261

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

حين يبلغ الحزن مداه تعجز العين عن الدمع، تكف الحواس الخمس عن الإحساس، لا يبقى إلا الحاسة السادسة، المجهولة الغائرة في أعماق الجسد والعقل والتاريخ، القادرة وحدها دون الحواس الأخرى على إدراك أن الأرض تدور رغم السكون، أن الزمان يلتحم بالمكان، لا شيء يفصل الروح عن الجسد أو الإله عن الشيطان أو المرأة عن الرجل.

منذ أيام قليلة أصابني غثيان شديد وقيء، رقدت في الفراش لا أستطيع الحركة، تصورت أنها النهاية، طلبت حضور ابنتي وابني لأراهما قبل مغادرة الدنيا، الاثنان الغاليان هما قطعة من جسدي وعقلي، ثالثهما شريف رفيق العمر منذ خمسة وثلاثين عاما، الأسرة الصغيرة الدافئة العواطف، تختلف عن أغلب الأسر الخاضعة لسيطرة رجل واحد، أسرتنا لا يسيطر فيها أحد، لا رجل ولا امرأة ولا ابن ولا ابنة، كلنا سواسية، يدور بيننا الجدل حتى نصل إلى القرار الأصوب.

قالت ابنتي: ماذا أكلت بالأمس يا أمي؟

قلت: لم آكل إلا بطيخا مع جبنة بيضاء قريش.

قال شريف: هناك حالات تسمم بسبب البطيخ أو الخيار أو الخوخ، يرشونها بالمبيدات الحشرية، أو يحقنونها بالهرمونات، يستوردون أغذية من الخارج غير صالحة للبشر، يرسلونها إلى بلادنا الإفريقية بمثل ما يرسلون النفايات النووية لتدفن في صحرائنا الشرقية أو الغربية، أصيب بعض الفلاحين في قرية ميت حلفا بمحافظة القليوبية بإشعاع نووي وماتت أسرة بكاملها، ويعيش سكان القرية تحت رعب الإشعاع، وهناك تكتم شديد على هذه الأخبار الأخيرة، لا نعرف بالضبط ماذا حدث ... لكن بعض الحقائق تتسرب إلى الصحف.

اشتد الغثيان والدوار، قلت لشريف ولابنتي وابني: لا أريد أن أدفن في مقبرة تحت الأرض ليأكل جسدي الدود، أريد أن أتبرع بجسدي إلى مشرحة عادلة، تشرح جسدي وتعرف الأسباب الحقيقة لهذا التسمم الغذائي، وأرجو محاكمة المسئولين الكبار عن مشروعات التنمية والإصلاح الاقتصادي، التي أدت إلى مزيد من الفقر والجهل والمرض.

سمعت صوتي يصرخ وأنا في الفراش، لازم الناس دي تتحاكم محاكمة علنية عشان الناس تعرف. رأيت حولي ثلاثة من الأطباء، شخصوا الحالة تسمما غذائيا، أخذت العلاج ثم تماثلت للشفاء بعد أن فقدت شهيتي لجميع أنواع الفاكهة في مصر.

أجلس في الشرفة العالية، أطل على أسطح البيوت القديمة الآيلة للسقوط، جسمي لا يزال ضعيفا بعد النقاهة من المرض، أشعر بالدوار كلما حركت رأسي، كأنما سأفقد الوعي. فكرة الموت تلوح قريبة مني، أتذكر أمي حين ماتت ويدها في يدي، أكاد أحس يدها تمسك يدي، رغم مرور أكثر من أربعين عاما على موتها، وجه أبي يلوح أمامي كأنما مات بالأمس، كنت في أول الشباب أتفتح كالزهرة المغلقة الأوراق، لا أعرف شيئا عن جرائم الإله المتنكر في زي فرعون، لا أحد يحاسب الإله، يعيش ويموت ملفوفا بالعلم المقدس، ويساق إلى المقصلة كبش فداء من عامة الشعب، يطلقون عليه اسم الشيطان. رجل فقير نطق الحقيقة دون أن يدري، أو فتاة صغيرة غريرة حملت سفاحا ولم تعرف من الذي اغتصبها في ظلمة الليل، ربما هو الإله ذاته المتنكر في ثوب رب العائلة الكبيرة أو الصغيرة، تسقط عنه الجريمة بحكم القوة أو القدسية، تساق الفتاة إلى الموت أو إلى الزواج ممن اغتصبها؛ حماية لشرف العائلة.

تغيرت الأشياء عبر أربعين عاما، تضامنت النساء المقهورات تحت اسم الشرف مع الرجال المقهورين تحت اسم الفقر. بدأ الترابط بين القهر الجنسي والقهر الاقتصادي، أخطر ما يهدد النظام الحاكم هو هذا الترابط، بين الجنس والاقتصاد. منذ نشوء العبودية حتى اليوم، كيف يغتصب الإله الفتاة العذراء في الظلمة وكيف يسرق قوت الفقراء من الشعب، كيف ينجو من العقاب تحت اسم السيادة أو القدسية، ربما يحاكم بعد الموت، ربما ينقلب عليه بعد الموت أحد أعوانه ويكشف جرائمه تحت اسم «عودة الوعي».

قبل أربعين عاما كنت في ربيع الشباب، اليوم أنا في مكان آخر وزمان آخر، أشعر بشيء من الوهن بعد النقاهة من التسمم الغذائي، أشعر بشيء من التفاؤل كلما زاد الترابط بين المقتولين تحت اسم التنمية والإصلاح الاقتصادي. رغم المحاولات لضرب التضامن بين هؤلاء وهؤلاء فإن المقهورات والمقهورين لا يكفون عن التمرد والثورة والاستمرار في الكفاح ضد النظام الحاكم وأعوانهم من النخبة المثقفة.

Unknown page