أصرت الأم على الذهاب مع ابنتها مع بعض سيدات الأسرة لمتابعة عملية الإجهاض، التي تمت داخل عيادة طبيب في نجع حمادي، ظلت الفتاة ثلاثة أيام تحت الملاحظة بالعيادة، وفي اليوم الثالث طلبت الأم عودة ابنتها، أحست أن مؤامرة تدبر لقتل ابنتها؛ هددت بإبلاغ الشرطة إذا تعرضت ابنتها لمكروه. تم اصطحاب الأم لمرافقة ابنتها في العودة بصحبة ابن عمتها عبده محمود، واتفقوا مع سائق أجرة على السير في طريق زراعي بعيد عن البيوت لتمكينهم من تنفيذ الجريمة. في ليلة الحادث كان الرجال الثلاثة الآخرون ينتظرون في الطريق، وهناك حاولوا انتزاع الفتاة من يد والدتها لقتلها، إلا أن الأم تشبثت في استماتة لحماية ابنتها، وقدمت نفسها فداء لها وهي تستغيث وتستعطفهم بالصفح عنها، لكن طعنات السواطير هوت على جسد الأم يضربها الأربعة الرجال حتى أصبحت جثة ممزقة أمام ابنتها، ثم انهالوا على البنت الصغيرة بالسواطير بعد قتل الأم، وتم تمزيق الجثتين إلى اثنتي عشرة قطعة، ألقوا بها في الترعة داخل أكياس بلاستيك كبيرة.
هذه هي الأم الجديدة التي أصبحت تتضامن مع ابنتها الحامل سفاحا حتى الموت، وكانت الأم في الماضي القريب تتضامن مع رجال الأسرة في قتل ابنتها لمحو العار. لا يمكن أن أنسى هذه الأم التي كانت تمشي في الشوارع تزغرد بالفرح، إلى جوارها يمشي ابنها الأكبر حاملا رأس ابنتها الصغرى على سن السكين بعد أن فصل رأسها عن جسها. لم تكن الفتاة قد حملت سفاحا، بل كانت تحب زميلها في العمل وتفكر في الزواج منه، رآها أخوها تمشي في الشارع مع زميلها؛ فانقض عليها بالسكين، وراحت الأم تزغرد بالفرح، وتمشي إلى جواره مرفوعة الرأس بعد أن غسلت العار بالدم، أي عار وأي دم؟! أي خديعة وأي وهم كان يعشعش في عقول الأمهات كما كان يعشعش في عقلي منذ الطفولة.
كان صوت أمي يخفت إلى جوار صوت أبي، كان أبي يقول هذا العالم فاسد يا ابنتي، قائم على دعامتين: الظلم والكذب. مع ذلك كان أبي يرى أن أخي أعلى مني درجة لأنه ذكر، يعطيه ضعف ما يعطيني من مصروف، ويقول: للذكر مثل حظ الأنثيين.
كنت أتطلع لأمي لتقول شيئا، كان أبي يدعم كلامه بكلام الله، لم يكن لأمي أن تعارض كلام الله.
منذ عام 1957 حين كنت طبيبة القرية بدأت الحكومة تطاردني بهذه التهمة، معارضة كلام الله، لم أقترف إثما إلا التضامن مع فتاة مريضة حملها البوليس بالقوة إلى بيت زوجها، كان يكبرها بواحد وخمسين عاما، يضربها كل ليلة ويغتصبها جنسيا من الخلف وهي ساجدة تصلي لله. كنت الطبيبة المسئولة، واجبي حماية الفتاة من زوجها، لكن قوة البوليس كان أقوى مني، انتزعوا الفتاة وأعادوها إلى زوجها. ألقت نفسها في النيل بعد أسبوع، وأنا أصبحت متهمة بالعمل ضد الدين، دخل اسمي القائمة السوداء، تحت اسم عدوة الله، هل التضامن بين النساء يعني عداوة الله؟!
منذ عام 1957 أصبحت متهمة بعدم الإيمان بالله، وفي عام 1962 أضيفت إلي تهمة جديدة هي: عدم الإيمان بالثورة المجيدة. كان زملائي وزميلاتي في نقابة الأطباء قد انتخبوني لأكون عضوا في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، عقد في قاعة جامعة القاهرة عام 1962. جلس جمال عبد الناصر فوق المنصة يتوسط الوزراء كبار رجال الدولة. تبارى أعضاء المؤتمر في تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، فجأة تلاشت البديهيات والظواهر الواضحة كالشمس، لم يعد أحد يعرف من هو العامل الحقيقي ومن هو الفلاح الحقيقي. كنت شابة صغيرة حديثة العهد بألاعيب السياسة، حين جاء دوري للكلام قلت الفلاح هو الذي بوله أحمر.
في طفولتي كانت جدتي تقول إن البول الأحمر دليل الصحة والعافية، لم أكن أعرف أنه الدم، حتى سمعت أبي يقول إن كل الفلاحين في مصر يمرضون بالبلهارسيا. وفي كلية الطب عرفت أن أبي كان صادقا، ومات أبي قبل المؤتمر الوطني للقوى الشعبية بثلاث سنوات. لم يشهد المباراة حول تعريف من هو الفلاح ومن هو العامل، ولا هؤلاء الذين خلعوا البدل الإفرنجية وارتدوا الجلاليب أو العفاريت الزرق ودخلوا البرلمان أو مجلس الشعب تحت اسم الفلاحين أو العمال.
في فبراير 1958 بدأت الوحدة بين مصر وسوريا، وفشلت في سبتمبر 1961. ظلت أسباب الفشل مجهولة، لا يعرف الشعب شيئا عما يدور في الدوائر العليا، تمتلئ الصحف بالأكاذيب وتسري الإشاعات.
كان صديقي رجاء الشاعر يعرف ما يدور، كتب قصيدة حذفت الرقابة أهم أجزائها، كشف فيها عن أن الوحدة لم تقم إلا لإنقاذ سوريا من خطر الاشتراكية، وراء قيام الوحدة كان رجال حزب البعث والأثرياء في سوريا، لم ينقذ جمال عبد الناصر ما أرادوه، طردوه من سوريا وحدث الانفصال.
أصبح رجاء الشاعر مطاردا من البوليس، لم يكن رجاء ينتمي إلى حزب اليسار أو اليمين، كان شاعرا يكتب القصائد، أصبح متهما بالشيوعية، لم يكن أمامه طريق للحياة إلا الهجرة خارج الوطن.
Unknown page