218

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

عام 1992 دخل اسمي قائمة الموت مرة أخرى، وضعت الحكومة حراسة مسلحة أمام بيتي في الجيزة، وبودي جارد يرافقني ليل نهار، قال شريف: حياتك في خطر يا نوال، ولا بد من السفر إلى مكان بعيد.

لم نكن نعرف من أين تنطلق الرصاصة، من الجماعات الإسلامية أم من الحراس؟ كانت صديقتي القديمة بطة في مؤتمر إعلامي دولي في لندن، وكانت سامية في نيويورك في مؤتمر نسائي دولي، جاءت صفية إلى بيتي وسألتني: هل لطيفة الزيات صديقتك يا نوال؟ قلت لها: نعم، هي صديقتي. قالت صفية: غريبة أوي، ليه هي بتقول كلام ضدك يا نوال؟ كلام ضدي؟ يمكن مجرد إشاعات يا صفية. لأ يا نوال، ده كلام مكتوب في المجلة، خدي اقري يا ستي!

كانت مجلة أدبية عربية، وحوار أجرته إحدى الصحافيات مع لطيفة الزيات، سألتها هذا السؤال: كيف تفسرين نجاح روايات نوال السعداوي المترجمة إلى اللغات الأجنبية؟ جاء رد لطيفة الزيات؛ لأن نوال السعداوي تكتب للغرب!

قبل ذلك بأيام قليلة كانت لطيفة الزيات في بيتي، كانت تقول لي: إنني أهم روائية عربية، وإنها سوف تصدر كتابا نقديا عن أعمالي الأدبية. كانت تتحدث بحماس، وتضحك مع شريف وتقول له: أنت يا شريف كاتب مبدع، روايتك «الشبكة» جميلة جدا، هل تنوي ترجمتها إلى الإنجليزية؟ - دي رواية طويلة جدا يا لطيفة. - وما له؟ - أنا مشغول بترجمة روايات نوال. - اشمعنى يعني؟ - روايات نوال بتعجبني.

عام 1980 ظهر أول كتاب لي باللغة الإنجليزية، كان شريف هو الذي تحمس لترجمته، نجح الكتاب وترجم إلى لغات متعددة، ومن بعده بدأ الناشرون في أنحاء مختلفة من العالم يطلبون ترجمة كتبي الأخرى.

وأصبح جرس التليفون يرن في بيتنا، الأدباء الكبار يأتون إلينا في زيارات مفاجئة، جاء عبد الرحمن الشرقاوي يحمل عددا من كتبه، أهداها لي ولشريف. بعد أن انتهت الزيارة، قال لشريف وهو يودعه على الباب: «عندك كارت بلانش، إذا شفت إن كان كتاب من كتبي ممكن ترجمته ونشره في لندن!» وقال شريف بهدوء: «أنا روائي ولست مترجما يا عبد الرحمن.» كانت الزيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشرقاوي، قرأنا نعيه في جريدة الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يداعبه ويقول: يعني اشمعنى نوال يا أخي اللي أنت نازل ترجمة لرواياتها، ما تترجم لي رواية أو مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملي شوية إغراءات يا يوسف، ثم أنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها.

قرأ شريف معي ما كتبته لطيفة الزيات عني، وبدأ عدد من الماركسيين والماركسيات يرددون ما قالته لطيفة، وعدد من النقاد الأدباء والأديبات العاجزين عن نشر أعمالهم في الخارج. كان نجاح روائية مصرية خارج البلاد أمرا غير مألوف، وهي لا تتبع لا الحكومة ولا حزبا ولا المجلس الأعلى للثقافة.

حين عادت سامية من الخارج قالت لي: والله يا نوال حاجة تفرح إن كاتبة مصرية تحصل على هذا التقدير والاحترام في العالم. قلت لها: وما رأيك فيما أشاعته صديقتك لطيفة؟ مطت سامية شفتيها الرفيعتين وقالت: شيء طبيعي يا نوال، أنا كمان باحقد عليكي، الغيرة تنهش قلبي وأحيانا أقول يا رب تموتي يا نوال!

يضحك شريف، ويقول: أنا باحب صراحتك يا سامية، لكن المشكلة ليست الغيرة أو الحقد، المشكلة إن نوال كاتبة مستقلة لا تستند إلا على قلمها، ويمكن أن تنقد الشرق والغرب والحكومة والمعارضة واليسار واليمين، والمشكلة أيضا تتعلق بالمناخ العام والإحباط ... لطيفة الزيات ويوسف وكثير من الأصدقاء كانوا زملاء لي في الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني، حين بدأنا الحركة عام ستة وأربعين ضد الملك والإنجليز كان المناخ العام أفضل من اليوم، كنا في مرحلة الشباب عندنا مبادئ وحماس وأمل، المناخ الجيد يبرز أحسن ما في الإنسان، لكن الحركة ضربت ودخلنا السجون، لم يهزمنا السجن لكننا انهزمنا من الداخل، تفككت الحركة، وتفرق الزملاء ، وانتشرت الإشاعات، المناخ السيئ يبرز أسوأ ما في الإنسان، وأنت يا نوال من جيل آخر جاء بعدنا.

أما جيلنا فقد تمزق بين الطموح والإحباط، بين تأييد السلطة ومعارضتها، لطيفة الزيات هي المثل على ذلك، هذه الضحكة العصبية دليل على التمزق والإحباط، رعشة الأصابع والإفراط في التدخين، وابتلاع حبوب الفاليوم. إنها تعرف تماما أنك ناقدة للغرب أكثر منها، وتعرف أيضا أن الغرب ليس شيئا واحدا، وهناك في الغرب من هم أكثر تقدما وأكثر اشتراكية من الاشتراكيين عندنا، المسألة ليست غرب وشرق، هي تعرف ذلك، ويوسف إدريس يعرف ذلك، لكن المسائل الشخصية تتغلب على المسائل العامة، والإحباط يولد الإشاعات، وما معنى أن يكتب أديب أو أديبة للغرب أو للشرق. وأغرب شيء هؤلاء الذين يقولون: إن الأعمال الأدبية الناقدة لمجتمعنا تسيء إلى سمعة مصر في الخارج! أعظم الأعمال الأدبية لا بد أن تكون ناقدة لمجتمعها، أهم أعمال يوسف إدريس أو نجيب محفوظ الأدبية هي التي نقدت النظام الحاكم، وأشكال الظلم أو القهر في بلادنا؛ لكن يوسف إدريس ونجيب محفوظ في الأهرام، أكبر جريدة حكومية في مصر، وهما جزء من النظام، يتمتعان بحصانة السلطة، وقد ترجمت أعمالهما إلى اللغات الأجنبية عبر وزارة الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وكلها مؤسسات حكومية؛ لكن أعمالهما لم تنجح في الخارج كما نجحت في مصر؛ لأن النجاح الأدبي في بلادنا لا يعتمد على جودة العمل فقط ولكن على الدعم الحكومي أيضا، ولا يمكن للكاتب أن يشتهر ويحمل لقب كاتب كبير دون أن تكون له علاقات طيبة بالمسئولين الكبار، وهذه هي المشكلة بالنسبة لك يا نوال أو غيرك من الأديبات أو الأدباء الذين لا يسيرون في فلك السلطة.

Unknown page