وكان من المحظور في سورية في قرون كثيرة أن تجاوز غابة أرز وأن تقطع أشجارها . وكانت توجد في إيطالية، الأقل خضرة في زمن الرومان مما في زمن الإتروريين، أجزاء كثيرة الغاب أيام المسيح، وعن صقلية كتب ديودرس قوله الجميل: «إن بساط الأزهار في الغابة كان من الكثافة والرائحة العطرة ما كانت الكلاب السلوقية تضيع معه أثر الطريدة.» وكان حس الطبيعة في الأمة يظل حيا على الرغم من كل شيء، فحفظت غابات مقدسة حتى القرون الوسطى، واليوم أيضا يمكن أن ترى على جبل أتوس شجرة سرو غرسها رهبان بزنطيون سنة 859، وحفظ نابليون بالقرب من سوما في لنباردية شجرة سرو قديمة أخرى تثني طريق سينبلون؛ لأن سلفه قيصر كان قد شاهدها على ما يحتمل.
وقد حفظ أروع مصير لشجرة السرو التي غرسها زرادشت في خراسان قبل الميلاد بستة قرون على ما يحتمل، ولم يزل يوجد لأشجار السرو في ذلك الزمن تيجان من فروع عريضة، ثم استطالت شيئا فشيئا وتعودت نورا أشد شعاعا. ولما فتح العرب فارس حوالي سنة 1000 أمر أحد الخلفاء بقطع الشجرة المقدسة فنقلت إلى بغداد على ملاسات
19
مقطعة الساق مع حمل 1300 جمل لأغصانها، فاستفظع الشعب ذلك وقتل الخليفة. ولا ترى بين جميع أنواع القتل والاغتيالات، التي أصيب بها ملوك أقوياء للبحر المتوسط في ألفي سنة، ما انتقم به من عمل تعصب بمثل ذلك الطراز الدرامي الباهر حول شجرة غرسها مؤسس ديانة أجنبية منذ خمسة عشر قرنا. ولم تكن الأديان التي ظهرت في الصحراء ذات رفق بالأشجار مع أن برابرة الشمال كانوا يعبدونها، والأغارقة وحدهم هم الذين كانوا يحترمون الطبيعة من غير أن يكونوا من البرابرة.
ومع ذلك فإن حبهم للمغامرات والتجارة واجتذاب البحر لهم قد حفزاهم مؤخرا إلى قطع شجر الغاب في سواحلهم كما حفز ملاحين آخرين. وما بين البر والبحر من صراع؛ أي ما بين أيدي الناس من اصطراع العناصر الفاجع، كان يعطي البحر ما يؤخذ من البر؛ أي إنه ينتفع بالخشب في صنع السفن، وما كان يمكن نقل ذلك الخشب من داخل البرور إلى الساحل، وذلك لعطل الأنهار، المتوسطة بين العنصرين، من الماء في الغالب، ويا لعيب الدائرة في كون الجفاف يزيد كلما قلت الغابات! وكان القرطاجيون أول من ضحوا بالظل والخضل
20
في شواطئهم لإنشاء أسطول، وهم إذ كانوا يبحثون عن فوائد جديدة باستمرار فإنهم كانوا يضحون بما هو قريب مؤكد في سبيل غايات بعيدة غير مؤكدة.
وقد نسيت أثينة أمر مستقبلها عندما جردت غاباتها كما نسيت أمريكة بعد زمن طويل، ومن الرمز قطع الأثنيين لغاب جزرهم حتى ينشئوا أسطولا ضد سرقوسة ما دام زهوهم القومي يقودهم إلى دمارهم، والواقع أنه قضي على أمل الأغارقة في سيادة العالم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد بسبب قطع الغاب ذلك على ما يحتمل. واليوم لا تزال غابة سيلا في قلورية من الشواذ والرموز؛ وذلك لأن الغابات القديمة هنالك، بجوار كوزنزه، وعلى بعد 1200 ميل من المدن الكثيرة الأشغال، وحيث لا يستطيع أحد أخذ شجر، تظل سليمة دوما فيحفظ بعضها بعضا منعمة على التراب بالخصب، وما فتئ الطلاينة يجلبون خشبهم من الدانوب ومقدونية وبنطش حتى زمن متأخر.
وكل نظام للري في بلاد البحر المتوسط ذو صلة وثيقة بقطع الغاب ذلك مع اختلاف بين بلد وآخر. وتشتمل إيطالية على غاب قليل وحجر كثير، ومن ثم كان قيام القرى في إيطالية بالقرب من المحاجر، وذلك مع تفضيل السفح على السهل؛ وذلك لأن أمر الملايين من الناس يتوقف على ماء المطر الذي يجمع في صهاريج أو على السطوح. وفن إنشاء الأحواض أساسي في إسبانية، ويهدف هذا الفن إلى توزيع الماء توزيعا متساويا كما يهدف إلى طريقة جديدة في رصف التراب، وقد انتشر هذا الفن في شواطئ كثيرة من شواطئ البحر المتوسط، وقد أنقذت إيطالية الحجرية الجافة بفضله في زمن زادت فيه كثافة السكان، وقد أعطت الأرض التي بللت بلا مصنوعا بالقرب من ملشيا 37 حبة في مقابل الحبة الملقاة فيها، وقد أعطت حديقة البرتقال البالغة من المساحة هكتارا والمروية ريا مصنوعا بالقرب من بلنسية عشرة آلاف دولار. ومن يسافر من خلال لنباردية، من هذا البلد الذي زرعه قيصر بالأرز، يدرك بسهولة كيف أن الناس يتصورون إصلاحا جديدا في الأرض الفقيرة فقرا طبيعيا فيزيد فقرها هذا بسبب نقص السكان.
ومن الأمم من انتهت إلى الكمال في علم الري حين مكافحتها العناصر وعند مقاومتها أهواءها الخاصة. ومن ذوي الطبائع الفردية من هم مفعمون بالمتناقضات فاستنبطوا من ضعفهم وسائل دفاع وبلغوا من إنماء هذه الوسائل ما يتخذون معه نماذج لذوي الطبائع الأكثر موهبة.
Unknown page