Badr Shaker Al-Sayyab: A Study of His Life and Poetry
بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره
Publisher
دار الثقافة
Edition Number
الرابعة
Publication Year
١٩٧٨
Publisher Location
بيروت - لبنان
Genres
بدر شاكر السياب
دراسة في حياته وشعره
1 / 1
مقدمة
حاولت في هذا الكتاب أن أتحدث عن السياب في إطار من الشئون العامة والخاصة التي أثرت في نفسيته وشعره، ولهذا آثرت طريقة تجمع بين التدرج الزمني والنمو (أو التراجع) النفسي والتطور (أو الانتكاس) الفني، فكان السياب الإنسان والسياب الشاعر معا دائما عل المسرح المكاني والزماني، ذلك لأني أرى أن هذه الطريقة توسع مجال الرؤية لدى القارئ لأنها تقدم له زوايا ثلاثا لا زاوية واحدة. وأنا أعلم أن كثيرا من الناس يضيقون ذرعا بالاحتكام المستمر إلى التاريخ، ولكن هؤلاء ينسون أن التاريخ صورة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية على الأرض، وأن دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا تعني انتقاصا من سماته الفنية، خصوصا حين يتفق الدارس والقارئ على أن ذلك الشعر كان جزءا من الحركة الكلية في التطور الجماعي، بل كان عاملا هاما في تلك الحركة، ولم يكن كله تهويما في دنيا الأحلام الدانية. كذلك فان دراسة دخائل النفس لا تعني
1 / 3
تشخيص " المرض " لدى الفنان من اجل التحليل النفسي ذاته وإنما هي وسيلة لفهم طبيعة المنابع التي فاض الشعر عنها. وقد خضع السياب في وقفته التاريخية والنفسية لعوامل عنيفة تركت آثارا عميقة في شعره ومن كان لا بد لاستبانة تلك الآثار من دراسة تلك الوقفة في موكب الجماعة وفي عزلة الذات على السواء. وكل فصل للشعر عن ذلك الموقف قد يعرض الدارس للتجريد أو للأخذ بالعموميات.
وقد بذلت جهدا غير قليل لأبرئ هذه الدراسة من التعميمات ومن انتحاء اللغة الشعرية الفضفاضة التي طغت على مناهج النقاد في هذه الأيام، ذلك لأني أومن إيمانا لا يدركه أي اضطراب بأنا حين نملك زمام الحقيقة نستطيع أن نعبر عنها بوضوح، وأننا حين نجد الحقيقة غائمة في نفوسنا نلجأ إلى المجازات، وأدهى من ذلك أن لا تكون لدى الناقد " حقيقة " يريد أن ينقلها إلى الآخرين فيهيم وراء عبارات شعرية سابغة الذيول يجرجرها لإثارة الغبار
1 / 4
ظانا بذلك ان تصاعد الغبار وحده كاف للدلالة على الفارس والفرس. وكذلك فإنني تعمدت ألا أمنح الشاعر الذي أدرسه نصيبا من المستوى الفكري والإنساني والنضالي اكبر مما يستطيع شعره نفسه أن يصوره لأني أكره أن أمنح أي شاعر " مركبا " فكريا لم يدر في خلد ولا يمكن أن يستنتج من شعره. وفي مثل هذه الدراسة المطولة تصبح المقارنات عبئا غير صغير، رغم إنها مفيدة في توسيع الآفاق وتوجيه الأنظار إلى المعالم المشتركة والمظاهر الهامة، ولكني لست ادرس الشعر الحديث في هذا الكتاب وإنما أحاول التركيز قدر المستطاع على شعر شاعر واحد هو السياب، ولهذا وحده لم يلجأ إلى المقارنات إلا نادرا.
وكنت اعد هذه الدراسة لتظهر قبل هذا الوقت بكثير، إذ كان معظم مادتها جاهزا ليدون في فصول قبل سنتين تقريبا. ولست احب أن اثقل على القارئ بالحديث الذاتي عن الشئون العامة والخاصة التي حالت دون ما أملت، وبعض تلك الشئون قد جعلني؟ فترة من الزمن
1 / 5
أشك في قيمة أية دراسة نظرية وأنا مشتت النفس تحت دوي الدعوة الملحة إلى الكفاح العملي المصيري؛ يكفي أن أقول أن كتبا ومقالات كثيرة ظهرت عن السياب في أثناء ذلك، وقد طالعت كل ما وصل إلي منها مطالعة مستفيد، ولمنها كانت متفاوتة في قيمتها وفي منحاها: فبعضها تأبيني لا تتطلبه هذه الدراسة، وبعضها نقدي إلا أنه لا يتلاءم والمنهج الذي اخترته، وبعضها أخباري ولعله كان أكثرها نفعا لأنه يقوي أجزاء الصورة التي أبنيها أو أضيف إليها.
وكثيرا ما وقفت وأنا اكتب هذا البحث لألقي على نفسي هذا السؤال: لماذا أتصدى لكتابة ما يحسنه كثيرون غيري؟ ممن عرفوا السياب وعاشروه - اكثر مما أحسنه؟ ثم تتضاءل حدة السؤال حين أذكر أن كثيرا من أولئك الناس لم يضنوا علي أبدًا بجميع الوسائل والأدوات التي تمكنني من القيام لهذا العمل بل قدموها إلي راضين مشجعين. ولولا الشهادات الشفوية والوثائق الخطية التي حصلت عليها لم يتح لهذه الدراسة ان تتم على هذا الوجه
1 / 6
فأنا مدين بواجب الشكر لعدد كبير من الأصدقاء:
وفي طليعة هؤلاء، الشاعران: الأستاذ خالد الشواف والأستاذ علي أحمد سعيد (أدونيس) والدكتور سهيل إدريس فانهم جميعا قدموا لي ما في حوزتهم من رسائل السياب؛ وتلطف الأستاذ الشواف من بينهم فأرفق الرسائل بملاحظات تفسيرية قيمة، ونزولا على رغبته الكريمة أغفلت التصريح بأسماء من كان السياب يتغزل بهن، كما أغفلت ذكر أسماء أشخاص كان يشير إليهم في تلك الرسائل، ولم أخالف هذه الرغبة إلا مرة واحدة حين ذكرت اسم محبوبته الريفية؛ والأستاذ محمد علي إسماعيل صديق السياب الوفي، والأستاذ نجاح السياب إذ سمحا بتصوير ما لديهما من قصائد للسياب لم ينشر بعضها. والأساتذة: الشاعر الكويتي علي رفيق السياب في فترة استشفائه بالكويت، والدكتور عبد الله السياب ومصطفى السياب شقيقا المرحوم بدر، وعبد اللطيف السياب ابن خاله الذي كان رفيقا له في المرحلة الدراسية بالبصرة، فإليهم يعود
1 / 7
الفضل فيما تجمع لدي من شهادات شفوية؛ ومحمود يوسف الذي سمح باستنساخ دفتر يحتوي عددا من الموضوعات الإنشائية بخط السياب؛ ومحمد عبد الجبار المعيبد مدير ثانوية القرنة لأنه أذن بتصوير قصيدة " فجر الإسلام " من نسخة محفوظة بمكتبته؛ والصديق عبد الرزاق الهلالي الذي أرسل إلي نسخته الخاصة من كتاب الأستاذ عبد الجبار البصري عن السياب، والصديق الأديب خضر الولي الذي أمدني بعدد غير قليل من المؤلفات العراقية وخاصة كتاب الأستاذ محمود العبطة المحامي.
ولست أنسى الجهد المشكور الذي بذله صديقي الحميم الدكتور محمد الصفوري والأستاذ حسن عباس في استيفاء بعض المعلومات اللازمة عن مرض السياب وعن فترة إقامته الأخيرة في الكويت.
وأخيرا لا آخرا فان هذه الدراسة مدينة بأكبر الفضل لشباب ضحى في سبيلها بقسط كبير من راحته ووقته وهو يجمع المادة اللازمة متنقلا بين بغداد والبصرة، اعني ابن
1 / 8
أختي البار الوصول السيد فتح الله احمد عباس الذي لولا جده وحماسته في الجمع والتقيد وتصوير الأصول الخطية والمنشورة في الصحف، ومقابلته لكل من يستطيع أن يمده بمعلومات عن الشاعر الراحل لم أستطع أن أقوم بعبئها.
إن المعاونة الكريمة التي تلقيتها من هؤلاء الأصدقاء جميعا كانت عاملا هاما في إنجاز هذا البحث، وقد كنت أحس انهم قد أولوني ثقتهم حينما بذلوا ذلك العون، وكل ما أرجوه أن يكفل هذا الكتاب الحفاظ على تلك الثقة الغالية، فإنها طريق إلى مزيد من الثقة لدى سائر القراء، والله الموفق.
بيروت في ٢٠ نيسان ١٩٦٩
إحسان عباس
1 / 9
- ١ -
البحث عن النخلة
1 / 15
- ١ -
أحجار جيكور
على امتداد شط العرب إلى الجنوب الشرقي من البصرة، وعلى مسافة تقطعها السيارة في خمس وأربعين دقيقة تقع " أبو الخصيب " التي تمثل مركز قضاء تابع للواء البصرة يضم عددا من القرى، من بينها قرية لا يتجاوز عدد سكانها ألفا ومائتي نسمة تقع على ما يسمى " نهر أبو فلوس " من شط العرب وتدعى " جيكور "، تسلك إليها في طريق ملتوية تمتد بالماشي مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبي الخصيب، وهي الزاوية الشمالية من مثلث يضم أيضا قريتين أخريين هما بقيع (بكيع) وكوت بازل؟ قرى ذات بيوت من اللبن أو الطين، لا تتميز بشيء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبي، فهي عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لأسراب الغربان أن تردد نعيبها فيها، وعند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البيادر تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف، وتغدو مجالا للنوارج في فصل الصيف، فكل امرئ يعمل في الزراعة، ويشارك في الحصاد والدارس، ويستعين على حياته بتربية الدجاج أو الأبقار، ويجد في سوق البصرة مجالا للبيع أو المقايضة، ويحصل على السكر والبن والشاي وبعض الحاجات الضرورية الأخرى لكي ينعم في قريته بفضائل الحضارة المادية، وإذا كان من الطامحين إلى " الوجاهة " فلا بأس أن
1 / 17
يفتح " ديوانا " يستقبل فيه الزائرين من أهل القرية أو من الغرباء ليشاركوه في فضائل تلك الحضارة المادية.
واكثر سكان جيكور إن لم نقل جميعهم ينتمون إلى عائلة واحدة هي آل " السياب "، وتمتد منازل بعضهم إلى بقيع حيث تجاورهم عائلات أخرى تربطهم بها صلة المصاهرة، أما كوت بازل فان آل السياب ينظرون إليها بنوع من الشنآن الناجم عن أحقاد وترات قديمة، ولذلك كانت الروابط بينها وبين جيكور واهية أو عدائية. وحين ندرس مواقع هذه القرى الثلاث في شعر بدر نجد كوت بازل؟ للسبب المتقدم - ممحوة مطموسة المعالم، ونجد " بقيع " باهتة تتضاءل أمام لألاء " جيكور: التي كانت منزلا لجد السياب لأمه، ففيها نشأت أمه " كريمة "، واليها كانت تتردد حتى ادركتها الوفاة.
وحين زفت كريمة إلى شاكر السياب؟ وهما ابنا عم - انتقلت من جيكور إلى بقيع وعاشت في البيت الكبير؟ بيت العائلة أو بيت الجد - عبد الجبار مرزوق السياب - وأبنائه عبد القادر وشاكر وعبد المجيد واخواتهم، وهو بيت أساسه مبني بالطابوق وسائره بالبن، وواجهته الشارعة على المجتمع القروي " ديوان " يفي الناس إلى ظله حيث يرتشفون القهوة والشاي ويتبادلون الأحاديث المختلفة، ويتناقلون الأخبار، وفي أمسيات رمضان يتحلقون حول قارىء أو رواية يقص عليهم قصة فتوح الشام أو يقرأ في سيرة عنترة أو غيرها من " ملاحم " شعبية تغذي مشاعر الريفيين، وتنقلهم من عالم الكدح وراء الرزق إلى دنيا البطولات؛ وكثيرا ما كانوا ينصتون إلى حديث مرزوق السياب (جد شاكر) وهو يتحدث اليهم عن نابليون الثالث وعن العرب في إيران وعن موضوعات أخرى أصبحت شريطا طويلا من الذكريات التي لم تفارق مخيلة والد الجد في سن كبيرة (١) . ولو أتيح لك أن تزور ذلك
_________
(١) توفي مرزوق (جد والد الشاعر) عن سن كبيرة سنة ١٩٣٦.
1 / 18
" الديوان " في أعقاب ١٩٣٠ لعلق نظرك بثلاث صور بين الصور الكثيرة التي كانت تزين الجدران هي صورة كل من أبي التمن وسعد زغلول وكمال اتاتورك، وهم جميعا يعدون طلائع حركات تحريرية أو على الأقل ما كان يعرف بالحركات التحريرية في ذلك الأوان؛ واذن لوجدت أن جو الديوان لا يعلق برائحة البن والشاي وحدهما، وإنما يتموج فيه دخان نقمة على الاحتلال المقنع بقناع الاستقلال، وميل إلى الثورة على الظروف السائدة. وكان اللسان المعبر عن تلك النقمة هو عبد القادر السياب، أكبر الاخوة من أبناء عبد الجبار، ولذلك فانه سرعان ما وجد نفسه عضوا عاملا في حزب سري، أطلق أعضاؤه على أنفسهم أسم " الحزب اللاديني " واخذوا يعقدون اجتماعاتهم في ذلك " الديوان " نفسه، وينشرون مقالاتهم في صحيفة لبنانية اسمها " الشمس " (١) .
ورزق شاكر وكريمة ثلاثة من البنين وبنتا واحدة توفيت كريمة بعد وضعها ثم لحقتها الطفلة بعد قليل (سنة ١٩٣٢)، فلم ينعم بدر؟ وهو ابنها الأوسط بين عبد الله ومصطفى - في ظل أمومتها إلا قرابة ست سنوات (٢)، كان في أثنائها شديد التعلق بها، يصحبها كلما حنت إلى أمها في جيكور فخفت لزيارتها، أو قامت بزيارة عمة لها تسكن عند نهر " بويب " ولها على ضفته بستان جميل، يحب الطفل ان يلعب في جنباته أو يقطف من ثماره في ابان الثمر؛ وكثيرا ما كانت الام تذهب إلى أرض والدتها الواقعة على بويب أيضًا، فكان عالم الطفل الصغير يومئذ هو تلك الملاعب التي تمتد بين أحياء جيكور ومزارع بويب، وربما بقي هذان المكانان نصيبه من الحياة حتى النهاية، فبينهما غزل خيوط عمره وذكرياته وأمانيه، ومزج ثراهما بدموعه، وفي أعماق قلبه
_________
(١) الحرية، العدد ١٤٤١/ ١٤ آب ١٩٥٩.
(٢) ولد بدر سنة ١٩٢٦.
1 / 19
حفر لهما صورة لا تنسى، وكان كلما مضى يشق دروب الحياة مثلا أمامه شاخصين يوهنان من عزمه ويردانه إلى الماضي ويجرانه إلى حلم طويل. وكان مما زاد في تعلقه بهما انه دفن في ثراهما أمه، فأصبح هذان المكانان هما الطبيعة - الأم، مجازا وحقيقة، وازداد إمعانًا في توثيق الوشائج بين قلبه وقلبيهما حين خيل إليه أن أباه قد أساء إلى علاقة مقدسة بزواج ثان، وشغل بزوجه الجديدة عن أطفاله، فدفع بالطفل إلى مزيد من التعلق بعرق الثرى، وفترت علاقته بوالده الذي يمثل الجحود والعصا وصوت المؤدب، ومضى يبحث عن أمه فوجد صورتها وقلبها الطيب في جدته التي تعيش في جيكور، وهكذا تضاءلت صلته ببقيع، فلم يكن يذهب إلى بيت أبيه إلا لماما، وكان أبوه يعتد هذا جفاء وإعراضا، لأنه كان يرجو لو أن أولاده ظلوا في كنفه وكنف " أمهم " الجديدة.
ولجيكور ميزة أخرى على بقيع لأن الطفل يحس كلما ذهب إليها انه منفرد أو كالمنفرد بعطف جدته وحنانها، أما بقيع فليست هي تجسيدا لزوجة الأب وحسب، بل أن بيت العائلة فيها يعج عجيجا بالناس من كبار وصغار ويلتقي فيه ثلاثة، وتحنو فيه كل أم على أطفالها، دون أن تجد متسعا في قلبها لطفل غريب، ويكبر الشعور في نفس الطفل؟ في ذلك الدور الغض - بأنه محروم مطرود من دنيا الحنو الأمومي، ولذا فهو يفر من بقيع فراره من الوحش الهائل الذي يكاد ينشب فيه مخالبه، وينأى عن ذلك الصخب الكثير، إلى طرفة تدسها جدته في جيبه، وقبلة تطبعها على خده، وابتسامة تنسيه ما يلقاه من عنت أو عناء.
والصخب يشتد في البيت الكبير الذي تتلاقى فيه الأجيال المتفاوتة
1 / 20
حين تضيق الحال المادية بين أهله، ولا يجد الفرد فيه متنفسا لأحزانه وآلامه سوى التسخط على هذا التصرف أو ذاك، والحنق على هذا الشخص أو ذاك، ويصحب ذلك من شئون الصراخ و" النتر " ما يؤذي شعور طفل مرهف الإحساس؛ وقد كان آل السياب يعدون في بقيع ثالث ذوي الأملاك، وكانت أملاكهم مشتركة فيما بينهم يتقاسمون غلتها، ويقول بدر: " لقد تحدرت من عائلة تملك بستانين للنخيل يشتغل فيها فلاحون يتقاضون الثمن من النتائج " (١)، ولكن هذا القول يشير إلى بقية " عز " قديم، إذ أن العائلة بعيد أن جاء بدر إلى هذه قد تورطت في مشكلات كثيرة ورزحت تحت عبء الديون، فبيعت الأرض تدريجيا وطارت الأملاك ولم يبق منها إلا القليل؛ وحين كان بدر في صباه الباكر كان والده لا يملك شيئا ولا يعمل شيئا وإنما يعتمد في رزقه على أخويه. وكل ذلك ينبئ عن أن الضيق المادي في العائلة الكبيرة؟ وهو ضيق متدرج حتى نشوب الحرب العالمية الثانية - كان يخلق النكد في جو البيت، ويؤدي إلى إهمال الأطفال أو التقصير في تلبية مطالبهم، ولهذا كان بيت الجدة في جيكور ارحب صدرا وأوسع أكنافا وابعد - نسبيا - عن شئون النكد والتنغيص.
غير أن الشاعر حين يتحدث من بعد عن بيت العائلة في جيكور فإنما يعني البيت الذي ولد فيه وعاش فيه سنوات الطفولة في ظل أمه، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر في جنباته، وهكذا ينبسط اسم " جيكور " على القريتين، إذ ليست " بقيع " في واقع الحال الا حلة من جيكور، وقد دعاه الشاعر في إحدى قصائده المتأخرة " بيت الاقنان " وجعل عنوان القصيدة عنوانا لديوان كامل، وهي تسميه غريبة حقا، سنرجئ الحديث عنها، لنتولى القول فيها حين يحين
_________
(١) الحرية: ١٤٤١.
1 / 21
موعدها، ولكن لا بد لنا من أن نشير إلى أن بعض الصحفيين زاروا هذا البيت في عام ١٩٦٥ وكان مما قالوه في وصفه: " البيت قديم جدا وعال، وقد تحللت جذور (!) البيت حتى أصبحت كأسفل القبر، والبيت ذو باب كبير حصن كتب عليه بالطباشير اسم: عبد المجيد السياب، وهو الذي يسكن الآن في الغرفة الوحيدة الباقية؟ كان البيت قبل عشر سنين يموج بالحركة والحياة؟ أما سبب هجر عائلة السياب لهذا البيت أو بالأحرى لجيكور فهو بسبب ذهاب الشباب إلى المدن بعد توظيفهم " (١)؛ لقد انتصرت المدينة على القرية، رغم مقت بدر لهذا الانتصار، ولكنها سنة الحياة وشرعة الإنسان الذي تعود أن يطلب الرزق عند تزاحم الأقدام.
_________
(١) جريدة الثورة العربية، بغداد (العدد: ١٨٤ - ٢١ شباط ١٩٦٥) .
1 / 22
صورة
1 / 23
صورة السياب سنة ١٩٣٤
1 / 24
- ٢ -
صورة وذكريات
غلام ضاو نحيل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدير كحبة الحنظل، على عنق دقيقة تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدب متدرج أنف كبير يصرفك عن تأمله أو تأمل العينين الصغيرتين العاديتين على جانبيه فم واسع، تبرز " الضبة " العليا منه ومن فوقها الشفة بروزا يجعل انطباق الشفتين فوق صفي الأسنان كأنه عمل اقتسامي، وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه " الحنطي " فتدرك أن هناك اضطرابا في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه بقية علامة استفهام مبتورة، وبين الوجنتين الناتئتين وكأنهما بدايتان لعلامتي استفهام أخريين قد انزلقتا من موضعيهما الطبيعيين.
ولو حفظ المرء حكمة " ضمرة بن ضمرة " التي يقول فيها: " إنما المرء بأصغريه، وإن لا تكال بالقفزان " وكررها على نفسه عشرات المرات، لم تغنه شيئا كثيرا عما يعتقده الناس إذا هم طالعوه منظره، وخاصة حين يبكون الأمر بحثا عن الطريق الموصلة إلى قلب المرأة.
وقد كان من شقاء بدر الذي ورث الضعف الجسماني عن أبيه أن انفق حياته القصيرة منذ أدرك الحلم إلى أن مات، وهو يبحث عن القلب
1 / 25
الذي يخفق بحبه، دون أن يجده، وكان افتقاره إلى الوسامة هو القفل المصمت على القلوب العديدة التي حاول ان يفتحها، وكم استأنس بومضة عين، ونسخ من شعاعها قصة حب يخدر بها اخفاقه، ولكنه كان في قرارة نفسه واعيا بأن الحب في كل مرة كان من جانب واحد.
وشوشة المراهقة في أذن بدر وحسيسها وهي تنساب في أعصابه، وألسنة لهيبها وهي تحرق زرع سكينته، هي التي جعلته يميز أبعاد الألم والحرمان والاخفاق، ويستسلم إلى السوداوية والدموع والحسرة واللهفة. غير أن المراهقة تمثل نهاية وبداية؟ نهاية لما قبلها وبداية لما بعدها؛ ومن الخطأ ان تتجاوز سنوات الطفولة والصبا الأول بهذه السرعة لنركز القول في الفترة المراهقة وما بعدها. لكن من يدرس حياة بدر يضطر إلى ذلك لأن الذين عايشوه لم يعودوا يذكرون منه إلا الشاعر المشهور؛ وهو نفسه حين يعود إلى ماضيه الأول لا يتذكر إلا أمورا بارزة منها فقد الأم وزواج الأب من امرأة أخرى؛ وفي إحدى الرسائل يقول السياب انه حرم عاطفة الأمومة وهو ابن أربع (١)، غير ان أخاه مصطفى يذكر ان والدتهما توفيت سنة ١٩٣٢، فإذا لم يكن الأمر سهوا من مصطفى فان " تصغير " بدر لسنه يدل على إمعانه في إثارة الشفقة على حال قلوب عارفيه. ويذكر بدر من أيام طفولته الأولى كيف بكى حينما قتل أحدهم كلبة ذات جراء وكان اكثر ما أبكاه منظر جرائها اليتامى؛ كما يذكر عطفه على زنوبة التي كانت تخدم في منزلهم حين سرقت حفنة من أرز، واكتشف أهله سرقتها، فنثروا الأرز في إحدى الغرف، وطلبوا إلى زنوبة أن تذهب لكنسها، فلما رأت الأرز علمت أن أمرها قد افتضح (٢) .
وتشمل ذكرياته أقاصيص جده؟ على نحو مبهم - وقصص
_________
(١) إلى خالد الشواف (٢٣/ ١١/ ١٩٤٢) .
(٢) الحرية (١٤٤١) ١٤ آب ١٩٥٩.
1 / 26
العجائز من عمة وجدة وغيرهما، ومن أقاصيصهما حكاية " عبد الماء " الذي اختطف زينب الفتاة القروية الجميلة، وهي تملأ جرتها من النهر، ومضى بها إلى أعماق البحر وتزوجها، وأنجبت عددا من الاطفال، ثم رجته ذات يوم ان تزور أهلها، فأذن لها بذلك، بعد أن احتفظ بأبنائه ليضمن عودتها، ولكنها لم تعد، فاخذ يخرج من الماء ويناديها ويستثير عاطفتها نحو اطفالها، ولكنها أصرت على البقاء، وأخيرا أطلق أهلها النار على الوحش فقتلوه، أما الأطفال فتختلف روايات العجائز حول مصيرهم (١) . كذلك تشمل ذكرياته لعبة على شاطئ بويب، وهو لا يفتأ يذكر بيتا في " بقيع " يختلف عن سائر البيوت، في ابهائه الرحبة، وحدائقه الغناء، ولكن اشد ما يجذب نظرة في ذلك المنزل الإقطاعي تلك الشناشيل؟ وهي شرفة مغلقة مزينة بالخشب المزخرف والزجاج الملون - وكم وقف يرقب تلك الشرفة التي تمثل الثراء والجاه بعين الفقير المحروم، من يدري لعل ابنة " الجلبي "؟ ذلك الزعيم الإقطاعي - تطل منها:
ثلاثون انقضت وكبرت، كم حب وكم وجد ... توهج في فؤادي؛ ... غير أني كلما صفقت يدا الرعد ... مددت الطرف ارقب ربما ائتلق الشناشيل ... فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي (٢) . ... لكن ابنة الجلبي لم تطل ولم تقبل؛ ترى أكان للجلبي ابنة ام أن أحلام بدر خلقتها دمية تعبد دون أن ترى؟
أما عهده المدرسي في مدرسة باب سليمان الابتدائية بأبي
_________
(١) العدد الأسبوعي من جريدة الشعب (رقم: ٦١) السبت ١٢ تموز، سنة ١٩٥٨.
(٢) شناشيل: ٩.
1 / 27