Al-Tawḍīḥ al-Rashīd fī sharḥ al-tawḥīd
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
Genres
الدَّلِيْلُ الثَّالِثُ) حَدِيْثُ قَلِيْبِ بَدْرٍ؛ وَأَقْتَصِرُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فِيْهِ:
١) حَدِيْثُ ابْنِ عُمَرَ فِي البُخَارِيِّ؛ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى قَلِيْبِ بَدْرٍ؛ فَقَالَ: (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟) ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُمُ الآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُوْلُ)، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّهُمُ الآنَ لَيَعْلَمُوْنَ أَنَّ الَّذِيْ كُنْتُ أَقُوْلُ لَهُمْ هُوَ الحَقُّ) ثُمَّ قَرَأَتْ ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى﴾ حَتَّى قَرَأَتِ الآيَةَ. (١) (٢)
٢) حَدِيْثُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ (٣) أَنَّ نَبِيَّ اللهِ ﷺ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِيْنَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيْدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيْثٍ (وَسِخٍ) مُخْبِثٍ - وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ -، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ؛ وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: (يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ؛ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُوْلَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟؟) قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ؛ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا! فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ: (وَالَّذِيْ نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُوْلُ مِنْهُمْ). قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيْخًا وَتَصْغِيْرًا وَنَقمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا.
وَوَجْهُ الدِّلَالَةِ أُمُوْرٌ:
أ- مَا فِي الرِّوَايَةِ الأُوْلَى مِنْ تَقْيِيْدِهِ ﷺ سَمَاعَ مَوتَى القَلِيْبِ بِقَوْلِهِ (الآنَ)، فَإِنَّ مَفْهومَهُ أَنَّهُم لَا يَسْمَعُوْنَ فِي غَيْرِ هَذَا الوَقْتِ، وَهُوَ المَطْلُوْبُ.
فَفِيْهَا تَنْبِيْهٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي المَوْتَى أَنَّهُم لَا يَسْمَعُونَ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ القَلِيْبِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ قَدْ سَمِعُوا نِدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ وَذَلِكَ بِإِسْمَاعِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُم خَرْقًا لِلعَادَةِ وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَهُ الخَطِيْبُ التَّبْرِيْزِيُّ فِي بَابِ المُعْجِزَاتِ مِنْ مِشْكَاةِ المَصَابِيْحِ. (٤)
ب - أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَرَّ عُمَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَقِرًّا فِي نُفُوْسِهِم وَاعْتِقَادِهِم أَنَّ المَوْتَى لَا يَسْمَعُوْنَ (٥)، حَيْثُ بَادَرَ الصَّحَابَةُ (٦) لَمَّا سَمِعُوا نِدَاءَهُ ﷺ لِمَوْتَى القَلِيْبِ بِقَوْلِهِم: (مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ؛ لَا أَرْوَاحَ فِيْهَا؟) فَهَذَا يَدُلُّ أَنَّهُم كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ سَابِقٍ تَلَقَّوهُ مِنْهُ ﷺ، وَإِلَّا لَمْ يُبَادِرُوا لِذَلِكَ الإِنْكَارِ. (٧)
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يُخَطِّأ فَهْمَهُم وَإِنَّمَا أَرْشَدَ إِلَى تَخْصِيْصِ هَذَا السَّمَاعِ بِأَمْرَيْنِ وَهُمَا: (الآنَ) بِاعْتِبَارِ الزَّمَنِ، وَ(إنَّهُم) أَيْ: أَهْلَ القَليْبِ؛ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ جَمْيِعِ المَوْتَى.
ج - قَوْلُ رَاوِي الحَدِيْثِ قَتَادَةَ؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَحْيَاهُم لِيَسْمَعُوا التَّوْبِيْخَ وَلِيَزْدَادُوا حَسْرَةً وَنَدَمًا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَمْوَاتَ لَا يَسْمَعُوْنَ أَصْلًا.
- فَائِدَةٌ) يَظْهَرُ أَنَّ مُنَادَاةَ الكُفَّارِ بَعْدَ هَلَاكِهِم سُنَّةٌ قَدِيْمَةٌ مِنْ سُنَنِ الأَنْبِيَاءِ؛ فَقَد قَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ صَالِحٍ ﵇: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِيْنَ، فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّوْنَ النَّاصِحِيْنَ﴾ (الأَعْرَاف:٧٩).
قَالَ ابْنُ كَثِيْر ﵀ (٨): (هَذَا تَقْرِيْعٌ مِنْ صَالِح ﵇ لِقَوْمِهِ - لَمَّا أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ وَتَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللهِ وَإِبَائِهِمْ عَنْ قَبُوْلِ الحَقِّ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الهُدَى إِلَى العَمَى -، قَالَ لَهُمْ صَالِحُ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ تَقْرِيْعًا وَتَوْبِيْخًا - وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ - كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ) ... فذَكَرَ حَدِيْثَ القَلِيْبِ. (٩)
(١) البُخَارِيُّ (٣٩٨٠).
(٢) هُنَا لَا يُقْبَلُ تَقْدِيْمُ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى كَلَامِ عَائِشَة ﵄ بِدَعْوَى أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَشْهَدْ ذَلِكَ؛ وَهَذَا بِسَبَبِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَيْضًا ﵁ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا أَيْضًا، حَيْثَ جَاءَ فِي صَحِيْحِ مُسْلِمٍ (١٨٦٨) أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ لِلقِتَالِ، وَلَكِنْ يُقَدَّمُ حَدِيْثُهُ مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ مَا رُويَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَأْيِيْدِ مَا رَوَاهُ ﵁؛ قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيْرٍ ﵀ فِي كِتَابِ (السِّيْرَةُ النَّبَوِيَّةُ) (٤٥٠/ ٢): (الصَّوَابُ: قَوْلُ الجُمْهُوْرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُم؛ لِلأَحَادِيْثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ ﵂ وَأَرْضَاهَا).
(٣) البُخَارِيُّ (٣٩٧٦)، وَمُسْلِمٌ (٢٨٧٥).
(٤) قَالَ القُرْطُبِيُّ ﵀ فِي التَّفْسِيْرِ (٢٣٢/ ١٣): (وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (مَا أَنْتُم بِأَسْمَعَ مِنْهُم)، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (فيُشْبِهُ أَنَّ قِصَّةَ بَدْرٍ خَرْقُ عَادَةٍ لِمُحَمَّدٍ ﷺ فِي أَنْ رَدَّ اللهُ إِلَيْهِم إِدْرَاكًا سَمِعُوا بِهِ مَقَالَهُ، وَلَوْلَا إِخْبَارُ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ بِسَمَاعِهِم لَحَمَلْنَا نِدَاءَهُ إِيَّاهُم عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيْخِ لِمَنْ بَقيَ مِنَ الكَفَرةِ، وَعَلَى مَعْنَى شِفَاءِ صُدُوْرٍ المُؤْمِنِيْنَ).
(٥) وَكَذَا كَانَ فَهْمُ عَائِشَة ﵂ حِيْنَ أنْكَرَتْ قَوْلَ (يَسْمَعُونَ) وَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ: (يَعْلَمُوْنَ).
(٦) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَه بِلَفْظِ (قَالُوا) بَدَلَ (قَالَ عُمَرُ). مُسْنَدُ أَحْمَد (١٢٠١٢).
(٧) وَهَذَا العِلْمُ السَّابِقُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ فِي أَعْرَافِ النَّاسِ وَمَا اسْتَقَرَّ فِي نُفُوْسِهِم، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرِيْعَةِ. وَهَذَا الأَخِيْرُ أَرْجَحُ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ (١٤٠٦٤) عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَيَّفُوا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ: (يَا أُمَيَّةُ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)، قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: (يَا رَسُوْلَ اللهِ أَتُنَادِيْهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ؟! وَهَلْ يَسْمَعُونَ؟ يَقُوْلُ اللهُ ﷿ ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى﴾، فَقَالَ: (وَالَّذِيْ نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ يُجِيبُوا). صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
(٨) فِي التَّفْسِيْرِ (٤٤٣/ ٣).
(٩) لَكِنَّ قَوْلَهُ (وَهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ) لَيْسَ فِي الآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ الأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
1 / 104