أبدا، ليست المرأة الأولى، مدينة بابل القديمة كانت امرأة ورد ذكرها في الكتاب المقدس، هي التي وقفت أمام الإله الذكر متحدية، أرادت أن تبني لأهلها مدينة لها برج رأسه عال، جمعت سكان المدينة، جعلتهم قوة واحدة تبني وتعمل وتتكلم لغة واحدة، لماذا أصبح الإله مهددا؟ لماذا كره العمل والوحدة بين الناس؟ لماذا حول المدينة إلى امرأة زانية وكانت هي الأم الكبرى الحانية؟! وهذه كلمات الله في التوراة: «فنزل الرب ينظر المدينة والبرج ... وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم بعضا، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة؛ لذلك دعي اسم بابل، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض.»
منذ المدرسة الابتدائية أتذكر هذه الكلمات، وأوصاف المرأة الزانية التي هي مدينة بابل، وصفها الإنجيل وصفا دقيقا حتى رسمتها في حصة الدين، امرأة طويلة فارعة القامة مثل جدتي، «تجلس على العرش في السماء تمتطي الوحش القرمزي، زنى معها ملوك الأرض وسكر سكان الأرض من خمر زناها، تقول عن نفسها: أنا جالسة ملكة ولست أرملة ولن أرى حزنا، وقد أمر الإله الرب أن يعطوها عذابا وحزنا وضربا وموتا وجوعا وأن تحترق بالنار؛ لأنه الرب الإله عيناه كلهيب النار وعلى رأسه تيجان كثيرة وهو متسربل بثوب مغموس بدم، ويدعى اسمه كلمة الله، من فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم، وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك ورب الأرباب.» •••
حين ماتت أمي لم ألبس ثوبا أسود، لم يكن عندي ثوب أسود، شغلني الحزن على أمي، لم يكن عندي الوقت لشراء الثوب الأسود، ولماذا اللون الأسود؟ يعلو الحزن فوق جميع الألوان، أرتدي ملابسي العادية لا أعرف ما لونها، لا أنظر إلى نفسي في المرآة، امتص الحزن الوقت واللغة، أصبح الصمت أبلغ من الكلام، أكثر النسوة صراخا أقلهن حزنا.
كانت هي خالتي هانم شكري، سمعتها تصرخ، من حولها أختها فهيمة ونعمات وأخريات من عائلة أمي، كانت في مقدمة الركب، مقبلة نحوي بجسدها البض داخل فستان أسود جديد من الحرير اللامع، يضيق عند الردفين ويكشف عن الشق العميق بين النهدين، عيناها مكحلتان، وظلال خفيفة فوق كل جفن، حاجباها المنتوفان مرسومان بالقلم الأسود على شكل قوسين، شفتاها مدهونتان بقلم روج «ناتوريل» طرحتها السوداء شفافة، تنحدر بميل إلى نصف الجبهة، تطل من تحتها خصلات الشعر المكوية، والحلق الألماظ يتدلى من الأذن، والعقد يحوط العنق، في يدها حقيبة يد تميل إلى اللون الداكن من جلد الثعبان، وفي قدميها حذاء من جلد الثعبان ذاته، له شريط رفيع يدور حول الرسغ، تشف نعومته من تحت جورب أسود شفاف، قدماها المقوستان تتأرجحان فوق الكعب الرفيع العالي. - يا حبيبتي يا زينب كان بدري عليكي!
بهذه العبارة كانت تصرخ، صراخها جاف تخشى على الكحل أن تذيبه الدموع، لا تكف عن الصراخ، وإن كفت تطلق تنهيدة طويلة عميقة كأنما تخرج من المبيضين، تشد عنقها إلى أعلى كالمختنقة ، تتنفس بعمق تلمع عيناها بالفرح، تشكر الله في سرها لأنه لم يأخذها إليه وأخذ أختها بدلا منها.
أرادت طنط هانم أن تدخل إلى غرفة أمي الميتة، منعتها من الدخول، أغلقت الباب دونها، لا أريد أن ترى جسد أمي العاري، كانت أم إبراهيم تغسلها، قبل أن تلفها بالكفن الحريري، وقفت وراء الباب أصد عن أمي عيون الغرباء، هذه العيون اللامعة بالفرح، تتأجج بشبق الاستطلاع، تتحرق شوقا لرؤية العورات.
لم تكن لجسد أمي عورة إلا الثدي الواحد كالإله ذي الثدي الواحد، هذا السر كانت تخفيه عن العالم، كأنما هي المسئولة عن غياب الثدي الآخر، تحشو الفراغ بالقطن كما كانت تحشو أثداء العرائس، يصبح لها مثل كل النساء ثديان، تمشي مرفوعة الرأس تختال بأنوثتها، لا أحد يراها إلا من الظاهر، لا شيء يحيرها إلا الظاهر، لا تصدقه كأنما هو الحلم، تخشى أن تفتح عينيها فتصحو.
اشتريت لأمي كفنا حريريا أخضر، علامة الموت في سن الشباب، عشرة أمتار من محل إسلام باشا في ميدان الجيزة، لفتها أم إبراهيم بعناية، كالأم تلف طفلتها، تحبس دموعها حتى لا أراها، تبتسم في وجهي: «البركة فيكي يا ضكطورة وفي السيد بيه ربنا يعينه على فراقها يا رب.»
في عربة الموت السوداء جلست إلى جوار الصندوق، يسمونه النعش، داخله أمي، لم يكن لي أن أفارقها حتى يواريها القبر، هبطت أيضا معها تحت الأرض أريد أن أرى أين تنام، مسحت التراب تحتها بكفي، نزعت الحصى وقطع الطوب الصغير، فرشت لها مهدا من الأرض الناعمة، وضعت رأسي فوق صدرها، أذني تتحسس قلبها، كأنما سأسمع أنفاسها أو الدقات تحت الضلوع، لم يكن هناك إلا الجسد النائم داخل الحرير، بلا نبض بلا حركة، أتصحو بعد قليل؟ الظلمة داخل القبر كاملة إلا من ضوء خافت، ينبعث من الثقب فوق رأسي، تطل منه طنط هانم، في يدها مقص كبير، تناوله لي، صوتها يأتيني كأنما من عالم آخر: «لازم تقصي الكفن كويس يا نوال عشان ما حدش يسرقه.»
كانت السرقة شائعة في الدنيا والآخرة، يسرقون الموتى كما يسرقون الأحياء، يفتحون المقبرة في الليل، يأخذون الكفن الحريري، ينزعون من الميت أسنانه الذهبية، يسرقون عظامه بعد أن يتلاشى اللحم، قد يسرقون الجثة كلها بلحمها وعظامها، لتستقر في بيت أحد الطلبة الأثرياء في كلية الطب. - يا طنط هانم فيه حارس بيحرس المقبرة في الليل. - حاميها حراميها يا نوال، لازم تقصي الكفن، كل الناس بتعمل كده.
Unknown page