113

2

نسكن في شرقي يثرب عند البقيع. أأنتما من يثرب؟ قال ورقة: إن رفيقي يثربي، أما أنا فمن مكة، وإن كنت أعرف أبا أيوب فقد كنت من ضيوف ابن عمه أسعد بن زرارة. فلما سمع الرجلان ذلك أكبراه، وزادهما منظر الشملالة إكبارا، ولكن وداعته وفرط كرمه وتبسطه معهما ومع غلامه ألزمتهما ما أراد من أن يكونا معه كما هو معهما عديلا ومثيلا، وكانوا قد انتهوا من تنظيف الغار فنزلوا جميعا؛ ليحملوا الأمير إليه فلما بلغاه كلمه أحد الرجلين قائلا: لقد وجدنا لك أيها الأمير غرفة طيبة ترتاح فيها. نظفناها لك وأعددناها وسنحملك الآن إليها. كيف حالك الآن؟ لم يكن الأمير يجهل العربية ، ولكنه كان ضعيفا فلم يزد على قوله: شكرا لكم. ثم حمله الرجلان وغلام إياس يساعدهما، حتى أدخلوه المغارة.

لم يكن في قصد الأمير أن يبقى في معان، ولكنه كان من الضعف بحيث لم ير اليثربيان بدا من أن يبقيا به في معان حتى يسترد شيئا من العافية؛ ليقوى على احتمال مشقة النقلة إلى أيلة التي رجا منهما الجندي الرومي أن ينقلاه إلى أميرها فلم يكن له بد من الموافقة، ولذلك لم يعترض بشيء حين جاءا به إلى معان، وأخذا يبحثان له عن مكان ينزلان به فيه. فلما استقر في المغارة رفعا الغطاء عنه فلاح الأمير من تحته في ثياب جندي عظيم، ولكنها كانت فضفاضة بدا فيها الأمير كأنه صبي يرتدي ثوب أبيه، وبدت كفاه من كميه صغيرتين كأنهما كفا عذراء لا كفا رجل عرك السيف، ولاح وجهه تحت عصابته ولثامه كأنما هو وجه وليد في لفائفه، وما كاد ورقة يتشكك حتى بادره أحد الرجلين يقول: انظر ماذا فعلت به الجراح ومشقة السفر والهم! ولكنا نرجو الله أن يرد عليه عافيته فتلتئم جراحه، ويقوى على النقلة إلى أيلة! فتقدم ورقة نحو مرقد الأمير يتفحصه وهو مؤمن على دعاء الجمالة، وكان في صوت ورقة نغمة عطف كصدى الموسيقى تنبه لها الأمير وفتح عينيه ليرى صاحبها، فإذا هو يرى وجه ورقة السمح يطالعه بعينين تفرغان عليه شآبيب من الرحمة، ثم يحييه بكلمات تشجيع كريم أدركها الأمير كلها وإن لم يكن يحسن فهم العربية؛ ذلك بأنها كانت من ثقة القلوب الصافية التي لا تحتاج إلى لسان. فأدرك الأمير أنه في حضرة إنسان كريم، وإن لم يكن قد عرف من هو ولا من يكون، وكأنه أراد أن يدله على حسن حكمه عليه، وارتياحه إليه، فشرع جفنيه مرة أخرى وأرسل إليه في شعاعهما الضعيف رسالة شكر وارتياح وتودد وثقة، ثم أغمضهما وقد لاح على وجنتيه أثر ذلك فيما كساهما من إشراق الرضا، وإذ كان ورقة يعتقد أن للجوع أثرا شديدا فيما يلقى الأمير من الإعياء فقد شرع يعنى به فتركه حيث هو وخرج بالرجال إلى خيمته ليدبر الأمر، وهناك أمر غلامه أن يذهب إلى سوق المدينة ويشتري لبنا وخبزا ليعد لهم طعاما. فانصرف الغلام في ذلك، وجلس ورقة بصاحبيه في خيمته على باب الغار يتحدث معهما. فذكر لهما ما جرى من الأحداث في غيبتهما عن يثرب، وما لحق بالخزرج من الشدة يوم بعاث، وما فعل اليهود والأوس أثر انتصارهم، بديار الخزرج إذ خربوها وأحرقوا نخيلها، حتى منعهم عنها بنو الأشهل سادة الغلام الذي معه، وكيف أن اليهود لم يرعووا بل أمعنوا في السلب والنهب والمطالبة برءوس من قتلوا لهم في الملحمة عزيزا أو قائدا كبيرا، وأنه إذ قتل لهم في الدفاع عن أسعد بن زرارة عملاقهم ثم فارسهم المعلم طلبوه في كل مكان، وأنذروا ابن زرارة بالويل ما لم يسلمهم إياه، ولكنه كان في ذلك الوقت في حمى بني معاذ زعماء الأوس، وإذ لم يقبل اليهود إجارة سادة الأوس، لم ير هؤلاء بدا من ترحيله، فرحل، وأنه اليوم في معان هاربا لا يدري أين ينزل؟

كان ورقة يذكر ذلك والخزرجيان صامتان يتميزان من الغيظ وجدا على اليهود، وأخذ كل منهما يذكر لبني قريظة والنضير سيئة إثر سيئة، ويعجبان للخزرج والأوس وهما إخوة كيف لا يصطلحان ويعملان على إخراج اليهود من أرض لا يريدون أن يندمجوا في أهلها أو يدمجوهم فيهم؛ ليعيشوا في الدنيا إخوانا مطمئنين! قال ورقة: هذا ما لا يكون. إن اليهود لا يريدون أن تضيق أرض المعاد بهم، فهم يرجون أن يقيموا مملكة أورشليم التي هدمها عليهم بختنصر. قال أحد الرجلين: ها هي ذي أرض المعاد قد أخلاها لهم الفرس من الروم فليعودوا إليها ويريحونا منهم. إنهم لم يتركوا في القدس دارا لرومي، ولا بيعة ولا ديرا إلا خربوها فقتلوا من فيها؛ ليخلوا الديار لهم، ولإخوانهم المشتتين في الصحراء.

قال ورقة: لا. إن يغلب الروم اليوم فسيغلبون غدا. قالا: كيف تعرف ذلك والفرس، فيما روى الركبان، على أبواب مدينة هرقل؟ قال ورقة: لقد بلغت هزيمتهم مسمع المشركين في مكة فطربوا وفرحوا لانتصار الفرس عبدة النيران على عبدة الله؛ لأن المشركين حمقى كالفرس، وشمتوا بالمسلمين الذين هداهم نبي الله محمد بن عبد الله إلى عبادة الواحد الأحد القهار. فأوحى الله إليه قوله تعالى:

غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين

فلينتظر الفرس قليلا، ولينتظر اليهود. بل ستكون هذه البلاد من بعد ذلك للعرب يوم يسلمون. إنها بلادهم وسيملكهم الله بلادهم يحكمونها، ويقيمون فيها العدل، وينزلون الرحمة ويحكمون فيها العقل، ويمحون الفروق، وسيكون للموالي ما لسادتهم من الحقوق، وللمرأة في الدنيا ما يصونها من عبث الرجال. فالمرأة أم الدنيا يصونها الإسلام ويحميها.

قال أحد الرجلين: لقد سمعنا عن محمد شيئا كثيرا من اليهود، يقولون: إنه سيأتي إليهم بقريش كلها مسلمة موحدة مثلهم لينصرهم ويعطيهم يثرب ملكا، والأوس والخزرج موالي. قال ورقة: كذبوا. بل آمن بعض الأوس وبعض الخزرج، وقد أخذوا يفكرون في دعوته إليهم؛ ليجعلوه سيدا فيهم، يرأب صدعهم، ويجمعهم تحت لوائه: لواء التوحيد، والمحبة، والإخاء، وهنيئا لمن يسارع إلى الإيمان به، والانضواء تحت علمه، ويكون فيمن يلقاه داخلا إلى يثرب؛ لينشر منها دين الله، ويهدي الخلق إلى الصواب.

قال أحد الرجلين: اللهم إني مؤمن بدعوة ابن عبد الله، راغب في دينه، وحقك يا ورقة لن أعبد مناة

3

Unknown page