قالت بنبرة حافلة بشحن المغلوب على أمره: ماذا؟
قلت: بودي لو أستطيع فعلا أن أصغرك بطريقة ما وأحملك معي هنا في جيب صدري، وتصبحين معي أنى ذهبت.
وابتسمت في امتداد وقالت: تصغرني أكثر من هذا.
وضحكت فقد لمحت في إجابتها ذلك النوع الذي أعرفه جيدا من اهتزاز الثقة بالنفس، وكأنها خائفة أن أرى في صغر حجمها قبحا تريد أن تتأكد أني لا أراه كذلك، ولم تكن هذه عادتها، كانت دائما تتكلم وتتحدث وكأنها واثقة من نفسها جدا، أو واثقة على الأقل تلك الثقة التي تجعلنا نفقد الإحساس بأنفسنا وبما قد يكون فينا من عيوب.
ولأول مرة أحس أني - وأنا جالس معها - لست على عجل من أمري، ولست قلقا ذلك القلق المدمر الذي أحسب فيه كل حركة من حركاتي، وأعد لكل كلمة ما بعدها من كلام. لأول مرة أحس أني فعلا جالس على كرسي وأنها جالسة أمامي، وأن الوقت أمامنا فسيح ممتد، وأنها أبدا لن تطير، وباستطاعتي أن أقترب منها وأبتعد وأنا واثق تماما أنها طوال الوقت هناك في متناول يدي.
ولأول مرة رحت أمتص وجودها على مهل وأتملى في تقاطيعها التي ما كنت أبدا أستطيع أن أحدق فيها، كنت دائما لا أراها، إذا التقت عيني بعينها خفضت عيني، وإذا واجهتها وحدثتها يتشتت بصري حين يقترب من ملامحها. أعرف أنها موجودة، وأن هذا وجهها، وأعجز عن النظر إليها عجزنا عن رؤية قرص الشمس في منتصف النهار. وكم حاولت مرارا أن أتغلب على خجل نظري، وأرغم عيني على رؤيتها فلا أستطيع ولا تقوى عيناي على الصمود، وكأن كهارب خفية تصدر عن ملامحها وتحيطها بمجال محرم لا تملك عيني اختراقه. كنت أعرفها بإحساسي أكثر مما كنت أعرفها ببصري، حتى صوتها كنت وأنا أسمعه يصيب سمعي نفس الخجل، وأدرك بإحساسي فقط أنه صوتها، لم أكن أراها وأسمعها وأعرفها بعيوني وآذاني وحواسي، كنت أفعل هذا بأجزاء من عقله أكثر بدائية وعمقا، نفس الأجزاء التي كان يستقبل بها الكائن الحي المؤثرات من حوله قبل أن تخلق له العيون والآذان؛ ولهذا كنت أراها وكأنها شيء لا يمكن تحديده، إنسانة لا أراها بقدر ما أرى نفسي وهي تنجذب إليها، إنسانة لا أستطيع بالدقة أن أحدد أين أنتهي أنا وأين تبدأ هي.
هذه المرة رأيتها رأي العين، وتأملت تفاصيلها ببصر لا يشتته الخجل، ورحت أشاهد كل ما فاتني منها، رحت أرى لون عينيها وتسريحة شعرها وأذنها البالغة الصغر، وأفعل هذا وأنا أزداد إحساسا أنها أروع من كل ما خمنته عنها، وأنها وهي أمامي كائنا حيا منفصلا من دم ولحم وجمال وأعصاب، أكثر قربا مني والتصاقا بروحي من تلك الإنسانة التي لم أكن أعرف أين أنتهي أنا وأين تبدأ هي.
وسألت نفسي: هل أحاول الآن؟ وجاءتني الإجابة على غير استعجال: ولم الآن؟ أمامي الليلة كلها وغدا وبعد غد وعشر سنوات مقبلة، فيم العجلة وتلك هي اللحظات التي عملت الكثير من أجلها وترقبتها مئات الأعوام؟ هذا هو النصر، لماذا لا أرشفه ثانية ثانية، وأتلذذ بها قطرة قطرة، ككوب الماء المثلج بعد ظمأ متوحش مغتال؟
وسألتني عن لورا، سألت بطريقة تعمدت أن تكون عادية جدا، ولأول مرة أراها تبذل جهدا غير عادي لتكون عادية في سؤالها عن شيء. وشعرت لتعمدها وسؤالها بفرحة صبيانية رحت أكتمها في نفسي وأمنع انبثاقها، وأحس بها تسري في كياني كله وتسكرني، وأنتشي إلى درجة لا أحاول معها حتى أن أتقن تمثيلي وأن أقول عن لورا أشياء تبعث غيرتها، وحين ضبطتني مرة وأنا أتحدث عنها هكذا، وتلاقت نظراتنا، غمزت لها وضحكت، فضحكت هي الأخرى وتضرج وجهها باحمرار قرمزي كنت أراه لأول مرة، لا شك أنه لون خجلها، خجلها الذي أمضني انتظاره ودوخني التلهف عليه.
ووجدتها تتحدث بلا مناسبة عن شوقي، وعن طرقه الفكهة المرحة في تناول الناس والحوادث، وعن النوادر التي حدثت لها معه.
Unknown page