Bayna Din Wa Falsafa
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
Genres
ويجب أن يكون هذا الإنسان قد ملك العلم والحكمة بدرجة ينتقل منها من القوة إلى الفعل، وأن يكون له العقل الكامل، وأن يكون تفكيره ورغباته قد تخلصت من الأماني والأطماع التافهة الباطلة.
ويجب أن نعلم أيضا أن فيض العقل الفعال هذا لو كان على قوة الإنسان العاقلة وحدها ، لا على القوة المتخيلة أيضا، كان هذا الإنسان من طبقة العلماء الذين يعملون النظر والفكر، ولكن هذا الفيض إن تناول القوتين معا، كان هذا الإنسان من طبقة الأنبياء.
وكذلك يجب أن نعلم أن الأنبياء الحقيقيين لهم بلا ريب الإدراكات والمعرفة العقلية النظرية، التي لا يمكن أن يصل إلى مثلها ولا إلى أسبابها المفكرون غير الأنبياء، أي: الذين يعتمدون على القوة النظرية وحدها، وحقا إن الوحي الذي يفيض على القوة المتخيلة للنبي متى وصلت إلى الكمال، يجعله قادرا على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة الأمور الغيبية كما لو كان يدركها بحواسه.
أقول: هكذا يستمر ابن ميمون في عرضه لنظرية النبوة لدى فلاسفة الإسلام، إن هذا الوحي يكمل أيضا القوة العقلية المفكرة، وذلك أنه بهذا الأثر يدرك النبي الوجود الحقيقي للأشياء، كأنه يصل إلى هذا بواسطة قضايا نظرية تقوم على العقل وتفكيره، فإنه حينئذ يكون العقل الفعال قد فاض على القوة العاقلة وجعلها تنتقل من القوة إلى الفعل، وبهذه القوة يصل الفيض أو الوحي من هذه القوة إلى القوة المتخيلة.
ومن أجل ذلك ما ينبغي أن نلتفت مطلقا إلى هؤلاء الذين لم تبلغ القوة العاقلة النظرية عندهم حد الكمال، والذين لم يصلوا إلى أعلى درجة من التفكير النظري؛ فإن الذي يصل إلى الكمال في هذه الناحية وتلك، هو وحده الذي يصل إلى المعارف والحقائق العليا، وذلك حينما يفيض العقل عليه وصار يوحى إليه، وهو وحده النبي حقا.
وهكذا ينتهي ابن ميمون، وكذلك الغزالي من قبل من بيان نظرية النبوة بصفة عامة لدى فلاسفة الإسلام، وإلى أن هؤلاء وبالأخص الفارابي وابن سينا،
29
فسروا النبوة تفسيرا نفسيا عقليا رغبة منهم في التوفيق بين الوحي والعقل، وحرصوا لهذا على جعل النبي أعلى منزلة من الفيلسوف، ما دام هو نبيا وفيلسوفا معا بكمال قوته المتخيلة وقوته النظرية، وهذا الحرص في هذه الناحية منهم، له ما يبرره من وجهة نظر المسلمين وإجماعهم على أن أعلى ما يمكن أن يصل إليه بشر هو درجة النبوة. •••
هذا، والقرآن ذكر الملائكة في آيات كثيرة منه، فلم يسع الفارابي إنكار وجودهم، لكنه لم يقل كما يقول المتكلمون عنها إنها أجسام قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، بل ذهب إلى أنها كائنات معقولة لا رابطة لها بالمادة، وبعبارة أخرى نراه يفسرها بأنها صور مجردة عن المادة، وهي صلة ما بين مصدر الوحي والموحى إليه.
30
Unknown page