عدت إلى البيت أرتجف من البرد، ابنتي تسعل وتعطس، عيناها حمراوان، استقبلتنا أم إبراهيم عند الباب: حصل إيه يا ضكطورة كفى الله الشر؟! إيه الهيصة اللي ع الجسر دي؟! ادخلي يا دكتورة من العفرة، مالك صافرة كده زي الليمونة؟ والمحروسة بنتك لازم أخدت برد، قلت لك بلاش خروج النهاردة والدنيا كلها غيام. - سعادة الباشا يا ضكطورة! - سعادة الباشا مين عبد الفتاح؟ - الباشا الكبير من دار عبد العليم!
دخل إلى مكتبي رجل طويل نحيف يرتدي بدلة أنيقة، من خلفه رجل يرتدي قفطانا من الصوف الإنجليزي فوق جبة حريرية وعمامة بيضاء كبيرة، ومن خلفهما دخل الأستاذ خير الله الاختصاصي الاجتماعي، ومن خلفه ناظر المدرسة الأستاذ عبد المنعم، يلهثان.
كنت أرتدي بدلة المقاتلين، أنتظر من القاهرة إشارة للسفر إلى جبهة القتال في بورسعيد، رمقني الباشا أو البك بعينين متسعتين، تطوع الأستاذ خير الله بالحديث قبل أن أتكلم، صوته تشوبه سخرية خفيفة: الدكتورة نوال يا سعادة البيه من المتحمسين للثورة وجمال عبد الناصر.
امتقع وجه عبد العليم بيه لسماع الاسم «جمال عبد الناصر»، تسرب منه الدم، أصبح شاحبا أكثر طولا ونحافة، شفتاه الرفيعتان تقلصتا بحركة عصبية، أسنانه صغيرة مدببة بلون الدخان، أخرج سيجارا غليظا داكن اللون، ثبته بين شفتيه بأصابع مرتعشة، أشعله بعود كبريت، عود ثان حين انطفأ، عود ثالث، نفخ من فمه وأنفه دخانا كثيفا أسود، تمتم بصوت لا يكاد يسمع: الراجل ده مش هايجيبها البر!
انكمش الناظر داخل بدلته الرصاصية وأخفى نصف وجهه بالكوفية حول عنقه، أسدل جفونه كأنما لم يسمع شيئا، كان يكفي أن يسمع المرء كلمة ضد جمال عبد الناصر حتى يصبح من أعداء الثورة.
كان الأستاذ خير الله مثل الناظر موظفا بالحكومة، أعلى درجة أو درجتين، ينتمي إلى طبقة خريجي الجامعة المثقفين، له قطعة أرض يملكها، وصلات بأصحاب الأراضي، عائلة عبد العليم ذات سطوة وأرض ومال، وأعضاء في مجلس النواب والشيوخ في عهد الملك، وصداقات ومصاهرات بالطبقة العسكرية الجديدة بعد الثورة، لهم أمام الوحدة قصر كبير يخلو من السكان معظم شهور السنة، يمتلئ بالرجال في موسم الانتخابات أو جمع المحاصيل.
كانت الزيارة قصيرة، أبلغني عبد العليم بيه بصوت رقيق من خلال دخان السيجار أنه سمع عن كفاءتي الطبية، جاء في إجازة أسبوع مع زوجته للاستجمام في العزبة، أصابها نزيف من الرحم فجأة. - يا ريت يا دكتورة نوال تفتحي عيادة خاصة في طحلة. - ليه يا أستاذ عبد العليم؟! - فيه ناس لا يمكن يدخلوا الوحدة أو أي مستشفى حكومي. - ليه يا أستاذ؟ - مستوى الخدمة دائما أقل من العيادات الخاصة. - الوحدة دي فيها كل الأدوية والأجهزة وفيها خدمة أعلى من العيادات الخاصة، ثم إن قانون الوحدات المجمعة يمنع الدكاترة من فتح العيادات الخاصة.
لم يكن الأستاذ خير الله مسرورا من هذا الحوار، لم تعجبه طريقتي في الرد على سعادة الباشا أو البيه: «وتقوليله «أستاذ» كده حاف، مش عارفة إنه ممكن يوديني في داهية.» - «وإنت مالك يا أستاذ خير الله.» - «أيوه مالي يا دكتورة، لأني أنا رئيس الوحدة وأنا المسئول.» - «يا أستاذ أنا المسئولة عن كلامي مش إنت!»
تحت اسم رئيس الوحدة لم يكن خير الله يكف عن التدخل في شئوني، كان عاطلا طول النهار، بلا وظيفة إلا الجلوس تحت التكعيبة والدردشة مع ضيوفه، يشربون الشاي ويدخنون، يكركرون بالضحك والجوزة، يتمشى معهم في مزرعة الوحدة، كأنها جزء من أملاكه، يرمق المزارعين من طرف أنفه كأنهم عبيد الأرض، يستعرض سلطته بالشخط في الموظفين، يقتحم مع ضيوفه القسم الصحي، يتباهى أمامهم بغرفة العمليات، والمرضى الراقدين في القسم الداخلي، والممرضين والممرضات بملابسهم البيضاء النظيفة، يفتح غرفة الكشف دون استئذان، قد أكون منهمكة في فحص مريض أو مريضة. - يا أستاذ خير الله دي أوضة الكشف مش المزرعة. - أنا رئيس الوحدة يا دكتورة نوال، من حقي المرور في أي وقت. - لأ يا أستاذ، مش من حقك دخول أوضة الكشف، ومش من حقك التفتيش على القسم الصحي، دي مسئوليتي أنا!
هكذا كان يدب الصراع بيني وبينه، كانت اللائحة تقول إن رئيس الوحدة مسئول عن الأعمال الإدارية فقط، لم يكن يأبه بالقانون، له معارف من ذوي النفوذ، يتفاخر بأنه قادر على الإطاحة بأي أحد لا يخضع للأوامر.
Unknown page