208

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

هذه الليلة صيف عام 1956 تعود إلى ذاكرتي، ومعها ليلة أخرى في صيف عام 1941، بالضبط 30 أغسطس 1941، أردت الهرب من بيت أبي وأنا في العاشرة من العمر، لم تكن الليلة مفزعة مثل تلك الليلة 23 يوليو 1956. اللحظات المنسية في حياتي تطفو فوق سطح الذاكرة، عيون سوداء صغيرة تلمع وسط خضم من السواد، نجوم تظهر في الليل من وراء سحابة كثيفة سوداء. الهروب من بيت الأب أقل إفزاعا من الهروب من بيت الزوجية. كلمة «زواج» تعني باللغة العامية «الجواز»، كانت جدتي تقول: «ربنا كتب علينا الجواز يا بنت ابني، مصيرك الجواز زي كل البنات، القدر والمكتوب ع الجبين لازم تشوفه العين، جوازتي كانت جنازتي يا بنت ابني، نحمدك يا رب على كل المصايب ولا يحمد على مكروه سواك.»

منذ السادسة من عمري، وأنا أحفظ هذه الكلمات الثلاث عن ظهر قلب، أنطقها في نفس واحد: «ربنا، المصائب، الجواز.» •••

كلمة الحب لم تكن هي الجواز، كنت أغني مع الراديو للحب، لم نكف نحن البنات عن الغناء للحب، لم أسمع في حياتي أغنية واحدة عن الزواج.

الحب مصيدة الفئران تدخلها البنات آمنات مغمضات العيون مثل القطط المغمضة، يفتحن عيونهن مفزوعات، تحول الحب إلى أربعة جدران سوداء في بناء آيل للسقوط هو بيت الزوجية.

في العاشرة من عمري خفق قلبي بالحب الأول، لم أكن أرى من الرجل إلا عينيه، كان يمكن أن أموت من أجله، اختفى الرجل لحسن حظي قبل أن أهرب من بيت أبي، سافر ولم يترك إلا صورة ضوئية اختفت هي الأخرى، وسقطت في العدم. التقيت به صدفة بعد ثلاثين عاما، رأيت وجها غريبا له أنف طويل مدبب وشفتان رفيعتان إلى حد التلاشي، أيمكن أن يقبل بهما امرأة؟! عيناه صغيرتان غائرتان بلا بريق ولا ضوء، كيف كانت عيناه تغرقني كالشمس، لم أستطع الحملقة فيهما، كنت أسقط في ما يشبه الإغماءة إن رنت حروف اسمه في الجو.

في العشرين من عمري خفق قلبي بالحب الثاني، عيناه كالحب الأول كانتا هما الشمس، هربت من بيت أمي وأبي، تركت كتبي وأوراقي وأقلامي وملابسي وصور طفولتي، سرت في الطريق إليه لا ألتفت ورائي، تحول الحب لسوء الحظ إلى زواج، فتحت عيني على الجدران الأربعة السوداء، داخل مطبخ في بيت قديم آيل للسقوط في حي بمدينة القاهرة اسمه المنيل. •••

بالأمس رأيت فيلما مفزعا مخرجه «ستانلي كوبريك»، مأساة الجنود الأميركيين في حرب فيتنام، مكنة الحلاقة ذات الموسى الحادة تدور على رءوس الشباب في ربيع عمرهم، تجتز شعورهم عن فروة الرأس، الخراف يسلخون جلودها في المذبح. يتحول الشاب الفنان الرقيق إلى قاتل سفاح، يدرب على القتل دون أن يطرف له جفن ، يقول له المدرب العسكري: سلاحك في يدك مثل سلاحك بين فخذيك منبع القوة والرجولة.

تدور الكاميرا على أجسام الشباب في معسكر التدريب، يمسكون باليد اليمنى البندقية، وباليد اليسرى يمسكون العضو الذكري أسفل البطن، يسيرون في صف طويل يشبه القطار الطويل يسير فوق القضبان، كل منهم يمسك قضيبه.

كنت جالسة فوق الكنبة الزرقاء العريضة في الصالة، إلى جواري شريف يتابع الفيلم، دخل المدرب العسكري غاضبا إلى أحد الشباب يأمره أن يسلم سلاحه، نهض الشاب واقفا يرمقه بعينين يختفي سوادهما تحت الجفن، تحولت العينان إلى مساحة من البياض بلون الثلج، المدرب العسكري يقترب منه، يأمره أن ينزع سلاحه، الشاب واقف في مكانه ثابت، البياض في العينين ثابت، النني الأسود الصغير اختفى تماما تحت الجفن، اللون الأبيض في العينين كالثلج، تحرك إصبع واحد على الزناد، انطلقت الرصاصة في صدر المدرب العسكري، سقط إلى الأرض غارقا في دمه، توقف الشاب يلهث، جلس فوق المرحاض، وضع فوهة البندقية في حلقه، ضغط بإصبع واحد، تفجر الدم من حوله، فوق الجدار الأبيض اللامع من السيراميك، فوق السقف الأبيض، وبلاط الأرضية الأبيض، غرق البياض في دم أحمر.

منذ طفولتي يفزعني الدم الأحمر فوق الملاءة البيضاء، دم العذرية والحيض والختان، قطعة دم متجلطة تنزلق من جسدي وأنا أمشي في الشارع، نقطة دم تتركها الإبرة فوق ذراعي بعد أن ينزعها الطبيب، وجه الطبيب يشبه وجه المدرب العسكري في الفيلم، وجه ممسوح الملامح رمادي اللون كالجرانيت، والعينان ممسوحتان إلا من البياض الأبيض بلون الثلج، يقف أمامي شاهرا الإبرة في وجهي مثل البندقية.

Unknown page