وبما أن زيادة قطع الغاب من سواحل البحر المتوسط قد حملت السكان على تمثل علم للمياه مختلف عن النظم القديمة التي ينتفع بها في وادي النيل، فإن من الممكن، عند آخر تحليل، أن يرد فن الري إلى قطع الغاب ذلك.
11
تم حادث مهم حاسم، اتسع نطاق استيلاء البرابرة على شواطئ البحر المتوسط في ثلاثة قرون، ومن المتعذر أن يناط ذلك ببضع معارك وببعض التواريخ، كما يتعذر عزو ما يسمى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى مثل هذه العلل. والحق أن الإمبراطوريات لا تبيد إلا نادرا وأن الأمم لا تفنى أبدا وإنما تختلط بأمم أخرى، والحق أن الرومان واليهود، والهنود أيضا، لم يزولوا، وإنما امتزجت الأمم الغالبة بالأمم المغلوبة مستغرقة آدميين وتقاليد مجاوزة دور انتقال تدريجي حيث يسجل المؤرخ بدء العهد الجديد راسما خطا أفقيا، وليس في غير الحياة الروحية ما ترى للمبدأ الجديد تأثيرا مبتكرا من فوره. أجل، يمكن دماغ عالم وحده، يمكن دماغ شاعر وحده، أن يبرز سقوط جيل وقيام جيل آخر، ولكنك لا ترى فاتحا، أو رحيل شعب، يستطيع صنع ذلك.
وقد غاب بسرعة عظيمة كل ما حاوله القوط والوندال والفرنج وقبائل الألمان والهياطلة
21
واللنبار بالتعاقب، أو عن تنافس، لفتح البحر المتوسط، ولم تزل الأمم التي قهروها قط، وبما أن الغزاة لم يأتوا بشيء معهم تقريبا، وبما أنهم انتحلوا كل شيء، فإن تمدنهم ودمهم امتزجا بتمدن القرون القديمة وتمدن النصرانية ودمهما. وما يحدث عنه في الغالب من سقوط الإمبراطورية الرومانية لم يكن في الحقيقة غير مشيب بطيء لبنيان سياسي انحل إلى عناصر أكثر فتاء، وما أمر الإمبراطورية الرومانية بين القرن الثالث والقرن السادس إلا كملك الأسطورة الغني الذي زوج بناته العشر بأمراء عشرة من الأجانب محاربين مهددين تاركا أقساما من مملكته لورثته المتطلبين مع إبقاء الجميع مجتمعا بفضل حيويته.
وأول المدعين بالإمبراطورية الرومانية كان أخطر الطامعين، وكانت قبائل القوط قد وصلت من إسكندينافية كما وصل النورمان بعد زمن، وكان القوط من الملاحين في بدء الأمر، ثم صاروا يسافرون على طول الأنهار في جنوب روسية فأصبحوا ملاحين على البحر الأسود، ويرجع تقسيمهم إلى فيزيغوت وأستروغوت (أي قوط الغرب وقوط الشرق)، تقسيما كرر بعدئذ في إيطالية وإسبانية، إلى دور هجرة الروس التي قسم نهر الدنيبر في أثنائها هذه القبائل البدوية. وكان إمبراطور رومة من أصل عربي للمرة الأولى حين وصولهم إلى مصاب الدانوب حوالي سنة 250 وظهورهم جيرانا للرومان، وكان اسمه فليب العربي. وقد بدأت غزوات العرقين الكبرى التي كدرت سلم البحر المتوسط نحو ألف سنة بصراع رمزي.
وكان يوجد قبيل ذلك الدور ستة أباطرة للرومان في سنة واحدة، وقد ادعى في القرن الثالث أكثر من خمسين رجلا، ومعظمهم من الجنود، بحق السيطرة على الإمبراطورية الرومانية، وإذا عدوت اثنين منهم وجدتهم قد ماتوا موتا فاجعا.
وينم اثنان من النقوش البارزة التي تعود إلى ذلك العصر تقريبا على درجة ارتجاج الإمبراطورية بفعل اندفاع غزاة من البرابرة، وقد صور البرابرة على ناووس بأنهم ملتحون غير مسلحين لابسون دراريع معتمرون بمثل قلانس اليعاقبة، وبجانبهم يبدي وجوها حائرة شبان من الرومان حسنو المنظر لابسون بزات أنيقة وخوذا، وتبدو على هؤلاء الشبان ملامح رجال «ديوان الخارجية» الأماجد في الوقت الحاضر فيظهرون ضالين بين عمال. وأما النقش الآخر فمنقور على صخرة فارسية، وهو يعرض إمبراطورا رومانيا أسيرا عبدا لملك الفرس. وقد غدا الارتباك الذي نجم عن انتخاب الأباطرة من قبل الكتائب الرومانية في البلاد البعيدة من الشدة ذات يوم ما فوض معه الجنود الحيارى أمر اختيار الإمبراطور الجديد إلى مجلس سنات رومة القديم الذي لم يكن له من الوجود غير طيف منذ ثلاثة قرون.
وقد تعاقب العرش حتى أواخر القرن الثالث رجلان قويان؛ أي ضابطان إيليريان من أصل وضيع، وقد مثل أحدهما، أوريليان، دور الملك الشمس لاتخاذه الشمس إله الإمبراطورية وانتحاله على النقود لقب «الإله والسيد مولدا»، وقد حول رومة إلى قلعة فلم يسبقه إلى ذلك أي روماني كان، وما رفعه في ذلك الحين من سور يمكن أن يرى تحت أشجار السرو عند باب سان باولو مشابها نقشا قديما. وإذا نظر إلى أوريليان كقائد وجد محافظا فأطفأ في الولايات فتنا كثيرة، وإذا نظر إليه كإمبراطور وجد مبدعا، فهو إذ رغب في اتخاذ مظهر فخم كمظهر الفراعنة وملوك الفرس فقد لبس تاجا شرقيا وثوبا زاهيا مطرزا بالذهب، وكان أول من صنع ذلك.
Unknown page