وقضيت عدة أسابيع طريح الفراش في مستشفى عسكري بالقرب من أسخاباد، أتلوى من شدة الألم وأحس أن ليس في جسمي عظم واحد سليم ومستقر في مكانه الطبيعي، ولكن القائمين علي تبينوا أن كل إصاباتي كانت سطحية، وكان في المستشفى ممرضتان تبديان علي وعلى غيري من المرضى عطفا وحنانا، وتبذلان لنا من العناية ما حببهما إلى قلبي وإلى قلوب سائر نزلاء المستشفى، ولم يكن خافيا علينا أنهما من الطبقة الراقية وأنهما منفيتان من بتروغراد، وصرحت لي إحداهما وهي ليديا بفلفنا بأنها أميرة من أميرات الأسرة المالكة.
ولما شفيت وأصبحت قادرا على السفر أرسلت إلى كيف، وبقيت في أحد مستشفياتها نحو شهر من الزمان، ثم قضيت شهرين آخرين في مصحة بهذه المدينة، سرحت بعدهما وعدت إلى عملي الأول رئيسا للعمال في مصنع بتروفسكي-لينين بدنيبروبتروفسك، وكان ذلك في صيف عام 1928م، وأنا أطوي السنة الثالثة والعشرين من عمري.
الفصل الخامس
قطع الصلة بالماضي
قلما يشعر صغار الممثلين في مسرحية تاريخية عظمى بما في هذه المسرحية من عظمة؛ ذلك أن انهماكهم في تمثيل أدوارهم فيها لا يمكنهم من رؤية خطوطها الرئيسية، ولقد كنت أنا واحدا من هؤلاء الممثلين في مستهل عام 1929م، كنت أحد الشبان المتحمسين الذين تشبعت نفوسهم بالمبادئ السامية والخطط التي وضعت في ذلك الوقت الذي أخذت فيه بلادي تستحث الخطى نحو ثورة جديدة أبعد غورا من بعض الوجوه من ثورتها الماضية، والذي كان فيه ستالين وأعوانه المقربون منهمكين في كفاح مرير مع خصومهم في الهيئة السياسية العليا وفي الحزب الشيوعي كله إلى حد ما، يبذلون قصارى جهدهم لاستئصال بقايا النزعة الاقتصادية الرأسمالية والعقلية الرأسمالية، حتى يقودوا روسيا في طريق التنظيم الصناعي والإنتاج الزراعي الجماعي.
ومن أجل هذا أخذ كل ما لا يزال عالقا بالثورة، ولكنه مطبوع بطابع الوهن والتردد، أو غير متفق مع مطالبها، أخذ كل هذا ينسلخ عنها، وأصبح الولاء للحزب، أي الواجب الذي تفرضه على الأعضاء طائفة معينة من الأهداف، أصبح هذا الولاء أجل شأنا من جميع المصالح الشخصية، وأضحت الآلة الجديدة - وهي رمز التنظيم الصناعي ومادته - ذات شأن خطير في حياتنا، يجعل لكل يوم من أيامها قيمة تعدل عدة أيام من حياتنا الماضية ، فهي منهومة لا تشبع، ذات قوة خفية في حياة البلاد العادية، وخيل إلينا أن ما يعانيه أصحاب النزعة الإنسانية من بلاء ليس إلا بقية من بقايا الماضي العجيب وأثرا من آثاره.
وجرف هذا التيار الجديد آلاف الآلاف من الخلق - طائعين أو مكرهين - فانتزعهم من حياتهم المألوفة ودفعهم أمامه في مجار جديدة، وكانوا في معظم الأحيان لا يجدون كفايتهم من الطعام أو الكساء، ولا يتطلعون إلى أمل وإن كان كاذبا يخفف عنهم ما هم فيه من شقاء، وأنا عليم بالحادثات الفردية التي وقعت خلال هذا التطور الجديد بطبيعة الحال، أعرف ما هو خير منها وما هو شر، ولكني كنت أنظر إليها بعيني حدث في الثالثة والعشرين من عمره، لقن مبادئه السياسية في أحضان لجان الشباب أو في الجيش الأحمر، وآمن بأن الروسيا مقبلة على مستقبل خير من ماضيها، وكنت لذلك من أشد عمال مصنعنا يقظة وأكثرهم شعورا بالواجبات الاجتماعية، يثلج صدري ما أبذله من الجهود في القيام بواجباتي اليومية الإنشائية.
ولقد كانت هناك عيوب كثيرة وآلام شديدة تقض مضاجع الكثيرين، ولكن هذه العيوب والآلام كانت تصحبها حماسة مروعة وآمال تلهب الصدور، لقد كان الأمل في حسن مستقبل البلاد قويا جياشا؛ ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة المحضة أنني اخترت هذه الفترة بالذات لأنضم إلى الحزب الشيوعي، وكنت فيه واحدا من تلك الأقلية التي تحركها الآراء الكامنة وراء المجهود الإنتاجي العظيم، وتملكتني أنا ومن معي رغبة في العمل كانت تبلغ من القوة أحيانا حد الجنون، وقد يكون في مواطني من يصبرون على الثورة الجديدة وهم ساخطون مكتئبون، كما صبروا من قبل على آلام القحط العظيم، وقد يقبلونها على أنها شر طبيعي لا بد منه، أما أنا وأمثالي ممن اعتصموا بالمبادئ وامتلأت قلوبهم إيمانا بالعهد الجديد، فقد بدا لنا أن ما نعانيه من آلام إن هو إلا ثمن نشتري به المستقبل السعيد الذي ترتقبه البلاد وأبناؤها، وخيل إلينا أن التنظيم الصناعي مهما يكن الثمن الذي يبذل فيه، وانتشال الأمة من وهدة التأخر، هما أنبل الأغراض التي يمكن أن يعمل لها إنسان.
وهذا هو الذي يوجب علي أن أقاوم ما قد تنزع إليه نفسي من الحكم على حوادث تلك الأيام في ضوء ما أشعر به اليوم، لقد كانت حياتي كلها عملا وكدحا وحرمانا، وبدا لي أن المطاعن التي يوجهها إلي هذا النظام «الأحرار الذين ولى زمانهم» والذين لا هم لهم إلا الانتقاد ثم البقاء خارج دائرة الجهود؛ خيل إلي أن هذه المطاعن لا تفيد إلا في بث الملل والسآمة في النفوس.
واغترق العمل جهدي وتفكيري، اغترقه عملي رئيسا فنيا للعمال في مصانع تطريق المعادن، وما عقدته من صلات جديدة مع الموظفين وذوي النفوذ من الشيوعيين، وما يلقيه علي الاشتراك في تحرير صحيفة المصنع من واجبات عاجلة، وكنت مولعا بالعمل، لا يخطر ببالي قط أني - بعد أن أكدح طول اليوم في حر المصنع أو المعمل الكيميائي وصخبهما - قد أكون متعبا لا أستطيع حضور الاجتماعات أو سماع الدروس الفنية، أو القيام بالمشروعات الاجتماعية أو أداء بعض الواجبات الكتابية، كأن التعب من أوهام الممولين.
Unknown page