284

Awrāqī … Ḥayātī (al-Juzʾ al-Awwal)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

كنت أفضل اللعب بالطائرة على تقشير البصل والثوم، وأهمس لأمي بأحلامي، كانت أمي في طفولتي تحلم بالطيران مثلي، لكنهم أمسكوها كما تمسك الفرخة قبل الذبح، وساقوها إلى حفل زفاف تحت إيقاع الطبول.

منذ ركبت الطائرة لأول مرة عام 1963، لم أتوقف عن السفر، سبعة وثلاثون عاما رأيت فيها بلاد العالم، كتبت الجزء الأول من رحلاتي في كتاب صدر منذ خمسة عشر عاما، لم أنشر الجزء الثاني بعد، ربما أفعل ذلك بعد الانتهاء من هذا الكتاب الجديد.

الطائرة تحلق بي فوق المحيط الأطلسي متجهة نحو الجنوب بعد الهبوط في نيويورك جاءت المضيفة الأميركية تجر العربة عليها المشروبات، انحنت باسمة سألتني: ماذا تشربين يا سيدتي؟ قلت: جين تونيك. تذكرت صديقتي بطة منذ ثمانية وثلاثين عاما حين سمعت منها لأول مرة كلمة «جين تونيك»، كان ذلك بعد موت أبي في فبراير 1959، أصبح الجين تونيك مشروبي المفضل، يساعدني قليلا على الاسترخاء، أنسى قليلا مشاكل الحياة، أتحرر من مخاوفي الراقدة في قشرة المخ، مخاوف صغيرة مكبوتة منذ الطفولة. رغم عشقي للطيران كنت أخاف من ركوب الطائرة، أراها تسقط وتتحول إلى حطام. اهتزت الطائرة قليلا وأنا أقول «جين تونيك»، سمعت الصوت ينبعث من الميكروفون يقول: اربطوا الأحزمة، نمر ببعض المطبات الهوائية. كم مرة سمعت هذا النداء خلال رحلاتي في العالم على مدى سبعة وثلاثين عاما، مئات المرات! آلاف المرات! وفي كل مرة لا يحدث شيء، لا تسقط الطائرة؛ مع ذلك ما إن أسمع النداء حتى أتصور أن الطائرة سوف تسقط حتما هذه المرة.

أخذت كأسين من الجين تونيك، تبعتهما بزجاجة نبيذ أحمر بوردو، سرى الدفء في أوصالي، شعرت بالنشوة، شحنة من الحياة تدفقت في عقلي وجسدي، تلاشى الخوف من سقوط الطائرة، جاءت المضيفة الأمريكية مرة أخرى بالمشروبات، كانت ابتسامتها مشرقة كالشمس، بدت أجمل امرأة رأيتها في حياتي، قالت بصوت رقيق: ماذا تشربين قبل العشاء يا سيدتي الجميلة؟ رنت كلمة «جميلة» في أذني كالموسيقى، منذ الطفولة لم يكن أحد من عائلة أمي أو أبي يقول عني «جميلة»، كنت أسمع أحيانا كلمة «ذكية»، لكن كلمة «جميلة» لم يكن ينطقها أحد، إلا في وصف واحدة من أخواتي اللاتي ورثن بشرة أمي البيضاء، وأصابعها الناعمة البضة، واستدارات جسمها الممتلئ وعينيها العسليتين الوادعتين، وصوتها الرقيق. كانت هذه هي مقاييس الجمال الأنثوي، أما أنا فقد ورثت بشرة أبي السمراء، والقامة الطويلة النحيفة، العينين السوداوين المرفوعتين لا يطرف لهما جفن، «تندب فيهما رصاصة» بلغة جدتي والدة أمي.

في المقعد المجاور لي بالطائرة كان هناك رجل، صعد من نيويورك لم أنتبه إليه إلا بعد الجين تونيك والنبيذ الأحمر، كنا يرشف النبيذ على مهل مع حبات من الفستق، يقرأ في جريدة الجارديان، ملامحه من الجانب تبدو مألوفة، هذا الأنف المرتفع في كبرياء يشبه أنف أبي، هذه الجبهة العريضة تشبه جبهة شريف، هذا الشعر الأبيض الغزير أراه في المرآة كل يوم، بشرته مزيج من السمرة والحمرة، رغم الخطوط الغائرة قليلا حول الفم والأنف تبدو بشرته مشدودة بلا تجاعيد، هذا الوجه رأيته من قبل، ربما فوق الشاشة، يكاد يشبه جريجوري بيك، هذه الوسامة الطبيعية غير الذكورية، هذا المزيج من الشباب والكهولة والطفولة، الجسم القوي الممشوق مع بياض الشعر واستقرار الملامح، عيناه يكسوهما بريق أشبه بالجنون وهدوء مثل العقلاء والحكماء من الفلاسفة في التاريخ، مزيج عجيب! لا أدري أهي ملامحه الحقيقية، أم هو خيالي الجامح وأنا أطير في السماء أرشف الجين تونك والنبيذ الأحمر؟!

رأيته يرمقني بطرف عينه، تظاهرت أنني لا أراه، ربما كان يتأمل شعري الأبيض الغزير مع بشرتي السمراء الملوحة بالشمس، ربما لمح البريق الأسود في عيني وأنا أبتسم للمضيفة وأقول: زجاجة أخرى من النبيذ وقليل من الفستق يا سيدتي. ابتسمت المضيفة ووضعت أمامي زجاجة البوردو وصحنا مليئا بالفستق والبندق، سمعت صوت أسناني تقرقش بشهية الطفلة، كنت جائعة، أتشمم رائحة العشاء من غرفة الأكل والمضيفة ترص الصواني فوق العربة، جاءني صوته بعد قليل، سمعته بوضوح رغم أزيز الطائرة: إلى أين أنت ذاهبة؟ - إلى القاهرة، وأنت؟ - إلى لندن. - هل أنت إحدى نجمات السينما، ملامحك مألوفة تماما، كأنما رأيتك فوق الشاشة، لا أذكر اسم الفيلم ولا المخرج، أهو فيليني أو ستانلي كوبريك؟

ضحكت بصوت لم أسمعه بأذني منذ تسعة وثلاثين عاما كان ذلك في صيف عام 1959، بعد موت أبي بخمسة شهور، قرأ المخرج صلاح أبو سيف روايتي «مذكرات طبيبة»، جاءني في زيارة إلى البيت، كان يريد إخراج الرواية كفيلم سينمائي، ثم قال لي قبل أن ينصرف: إيه رأيك تمثلي إنت دور الدكتورة في الفيلم؟!

ضحكت يومها وقلت: لا يمكن يا أستاذ صلاح. ليه يا دكتورة نوال؟ عندك وجه فوتوجينيك وعندك موهبة كمان ... قلت: موهبة في الكتابة وليس في التمثيل. قال صلاح أبو سيف: الموهبة الفنية هي الموهبة، في الكتابة، في الموسيقى، في التمثيل، على العموم فكري في الموضوع، حاتصل بيكي بالتليفون بعد أسبوع.

كانت مواعيد صلاح أبو سيف دقيقة، جاءني صوته بعد أسبوع بالضبط يسألني عبر الأسلاك: رأيك إيه يا دكتورة نوال؟ - رأيي إن الرقابة حترفض الفيلم. - أيوه، لكن ممكن نغير بعض المشاهد في السيناريو، كل المخرجين بيعملوا كده. - لكن، إذا غيرنا حاجة في الرواية حتبقى رواية تانية وليست مذكرات طبيبة. - يمكن أقدر أفوت الرواية من الرقابة، لكن قررت إيه بخصوص التمثيل؟

خلال ذلك الأسبوع أخذت رأي الصديقات بطة وسامية وصفية، ضحكت بطة وقالت: خذيني معك يا نوال طول عمري أحلم إني أكون نجمة سينمائية. ومطت سامية بوزها في وجهي وقالت: تمثيل إيه وكلام فارغ إيه يا نوال ... دي حاجات غير محترمة في بلادنا. وقالت صفية: أنا متأكدة إن الرقابة حترفض الرواية، وتبقى المشكلة محلولة.

Unknown page