المختلفة كما تلتقي في مكان معين، ومن ذلك ينتج ما نسميه بالمنظور، وفي الحالة الخاصة التي يكون فيها ذلك المكان المعين مخا بشريا ، فإن المنظور عندئذ يتألف من كل الإدراكات الحسية لفرد معين من الناس في لحظة معينة، وهكذا نرى أن تصنيف الظواهر على أساس المنظورات ينتمي إلى علم النفس، وهو جوهري في تعريف ما نسميه بالعقل المفرد.
تحليل العقل، ص104-105
THE NEUTRAL ORIGIN OF MIND AND MATTER
piece of matter, whereas psychology is interested in certain of these appearances themselves. Confining ourselves for the moment to the psychology of perceptions, we observe that perceptions are certain of the appearances of physical objects. (From our point of view) we might define them as the appearances of objects at places from which senseorgans and the suitable parts of the nervous system form part of the intervening medium. Just as a photographic plate receives a different impression of a cluster of stars when a telescope is part of the intervening medium so a brain receives a different impression when an eye and an optic nerve are part of the intervening medium. An impression due to this sort of intervening medium is called a perception, and is interesting to psychology on its own account, not merely as one of the set of correlated particulars which is the physical object of which we are having a perception.
There are two ways of classifying particulars. One way collects together the appearances commonly regarded as a given object from different places; this is, broadly speaking, the way of physics, leading to the construction of physical objects as sets of such appearances. The other way collects together the appearances of different objects from a given place, the result being what we call a perspective. In the particular case where the place concerned is a human brain, the perspective belonging to the place consists of all the perceptions of a certain man at a given time. Thus classification by perspectives is relevant to psychology, and is essential in defining what we mean by one mind.
The Analysis of Mind, pp. 104-105
النص الثامن: الزمن
الظاهر أن الزمن الواحد الشامل لكل شيء هو تركيبة [عقلية] شأنه في ذلك شأن المكان الواحد الشامل لكل شيء، حتى لقد أصبح علم الطبيعة نفسه على وعي بهذه الحقيقة خلال المناقشات التي دارت حول النسبية.
فبين منظورين ينتميان إلى خبرة شخص واحد علاقة زمنية مباشرة، بحيث يقال عن الواحد منهما إنه قبل أو بعد الآخر، وفي هذا ما يوحي بطريقة لتقسيم التاريخ تقسيما يجري على نفس الغرار الذي ينقسم به في خبرات مختلفة، دون أن يدخل في الموقف خبرة أو غيرها من الظواهر العقلية؛ ذلك أنه في وسعنا أن نعرف «السيرة» (= تاريخ وجود شيء ما) بأنها كل شيء مما يكون بالنسبة إلى «محسوس» معين قبله (مباشرة) أو بعده (مباشرة) أو متآنيا معه، فهذا يكون لدينا سلسلة من منظورات، «قد» تدخل كلها في تكوين خبرة شخص واحد، ولو أنه ليس حتما أن تدخل كلها، أو يدخل أي منظور منها في تلك الخبرة دخولا فعليا، وبهذه الوسيلة ينقسم تاريخ العالم إلى عدد من السير؛ كل منها قائم بذاته مستقل عن الآخر.
وعلينا الآن أن نربط بين الأزمنة التي تتمثل في السير المختلفة، والشيء الطبيعي الذي يتبادر إلى الذهن هو أن نقول إن ظواهر شيء معين (مؤقت البقاء) في منظورين مختلفين، بحيث تنتمي إلى سيرتين مختلفتين، يمكن اعتبارها متآنية، لكن ذلك يعقد الأمر؛ فافرض مثلا أن شخص «أ» قد صاح لشخص «ب»، وأن «ب» قد أجاب بمجرد سماعه لصيحة «أ»، فعندئذ يكون هنالك فترة زمنية فاصلة بين سماع «أ» لصيحة نفسه، وسماعه لصيحة «ب»، وعلى ذلك فلو اعتبرنا سماع «أ» وسماع «ب» لنفس الصيحة متآنيين الواحد مع الآخر، لنتج أننا إذن نعتبر حادثتين تكون كل منهما متآنية مع حادثة معينة، ومع ذلك لا تكونان متآنيتين الواحدة مع الأخرى، وللتغلب على ذلك نزعم أن الزمن الذي يسمع فيه «ب» صيحة «أ» واقع في منتصف الزمن الذي يمتد سماع «أ» لصيحة نفسه وسماعه لإجابة «ب»، وبهذه الطريقة نستطيع أن نربط بين مختلف الأزمنة.
وما قلناه عن الصوت ينطبق طبعا - وبالطريقة نفسها - على الضوء؛ فالمبدأ العام هو أن الظواهر - في المنظورات المختلفة - التي يتم تجميعها بحيث يتكون منها ما يصبح شيئا معينا في لحظة زمنية معينة، لا ينبغي اعتبارها كلها واقعة في تلك اللحظة، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ الظواهر تنبعث منتشرة من الشيء بسرعات مختلفة باختلاف طبيعة تلك الظواهر، ولما لم يكن هناك وسيلة «مباشرة» لربط الزمن في سيرة ما بالزمن في سيرة أخرى، كان هذا التجميع للظواهر المنتمية إلى شيء ما في لحظة زمنية معينة تجميعا يقع في سلسلة الزمن، أقول إن هذا التجميع للظواهر إنما يتم على أساس اتفاقي إلى حد ما، غايتنا منه أن نصون مبادئ معينة كالمبدأ القائل بأن الحادثتين التي تكون كل منهما متآنية مع حادثة ثالثة، تكونان أيضا متآنيتين إحداهما مع الأخرى تماما، وغايتنا منه كذلك أن نيسر صياغة القوانين السببية.
علاقة معطيات الحس بعلم الطبيعة
من كتاب «التصوف والمنطق»، ص159-160، طبعة بلكان
TIME
It seems that the one all-embracing time is a construction, like the one all-embracing space. Physics itself has become conscious of this fact through the discussions connected with retativity.
Between two perspectives which both belong to one person’s experience, there will be a direct time-relation of before and after. This suggests a way of dividing history in the same sort of way as it is divided by different experiences, but without introducing experience or anything mental: we may define a 'biography’ as everything that is (directly) earlier or later than, or simultaneous with, a given 'sensible’, This will give a series of perspectives, which
might
all form parts of one person’s experience, though it is not necessary that all or any of them should actually do so. By this means, the history of the world is divided into a number of mutually exclusive biographies.
We have now to correlate the times in the different biographies. The natural thing world be to say that the appearances of a given (momentary) thing in two different perspectives belonging to different biographies are to be taken as simultaneous; but this is not convenient. Suppose A shouts to B, and B replies as soon as he hears A’s shout. Then between A’s hearing of his own shout and his hearing of B’s there is an interval; thus if we made A’s and B’s hearing of the same shout exactly simultaneous with a given event but not with each other. To obviate this, we assume a 'velocity of sound’. That is, we assume that the time when B hears A’s shout is half-way between the time when A hears his own shout and the time when he hears B’s. In this way the correlation is effected.
What has been said about sound applies of course equally to light. The general principle is that the appearances, in different perspectives, which are to be grouped together as constituting what a certain thing is at a certain moment, are not to be all regarded as being at that moment. On the contrary they spread outward from the thing with various velocities according to the nature of the appearances. Since no
direct
means exist of correlating the time in one biography with the time in another, this temporal grouping of the appearances belonging to a given thing at a given moment is in part conventional. Its motive is partly to secure the verification of such maxims as that events which are exactly simultaneous with the same event are exactly simultaneous with one another, partly to secure convenience in the formulation of causal laws.
The Relation of Sense-Data to
Mysticism and Logic, pp. 159-160. (Pelican edition)
النص التاسع: تحليل الشيء إلى سلسلة من حوادث
إن ما أعنيه فيما يختص بعدم دوام الكائنات المادية، ربما ازداد وضوحا إذا اتخذنا من السينما أداة للتوضيح، وهي وسيلة إيضاح كانت محببة إلى برجسون، فعندما قرأت لأول مرة عبارة برجسون القائلة بأن الرياضي يتصور العالم على غرار السينما، لم أكن قد رأيت السينما قط من قبل، فزرتها لأول مرة مدفوعا برغبة التحقق من صدق عبارة برجسون هذه، فوجدتها صادقة صدقا كاملا، على الأقل من وجهة نظري، فنحن في دار السينما إذ نرى رجلا يتدحرج على سفح التل، أو يعدو فرارا من البوليس، أو يهوي ساقطا في نهر، أو يفعل شيئا من هاتيك الأشياء الأخرى التي لا ينقطع الناس في مثل هذه الأماكن عن فعلها، فنحن عندئذ نعلم أنه ليس في حقيقة الأمر رجلا واحدا هو الذي يتحرك، بل هي سلسلة متتابعة من صور فوتوغرافية، كل منها يصور رجلا يختلف عن الآخر اختلافا مؤقتا، وإنما جاءنا الوهم بأنه رجل واحد في جميع الحالات، من أن سلسلة الرجال المتتابعين على لحظات هي أشبه شيء باستمرار الكائن الواحد، ما أود الآن أن أعرضه على سبيل الاقتراح هو أن السينما في هذا الأمر تقوم بدور الميتافيزيقي على نحو أفضل مما يقوم به الإدراك الفطري، أو علم الطبيعة، أو الفلسفة؛ فعقيدتي هي أن الرجل على حقيقته - مهما أقسم رجل البوليس بأنه شاهد رجلا واحدا بذاته - إن هو إلا سلسلة من رجال كل منهم دام لحظة، وكل منهم يختلف عن الآخر، لكنهم جميعا مرتبطون في وحدة، لا عن طريق الذاتية العددية، بل عن طريق الاستمرار وطائفة معينة من قوانين السببية التي تدخل في طبيعة الموقف، وهذا الذي ينطبق على الناس، ينطبق كذلك سواء بسواء على المناضد والمقاعد والشمس والقمر والنجوم، فينبغي النظر إلى كل من هذه الأشياء، لا على أنه كائن واحد فرد يدوم على الزمن، بل على أنه سلسلة من كائنات يتبع بعضها بعضا في الزمن، وكل منها يدوم فترة غاية في القصر، ولو أنها على الأرجح فترة تزيد على اللحظة الرياضية [التي هي بغير امتداد]، وإني إذ أقول هذا، فإنما ألجأ إلى تقسيم الزمن على نفس الصورة التي اعتدناها في تقسيم المكان، فالجسم الذي يملأ قدما مكعبة هو في رأي الناس مؤلف من مجموعة من أجسام أصغر كثيرة العدد، كل منها يشغل حيزا صغيرا من الفراغ، وهكذا الشيء الذي يدوم بقاؤه ساعة من زمان، ينبغي اعتباره مؤلفا من أشياء كثيرة يدوم كل منها فترة أقصر؛ فالنظرة الصادقة عن المادة تتطلب تقسيما للأشياء إلى جزئيات زمنية، كما تتطلب تقسيمها إلى جزئيات مكانية سواء بسواء.
نهاية التحليل في مقومات المادة
من كتاب «التصوف والمنطق»، ص123-124، طبعة بلكان
ANALYSIS OF THINGS INTO EVENTS
My meaning in regard to the impermanence of physical entities may perhaps be made clearer by the use of Bergson’s favorite illustration of the cinematograph. When I first read Bergson’s statement that the mathematician conceives the world after the analogy of a cinematograph, I had never seen a cinematograph, and my first visit to one was determined by the desire to verify Bergson’s statement, which I found to be completely true, at least so far as I am concerned. When, in a picture palace, we see a man falling down hill. Or running away from the police, or falling into a river, or doing any of those other things to which men in such places are addicted, we know that there is not really only one man moving, but a succession of photographs, each with a different momentary man. The illusion of persistence arises only touhrgh the approach to continuity in the series of momentary men. Now what I wish to suggest is that in this respect the cinema is a better metaphysician than common sense, physics, or philosophy. The real man too, however the police may swear to his identity, is really a series of momentary men, each different one from the other, and bound together, not by a numerical identity, but by continuity and certain intrinsic causal laws. And what applies to men applies equally to tables and chairs, the sun. moon, and stars. Each of these is to be regarded, not as one single persistent entity, but as a series of entities succeeding each other in time, each lasting for a very brief period, though probably not for a mere mathematical instant. In saying this I am only urging the same kind of division in time as we are accustomed to acknowledge in the case of space. A body which fills a cubic foot will be admitted to consist of many smaller bodies, each occupying only a very tiny volume; similarly a thing which persists for an hour is to be regarded as composed of many things of less duration. A true theory of matter requires a division of things into time-corpuscles as well as into space-corpuscles.
The Ultimate Constituents of Matter,
Mysticism and Logic, pp. 123-124 (Pelican)
النص العاشر: الإنسان فردا ومواطنا (1) إنه على افتراض أن التربية ينبغي لها أن تهيئ سببا يعين على التدريب، لا أن تكتفي بمجرد إزالة العوائق التي تحول دون النمو، فإن السؤال لينهض أمامنا عما إذا كانت التربية من واجبها أن تدرب [النشء] ليكونوا أفرادا صالحين أو تدربهم ليكونوا مواطنين صالحين؛ قد يقال - بل هكذا يقول كل من أخذ بالاتجاهات الهيجلية - إنه لا تعارض هناك بين المواطن الصالح والفرد الصالح؛ إذ الفرد الصالح هو ذلك الذي ينحو نحو صالح المجموع، وما صالح المجموع إلا تركيبة مؤلفة من صوالح الأفراد، ولست على استعداد أن أفند أو أؤيد هذا الرأي باعتباره حقيقة ينتهي إليها التفكير الميتافيزيقي، غير أننا في الحياة اليومية العملية، نرى التربية التي تنتج عن اعتبار الناشئ فردا مختلفة جدا عن تلك التي تنتج عن اعتباره مواطن المستقبل؛ فتثقيف العقل الفرد ليس - كما يبدو من ظاهر الأمر - هو نفسه التثقيف الذي ينتج مواطنا نافعا؛ فجيته مثلا كان مواطنا أقل نفعا من جيمس وات، أما باعتباره فردا فلا نزاع في أنه متفوق عليه، وإذن فهنالك صالح للفرد متميز من الشطر الضئيل الذي هو نصيبه من صالح المجتمع.
التربية والنظام الاجتماعي، ص9-10 (2) المواطنون كما تتصورهم الحكومات هم الأشخاص المعجبون بالنظام القائم، والذين هم على استعداد لإجهاد أنفسهم في سبيل الاحتفاظ بذلك النظام، وإنه لمن عجب أنه بينما تستهدف الحكومات جميعا إخراج رجال من هذا الطراز دون أي طراز آخر، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من ذات الطراز الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر؛ فالأمريكيون يمجدون جورج واشنطن وجفرسن، لكنهم يزجون في السجن كل من شاطرهما في آرائهما السياسية، والإنجليز يمجدون «بوريقيا»، لكنهم كانوا ليعاملونها بالضبط كما عاملها الرومان، لو أنها ظهرت في الهند الحديثة،
1
والأمم الغربية جميعا تمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان - يقينا - موضع ريبة من رجال البوليس السري في إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح، هذا يوضح الوجوه التي تجعل الولاء للوطن غير كاف وحده أن يكون مثلا أعلى؛ لأنه - باعتباره مثلا أعلى - ينطوي على انعدام قوة الإبداع، وعلى الرغبة في الخنوع لأصحاب السلطان أيا كانوا، أولجاركية كانت حكومتهم أو ديمقراطية، وهو اتجاه يناقض الطابع المميز لعظماء الرجال، ويميل - إذا بولغ فيه - إلى الحيلولة دون أوساط الناس أن يبلغوا العظمة إلى الحد الذي تمكنهم منه كفاياتهم.
التربية والنظام الاجتماعي، ص13-14
عنوانه في الطبعة الأمريكية: التربية والعلم الحديث
INDIVIDUAL VERSUS CITIZEN (1) Assuming that education should do something to afford a training and not merely to prevent impediments to growth, the question arises whether education should train good individuals or good citizens. It may be said, and it would be said by any person of Hegelian tendencies, that there can be no antithesis between the good citizen and the good individual. The good individual is he who ministers to the good of the whole, and the good of the whole is a pattern made up of the goods of individuals. As an ultimate metaphysical truth I am not prepared either to combat or to support this thesis, but in practical daily life the education which results from regarding a child as an individual is very different from that which results from regarding him as a future citizen. The cultivation of the individual mind is not, on the face of it, the same thing as the production of a useful citizen. Goethe, for example, was a less useful citizen than James Watt, but as an individual must be reckoned superior. There is such a thing as the good of the individual as distinct from a little fraction of the good of the community.
Education and the Social Order, pp. 9-10 (2) Citizens as conceived by governments are persons who admire the status quo and are prepared to exert themselves for its preservation. Oddly enough, while all governments aim at producing men of this type to the exclusion of all other types, their heroes in the past are of exactly the sort that they aim at preventing in the present. Americans admire George Washington and Jefferson, but imprison those who share their political opinions. The English admire Boadicea, whom they would treat exactly as the Romans did if she were to appear in modern India. All the Western nations admire Christ, who would certainly be suspect to Scotland Yard if He lived now, and would be refused American Citizenship on account of His unwillingness to bear arms. This illustrates the ways in which citizenship as an ideal is inadequate, for as an ideal it involves an absence of creativeness, and a willingness to acquiesce in the powers that be, whether oligarchic or democratic, which is contrary to what is characteristic of the greatest men, and tends, if over-emphasized, to prevent ordinary men from attaining the greatness of which they are capable.
Education and the Social Order, pp. 13-14 (In Norton’s edition called: Education and the Modern world)
النص الحادي عشر: مصدران للأخلاق
إنه خلال عصور التاريخ المدون، قد كان للمعتقدات الخلقية مصدران مختلفان فيما بينهما أشد اختلاف؛ فمصدر منهما سياسي، وأما الآخر فمتصل بالعقائد الشخصية من دينية وخلقية، ويظهر المصدران في العهد القديم منفصلين أتم انفصال؛ إذ يظهر أحدهما على أنه «القانون»، ويظهر الآخر على أنه «الأنبياء»، وظهر في العصور الوسطى نفس الفارق الذي يميز بين الأخلاق الرسمية التي كانت تبثها السلالات الحاكمة، وبين الورع الشخصي الذي كان المتصوفة الأعلام يمارسونه ويعلمونه، هذه الثنائية في الأخلاق بين شخصية من جهة، ومدنية من جهة أخرى، وهي ثنائية ما زالت قائمة؛ لا بد أن تتناولها بالبحث أية نظرية في الأخلاق يراد لها أن تكون مستوفية لموضوعها؛ فبغير الأخلاق المدنية تفنى الجماعات، وبغير الأخلاق الشخصية لا يكون لبقاء تلك الجماعات قيمة، إذن فالأخلاق المدنية والشخصية كلتاهما ضرورية على السواء للعالم الصالح.
إن الأخلاق لا تعنى فقط بواجبي نحو جاري مهما نبلغ من الصواب في تصورنا لمثل ذلك الواجب؛ فأداء الواجب نحو الناس ليس هو كل ما تتطلبه الحياة الصالحة، بل هنالك أيضا متابعة الإنسان للسمو بنفسه؛ ذلك لأن الإنسان وإن يكن اجتماعيا إلى حد ما، فليس هو بالاجتماعي إلى كل حد، فله أفكاره ومشاعره ودوافعه التي قد تكون متصفة بالحكمة أو بالحمق، بالسمو أو بالضعة، مليئة بالحب أو ملتهبة بالكراهية، ولا بد للجانب الأصلح من هذه الأفكار والمشاعر والدوافع من مجال إذا أريد لحياة الإنسان أن تحتمل؛ لأنه وإن يكن قليل من الناس هم الذين يستطيعون أن يسعدوا بالعزلة، فأقل منهم أولئك الذين يمكنهم أن يسعدوا في مجتمع لا يسمح للفرد بحرية نشاطه.
السلطة والفرد ، ص110-111
TWO SOURCES OF ETHICS
Throughout recorded history, ethical beliefs have had two very different sources, one political, the other concerned with personal religious and moral convictions. In the Old Testament the two appear quite separately, one as the Law, the other as the Prophets. In the Middle Ages there was the same kind of distinction between the official morality inculcated by the hierarchy and the personal holiness that was taught and practised by the great mystics. This duality of personal and civic morality, which still persists, is one of which any adequate ethical theory must take account. Without civic morality communities perish; without personal morality their survival has no value. Therefore civic and personal morality are equally necessary to a good world.
Ethics is not concerned solely with duty to my neighbor, however rightly such duty may be conceived. The performance of public duty is not the whole of what makes a good life; there is also the pursuit of private excellence. For man, though partly social, is not wholly so. He has thoughts and feelings and impulses which may be wise or foolish, noble or base, filled with love or inspired by hate. And for the better among these thoughts and feelings and impulses, if his life is to be tolerable, there must be scope. For although few men can be happy in solitude, still fewer can be happy in a community which allows no freedom of individual action.
Authority and the Individual, pp. 110-111
مراجع عامة
Bertrand Russell edited by Arthur Schilpp.
Bertrand Russell’s Construction of the External World by Charles A. Fritz.
Unknown page