وكانت أنا نفسها يتقسمها تأثير مدرستها السوفيتية والوسط الرأسمالي الذي كان يحيط بها في منزلها، واستطعنا أن نقضي معا شهرا في استراحة مصنعي على شاطئ نهر الدنيبر، وكانت تقابل كل دعاوتي الحزبية بالابتسام وهو حجة لم أجد لها قط جوابا.
ولكني أنا وهي أدركنا أن زواجنا أبعد من مناط النجم، وإن لم يصرح أحد منا بما يعتقد؛ لأننا لم نكن متفقين في «التفكير».
وقد يبدو هذا غريبا، ولكن هذه الحقيقة لا يستطيع فهمها إلا من عاش في زمان وفي مكان طغت فيهما السياسة على كل شيء، فلما عدنا إلى دنيبروبتروفسك افترقنا وبعدت بيننا الشقة، ولما غادرت المدينة للانضمام إلى الجيش في أواخر عام 1927م، كان كلانا يعرف أن فراقنا هذا فراق أبدي، على أنني قابلتها بعد أربعة عشر عاما من ذلك الوقت في مخبأ من الغارات الجوية بمدينة موسكو.
كانت الحدود الممتدة بين إمبراطورية آسيا الوسطى السوفيتية الواسعة الرقعة ذات الشمس الساطعة وبين فارس وأفغانستان وولاية كشمير الهندية، والتي يبلغ طولها ألفا وخمسمائة ميل، كانت هذه الحدود من زمن بعيد مسرحا للقلاقل والحروب بين الروس وقبائل البسمتشي الضاربة على طول هذه الحدود، وكثيرا ما ذكرت البلاغات الحربية أن هذه القبائل قد «أبيدت عن آخرها»، ولكنها كانت تعود مرة أخرى للظهور وهي أشد ما تكون شراسة، تشن غارات جديدة وترتكب فظائع جديدة.
وظلت أعمدة الصحف عدة سنين تفيض بالقصص المثيرة عن أعمالهم المروعة وطباعهم الذميمة، فكانت تصورهم كأنهم عصابات من قطاع الطرق المتوحشين لا هم لهم إلا شن الغارات للنهب والسلب بتحريض رؤساء الدين المسلمين، يستأجرهم الأمراء المخلوعون ويستخدمهم البريطانيون في أغراضهم الاستعمارية، وكان هؤلاء الناس كما تصورهم الصحف الروسية قساة غلاظا إلى أبعد حدود القسوة والغلظة، يعذبون أسراهم من السوفيت، وكان من عاداتهم المألوفة - كما تقول تلك الصحف - أن يدفنوا الأسرى في الأرض إلى مناكبهم، ويتركوهم على هذه الحال حتى يموتوا تدريجا من فرط الجوع والحر والظمأ، أو تلتهمهم الحشرات والنسور وهم أحياء.
وهذه الصورة التي ترسمها الصحف لأولئك القوم لم تكن تخلو من تناقض، فالتلصص والسلب لا يفسران ما كانت تتصف به جماعات صغيرة من البسمتشي من عناد وجرأة في هجومهم على قوات الجيش الأحمر النظامية الحسنة التسليح، والتلصص لا يتفق كل الاتفاق مع خضوع أولئك القوم لنفوذ الملا الديني أو مع صلاتهم السياسية بالأمراء المسلمين وبالبريطانيين.
ولما زدت علما بتلك المشكلة فيما بعد تبين لي أن القصة كما ترويها هذه الصحف من صنع الدعاوة السوفيتية، وأن البسمتشي لم يكونوا في واقع الأمر إلا وطنيين ديدنهم حرب العصابات يشنونها على المغيرين الأجانب الذين يعتقدون أنهم قضوا على استقلالهم القومي، وأنهم كانوا يعرضون حياتهم للخطر ليردوا عن بلادهم أولئك الذين يريدون أن يطمسوا معالم دينهم ويحولوهم عن تقاليدهم، فهم في المبدأ إن لم يكونوا في التفاصيل، يشبهون الوطنيين الهنود الذين كانوا يحاربون البريطانيين في الناحية الأخرى من الحدود.
وكان الحكام الروس في العهد القيصري يجبون الخراج من آسيا الوسطى، ولكنهم يتركون الأمراء والرؤساء الدينيين يسيطرون على البلاد، ولا يمسون النظم السائدة فيها، أما السادة الجدد فقد أخرجوا الأمراء من ديارهم باسم الإلهين الجديدين: لينين وماركس، وأخذوا يسخرون من العقائد الإسلامية ويستوردون آلات «الكفرة» وأفكارهم ليوقظوا البدو الرحل من سباتهم الطويل، وكانوا إلى هذا يفسدون عقول الشباب بما ينشرونه بينهم من الأفكار الغريبة، بل إنهم كانوا يحرضون النساء على خلع النقاب وحرقه والخروج من عزلتهن.
هذه هي المخاوف التي جعلت عصابات البسمتشي المتحصنة في تلال إيران، وفي مدن السهول الأفغانية، وفي التركستان الأصلية، تقاتل السادة الجدد وتظهر في قتالها الكثير من ضروب البطولة والحماسة، وما من شك فوق هذا في أن أهل آسيا الوسطى كانوا في السنين الأولى من هذه الحروب على الأقل يعطفون على أولئك الوطنيين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الجنود الذين اختيروا لقتال أولئك القوم كلما ثاروا لم يكونوا من الكتائب المحلية بل من بلاد الروسيا الأصلية.
ولكن القصة كما يرويها السوفيت لم تكن تخلو هي الأخرى من عناصر صادقة؛ مثال ذلك أن ما وصفت به البسمتشي من عنف وقسوة لم يكن مبالغا فيه كثيرا، فلقد روى لي شهود عيان وبعض من نجوا من هذا العنف وتلك القسوة وهم قليلون، تفاصيل مروعة عن أعمال أولئك القوم، ومما لا ريب فيه أيضا أن النهب والسلب وتجارة المهربات الرابحة كانت تمتزج بروح الحماسة الدينية والسياسية التي تضطرم به صدور هذه العصابات المحاربة، حتى ليصعب على الإنسان في بعض الحالات أن يرى أين تنتهي الوطنية وتبتدئ المنافع المادية.
Unknown page