على أن غلام إياس كان قد أردك غايتهم؛ إذ كان ورقة قد أرسله إليهم يشتري شيئا من اللبن، فقصد إليهم وسمعهم يتحدثون في دارهم فيما انتووا، ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع شيئا، وتقدم يطلب اللبن ونقدهم ثمنه شاكرا مثنيا، وعاد يخبر ورقة بما سمع. فلم يكن لهما بعد هذا من رأي إلا أن يرحلا على الفور، ولكنهما خادعا القوم حتى دخل الليل، فأشعلا النار؛ ليوهماهم أنهما هناك، ولكنهما تركاها تشتعل، وانتحيا وامتطيا ضاربين إلى أرض مدين بلاد نبي الله شعيب موسى الكليم، حتى بلغا معانا وكانت بلدة على قدمها وتهدم قصورها الرومانية - واسعة العمران كثيرة البساتين والمروج كيثرب إلا أنها صغيرة. هناك التقى ورقة بجموع كثيرة من أهل الشام والقدس؛ روم وسوريين وغسانيين، تركوا ديارهم ومتاعهم، وفروا بأنفسهم ونسائهم وأولادهم إلى قرى الصحراء يلتمسون موئلا من الفرس واليهود معا؛ ذلك أن الفرس كانوا في ذلك الوقت قد تمكنوا بقيادة السلار شاهين من اقتحام أسوار مدينة القدس فدخلوها، وأعملوا السيوف في حماتها من جنود هرقل، حين كان أهلها من اليهود يقتلون سكانها تنفيسا لحقدهم القديم، ويعملون المعاول في البيع والأديار؛ ليهدموها، ويسلبوها، ويفضحوا أعراض الروم والمسيحيين فيها.
امتلأت بالمهاجرين ساحات معان، وخرائب قصروها ومعابدها، حتى أصبحت وكأنها سوق لا ممر فيها لسائر، ولا مستقر فها لقدم. فاضطر ورقة أن يلتمس لنفسه مناخا في حاجر جبل قريب، وما زال يتأمل البقاع حتى لاح لعينه مكان طيب ومسطح قريب على سفح الجبل فارتضاه مضربا لخيمة رقيقة كان يحملها فوق جوالقه لمثل هذه الظروف.
هناك أناخا الشملالة وزميلها بعير الغلام الأشهلي، وعقلاهما وصعدا إلى المسطح يفحصانه، فوجد ورقة أنه منبسط سوت أرضه يد الإنسان؛ إذ كان في الحقيقة عرصة مغارة في الجبل غير غائرة ولا كبيرة، ولكنها كانت على كل حال مشغولة بركام من صخرات ملقات فيها، وإذ لم يكن في قصد ورقة أن يطيل مقامه في معان، فقد صرف عنها نظره، وضرب خيمته على عرصتها، بيد أنه تعجب لدقة صنعها واستقامة زواياها، وما رأى عليها من أسطر بالخط الآرامي. فوقف يتأملها وهو غارق إذ ذاك في تذكر أستاذه ورقة بن نوفل حين كان يريه أنواع الخطوط التي كان العرب يكتبون بها، وإذ كان يعرف منه أن الأنباط سكنوا هذه الجهات، وأنهم كانوا يكتبون بهذا الخط قدر أن تكون هذه المغارة من صنع الأنباط
1
ولعلها كانت محرسا أو مخفرا أو قبرا من قبور السادة، نهب اللصوص ما كان فيه مما كان يدفن مع المدفون، وتركوه كذلك. على أنه رأى به أثرا من دخان المواقد فقدر أنه استعمل ذات يوم لسكنى طابخ أو مستدفئ.
وفيما هما شارعان في حل حمولهما رأيا رجلين من العرب يدنوان منهما، وهما يقودان بعيرين ركب على ظهر أحدهما شبه سرير مغطى بأردية على شبه قبة مستطيلة؛ لحماية من فيه من أعاصير الصحراء. فلما بلغا مكانهما وقفا وتطلعا ، ثم التفت أحدهما يكلم ورقة يسأله أن يسمح لهما بمكانه لينزلا به الأمير.
أخذت ورقة عزة النفس فقال: أليس في هذه الصحراء مكان غير مكاني ينزل به الأمير؟ قال مخاطبه في شيء من الوادعة: بلى، ولكنه جريح ومريض، ونخشى أن يدركه الأجل قبل أن نعثر له على مكان طيب! إن هي إلا مكرمة نلتمسها، فإن شئت أن تظل فيه فذاك ونذهب للبحث عن مكان سواه، وإن كنا لم نجد منذ دخلنا معانا بقعة كهذه قال ورقة: بل حبا وكرامة. ثم نهض هو والغلام يساعدان الرجلين على حمل الأمير في سريره، وأنزلوه في مكان أمين، ثم خطر لورقة أن الغار أصون للأمير في مرضه، وذكره لهما فارتاحا إلى ذلك، وصعدا مع ورقة ليرياه. فلما أمعنا فيه النظر وافقا على أن يخلياه مما فيه من الأحجار، وشرعوا جميعا في ذلك على الفور محاذرين من أن تكون الأحجار مأوى صلال أو أفاعي تخرج عليهم من ورائها وهم ينقلونها، ولكنهم لحسن الحظ لم يجدوا بها من ذلك شيئا.
ولقد رأوا مع ذلك أن ينظفوا المكان فانصرفوا لذلك. في تلك الهنيهات فهم ورقة من الرجلين ما أفهمهما الجندي وهو أن الأمير رومي من القدس، وأنه من أقرباء نيقتاس والي مصر، وأن أباه قتل في موقعة بيت المقدس التي دارت فيها الدائرة على الروم في ظاهرها وباطنها، وأنه جرح في المنزل وهو يدافع عن إخوته الصغار - الذين قتلهم اليهود - جرحا بالغا هو وجندي كان أبوه قد تركه في الدار لحمايتها، ولكن هذا الجندي الوفي حمله على عاتقه والدم يقطر منه حتى خرج به بعيدا عن القدس في غير طريق الفارين إلى غزة؛ إذ كان المجوس واليهود يتعقبونهم في تلك الناحية، حتى إذا لم يعد الجندي الوفي يقوى على حمله، والسير به أكثر مما سار؛ لكثرة ما سال منه من الدماء، سقط به على الأرض إعياء أمام مضرب خيام هذين العربيين، فأوصاهما به خيرا، ثم لفظ النفس الأخير وقضى ، وقال أحد الرجلين متمما حديث زميله: ولقد بكى الأمير عليه بكاء شديدا، وكان لا يزال الآن يبكي، ولكنه لا يستطيع حراكا؛ لأن به جراحا بالغة أبى أن يكشف لنا عنها لما رجونا منه ذلك عسانا نعرف له دواء أو ضمادا، ولكنه رجا منا أن نحمله إلى أمير أيلة؛ لأنه من أقربائه، وأعطانا خاتما كان في يده أجرا لنا على نقله؛ لأنه لا يملك نقودا. سرقها اليهود كلها!
ولكنا ولا نكذبك لا نعرف لهذا الخاتم قيمة وإن كان فيما يلوح كريما، ولو عرفنا فما نعرف كيف نبيعه، ولقد كنا رأينا أن نعطيه إلى أمير أيلة حينما نصل به إليها، ونأخذ منه أجرنا، بيد أنا أصبحنا نشتهي أن نرد إليه خاتمه ولا نأخذ منه شيئا؛ لأنا نشعر أن تكسب المرء من وراء كوارث الناس مضيع للمروءة، ومؤلم للنفس. قال الآخر: أما وربي إني لأرى ذلك، أجل، لا بد أن نرد إليه خاتمه، وحسبنا مما فعلنا وما نحن في صدده أننا نفعله، ونحس بالخير فيما نفعل. على أننا لسنا جمالة يا صاحبي، بل نحن من أهل يثرب، جئنا نستبضع فرأينا القتل والهدم والتخريب، فاعتزمنا العودة، وجئنا بالأمير معنا.
ما كاد الرجل يذكر أنه من يثرب حتى تنبهت نفس ورقة إليهما فقال لهما: من أي الأحياء أنتما؟ قالا: من موالي أبي أيوب النجاري
Unknown page