190

Awraqi

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

Genres

بعد أن قرأت قصتي القصيرة «أمي ليس لها مكان في الجنة» دب الصمت، كان أحمد بهاء الدين حاضرا تلك الندوة، مر عليه يوسف إدريس بسيارته الصغيرة الفولكس فاجن، تركب إلى جواره أهداف محمود ، صحافية جديدة تتدرب في روز اليوسف، كانت صديقة لبهاء وهو رئيسها في المجلة، تتقرب منه بشكل ملحوظ، ترمقه بعينين صغيرتين غارقتين في الكحل مملوءتين بالإعجاب، ما إن ينطق كلمة حتى تصيح بصوت رقيق: «أيوه يا بهاء كلامك مظبوط.» يبتسم لها بشيء من الخجل، يتحرج من إعجابها به أمام الناس، يتفادى الجلوس إلى جوارها، يختار المقعد بجوار يوسف إدريس أو صلاح عبد الصبور أو صلاح جاهين، أو عبد الحليم عبد الله، أو أي رجل آخر، ينهمك معهم في الحديث عن جمال عبد الناصر وأنور السادات وكمال الدين حسين وغيرهم من رجال الثورة. - القصة دي يا نوال لا يمكن نشرها في المجلة إلا بعد مئة سنة إن شاء الله. - ليه يا بهاء؟ - موضوع الدين حساس جدا في بلدنا.

أكثر المتحمسين كان صلاح عبد الصبور، أعجبته الفكرة، يميل إلى الصمت في معظم الأحيان، بشرته سمراء بلون طمي النيل، عيناه واسعتان هادئتان لا تكشفان التمرد في أعماقه، رأيته ينهض واقفا ويقول: «نوال السعداوي مسكونة بإرادة شيطانية لتسمية ما لا يمكن تسميته، أتوقع أن يشنقوها في ميدان التحرير لو نشرت هذه القصة!»

ضحك يوسف إدريس بصوته العالي، يقهقه ملقيا برأسه إلى الوراء، يعاكس أحمد بهاء الدين بنوع من التحدي: «أنا لو مكانك يا بهاء لنشرت القصة وليكن ما يكون، يا جماعة لازم نتحدى الرقابة ونكسر التابوهات!»

انفعل أحمد بهاء الدين: «طبعا يا يوسف اللي على البر شاطر، لو كنت أنت رئيس التحرير لا يمكن تنشر قصة زي دي، وأنا في المجلة كسرت تابوهات كثيرة، وأنت عارف كده يا يوسف! وأنا أول واحد في مصر نشر لنوال السعداوي، مع أن قصصها عبارة عن قنابل زمنية، فاكرة الرسالة اللي بعتها لك بالبريد وإنت في طحلة؟!» - طبعا فاكرة.

كانت رسالته مشجعة رغم أنه اعتذر عن نشر قصة مسعودة والعفريت، كنت أعاني حالة من الإحباط والحزن، منذ رأيتهم ينتشلونها من النيل، في الليل أرى جثتها راقدة إلى جواري في السرير، جاءتني الرسالة في البريد من أحمد بهاء الدين:

عزيزتي الدكتورة نوال السعداوي

أود أن أشكرك على هذه القصة البديعة، فهي جديدة تماما شكلا ومضمونا، إلا أنني لا أستطيع للأسف نشرها في المجلة، هناك اعتبارات خارج نطاق وضعي كرئيس التحرير، وأرحب بلقائك حين تأتين إلى القاهرة، عندنا أطباء يكتبون القصة القصيرة منهم يوسف إدريس ومصطفى محمود، أما الطبيبات فلا أعرف طبيبة تكتب القصة في مصر إلا أنت، ويسعدني التعرف عليك وأن ترسلي إلينا إنتاجك بصفة مستمرة.

الرسالة مكتوبة بخط اليد، حروفه صغيرة دقيقة لا تكاد ترى فوق السطر، تنم عن الحذر والدقة، تخيلته رجلا صغير الحجم صغير اليدين والقدمين، خطواته فوق الأرض حذرة، يتردد قبل أن يكتب.

حين التقيت به لأول مرة تطابقت الصورة في خيالي مع الحقيقة، رغم ذلك صدمتني الحقيقة، قامته بدت أقصر مما توقعت، نظارته الطبية تجعل له ملامح الأطباء وليس الأدباء، من وراء العدستين تكسو عينيه لمعة ذكاء، وشيء من الدهاء.

منذ التقيت به في أوائل 1957م حتى مات في عام 1996م أصبح أحمد بهاء الدين أحد أصدقائي، كان يمتلك حاسة أدبية عالية، شديد الحساسية إلى حد المرض، نختلف ونتفق، تمر الأعوام العام وراء العام دون أن نلتقي، فإذا التقينا دار الحوار بيننا كأنما لم ينقطع، كان في نظري أديبا ضل طريقه إلى الصحافة.

Unknown page