وأبشع ما كانت تقع عليه الأبصار هم الأطفال الصغار بأطرافهم الهيكلية مدلاة من بطونهم المنتفخة كأنما هي البالونات، لقد طمس الجوع من وجوههم كل علائم اليفاعة وأحالهم أمساخا شاهت مما لاقته من ألوان التعذيب، ولم يكن بهم ما يذكرك بطفولتهم إلا آثار بقيت في عيونهم، كنا حيثما أدرنا البصر نرى الرجال والنساء طرحى وقد انتفخت منهم الوجوه والبطون وغاضت من أبصارهم كل معاني الحياة.
طرقنا بابا فلم نسمع جوابا، وطرقنا الباب مرة أخرى ، ثم بيد واجلة دفعت الباب ودخلنا في ممشى ضيق يؤدي إلى الغرفة الواحدة التي يحتوي عليها الكوخ، واتجهت عيناي أول ما اتجهتا نحو سراج في أيقونة في أعلى السرير العريض، ثم صوبت النظر إلى جثمان امرأة في منتصف العمر مسجى على ذلك السرير، وقد ربعت ذراعيها فوق صدرها على صدار أوكراني مطرز نظيف، ووقفت عند حافة السرير امرأة عجوز كما وقف على مقربة منها طفلان: ولد في الحادية عشرة أو نحوها وبنت تقرب من العاشرة، كان الطفلان يبكيان في غير صوت مسموع، وينشدان في صوت حزين أغنية ريفية «أماه يا أماه العزيزة»، ثم أدرت البصر فإذا بالبصر يقع على جسد منتفخ متصلب لرجل ممدود على حافة الفرن.
لم تكن بشاعة المنظر في الجثة الراقدة على السرير بقدر ما كانت في حالة الأحياء المشاهدين، فساقا المرأة العجوز انتفختا إلى حد جاوز كل معقول، ولم يكن ثمة من شك في أن الرجل والطفلين كانوا في آخر مراحل الحياة بفعل الجوع، فعدت مسرعا وبي خجل من سرعة عودتي.
ورأينا في المنزل المجاور رجلا في نحو الأربعين من عمره، رأيناه جالسا على دكة يصلح حذاء، كان الرجل منتفخ الوجه، وكان إلى جواره صبي صغير مرتب الهندام استحال إلى ما يشبه أن يكون هيكلا من عظام، كان هذا الصبي يقرأ كتابا، وإلى جانب الموقد امرأة شاحبة مشغولة بطهيها.
سألها «شاداي»: «ماذا تطهين يا ناتالكا؟»
أجابت في صوت غاضب يشف عن رغبة في انتقام: «أنت تعلم ماذا أطهى.»
وجذبني «شاداي» من كمي وغادرنا الدار.
سألت «شاداي»: «فيم كانت غضبتها؟» - «لأنها ... ماذا أقول؟ إنه ليخجلني أن أنبئك، «فكتور أندريفتش» ... إنها تطهى روث خيل وأعشابا.»
كان أول ما بدا لي أن أفعله هو أن أعود إلى الدار فأمنع المرأة عن طهيها، لكن «شاداي» أمسك بي قائلا: «كلا لا تفعل، نشدتك الله، إنك لا تدري كم يحس الناس من ألم الجوع، إنها قد تقتلك يأسا إذا ما سكبت لها ما في قدرها.»
وبعد أن زرنا ما يقرب من اثنتي عشرة دارا، استمعت لنصيحة «شاداي» في الاكتفاء بما شهدناه إذ قال: «سترى ما رأيت أنى سرت، فقد عرفت الآن ما يكفيك.»
Unknown page