في صباح اليوم التالي قرأ شريف الصحف، خبر الإفراج عن المسجونين في الصفحة الأولى، برقيات التهنئة إلى السيد رئيس الدولة يتبارى على نشرها الكتاب المعروفون، ذوو الأعمدة اليومية الثابتة أو المقالات الأسبوعية الطويلة، لم يفتح أحدهم فمه حين صدر قرار الاعتقال، وتم حبس أكثر من ألف شخص دون تحقيق ودون جريمة، كتب أغلبهم يؤيدون قرار الحبس، وصمت الباقون. قلت لشريف: الصمت في مثل هذا الوقت جريمة أو على الأقل مشاركة في الجريمة.
في جريدة الأهرام ظهرت برقية التهنئة لرئيس الدولة بقلم يوسف إدريس، الكاتب الكبير، ظهر اسمه بالبنط العريض، كأنما هو بطل الإفراج عن السجناء، لا يفوقه بطولة إلا رئيس الدولة، أصبح البطلان محط الأنظار، واختفى المسجونون داخل البيوت أو بين السطور، لا تنشر أسماؤهم إلا بالبنط الصغير جدا، لا يكاد يرى بالعين المجردة.
حين كنت في السجن كتبت رسالة إلى توفيق الحكيم ويوسف إدريس، قلت لتوفيق الحكيم: أنت رئيس اتحاد الكتاب، ورئيس لجنة القصة بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وأنا عضوة باتحاد الكتاب، وعضوة بلجنة القصة، وقد دخلت السجن دون تحقيق ودون جريمة، أرجو أن ترفع صوتك ضد هذا الحبس غير القانوني، وأن ترسل مندوبا من اتحاد الكتاب ليكتب تقريرا عن حالة الزنزانة التي أعيش داخلها.
وفي الرسالة نفسها إلى يوسف إدريس قلت له: أنت زميل لي في اتحاد الكتاب ولجنة القصة، ولك مقال أسبوعي بجريدة الأهرام، أرجو أن تكتب شيئا ضد قرار الحبس دون تحقيق ودون جريمة.
لم ينطق توفيق الحكيم أو يوسف إدريس بكلمة واحدة، لم يجتمع اتحاد الكتاب ليقرر إرسال مندوب ليرى حال الزنزانة، وفجأة بعد قرار الإفراج يخرج يوسف إدريس عن صمته ويرسل إلى رئيس الدولة يهنئه بعبارات التمجيد والولاء.
بعد أيام جاء يوسف إدريس إلى بيتنا في زيارة، قال: إنه جاء للتهنئة، وكان يريد أن يشتري لي باقة ورد ، لكن جميع محلات الورد كانت مغلقة. وضحك شريف، يا يوسف بلاش مبالغة، معقول كل محلات الورد قفلت؟! سهر معنا يوسف إدريس تلك الليلة، ربما كان تحت تأثير مادة الماكسيتون التي أدمن عليها مثل أحمد حلمي، يصبح لسانه ثقيلا في الكلام، يحتقن وجهه ويتورم قليلا، يداه أيضا تتورمان، يميل إلى السهر والكلام دون انقطاع، يصور له الوهم أنه بطل. - عارف يا شريف مين السبب وراء صدور قرار الإفراج عن المساجين؟ - مين يا يوسف؟ - أنا يا شريف، أنا اللي ...
شريف يستمع إليه، يبتسم بهدوء ونوع من السخرية الخفيفة، يعرف أن يوسف إدريس لم يرد على رسالتي، ولم يكتب كلمة واحدة ضد قرار الحبس، وأنه يعيش وهم البطولة منذ كان طالبا في كلية الطب، وأن مادة الماكسيتون المنبهة تسري في دمه، تصور له الوهم كأنما هو الحقيقة.
كان يوسف إدريس يجلس أمامي منفوخا بالماكسيتون وغرور العظمة، أصبح يحمل لقب الكاتب الكبير، وأصبحت أنا السجينة رقم 1536. الألم في عمودي الفقري، والنوم فوق أرض الزنزانة، صمت الزملاء والزميلات من الكتاب والأدباء، وصمت نقابة الأطباء، أرسلت رسالة إلى نقيب الأطباء فلم يرد.
تلك الليلة لم يكف عن الكلام، يقول إنه السبب وراء خروجنا من السجن. وكان شريف يتثاءب ويريد أن ينام، وأنا أيضا مللت كلامه عن بطولته الوهمية، وقلت وأنا أتثاءب: أعتقد يا يوسف أنك في حاجة إلى الذهاب إلى بيتك لتنام. قال: ولكني لا أريد أن أنام. قلت: ولكننا نريد أنا وشريف أن ننام. نهض متثاقلا واقفا فوق قدميه، وقال: عرفت يا نوال أنني كنت السبب وراء قرار الإفراج عنكم؟ قلت: وكيف أعرف وأنت لم تنطق بكلمة واحدة حين كنا في السجن؟!
مثل البالونة المنفوخة بالهواء تثقبها إبرة رفيعة، انكمشت البالونة وجلس يوسف إدريس بعد أن كان واقفا، رمقني بشيء من الغضب، لم أنس أنه صمت حين كان الكلام واجبا. أكثر ما كان يغضبه أنه لم ينس هو أيضا، أكان ضميره يؤرقه؟! أكان يحقن نفسه بالماكسيتون لينسى دون أن ينسى؟! كان أحمد حلمي يقول: الماكسيتون ليس مثل المخدرات يضعف الذاكرة، إنه أخطر المنبهات جميعا، يشعل الأحاسيس، تلتهب خلايا العقل إلى حد نسيان كل شيء، مع ذلك تظل الذاكرة مشتعلة لم تنس شيئا. •••
Unknown page