ولم تكن قلوب هذه الشعوب المختلفة تنطوي على شيء من الحب المتبادل، ولم يكونوا ينزعون إلى المعيشة متفرقين فحسب، بل كانوا يعملون أيضا متفرقين؛ فكان الشرقيون يعملون في أعمق المناجم وأكثرها مشقة، أما الروس والأوكرانيون فكانوا يقومون بالأعمال الهينة على أن الفروق التي كانت تفصل الطبقات كانت أوسع من الفواصل التي كانت تفرق بين الأجناس، فكانت «بقايا» الشعب القديم من أبناء التجار وملاك الأراضي والقساوسة والموظفين والضباط السابقين في العهد القديم والطلاب الأقدمين؛ كان هؤلاء جميعا يشعرون أنهم غرباء ويحقرون علنا ولا يكاد يطيقهم أحد.
وكانت حياة الثكنات حياة خشنة لا تخلو في كثير من الأحيان من القبح والفظاظة، كان الرجال يشربون الفدكا من الزجاجات، فإذا لعبت الخمر برءوسهم صرفوا نشاطهم في التطاحن والتلاكم، ومنهم من كان يقامر ويجادل بأعلى صوته في أسخف الموضوعات؛ ولقد أبصرت عمالا لا يخسرون في ألعاب الورق كل أجورهم فحسب، بل يخسرون معها آخر حذاء لهم، ويخسرون غطاءهم الذي لا غطاء لهم غيره، وكانت أندية العمال وفصول محو الأمية والمكتبات تجتذب إليها عددا قليلا من الصناع الذين طبعوا على الجد والتعقل.
وكان من أسباب متعتي أن أرقب ما يطرأ على صبيان الفلاحين من تطور؛ فقد كانوا يأتون خرقا سماجا واسعي الأعين ليتصلوا لأول مرة بالعالم الكبير خارج قراهم، وكانوا يحتذون نعالا من الأعشاب وسراويل واسعة من غزل منازلهم وصدريات قروية طويلة، وإذا شاهدوا «صعاليك» الصناع والغرباء العجبي الأطوار القادمين من أطراف الروسيا النائية دهشوا لمنظرهم وأخذ منهم العجب كل مأخذ.
ولكنهم سرعان ما كانوا يتبدلون إلى غير ما كانوا إن لم نقل إلى أحسن مما كانوا، فقد كان كثيرون منهم يعودون من المدن وعلى أجسامهم ملابس ابتاعوها من مخازنها، حليقي اللحى متعطرين، يحتذون أحذية جديدة ذات صرير جميل، ويطلبون إلى المصورين أن يصوروهم في زيهم الجديد الجميل ليدهشوا بصورهم أهلهم وذويهم، وكانوا يتبخترون في المحلة جماعات جماعات يمرحون ويصخبون على نغمات المزمار، ومنهم من كانت تجتذبهم النوادي وفصول مكافحة الأمية، وسرعان ما شرع هؤلاء «يأسون» لما كان عليه أصدقاؤهم من «تأخر» ونقص في «الثقافة» ويناقشون الشئون السياسية كأنهم ولدوا في غمرة السياسة من آباء سياسيين.
أما أنا فقد كان النادي محور حياتي بطبيعة الحال، وقد عاد إلي شغفي بالقراءة كاملا بعد أن قطعته الحرب الأهلية والمجاعة إلى حين، ولم أكن أنا وأمثالي نقنع بما في متناول أيدينا من كتب المكتبة، بل كان كل منا يستعير الكتب من الآخر، وكنت في كل مساء وفي أيام العطلات أدرس مناهج في الكيمياء والرياضيات والطبيعة أو أستمع إلى محاضرات فنية عن استخراج الفحم، وارتبطت أنا وسينيا برباط الصداقة مع فتيان وفتيات لا يقلون عنا شغفا بالعلم، وأكسبتني دراستي السابقة شيئا من النفوذ بين الشبان من العمال الممتازين بجدهم، وبين أبناء الكبار منهم.
وامتلأت أعمدة الصحف بالدعوة إلى حياة خير من حياة البلاد الأولى، وأخذت تنشر على الناس أن روسيا الفقيرة المتأخرة تسير في طريق الرقي، وأن الروس جميعا لم يبق أمامهم إلا أن يخرجوا فحما أكثر مما يخرجون، وينتجوا حبا أكثر مما ينتجون، وينالوا من الثقافة أكثر مما ينالون، وكنت أقرأ هذه الدعوة كأنها موجهة إلى شخصي، وكان هذا وذاك من كبار الزعماء الجدد أمثال بتروفسكي، وركوفسكي، بل ولونا تشرسكي نفسه يمرون بالإقليم الذي كنا نعمل فيه، فكنت أصغي لأحاديثهم فأشعر أني جزء من شيء جديد كبير مثير للعواطف، فقد عرفت منهم أن في قصر الكرملن بموسكو يجلس رجال لا نسميهم بأكثر من الرفاق - لينين وتروتسكي وزرزنسكي - ولكني كنت أعرف أنهم جبابرة.
وإذا رجعت بذاكرتي إلى تاريخي الخاص تحت لواء الشيوعية، فإني أميل إلى إرجاع تاريخ اعتناق مبادئها إلى الوقت الذي أقبل علينا فيه الرفيق لزريف، وألقى علينا سلسلة من المحاضرات عن الاشتراكية، وكان لزريف رجلا في نحو الثلاثين من العمر، ومن أعضاء هيئة التدريس بسفرولفسك، طويل القامة، نحيف الجسم، أنيق الملبس؛ وكان حديثه سهلا مقصورا على ألفاظه هو لا يلجأ فيه إلى عبارات ينقلها عن ماركس أو لينين، وكان أهم ما انطبع في ذهني منه أنه يلبس رباط رقبة؛ لأنه بذلك قوى حجة القائلين منا بأن في وسع الإنسان أن يكون مواطنا سوفيتيا صميما، وأن يبيح لنفسه مع ذلك بعض الكماليات التي هي من خصائص الطبقات الوسطى.
وكنت في أحد الأيام في المكتبة منهمكا في قراءة كتاب وإذا إنسان من خلفي يقول: «ماذا تقرأ؟ يهمني أن أعرف ذلك.»
فالتفت وإذا الذي يحدثني هو الرفيق لزريف.
فارتبكت ولكني أجبته وأنا أبتسم: «أحاديث الأب جيروم كوينارد لأناتول فرانس.»
Unknown page