250

Bayrūt wa-Lubnān mundhu qarn wa-niṣf al-qarn

بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن

Genres

وبسبب هذه المزايدة سعى الأمير بشير في قتل عمه الأمير يوسف؛ فمات هذا مخلفا وراءه ثلاثة أولاد غير مجتمع أشدهم. كان بوسع أقاربهم - لو خلقوا أقل جشعا - أن يمدوا لهم يد المعونة وينتظروا بلوغهم سن الرشد، ولكن تهافتهم على كرسي الولاية وطمعهم بها حدا الأميرين حيدر وقعدان - عم أبناء الأمير يوسف وابن عمهم - أن يطمحا إلى الحكم؛ فحاربا الأمير بشيرا الذي كان يمقته الشعب واستطاعا التغلب عليه. فالتجأ الأمير بشير إلى عكا، وطلب المعونة والمدد من الجزار، فأمده بسبعة عشر ألف رجل حارب وإياهم في الجبل أكثر من سنة دون جدوى؛ فاضطر الجزار إلى سحب جيوشه، ولكي يقهر الأميرين حيدر وقعدان عرض على «مناصب» لبنان أن يعيد إليهم أمراءهم الشرعيين - أولاد الأمير يوسف - فهب أبناء الأمير يوسف وطردوا عمهم وابن عمهم وحكموا البلاد بهدوء وسكينة، ولكن مدة سنة فقط.

ثم حاول باشا عكا - الذي لم يفتأ يثير الفتن والتفرقة في الجبل - أن يعيد الأمير بشيرا إلى كرسي الحكم، بعد أن بقي هذا الأمير ثلاث سنوات لا يقوم بعمل ما غير تربص الدوائر بخصومه، فأمده من جديد بجيوش لم تكن أكثر توفيقا من التي أمده بها من قبل؛ فالشعب كان لا يزال كارها للأمير بشير، مصرا على عدم القبول بولايته؛ فغضب الجزار على بشير وألقاه وأخاه حسنا في غياهب سجن عكا، واعترف لمن لم يتمكن من طردهم بحق حكمهم الجبل.

خال أعداء الأمير بشير أن الباشا سيقتل الأخوين. بيد أن الجزار - وهو ذلك اللبق الحاذق - لم يكن ليهرق نقطة دم ما زال يأمل بوسيلة يستدر بها المال.

وبعد سنتين فاوض سجينه بالعودة إلى الحكم؛ فالشعب لم يعد يكن لأمرائه الحاكمين ذلك الولاء القديم، فالفرصة إذن مؤاتية. عرض الجزار على الأمير بشير وأخيه أن يجعلهما سيدي الجبل شرط أن يدفعا له خمسين كيسا كل شهر (37500 فرنك)، وأن يتركا أولادهما عنده رهائن.

وعندما درى الأميران حسين وسعد الدين - ابنا الأمير يوسف - بما يعده ويدبره لهما الجزار من مكايد، هربا قبل أن تدركهما أظفاره الدامية؛ وهكذا حكم الأمير بشير الجبل ثلاث سنوات لم تقم بها في وجهه صعوبة.

والتمس الأميران الهاربان نجدة باشا دمشق فلم يظفرا بطائل؛ فحولا وجههما شطر باشا طرابلس فخابا أيضا. والجزار الذي يجني ثمارا طيبة من تعاقب الأمراء على كرسي الحكم كان يحاول دائما إقلاق بال الذين نصبهم هو؛ فعرض مساعدته على أبناء الأمير يوسف، بعد أن نشدوها عند غيره ولم يجدوها، فقبلوها وهرعوا إليه. وعندما جاء سيدني سميث لنجدة هذه الفرضة (عكا) التي يحاصرها الفرنسيون، كان هؤلاء الأمراء لا يزالون يساومون ويعللون بالآمال.

وقضي الأمر فلم يتمكن الأمير بشير من الصمود أمام مهاجمة قوات الجزار والأمراء له؛ ففر إلى عكار الواقعة على مقربة من طرابلس، فتعهد قائد الأسطول الإنكليزي بحمايته لدى الوزير الكبير؛ وهكذا أبحر الأمير على ظهر البارجة ليلتحق بالوزير الكبير، فأدركه في العريش.

إن توصية السيد سميث مهدت السبيل للأمير، فاستقبل استقبالا جميلا، ووعد بالاهتمام بقضيته فور نهاية الحملة المجهزة ضد الفرنسيين.

وبناء على هذا التأكيد عاد الأمير إلى عكار. وبعد أن قضى فيها ثلاث سنوات قام بثورة أدت به فورا إلى القبض على زمام الحكم، استدعاه الأهالي الكارهون لأولاد الأمير يوسف لأنهم فرضوا ضرائب باهظة - إرضاء لباشا عكا - ثم كانت الثورة عليهم، ففر هؤلاء إلى بيروت.

وبعد هذا الحادث نشبت حرب بين الأمير بشير والأمراء المطرودين الذين عاضدتهم جيوش الجزار، ولكنهم ما لبثوا أن سئموا القتال فتهادنوا، واقتسموا فيما بينهم حكومة لبنان وكسروان.

Unknown page