أول مبلغ أحصل عليه من الكتابة كان ثلاثة جنيهات، مكافأة عن قصة قصيرة، لم أعرف أن الأدباء يتقاضون رواتب ومكافآت، الكتابة عندي كالحب لا تنتمي إلى عالم الماديات.
أمسكت الجنيهات الثلاثة في يدي، قبضت عليها بأصابعي الخمسة، لأول مرة أدرك الترابط بين المادة والروح، لأول مرة ترتفع قيمة الفلوس في نظري، منذ الطفولة أسمع أبي ينطق الكلمة بازدراء «فلوس» يلفظها من فمه كالبصقة، لا يحب الفلوس إلا التجار، أصحاب الذمم الخربة، لا يقرءون الكتب، لا يشاركون في المظاهرات الوطنية، يضعون المليم على المليم ويكسبون الملايين، أصبحت محصنة ضد الثراء، كلمة تاجر تملؤني بالنفور.
وضعت الجنيهات الثلاثة في يد أبي ونظرت في عينيه، عادت إليهما اللمعة القديمة كالدمعة الشفافة المحبوسة، لم يكن لنجاحي معنى إذا غابت هذه اللمعة، كنت أضع شهادة المدرسة في يده وأنا تلميذة أنظر في عينيه، أنتظر ظهور الضوء، إن لم يظهر انقلب النجاح سقوطا. - التلاتة جنيه دول عن قصتي اللي نشروها في المجلة! - مبروك يا نوال عقبال ما تفتحي العيادة في ميدان الجيزة.
هل أجهض أبي فرحتي بهذه العبارة؟ في أحلامه كان يراني طبيبة، مع أنه يعشق الأدب والشعر، هو الذي جعلني أحب اللغة العربية، منذ الطفولة يقرأ علينا أبيات المتنبي وأبي العلاء المعري وبشار بن برد والعقاد وحافظ وشوقي. - الأدب عندي أهم من الطب يا بابا. - الأدباء بيموتوا من الجوع في بلدنا ويدخلوا سجون، خليكي في الطب يا نوال وافتحي العيادة.
في أحلامي لم أكن أرى نفسي طبيبة، لم تجذبني مهنة الطب، مهنة عاجزة أمام مآسي البشر، في قريتي يموت الأطفال في الشتاء قبل بلوغ الثانية من العمر، مثل الكتاكيت يرتعشون بالبرد ويسقط عنهم ريشهم، في الصيف يموتون قبل بلوغ الخامسة من العمر، النزلات المعوية والإسهال يسمونها أمراض الصيف، إذا نجا الطفل من الموت حتى سن العاشرة أصابته دودة البلهارسيا، تأكل كبده وطحاله، يموت في العشرين من العمر، إن عاش فهو ينزف الدم في البول، يتضخم الكبد والطحال، يمتلئ البطن بالماء، يسمى في الطب «استسقا»، إن عاش الفلاح بعد الثلاثين فهو ناحل شاحب ممصوص الوجه، تشاركه في دمه الديدان والعمدة والحكومة، يشتغل طول العام دون عائد إلا الخبز المقدد وقطعة من الجبن الحادق مع المخلل، زوجة الفلاح هي عبدة العبد، تأكل ما يبقى منه، يشغلها كالجاموسة في الحقل والدار، يضربها كالحمارة بالعصا إن عصت الأوامر، يطردها من البيت بعبارة واحدة ينطقها ثلاث مرات: إنت طالق إنت طالق إنت طالق، تصبح الزوجة في الشارع، تدخل طابور الشحاذات إن كانت عجوزا أو المومسات إن كانت شابة.
أبي كل يوم يلح علي: «افتحي العيادة يا نوال! تحرري من وظيفة الحكومة، الوظيفة مقبرة وإن كنت وزيرة، يصنعونك بقرار ويخلعونك بقرار، في عيادتك الطبية لا أحد يصنعك ولا أحد يخلعك.»
لم تكن العيادة حلم حياتي، وليس معي ما يكفي لفتحها، كنت في حاجة إلى سبعين جنيها، ثمن الأجهزة الطبية والأدوات والأثاث وإيجار الشقة في العمارة العالية بميدان الجيزة، كانت شقة صغيرة في الدور الأول، قال لي صاحب العمارة وهو يفرجني عليها: إذا كانت التكاليف عليك كثيرة يا دكتورة هناك طبيب أسنان في الدور الثاني يبحث عن طبيب آخر يشاركه العيادة.
كنت أريد عيادة لا يشاركني فيها أحد، لم تكن الجنيهات معي تكفي، عيادة دكتور الأسنان يدخلها الضوء أكثر من الشقة الأرضية، الصالة واسعة فيها كراسي أنيقة ملونة زرقاء وحمراء وخضراء وصفراء، الجدران مطلية بالزيت تبرق، دورة المياه نظيفة لامعة، التمورجي يرتدي مريلة بيضاء ناصعة البياض، ينحني لي: «أهلا بالست الدكتورة»، دكتور الأسنان عيناه فيهما نظرة مستقيمة، حركته نشيطة مليئة بالحماس: «أهلا وسهلا يا دكتورة نوال، ممكن تاخدي الأوضة الجوانية أوسع من الأوضة بتاعتي وبعيدة أكثر عن دوشة العيانين في الصالة.»
انخفض المبلغ المطلوب للعيادة إلى النصف، أدفع نصف إيجار الشقة، نصف راتب التمورجي، الأثاث لغرفتي بسيط، طاقم مكتب ومكتبة صغيرة، منضدة للفحص الطبي والعمليات الجراحية، جهاز تعقيم وأدوات طبية بالتقسيط عن طريق نقابة الأطباء، وافتتاح العيادة بحفل صغير، حضره أبي، والأصدقاء والزملاء من الأطباء والطبيبات، والزملاء الجدد من الأدباء والأديبات، والشريك في العيادة طبيب الأسنان وزوجته، وأطباء آخرون لهم عيادات في العمارة، صاحب العمارة أيضا حضر الحفل، ولأول مرة في حياتي أسمع أبي يضحك بصوت عال، يلقي رأسه إلى الوراء مقهقها، كانت بطة كعادتها تحكي آخر النكت.
بالأمس كانت الليلة الأخيرة من عام 1958م، أقامت بطة حفلا كبيرا في بيتها بالزمالك، رقصنا بالأطواق الهولا هوب، أنا وبطة وصفية، رقصة جديدة انتشرت في مصر بين الشباب في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كان لي طوق من البلاستيك لونه أخضر، أتدرب عليه في البيت، لم تشاركنا سامية الرقص، انهمكت في الحديث مع الدكتور حمدي زوج بطة، أصدر جمال عبد الناصر أمرا باعتقال الشيوعيين، في الصباح صحوت على صوت سامية عبر التليفون: «رفاعة مسكوه امبارح يا نوال بعد نص الليل، مش حاقدر أحكي في التليفون، حافوت عليكي في العيادة.»
Unknown page