Bayna Din Wa Falsafa
بين الدين والفلسفة: في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
Genres
تمهيد
القسم الأول
1 - الأندلس حتى عصر ابن رشد
2 - ابن رشد
3 - التوفيق عند سابقي ابن رشد
القسم الثاني
1 - العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
2 - التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
3 - استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
4 - بين ابن رشد والغزالي
Unknown page
النتيجة
تمهيد
القسم الأول
1 - الأندلس حتى عصر ابن رشد
2 - ابن رشد
3 - التوفيق عند سابقي ابن رشد
القسم الثاني
1 - العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
2 - التأويل عند مفكري رجال الأديان العالمية
3 - استدلال ابن رشد للعقائد الدينية
Unknown page
4 - بين ابن رشد والغزالي
النتيجة
بين الدين والفلسفة
بين الدين والفلسفة
في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط
تأليف
محمد يوسف موسى
تمهيد
موضوع البحث - عناصره - خطته
ليس من الضروري أن نتناول هنا بالبحث أول مسألة تخطر ببال من يكتب في الفلسفة الإسلامية، وهي: هل يوجد في الإسلام فلسفة تعالج المشاكل الفلسفية بطريقة أصيلة، حتى يكون لنا أن نسميها فلسفة إسلامية؟
Unknown page
وإذن، لا نرى ما يدعونا لمناقشة الرأي القائل بأن العرب لم يكونوا في هذه الناحية إلا مجرد نقلة للفلسفة الإغريقية، وأنه كما يذهب «إرنست رينان»: من الإفراط إعطاء اسم «فلسفة إسلامية» لعمل لم يكن إلا عارية من اليونان، وليس له أي عرق في شبه الجزيرة العربية، فإن ما يدعونه فلسفة عربية أو إسلامية، ليس إلا فلسفة يونانية كتبت بحروف عربية، وهذا كل شيء!
وكذلك لا يتعرض للتدليل على ما ذهب إليه الأستاذ «ريتير
Rittir » ومن معه في رأيه، من أن للإسلام فلسفة من الممكن بالتأكيد أن تسمى فلسفة إسلامية، وأن «رينان» تناقض مع نفسه، حين زعم في كتابه «التاريخ العام للغات السامية» من أنه ليس هناك فلسفة عربية مطلقا؛ وذلك إذ يقول في كتاب آخر له: «إن العرب مثلهم في هذا مثل فلاسفة العصر الوسيط، متعللين بشرح أرسطوطاليس، أمكنهم أن يخلقوا لهم فلسفة مليئة بالعناصر الخاصة بهم، ومختلفة تماما بلا ريب عن الفلسفة التي كانت تدرس بالليسيه لدى اليونان.»
وكذلك لا نجد حاجة لإثبات أن الرأي الحق هو أن العرب وقد وقفوا على ما أوحاه الله إلى رسوله، عليه الصلاة والسلام، بدأت عقولهم في التفكير مدفوعة بعوامل عديدة، وأحسوا الحاجة إلى فهمه والتعمق فيه، إلى بيان ما اشتمل عليه من حقائق دينية تكونت منها العقيدة الإسلامية، والقرآن مع هذا كان يأمر بهذا الاتجاه، ولكنهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية قد استعملوا طرق الفلسفة الإغريقية التي عرفوها من زمن بعيد، والتي ازدادوا معرفة بها بعد عصر الترجمة المعروف.
نحن إذن لا نناقش هذا الرأي أو ذاك، ونكتفي بالقول بأن موضوع هذا البحث هو بيان «موقف ابن رشد بين الدين والفلسفة». أهذا الموقف هو الميل إلى الفلسفة على حساب الدين؛ أي: هل كان يرى أن الحق هو ما أدى إليه النظر الفلسفي، فيجب إذن تفسير العقائد الدينية والحقائق التي جاء بها الوحي الإلهي على هذا الأساس؟
أم كان موقفه بين هذين الطرفين هو العكس، أي إنه حاول جر الفلسفة إلى الدين الذي يجب الإيمان به أولا؟ أم كان موقفه لا هذا ولا ذاك بل كان العمل على التوفيق بين الدين والفلسفة، اللذين لا يمكن أن يتعارضا؛ وذلك لأنهما أخوان، كل منهما يكمل الآخر وفي حاجة إليه؟
إن موقف فيلسوف الأندلس على ما نرى هو العمل بكل سبيل للتوفيق بين هذين الطرفين اللذين يعبران عن الحقيقة الواحدة، كل على نحو خاص، ومن ثم لا ينبغي أن يكون بينهما تعارض أو خلاف، كما أنه من أجل ذلك لا يمكن أن يقع بسببهما تعارض أو خلاف بين رجال كل منهما، رغم ما قد يوجد من تعارض ظاهري في بعض المسائل، ورغم ما كان من اعتقاد كثير من رجال الدين - وعلى رأسهم الإمام الغزالي - أن بين هذين الطرفين أو بين هذين التعبيرين من الحقيقة الواحدة، خلافا شديدا وتعارضا واضحا لا يمكن إنكاره أو تجاهله.
وقد كان من الطبيعي أن يحاول كل فيلسوف مسلم التوفيق بين هذين الطرفين، ولكن لا نعرف أحدا من الفلاسفة المسلمين الذين سبقوا ابن رشد بذل في هذا السبيل ما بذله هو من جهد، ولا خصص لها من كتاباته قدر ما خصص هو لها. إن ابن رشد لم يمس هذه المشكلة عرضا كما فعل بعض أسلافه، بل خصص لها رسالتين من مؤلفاته، وتجلت في كثير من بحوثه في كتابه المهم الكبير «تهافت التهافت».
بل إن نزعته إلى هذا التوفيق بين الدين الذي يؤمن به حق الإيمان، وبين الفلسفة التي كان من أكبر نصرائها، تعتبر معقد الأصالة والطرافة في تفكيره الفلسفي، وذلك كما يقول بحق الأستاذ «ليون جوتييه».
1
Unknown page
إنه كما يقول الأستاذ «كارادي فو» في كل مناقشاته للغزالي لم يترك أبدا فكرة أن الدين والفلسفة يجب أن يكونا على وفاق وأن يعيشا في وئام، وكل ما علينا هو أن نبين أن هذا الوفاق يجب أن يتحقق رغم ما يظهر لنا بينهما بادئ الرأي من تعارض في كثير من الحالات.
إن ابن رشد «موفق» مثل كل أسلافه السابقين، فهو يعمل في إخلاص تام على الربط والتوفيق بين كثير من الآراء ووجهات النظر التي تبدو في الظاهر مختلفة أشد اختلاف.
2
ومن الخير أن نشير هنا إلى أن فيلسوف قرطبة قد اتخذ هذا الموقف الدقيق الذي اقتضاه مجهودا كبيرا مسوقا بعوامل مختلفة يجيء بيانها والحديث عنها، ولكن نشير الآن إلى أن منها رغبته القوية في الانتصاف للفلسفة ورد اعتبارها إليها، وذلك لتعود لها مكانتها بعد أن كادت تموت بسبب حملة الإمام الغزالي عليها، هذه الحملة الشديدة التي نالت منها ومن الفلاسفة نيلا كبيرا.
إنه رأى الأثر المشئوم لضربة الغزالي للفلسفة، وتعصب الفقهاء والعامة ضد التفكير العقلي الفلسفي، واضطاد الأمراء للفلاسفة، كما رأى أنه - لحسن جد الفلسفة - يعيش في عصر أمير يشجع الفلسفة ويقرب الفلاسفة، فكان من الطبيعي أن ينتهز هذه الفرصة الطيبة التي واتته للعمل على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، هذه الفرصة التي قدر أنها لن تدوم طويلا، وكان أن صح ما قدره كما حصل فعلا مما كان سبب نكبته. •••
قلنا: إن موضوع هذا البحث هو بيان محاولة فيلسوف الأندلس التوفيق بين الدين والفلسفة، وإذن يكون من الطبيعي قبل الدخول في الموضوع أن نبدأ بإعطاء فكرة عامة عن الأندلس وعن ابن رشد، ومهد نشاطه العلمي والفلسفي؛ وذلك لتعرف الحظ الذي كان للتفكير العقلي والدراسات الفلسفية في هذا البلد الإسلامي، وهذا هو موضوع الفصل الأول من القسم الأول من البحث.
ونرى من الضروري بعد هذا أن نخصص الفصل الثاني لحياة ابن رشد، فنحلل فيه الظروف التي أحاطت به، والعوامل التي وجهته وجهته الفلسفية، ونتعرف المناصب التي تقلب فيها وكان لها أثر في حياته العقلية، ونتبين الأسباب الجلية والخفية التي أدت إلى نكبته هو وأصحابه من محبي الفلسفة.
وذلك لنعرف إن كان مرد هذه الأسباب جهل الفقهاء والخليفة الذي نكبه، وتعصبهم ضد الدراسات الفلسفية، أو حسد أولئك الفقهاء وإثارتهم العامة، واضطرار الخليفة لمجاراتهم حفظا لسلطانه كما يحصل غالبا، أو أن السبب مزيج من ذلك كله ومن عوامل أخرى، وهكذا يمتد البحث إلى آخر الأحداث التي أحاطت بابن رشد حتى انتهت بحياته.
وإذا كان موضوع هذا البحث هو التوفيق بين الدين والفلسفة، فقد كان في هذه الناحية جهود لمن سبق ابن رشد من الفلاسفة المسلمين في الشرق والغرب، فيجب إذن أن نتعرف هذه الجهود لنعرف الأساس الفلسفي الذي أفاد منه فيلسوفنا وشاد عليه عمله، وهذا هو موضوع الفصل الثالث، وبه يتم القسم الأول من البحث.
سنرى في هذا الفصل كيف أحس أسلاف ابن رشد في المشرق والمغرب الحاجة إلى التوفيق بين العقل والوحي، أو بين الفلسفة والدين، وكيف اشتدت هذه الحاجة حتى صارت مسألة حياة أو موت للفلاسفة بعد حملة الغزالي، التي كان لها أثرها الكبير المشئوم، وكيف سلك كل من هؤلاء وأولئك المفكرين الطريق إلى تلك الغاية التي هي غاية الجميع؛ وذلك ليتقرر السلم، ويتم التآخي بين الفلسفة والدين، فيستطيع الفلاسفة أن يعملوا في هدوء وأمن، ويعم الانتفاع بجهودهم الفلسفية في سبيل كشف الحقيقة التي يعبر عنها كل من الدين والفلسفة بطريقة خاصة.
Unknown page
ونصل بعد نهاية هذا الفصل الثالث للقسم الثاني والأخير من هذا البحث، وهو القسم الأساسي الجوهري منه، فنبين مبلغ احتفال فيلسوفنا بناحية التوفيق التي عالجها أسلافه دون أن يقارب واحد منهم مبلغ اهتمامه بها، حتى لقد خصص لها من تآليفه ثلاثة كتب مهمة: فصل المقال، والكشف عن مناهج الأدلة، وتهافت التهافت.
ونبين أولا بعد ذلك، كيف تصور العلاقة بين الدين والفلسفة، وعلى أي أسس تقوم هذه الصلة، وهذا هو موضوع الفصل الأول.
وبعد هذا الفصل الأول الذي يرى ابن رشد وجوب تأويل بعض النصوص المقدسة من القرآن والسنة، تأويلا مجازيا لطبقة خاصة هي أهل الاستدلال والفلسفة، نلاحظ أن هذا الضرب من التأويل كان معروفا عند فلاسفة اليونان وغير اليونان، وإذن يكون من الضروري الكلام عن التأويل المجازي لبعض النصوص الدينية عند سابقي فيلسوف الأندلس، وهو التأويل الذي اعتمده عن علم به، أو مصادفة واتفاق معه، وذلك ما يكون الفصل الثاني.
ثم يكون الكلام بعد هذا عن تطبيق ما وضع من مبادئ وأصول، لنعرف كيف استدل للعقائد الدينية التي جاء بها الوحي، استدلالا يوافق كل طوائف الناس جميعا على اختلاف مداركهم وعقولهم ومواهبهم، وذلك في غير ضرر، ولا تحيف للدين أو الفلسفة، وهذا هو موضوع الفصل الثالث.
ومع ذلك كله؛ فإن ابن رشد كان يرى أنه لا يمكن أن يصل إلى التوفيق بين الوحي والعقل دون أن يرد على «تهافت الفلاسفة» للغزالي ويهدمه هدما، فإن حجة الإسلام الغزالي عمل حقا على هدم الفلسفة، وعلى بيان تهافت الفلاسفة فيما ذهبوا إليه من ناحية الدين وناحية الفلسفة معا.
رأينا إذن أن نخصص فصلا خاصا نبين فيه الظروف والعوامل التي دفعت الغزالي إلى اتخاذ هذا الموقف الشديد ضد الفلسفة والفلاسفة، ونحلل فيه كتابه الهام جدا في هذه الناحية، ثم نصل بعد هذا وذاك إلى موقف ابن رشد من هذا الكتاب كما نراه في كتابه «تهافت التهافت»، هذا الكتاب الذي بذل فيه كل ما أوتي من جهد لهدم كتاب خصمه العنيف أولا، ثم للدفاع عن الفلسفة والانتصاف لها ثانيا.
وإذن في هذا الفصل الرابع والأخير من هذا القسم، سنتناول بالتفصيل ردود الغزالي على الفلاسفة ، ثم ردود ابن رشد عليه، فنحلل أولا ردود الغزالي إلى العناصر التي تتكون منها، ونبين المبادئ والقواعد التي قامت عليها.
نبين أنه قصد مرة إلى ذم الفلسفة وتحقيرها، وبيان أنها لا تؤدي إلا إلى أخطاء وتناقضات، وبذلك يصل إلى صرف الناس عنها، كما قصد مرة أخرى إلى تكفير الفلاسفة لينزع الثقة منهم، وليحول بين الناس والإقبال عليهم، وأحيانا نراه يؤكد عجز العقل عن الوصول للحقيقة، وأن الإلهام التصوفي هو الطريق الأخير المأمون للوصول إليها، وأحيانا أخرى يجنح إلى المغالطة؛ إذ يرد على الفارابي وابن سينا موهما أنه بذلك رد على الفلاسفة جميعا، كما قد يكتفي بالجدل دون بيان الحق في مسائل النزاع، مصرحا بأن غرضه هو بيان تهافت الفلاسفة لا بيان الحق في المشاكل المختلف فيها.
وفيما يختص برد ابن رشد على الغزالي، نراه يتعقبه فيما قصده خطوة بعد خطوة؛ إذ يبين أن الفلسفة متفقة مع الدين، بل إنه يأمر بها، وإذن فهي غير حرية بالذم والتحقير، كما يبطل تهمة كفر الفلاسفة ببعض الآراء التي ذهبوا إليها، وذلك بتأويلها تأويلات تبعدهم عن الكفر، وفي النزاع على مدى قدرة العقل على الوصول للحقيقة، نرى رأيه المبثوث في مختلف كتاباته ومؤلفاته.
وكذلك نرى في تلك الكتابات مقدار عنايته بإظهار مغالطات خصمه وسفسطته، ونعيه عليه الإقذاع في سب الفلاسفة، مع استفادته منهم حصافة الرأي وإصابة التدليل ونباهة الذكر.
Unknown page
وأخيرا؛ نرى ابن رشد يؤكد تحريم الخوض في أمثال هذه المسائل التي أثارها الغزالي بالنسبة للجمهور، ويلوم الغزالي أشد اللوم على تصريحه بالحكمة لمن ليس من أهلها، فجعلها مشاعة لجميع الناس ومنهم من يضر بها.
وبالانتهاء من هذا الفصل يكون قد انتهى القسم الأخير من البحث كله، فلا يكون باقيا علينا إلا بيان النتائج التي وصل إليها ابن رشد في سبيل التوفيق بين الدين والفلسفة، وفي سبيل إقالة الفلسفة مما أصيبت به ورد اعتبارها إليها.
وهنا علينا أن نتبين هل نجح فيلسوفنا فيما أراد؟ وما مدى هذا النجاح وأثره؟ وما هي العوامل التي حالت دون نجاحه النجاح الذي كان يرجوه، وذلك بعد أن أنفق ما أنفق من جهد؟ وبهذا يكون البحث قد انتهى إلى غايته. •••
وخطة البحث هي - كما يستنتج مما تقدم - هي الخطة التاريخية التحليلية المقارنة؛ فإن أهم ما ينبغي أن يعنى به مؤرخ الفلسفة هو استعراض التطور التاريخي للفكر الإنساني في كل نظرية فلسفية لها أهميتها، وليس له أن يطلب من التاريخ الذي يستعرضه ويسجل تطوراته دروسا تقودنا في التفكير في العصر الذي نعيش فيه، أو حلولا للمشاكل الفلسفية التي تتطلب منا اليوم حلولا لها.
فإنه كما يقول «رينان» بحق: «ما ينبغي أن نطلب من الماضي إلا الماضي نفسه، وإن التاريخ السياسي قد صارت له مكانته الشريفة المرموقة منذ انتهينا عن أن نبتغي فيه دروسا في المهارة والأخلاق السياسية، ومن ثم يتركز تاريخ الفلسفة في عمل لوحة تبين لنا التطور المتتابع للفكر الإنساني، لا أخذ ما يمكن أخذه من التعاليم الواقعية.»
3
ومن أجل ذلك، رأينا من الواجب علينا أن نجتهد عند بحث كل نظرية من نظريات ابن رشد الهامة، التي يقوم عليها البحث أو تتصل به، نجتهد في إرجاعها إلى أصلها إن كان أفادها من غيره، ومقارنة رأيه بآراء سابقيه، وتحليل العوامل والأسباب التي أدت به إلى تكوين آراء خاصة به في بعض المشاكل، أو اتخاذ طريق خاص في معالجتها.
وسنفعل ذلك فيما ذهب إليه فيلسوف قرطبة من التأويل، تأويل نصوص القرآن والحديث التي تتصل بالفلسفة، وتقسيم الناس إلى طبقات لكل منها طريقة خاصة في فهم الدين وفي المعرفة، تناسب عقلها ومداركها، والأمر كذلك حين نقارن مذهبه وطريقته في هذه الناحية بما كان من أفلاطون وفيلون، وحين نقارن مواقفه في مسائل الدين والفلسفة بآراء سابقيه من المتكلمين والمفسرين والفلاسفة، وفي غير هذا وذاك كله حين تدعو حاجة البحث إلى التحليل والمقارنة.
كما سنحلل الدوافع التي دفعت الغزالي إلى الرد على الفلاسفة والتنكيل بهم، والتي جعلت ابن رشد ينصب نفسه للدفاع عن الفلسفة وبيان اتفاقها مع الدين، بل أخوتها له، وسنقارن بين جهوده في هذه الناحية وبين موقف الفارابي وابن سينا أولا، ثم بين موقف ابن باجة وابن طفيل ثانيا، فقد أحس هذان ثقل وطأة الغزالي على الفلسفة والفلاسفة، ومع هذا لم يعملا تقريبا شيئا ذا بال في الرد عليه.
وفي كل ذلك رأينا بصفة عامة ألا يكون حكمنا فيما يكون مستوجبا للحكم من مشاكل البحث ومسائله، صادرا عن العاطفة أو الرأي الشخصي؛ لأن المذهب الشخصي لمؤرخ الفلسفة الذي يروي قصة صراع المذاهب الفلسفية ومدارسها - كما لاحظ الشهير «رينان» - يزيف في الأكثر من الحالات حكمه ويبطله، ويفسد اللوحة التي يرسمها لهذا الصراع؛ لأن الحكم النقدي يتنافى مع الحكم القطعي.
Unknown page
4
القسم الأول
الفصل الأول
الأندلس حتى عصر ابن رشد
فتح المسلمون شبه جزيرة الأندلس سنة 92ه في عهد الدولة الأموية على يد طارق بن زياد، فتوالى عليها الولاة من قبل الخليفة القائم بدمشق، حتى جاءها الأمير عبد الرحمن بن معاوية، الملقب بعبد الرحمن الداخل، فارا من الشام بعد ذهاب ملك أسرته على يد الدولة العباسية، واستولى على حاضرتها قرطبة سنة 138ه، وقد أسس هذا البطل في هاتيك البلاد دولة لأسرته الأموية بالمغرب بعد أفول نجمها بالمشرق، وصار منها خلفاء ينافسون العباسيين ببغداد، وظل الأمر كذلك حتى زالت دولتهم بموت هشام المعتد بالله سنة 427ه من غير أن يترك وارثا لملكه.
تقاسم الأمراء الأقاليم بعد ذلك، فكان ما عرف في التاريخ بملوك الطوائف، وكان أشهرهم أمرا وأنبههم ذكرا أبو القاسم محمد بن عباد، الذي تلقب بالمعتمد على الله، ملك أشبيلية، فقد «انتظم له - كما يقول المراكشي - في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله، أعني من المتغلبين.»
1
ولكن سوء حظه جعله يستنصر بملك البربر بمراكش يوسف بن تاشفين على الفرنجة، فكان ذلك سبب ضياع دولته؛ ذلك أنه بعد أن جاء ابن تاشفين للأندلس ورأى البلاد وعظمتها وخيراتها، طمع فيها فظل يحتال لغرضه ويبث الدعاة والأنصار في داخل الجزيرة بعد أن عاد لمراكش، حتى تم له الاستيلاء عليها وأسر المعتمد على الله سنة 484ه، ومن ذلك الحين «عد في جملة الملوك واستحق اسم السلطنة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين.»
2
وفي سنة 515ه قام بمدينة سوس محمد بن عبد الله بن تومرت، الذي لقب نفسه فيما بعد بالمهدي، وجعل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مسرا في نفسه ثل عرش المرابطين وتأسيس دولة له ولأصحابه على أنقاضهم، وبعد خطوب استطاع هو وخليفته عبد المؤمن بن علي (487-558ه) أن يؤسسا دولة الموحدين بالأندلس، «وكان آخر ما استولى عليه من البلاد التي يملكها المرابطون مدينة مراكش بعد وفاة علي بن يوسف بن تاشفين سنة 357ه.»
Unknown page
3
في عام 558ه توفي عبد المؤمن، فولي الأمر من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف الملقب بالمنصور، وهو الذي شجع ابن رشد على التفلسف وشرح أرسطو، وبعد وفاته ولي الأمر ابنه يوسف يعقوب الذي حكم من سنة 580-595ه، وفي عهد هذا الأمير كانت نكبة ابن رشد والمشتغلين بالفلسفة، بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.
هذه لمحة خاطفة عن الأندلس حتى نهاية عصر فيلسوف قرطبة من الناحية السياسية، وأما من الناحية العلمية فسنرى أن هذه البلاد وقد تعاقبت عليها دول مختلفة كانت مصداقا لبعض قوانين ابن خلدون الاجتماعية، ذلك أن هذا الفيلسوف الاجتماعي جعل الطور الثاني من الأطوار التي تمر بها الدولة من أول قيامها إلى انقراضها، «طور الاستبداد - أي: استبداد الأمير على قومه، والانفراد دونهم بالملك، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة - ويكون صاحب الدولة في هذا الطور معنيا باصطناع الرجال واتخاذ الموالي والأنصار ...»
4
كما يقرر في موضع آخر: أن «العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، وأن السبب في ذلك أنه متى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع.»
5
كل هذا الذي يقرره ابن خلدون حق لا شبهة فيه، فإن البحث التاريخي يؤكد لنا أنه تمر بالأمم فترات يطول عهدها أو يقصر تبعا لما يحيط بها من ظروف، يكون همها الأول وغرضها الأساسي المحافظة على كيانها وتوطيد سلطانها، ثم محاولة توسيع هذا السلطان ؛ فإذا استتب لها الأمر ورسخت أقدامها وأمنت على نفوذها وسلطانها، شرعت تستكمل وسائل الأبهة والعظمة، ومن ذلك الضرب بنصيب وافر في المعارف والعلوم القديم منها والحديث.
لهذا ليس بدعا أن ترى الدولة الأموية التي أسسها صقر قريش بالأندلس تعنى قبل كل شيء بتوطيد سلطانها في البلاد التي اقتطعتها من المملكة الإسلامية، وتحاول التوسع في هذا السلطان بافتتاح ما يمكن فتحه مما جاورها من النواحي، ولا عجب إذن حين نرى أمراء هذه الدولة وخلفاءها - إلا في فترات قصيرة - ويتبعهم الأهلون، منصرفين عن الفلسفة والعلوم إلا ما تعلق منها بكتاب الله وسنة رسوله، والفقه واللغة، وما إلى ذلك من العلوم الإسلامية.
ولذلك يقول القاضي صاعد الأندلسي المتوفى سنة 462ه: «إن هذه البلاد استمرت بعد الفتح لا يعنى أهلها بشيء من العلوم إلا بعلوم الشريعة وعلم اللغة، إلى أن توطد الملك لبني أمية بعد عهد أهلها بالفتنة، فتحرك ذوو الهمم لطلب العلوم.»
6
Unknown page
وغني عن البيان أن المشار إليه بكلمة «العلوم» هي العلوم التي من جنس العلوم القديمة الفلسفية التي لم يكن للعرب إلف بها.
وفي هذا يقول ناشرو الجزء الأول والثاني من كتاب نفح الطيب للمقري في مقدمتهم بالفرنسية لهذه الطبعة: «منذ أن استقر العرب في إسبانيا، أسس الأمراء الأمويون أيضا في قرطبة مجمعا للعلوم، حيث كانوا يعلمون على الطريقة الشرقية علم الكلام، والفقه، والفلسفة، والبلاغة، والنحو واللغة.»
7
على أن هذه المؤسسة العلمية لم تسد حاجات الناس بعد أن تنبهوا لطلب العلم، فكان أن رحل كثير من العلماء إلى الشرق (مصر، الحجاز، الشام، العراق)، حيث منبع العلم ورجاله الأعلام. ويعطينا المقري أربعا وثلثمائة ترجمة من تراجم العلماء الرحالة، ولكنه لم يرتب هذه التراجم أي ترتيب أبجدي أو زمني أو منطقي،
8
ومن بين هذه التراجم لا يوجد إلا عدد قليل جدا من العلماء الذين كانوا يعنون بالدراسات الفلسفية؛ وذلك لأننا لا نرى من بين تلك التراجم الكثيرة العدد التي ذكرها المقري إلا «ثلاثين رحالة من الفلاسفة والمتصوفة والزهاد.»
9
وفي عهد الحكم المستنصر بالله (350-366ه /961-976م)، ابتدأت العلوم الفلسفية تأخذ مكانة ملحوظة، فإن قلب هذا الخليفة قد أخذ بشغافه المجد الأدبي أعظم مما أخذ به المجد الحربي الذي شغل أباه عبد الرحمن الناصر، فكان له فخر افتتاح هذه الدراسات العالية، وتمهيد سبلها للراغبين فيها والمتطلعين إليها؛ حتى لقد جمع ما قد ألف فيها من كل نواحي الأرض وأقطارها.
فقد كان كما يقول المقري: «يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي، باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت بها خزائنه، وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك.»
10
Unknown page
وقد ظهر ميل الحكم لهذه العلوم أيام أبيه قبل أن يلي الملك، فبدأ يعنى وهو أمير بإيثار أهلها واستجلاب عيون التآليف في القديم منها والحديث، من بغداد ودمشق ومصر وغيرها من بلاد الشرق، وذلك لفرط محبته للعلم، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة، فكان هذا سببا قويا لكثرة تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
11
ولكي نحكم على ما وصلت إليه الأندلس في ذلك العصر من العناية بالعلوم والآداب، نذكر أن بعض المؤرخين ذكروا أن فهرست كتب خزائن الحكم بلغت أربعة وأربعين مجلدا لا تشتمل إلا على أسماء الكتب وحدها، وأن عدد الكتب نفسها بلغ أربعمائة ألف مجلد، استغرق نقلها ستة أشهر.
كما نذكر أيضا أنه قد بلغت العناية بإيثار الأندلس بعيون المؤلفات، أن الحكم كان يعمل على إحضار الثمين من المؤلفات الحديثة العهد قبل أن تظهر في بلاد مؤلفيها، ومن ذلك أنه كما يقول المقري نقلا عن ابن خلدون: «بعث في كتاب الأغاني إلى مؤلفه أبي الفرج الأصبهاني، وأرسل إليه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق.»
وقد كان الحكم نفسه مشاركا إلى حد كبير في النظر في هذه العلوم، كما كان ثقة فيما ينقله، بهذا وصفه ابن الأبار وقال: «عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال! كيف لم يذكراه، وقلما كان يوجد كتاب في خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان، ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته وما يتناقل عنه من غرائب الحكايات الخاصة به.»
12
وكان يذكي هذه الجهود ويدفع إلى الأمام تلك الحركة العلمية التي تعد من أزهى الحركات العلمية، ما ران أيام الحكم من التسامح «الذي لا تكاد الأزمنة الحديثة تعرف له نظيرا أو مثالا واحدا، فأولئك العلماء المسيحيون واليهود والمسلمون كانوا يتكلمون لغة واحدة هي العربية، ويتناشدون الأشعار العربية، ويشاركون في الدراسات الأدبية والعلمية نفسها.
وهكذا، سقطت جميع الحواجز التي تفصل بين الناس، وصار الجميع في اتفاق وتعاون في إقامة صرح المدنية المشتركة، وصارت مساجد قرطبة بتلاميذها الذين يعدون بالآلاف مراكز عاملة للدراسات الفلسفية والعلمية.»
13
ولكن هذا العمل المجيد الذي شاده الحكم قضي عليه في شبابه، وهذا العهد الذهبي للدراسات العلمية والفلسفية لم يستمر طويلا، فقد تحالفت عوامل مختلفة على هدم ذلك الصرح العالي الذي أقامه نصير العلم والفلسفة بقرطبة، وعلى إطفاء ذلك المصباح الوهاج الذي كان ينير السبيل أمام طلاب هذه الدراسات.
Unknown page
وذلك أنه بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله (366ه/976م)، خلفه ابنه هشام المؤيد، وكان غلاما حدثا لم يجاوز العاشرة من عمره، فاستبد به الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، وساعدته على هذا والدة الخليفة، ولم يجد الحاجب المنصور بدا من استمالة العامة إليه ولم جميع عناصر الشعب حوله.
وكان من هذا أن استجاب لجهل الجمهور وتعصب الفقهاء، وعمد أول تغلبه على السلطة إلى خزائن الكتب التي بذل الحكم عمره وكل ما يملك في جمعها، وأفرز ما فيها - بمحضر من أهل العلم والدين - من كتب علوم الأوائل القديمة، ما عدا كتب الطب والحساب، وبعد ذلك أمر بإعدامها.
فأحرق بعضها وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير، وفعل ذلك تحببا إلى عوام الأندلس، وتقبيحا لمذهب الحكم عندهم، إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم، مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهما عندهم بالخروج من الملة ومظنونا به الإلحاد في الشريعة.
14
وتوج المنصور فعلته بأن أصدر مرسوما حرم به الاشتغال بهذه العلوم!
وهنا يحق للباحث أن يتساءل: هل ارتكب الحاجب المنصور هذا الجرم استمالة للعامة وفقهاء الأندلس ، وتشويها لذكرى الحكم، واستبقاء لسلطته، مع مشاركته سرا في هذه العلوم، كما يشير إلى ذلك المقري نقلا عن ابن سعيد؟
15
أو كان - وهو رجل قد اغتصب السلطة من صاحبها الشرعي الضعيف هشام المؤيد، وكان همه الأول الحرب يضيف فيها نصرا إلى نصر - يكره العلوم التي قد تعارض الدين، ومع هذا ففي العلوم الإسلامية غنى عنها، ففعل ما فعل بقلب راض، وإن كان متأثرا ببعض العوامل التي تقدمت الإشارة إليها؟
على أنه ليس مما يهم كثيرا في هذا البحث أن نحقق الدوافع التي دفعت المنصور إلى إعدام كتب العلوم القديمة، وإن كنا نكاد نجزم بأنه ليس منها الحدب على الدين ودفع ما قد يتعارض مع بعض العقائد التي جاء بها، بل لعل اجتماع تلك العوامل يرجع إلى عمله على ستر فعلته في اغتصابه السلطة، واسترضاء العامة ورجال الدين؛ ليتأتى له المحافظة على الجاه والسلطان.
نقول: إن تحقيق ذلك ليس مما يهمنا كثيرا هنا، وإنما المهم أن نسجل أمورا لها خطرها بالنسبة للفلسفة ومن كانوا يعنون بها: (1)
Unknown page
إن أهل الأندلس لم يكونوا في هذا العصر من محبي الدراسات الفلسفية، ويدلنا على هذا ما سبق أن نقلناه عن صاعد الأندلسي، وما ذكره المقري نقلا عن ابن سعيد في بيان حال أهل الأندلس في فنون العلم من أن «كل العلوم لها حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم؛ فإن لهما حظهما عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل: فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يرفع أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما كان يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه.»
16 (2)
إنه لهذا؛ وبعد مرسوم الحاجب المنصور بتحريم الاشتغال بالفلسفة، صار الذين يشتغلون بها يستخفون حتى عن أصدقائهم الحميمين ، وذلك خشية أن يحكم عليهم بالزندقة والإلحاد إذا افتضح أمرهم.
17
كما كان هؤلاء الذين استمروا يحملون شعلة التفلسف عرضة كذلك لكثير من المحن والأرزاء، بل لفقدان الحياة.
فقد جاء في ترجمة ابن باجة المتوفى سنة 533ه أنه كان «علامة وقته وأوحد زمانه، وبلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا إهلاكه مرات وسلمه الله منهم.»
18
وكذلك يذكر لنا ابن أبي أصيبعة في ترجمة الحفيد أبي بكر بن زهر، أن المنصور أبا يوسف يعقوب من خلفاء الموحدين، وقد ولي سنة 580ه، قصد ألا يترك شيئا من كتب المنطق والحكمة باقيا في بلاده، وأباد كثيرا منها بإحراقها بالنار، وتوعد بكبير الضرر من يضبط مشتغلا بهذه العلوم أو عنده شيء من كتبها.
19
وقد استمر الحال كذلك - إلا في فترات قصيرة - إلى أيام ابن رشد، فقد روى لنا المراكشي خبر أول اتصال بينه وبين أمير المؤمنين أبي يعقوب من الموحدين، وفيه أنه عندما دخل عليه وجده وابن طفيل وحدهما، وبعد أن سأله عن اسمه واسم أبيه ونسبه قال له: ما رأيهم (يعني الفلاسفة) في السماء أقديمة هي أم حادثة؟ فأدرك ابن رشد الحياء والخوف، وأخذ يتعلل وينكر اشتغاله بالفلسفة.
Unknown page
20
وسنورد في الفصل التالي الخاص بحياة ابن رشد كثيرا من هذه الشواهد التي تبين بجلاء كيف كانت الفلسفة علما ممقوتا بالأندلس، وكيف كان رجالها وطلابها مضطهدين في هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية. (3)
برغم هذا وذاك كله لم تمت الفلسفة باضطهاد أهلها وإبادة أكثر مؤلفاتها، وظل هناك جماعة تحمل شعلة التفلسف وتعنى بالدراسات العقلية النظرية وبكتب الأوائل.
وذلك أنه قد أفلت من محنة الحاجب المنصور بعض الكتب العلمية والفلسفية، فانتشرت في البلاد كما انتشر أمثالها من الكتب التي بيعت مع ما كان من الذخائر بقصر قرطبة أيام فتنة البربر، أو التي نهبت عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم لها عنوة.
21
وقد ظلت هذه الكتب تنتقل من يد ليد، سرا مرة وجهرا أخرى، وأحب شيء إلى الإنسان ما منع، وساعد على هذا اشتغال قرطبة والقابضين على السلطان بالحرب الأهلية والاضطرابات والثورات من الخارجين عليهم، من أواخر القرن الرابع إلى أوائل الخامس الهجري، عن تعقب من يشتغل بالدراسات الفلسفية.
22
ويضاف إلى هذه العوامل أن بعض الأمراء الذين ولوا الحكم بالأندلس كانوا يضمرون حب الفلسفة ويشجعون التفلسف سرا أحيانا، وأحيانا كان هؤلاء العلماء يلقون لديهم قدرا كبيرا من الحماية والتشجيع جهرا، فقد كان مالك بن وهيب الإشبيلي من الفلاسفة الظاهرين، ومع هذا فقد استدعاه يوسف بن تاشفين في حضرته وجعله عالمه وجليسه.
23
وكذلك يذكر لنا القاضي مروان الباجي أن المنصور أبا يوسف يعقوب من الخلفاء الموحدين، وقد مر اسمه آنفا، لما قصد إعدام كتب المنطق والحكمة عهد بالأمر إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأراد بذلك «أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه إنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها.»
Unknown page
24
وشاء الحسد أن يحمل بعض أعداء ابن زهر على السعاية به إلى المنصور بأنه يعنى بهذه العلوم وعنده الكثير من كتبها، وعمل بذلك محضر شهد عليه كثيرون، ولكن النتيجة لم تكن فحص هذا الاتهام، بل كانت عقاب الشاكي والحكم بسجنه، ثم قال المنصور: «إنني لم أول ابن زهر في هذا حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه، ولا يقال عنه ...»
25
وهذا يدل في رأينا على أن اضطهاد المشتغلين بالفلسفة كان مرده في كثير من الحالات إلى الرغبة في استمالة العامة والفقهاء، فإن على هاتين الطائفتين تقوم الدولة غالبا ويستمر السلطان للقائمين به. (4)
بل إن الخليفة أبا يعقوب يوسف بن عبد المؤمن كان شديد الميل للفلسفة، فأمر بجمع كتبها، فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر بالله الأموي،
26
وإنه لم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل علم النظر إلى أن اجتمع له ما لم يجتمع لملك قبله ممن ملك المغرب.
27
ثم كان منه أن اصطفى الفيلسوف ابن طفيل الذي لم يزل يجمع إليه العلماء من جميع الأقطار، وينبه عليهم ويحضه على إكرامهم.
وفي حب أبي يعقوب هذا الفلسفة ورجالها نشير إلى ما كان من تشجيعه لابن رشد وطلبه منه أن يشرح أرسطو، وسيجيء الحديث عن هذا بالتفصيل.
Unknown page
هذا، وكل تلك الأمور التي نسجلها هنا تدلنا بوضوح على تأصل الفلسفة في تلك البلاد، على كره من أهلها للفلسفة وما إليها بسبيل، حتى إنه لما عبر عبد المؤمن بن علي البحر إلى الأندلس وبايعه وجوهها، جلس للناس وللشعراء مجلسا حافلا، فكان أول من أنشده مادحا له أبو عبد الله محمد بن حيوس قصيدة له جاء فيها:
بلغ الزمان بهديكم ما أملا
وتعلمت أيامه أن تعدلا
وبحسبه أن كان شيئا قابلا
وجد الهداية صورة فتشكلا
28
وهذا دليل على أن بعض الأفكار الفلسفية وهي هنا المادة والصورة، قد تأصلت في الأعماق حتى جرت شعرا على ألسنة الشعراء، كما تدل هذه الأمور أيضا على أنه كما يقول «رينان» بحق: كل الجهود التي بذلت لهدم الفلسفة لم يكن منها إلا أنها أذكتها؛ فهذا سعيد الطليطلي يؤكد أن دراسات العلوم القديمة في زمنه (1068م) كانت أكثر ازدهارا من أي زمن مضى.
29
كما تدل كذلك على أن ابن رشد قد جاء بعد عصر عقلي كبير زاهر، وإن كانت هذه الدراسات وقفت في الأندلس فجأة لعوامل مختلفة، ومن هذه العوامل التعصب الديني والانقلابات السياسية، والحروب التي قام بها الفرنجة، حتى إنه بموت ابن رشد سنة 495ه/1198م، فقدت الفلسفة الإسلامية آخر ممثل ونصير لها.
الفصل الثاني
Unknown page
ابن رشد
حياته - نكبته - مؤلفاته (1) حياته
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، من أكبر فلاسفة الإسلام، الشهير بالشارح (أي: شارح أرسطو) وبالحفيد، ولد بقرطبة سنة (520ه/1126م) من أسرة لها منذ زمن طويل المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، فجده - ويعرف مثله بابن رشد - كان قاضي القضاة بالأندلس كلها، وأمير الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، ولم يصل بالصدفة لهذا المركز الخطير؛ فقد كان - كما يقول ابن بشكوال - فقيها عالما حافظا للفقه، مقدما فيه على جميع أهل عصره، وكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه،
1
إذ كان مع رياسته في العلم من أشهر أصحاب النفوذ والجاه في عهد المرابطين.
وبعد أن تقلد القضاء مدة غير قصيرة استعفى منه، فأجيب إلى طلبه، فتوفر على نشر كتبه وتواليفه ومسائله وتصانيفه، ومن أهم كتبه مجموع فتاويه المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس.
هذا جده؛ أما والده فكان له على ما يقال ما يشبه هذا المركز في العلم والقضاء، وقد ولد على ما يرويه ابن بشكوال سنة 487ه وتوفي سنة 563ه، ومن الأقوال المأثورة في شرفه ومنزلته أنه يكفيه أن يكون ابن ابن رشد الجد وأبا ابن رشد الحفيد! •••
وقد ولد فيلسوفنا سنة 520ه/1126م بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين، فقد روى المقري أنه «جرت مناظرة في مجلس ملك المغرب المنصور يعقوب، بين الفقيه أبي الوليد ابن رشد وبين الرئيس أبي بكر ابن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية؛ فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية.» ثم يختم راوي هذه المناظرة الطريفة الكلام بقوله: «وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا.»
2
نشأ ابن رشد في هذا الوسط العلمي، فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والتوحيد ونحوهما من العلوم الإسلامية، واستظهر على أبيه أبي القاسم «الموطأ» وهو الكتاب الأول والأساسي لمذهب الإمام مالك، فصار في ذلك كله وحيد عصره، ونال مع ذلك حظا وافرا من اللغة والأدب، فكان كما يقول ابن الأبار يحفظ أشعار حبيب والمتنبي، ويكثر غالبا التمثل بها في دروسه ومجالسه.
Unknown page
3
ثم درس الطب أيضا وكان يرجع إلى رأيه فيه كما يرجع إلى رأيه في الفقه، وله فيه كتابه المشهور «الكليات»، ألفه لما كان بينه وبين أبي مروان بن زهر من مودة وألفة وثيقة، والذي ألف في الطب كتابا في الجزئيات، وذلك لتكون جملة كتابيهما عملا كاملا في صناعة الطب.
4
ثم سمت همة ابن رشد إلى تعلم الفلسفة وعلوم الأوائل ، ووصل منها إلى ما لم يدركه سواه، «فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره.»
5
وقصارى القول: صار - كما يقول ابن الأبار - عديم النظير في الأندلس كمالا وعلما وفضلا، كما عرف بالعناية الشديدة بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حكي عنه أنه لم يترك الدراسة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة زواجه.
ويقول عنه «مونك» بحق: «إنه كان واحدا من أشهر العلماء في العالم الإسلامي، ومن أكثر شراح مؤلفات أرسطو عمقا، كما كان أحد مشاهير الكتاب وأكثرهم خصبا وإنتاجا، ولا عجب، فقد عاش كما يقول «رينان» في بيئة علمية عالية جمعت مشاهير عصره.» وكان يعينه في ذلك استعداد طيب كبير وطبع موات أصيل.
ولا نود أن نقف طويلا فيما يختص بسير ابن رشد في دراساته وتدرجه فيها عند العلماء والشيوخ الذين أخذ عنهم بالتفصيل؛ وذلك لأننا نعتقد أن الأمر جرى على سنة أمثاله، أي إنه أخذ العلم عن والده وشيوخ عصره المتميزين، فقد درس الفقه على والده، كما قلنا آنفا، وعن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سحنون، وغيرهم من شيوخ الفقهاء.
6
كما درس التعاليم (الرياضيات) والطب على أبي جعفر بن هارون الترجالي الذي لازمه مدة، وأخذ عنه كثيرا من العلوم الحكمية.
Unknown page
7
على أننا نوافق على ما ذهب إليه كل من «رينان» و«مونك» من نفيهما أن يكون ابن باجة من أساتذة ابن رشد في الفلسفة، وأن ابن أبي أصيبعة قد أخطأ حين ذكر ذلك في حياة ابن باجة،
8
فإن هذا قد توفي حين كان ابن رشد طفلا لما يجاوز الثانية عشرة من عمره.
ومن المؤسف ألا يكون ابن أبي أصيبعة قد أمدنا بتاريخ مفصل عن حياة فيلسوف الأندلس ودراساته، وقد كان هذا في مقدوره إذ كتب تاريخه «طبقات الأطباء» بعد وفاته بنحو أربعين عاما! ولعل السبب هو ما نعتقده من أنه قد جرى على سنة كثير من مؤرخي العرب من عدم العناية بالمرحلة الأولى من حياة المترجم؛ إذ لم يكن قد تبين بعد نبوغه .
ومهما يكن من شيء، فإنه من المعروف أن ابن رشد ولي قضاء قرطبة زمنا طويلا، ويدل لذلك وصفه نفسه في ابتداء بعض مؤلفاته أو نهايتها بأنه قاض، وكذلك يؤخذ من هذه المؤلفات أن مهام منصبه واتصاله بالخلفاء الموحدين أوجب أن ينتقل كثيرا ما بين مراكش وإشبيلية وقرطبة.
أما كيف اتصل بخليفة الموحدين الأمير يوسف بن عبد المؤمن، الذي ولي سنة 558ه، بفضل ابن طفيل الذي كان جليس هذا الأمير ومعنيا باجتذاب العلماء والفلاسفة إليه على ما تقدم ذكره، فهذا ما يقصه لنا فيلسوفنا نفسه كما يرويه عبد الواحد المراكشي؛ إذ يذكر أن تلميذ ابن رشد الفقيه الأستاذ أبا بكر بندود بن يحيى القرطبي أخبره أنه سمع الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: «لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال: ما رأيهم في السماء - يعني: الفلاسفة - أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
9
ثم كان ابن طفيل نفسه هو الذي طلب من ابن رشد أن يتوفر على تلخيص أرسطو وشرحه، وذلك في حديث جرى بينهما ذكره المؤرخ نفسه، وكذلك صادفت رغبة الخليفة شرح أرسطو ميلا شديدا لدى فيلسوفنا إلى هذا العمل الكبير، فشرع بكل عقله وقلبه في القيام بتحقيق هذه الرغبة بتوضيح أغراض أرسطو الغامضة، وتلخيص ما كتب، وشرحه ليقرب مأخذه ويسهل تناوله، وساعده على هذا العمل الشاق كما جاء في حديث ابن طفيل عنه، جودة في الذهن، وصفاء في القريحة، وميل شديد للفلسفة.
10
Unknown page
كان فيلسوفنا يشعر إذن بعظم المهمة التي ألقاها القدر على عاتقه، وبأن أعماله باعتباره رجلا من رجال الدولة تكاد لا تدع له الوقت الكافي للقيام بما شرع فيه؛ ولذلك نراه في آخر الجزء الأول من تلخيصه «للمجسطي» يقول إنه وجب عليه أن يقتصر في شرحه على إيراد النظريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، ويشبه نفسه برجل رأى فجأة النار تلتهم منزله، وليس لديه من الوقت إلا ما يلزم لاستنقاذ أثمن ما عنده من متاع وما لا غنى عنه للحياة.
كما نراه يخصص كل وقته ليؤدي كما ينبغي رسالته التي أخذها على نفسه، فيعتزل منصبه عند تقدم السن به، وذلك ليتوفر على أعماله الفلسفية خشية أن يحين أجله قبل أن ينتهي منها.
ولما توفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وولي الحكم بعده ابنه يعقوب الملقب بالمنصور سنة 580ه، نال ابن رشد لديه الحظوة والمنزلة التي كانت له لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه. •••
وقبل البحث في هذا، نرى أن في حياة ابن رشد حتى الآن ما يستدعي أن نقف وقفات قصيرة:
أولا:
لقد كان إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة على اختلاف موضوعاتها، وكان إلى ذلك من أشد الناس تواضعا، فهل هذا كان علة لذاك؟ يعتقد أن ذلك هو الحق، وأنه الذي يتفق مع طبائع الأمور.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم، ولو كان أمرها هينا، تاه بها وظن أنه قد أوتي من العلم ما لم يؤت غيره، وليس كذلك العالم الذي يتنقل من ضرب من ضروب المعرفة إلى ضرب آخر، وكلما فرغ من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، فهو دائما في كد عقلي وتعب فكري.
وخاتمة المطاف هي شعوره بقلة علمه، وإحساسه بعجز عقله عن أن يحيط بالكون كله: أراضيه وسماواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك ، والنتيجة الطبيعية والنفسية كذلك أن يغدو كلما عمق علمه لان جانبه واشتد تواضعه.
وثانيا:
إن الذين ترجموا له وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية، أي إن النظر العقلي والقياسي في الأحكام الفقهية كان أغلب عليه من الاعتماد على كل ما يقع له من الأحاديث، وأقوال الفقهاء السابقين، وهذا ما يتيح لنا أن نقرر أن نزعته إلى النظر العقلي والتفلسف بدت أول ما بدت في الفقه.
Unknown page