71
وسينتهي بنا التحليل إذا بدأناه من هذه النقطة إلى أن الخير هو في إحداث الاتزان بين متضارب الرغبات.
الخير بالنسبة إلى الفرد الواحد هو التنسيق بين رغباته، خذ مثلا لذلك فردا واحدا يعيش وحده مثل روبنسن كروسو، تجد تضاربا عنده في بعض لحظات حياته بين التعب والجوع، فهو الآن راغب في الراحة، لكنه لو استراح وأمسك عن العمل، فقد ينتج عن ذلك انعدام القوت في يوم مقبل، فلا يجد ما يشبع به الجوع عندئذ، فإذا ما غلب نفسه الآن وحملها على العمل، موازنا في ذلك بين رغبتين؛ رغبة حاضرة في ترك العمل، ورغبة مستقبلة في الحصول على القوت، ثم غلب رغبة على رغبة على هذه الصورة التي يضحي بها رغبة حاضرة أقل في سبيل رغبة مستقبلة أكبر، كان في عمله هذا كل الخصائص التي يتسم بها المجهود الخلقي، وترانا أحسن ظنا بمن يبذل مثل هذا الجهد منا بمن لا يبذله؛ لأن في بذله ضبطا للنفس، وتحكما فيها، وهكذا تستطيع أن تتصور الحياة الخلقية لرجل مثل روبنسن كروسو كائنة في الموازنة بين رغباته، وتغليب بعضها على بعض على صورة تحقق له اتساقا في شتى جوانب حياته، والظاهر أن الإدراك الفطري السليم وحده كاف لهداية الإنسان إلى الحكم الصواب في أي الرغبات أولى بالتحقيق من غيرها، فمن ذا يتعذر عليه الحكم حين تكون الموازنة مثلا بين رغبتين؛ إحداهما رغبة في توسيع المعرفة، وأخرى في تخدير الإنسان لنفسه بمخدر؟! فكلتا الرغبتين تستهدفان شعورا بالسعادة، لكننا ندرك على الفور أن السعادة المتحققة من الرغبة الأولى أدوم وأفضل من السعادة المتحققة من الرغبة الثانية، فلو رسونا بغتة على الجزيرة التي يسكنها روبنسن كروسو، ووجدناه يقضي فراغه في دراسة النبات على تلك الجزيرة، كان ذلك في رأينا أفضل مما لو وجدناه مخمورا، وأساس التفضيل هو مبدأ اتساق الحياة.
وكذلك قل في المجتمع؛ فالخير بالنسبة للمجتمع هو أيضا قائم على أساس التنسيق بين رغبات أفراده المتضاربة، وإذن فالمبدأ الأخلاقي الأسمى هو هذا: «اعمل العمل الذي ينشأ عنه التنسيق بين رغبات أفراد المجتمع؛ فذلك أفضل من العمل الذي يؤدي إلى التنافر بين هؤلاء الأفراد»، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجتمع، صغر أو كبر، ينطبق على مختلف رغبات الفرد الواحد، وينطبق على أفراد الأسرة، والمدينة، والوطن، كما ينطبق على العالم كله إذا كان العمل الفردي ذا أثر في العالم كله.
ولتحقيق هذا المبدأ وسيلتان: الأولى أن ننشئ من النظم الاجتماعية ما يساعد على التنسيق بين رغبات الأفراد، بحيث لا يعود أمامها مجال تتنافر فيه إلا بأضيق حد ممكن، والثانية أن نربي الأفراد تربية تحملهم على الاتجاه برغباتهم وجهة لا ينتج عنها التضارب مع رغبات الآخرين بقدر المستطاع، والوسيلة الأولى هي من شأن السياسة والاقتصاد، والوسيلة الثانية هي مجال التربية.
واضح مما أسلفناه أن الإنسان إذا ما حكم على فعل بأنه خير، كانت صفة الخير هذه - في رأي «رسل» - معبرة عن رغبته الذاتية في ذلك الفعل، ولم تكن صفة موضوعية في الفعل ذاته، وبصفة عامة فإن الحديث عن القيم تعبير عن حالة وجدانية عند المتحدث، وليس هو بالحديث الذي يصف شيئا في عالم الواقع؛ فحين يقول القائل مثلا إن الكراهية شر والحب خير، فكأنما يقول: وددت لو لم يكن بين الناس كراهية، وأن يسودهم الحب، فإذا فرضنا أن شخصين اختلفا في الحكم على فعل بأنه خير، فليس هنالك فيصل موضوعي يرجع إليه في قبول أحد الرأيين ورفض الآخر، ولذلك كان عبثا أن يتجادل اثنان فيما اختلفا فيه من أحكام القيم، ولذلك أيضا كانت وسيلة الوعظ بهذا الفعل أو ذاك مما يحسبه الواعظ خيرا، هي الخطابة والتأثير في الشعور، لا الاحتكام إلى الحجة العقلية، إذ ليس للعقل من حجة يقيمها ليؤيد ضربا من الأخلاق دون ضرب،
72
بعبارة أخرى نستخدم فيها لغة المنطق: ليست الأحكام الخلقية مما يوصف بصواب أو بخطأ، وبالتالي لا يجوز لها أن تكون علما أو جزءا من علم، فليس بين وقائع العالم الخارجي وحقائقه وقائع أو حقائق خلقية كما يكون هنالك - مثلا - ضوء وصوت وحرارة، وإذن فليس الحكم الخلقي تقريرا عن واقعة أو وصفا لحقيقة، إنما هو انفعال معبر عن حالة نفسية أشبه بانفعال الغاضب أو النشوان؛ فكل اختلاف بين الناس على تقدير الأفعال تقديرا خلقيا هو من قبيل اختلافهم في الذوق، ولا سبيل إلى حسم ذلك الاختلاف بينهم إلا إذا كانوا منذ البداية قد اتفقوا على مبادئ بعينها، وعندئذ ينحصر الخلاف في هل تنطبق تلك المبادئ المتفق عليها على الأفعال التي اختلف في تقويمها.
ومع ذلك كله فليست العبارات الدالة على أحكام خلقية هي من قبيل العبارات الذاتية الصرفة، التي لا تعدو حدود قائلها؛ لأنه مما يميز العبارة الأخلاقية أن قائلها يعبر بها عن رغبة يتمنى أن يطبقها الناس جميعا في سلوكهم، وفي هذه الرغبة في تعميم القاعدة ظل من الموضوعية طفيف.
وهكذا ترى أن ثمة عالمين يعيش فيهما الإنسان، يختلف الواحد منهما عن الآخر اختلافا بعيدا؛ أولهما هو عالم الطبيعة، وثانيهما عالم القيم، يعيش الإنسان في عالم الطبيعة جزءا منه؛ فأفكاره العقلية وحركاته البدنية خاضعة لنفس القوانين التي تسير بمقتضاها الذرات والنجوم، وأما في عالم القيم فالطبيعة كلها لا تزيد على أن تكون جزءا من مملكة فسيحة الأرجاء يجلس الإنسان على عرشها، ويفرض عليها ما شاء لها من معايير، فهناك تكون الكلمة العليا لأذواقنا وخيالنا وتقديرنا، ولا يمكن لقوة خارج أنفسنا أن تصف أحكامنا تلك بالضلال والخطأ، نحن الذين نخلق قيم الخير، وقيم الجمال، ونخلعها على الأشياء، ولا سلطان علينا في ذلك، فبينما نحن في عالم الطبيعة أشياء كسائر الأشياء الخاضعة لقوانين لم تكن من صنعنا، ترانا في عالم القيم، عالم الخير والجمال، ملوكا ذوي سلطان نحكم بما نشاء بغير حساب.
Unknown page