رأيته ممدودا فوق البلاط، في الطرقة الصغيرة أمام باب الحمام، راقدا فوق ظهره، وجهه ناحية السقف، عيناه مفتوحتان، جسدي النائم ينثني إلى الأرض، يدي المخدرة تمتد إلى يده تمسكها، أكنت أجس النبض؟! هل غلبني النوم؟ سقط رأسي دون أن أشعر فوق صدره، كالطفلة في الرابعة من العمر تنام فوق صدر أمها. - البقية في حياتك يا دكتورة نوال.
صوت الطبيب صاحب السيارة، أول صوت أسمعه وأنا أفيق، البقية في حياتي؟ ما معنى هذه العبارة؟ - الأفضل ننقله على السرير يا دكتورة.
ضمير الغائب في كلمة ننقله تعود إلى أبي، أصبح غائبا عن الوجود، جسده لا يزال موجودا ممدودا فوق الأرض، نقلناه إلى السرير نحن الثلاثة أنا والطبيب وأخي الأصغر، بضع خطوات قليلة لهثنا فيها، فوق أذرعنا الست امتدت القامة الفارعة، أثقل ما فيها الرأس، حوطته بذراعي أحميه من الارتطام ونحن ندخل في غرفة النوم، فوق السرير النحاسي العريض، أصبح نائما، عيناه مفتوحتان، مد الطبيب يده وأسدل الجفون فوق العينين، غطاه بالملاءة من الرأس إلى القدمين.
في الصالة جلسنا نحن الثلاثة، الصمت يدب في البيت، أخواتي البنات نائمات في الغرفة الداخلية، ابنتي في غرفتي غارقة في النوم، أم إبراهيم في القرية تزور ابنتها المريضة، حكى أخي الأصغر ما حدث، كان في غرفته يراجع دروسه حين سمع الصوت يدوي في الصالة، كالجدار يسقط، كالشجرة تسقط وهي واقفة.
خرج الطبيب ودخل أخي غرفته، سرت على أطراف أصابعي، كشفت الملاءة عن وجهه، عيناه مغمضتان ملامحه ليست نائمة وليست صاحية، ملامح منحوتة داخل الجرانيت، تعلوها ابتسامة توحي بالراحة النهائية، السكون الإلهي الخالي من العبء، القائم بذاته لذاته، لا يشوبه شيء خارج الذات الأبدية.
قضيت الليل إلى جواره، هو غائب وجسده فوق السرير، وأنا أقف في مهب الحياة، كالشجرة الوحيدة سقطت من حولها الأشجار، عارية بلا أوراق في الشتاء، أرتعد بالبرد، أسناني تصطك، عيناي جافتان وحلقي جاف.
في الصباح أيقظت أخواتي الصغيرات، ابتسمت في وجوههن: «النهاردة الجمعة ما فيش مدرسة، تحبوا تروحوا فين؟» هتفت أصغرهن: «نروح جنينة الحيوانات.»
الموت جزء من الحياة والحي أبقى من الميت، انشغلت بأخواتي وابنتي عن موت أبي، حضرت لهن الفطور والغذاء أخذتهن إلى حديقة الحيوان، تركتهن يلعبن تحت أشعة الشمس، جريت إلى مكتب الصحة بالقرب من كوبري عباس لاستخراج شهادة الوفاة، جريت إلى محل إسلام باشا في ميدان الجيزة، اشتريت الكفن الحريري الأبيض، مررت على محل الحانوتي في شارع سعد زغلول، اتفقت معه على أجرة عربة الموتى من الجيزة إلى كفر طحلة.
رمقني الرجل بنظرة فاحصة وطلب ضعف المبلغ، منذ موت أمي عرفت الأسعار، ولا يمكن لهذا الحانوتي أن يضحك علي، ألأنه يراني امرأة؟! أيظن أن حزني على أبي سيطغى علي فلا أكتشف جشعه؟! وقفت أساومه رافعة صوتي بغضب: ده استغلال وأنا رايحة لحانوتي غيرك!
رضخ الرجل لإرادتي، شعرت بنوع من الزهو، لا يمكن لأحد أن يخدعني وإن كنت في قمة الحزن، لم أكن أشعر بالحزن، كانت السكينة «سارقاني» بلغة أم إبراهيم، للموتى مهام كثيرة: استخراج شهادة الوفاة، والغسيل والكفن والسفر إلى القرية والصلاة في الجامع والجنازة والدفن، لا بد أن أنتهي من كل هذا الساعة الخامسة مساء، موعد عودة أخواتي وابنتي من حديقة الحيوان.
Unknown page