مقام الكائنات في الطبيعة
قبل أن قام العلم الطبيعي على أسس راهنة في القرن الماضي كان العلم بطبيعة الكائنات ناقصا جدا، وكان الاعتقاد أن مواليد الطبيعة منفصلة بعضها عن بعض انفصالا جوهريا، إن لم يكن في المواد الداخلة في تكوينها ففي القوى التي تفعل في هذه المواد، لا بل كان الاعتقاد أن كل نوع من الأنواع الحية خلق خاص أيضا ثابت لا يتغير، فكانوا يعتقدون أن القوى التي في النبات من غير طبيعة القوى التي في الجماد، والتي في الحيوان غير التي فيهما.
وكان العقل خاصة ميزة الإنسان وحده ومن جوهر مستقل عن جوهر عقل الحيوان، وأن في الإنسان غير ذلك جوهرا خاصا سائدا غريبا عن الطبيعة المحسوسة هبط إليه من العلي هو النفس، وهي التي تفاره إلى من مكانها الأسمى وتحفظ له عينه في العالم الروحاني بعد الموت، كل ذلك من دون أدنى دليل غير ما كان يبدو لنا من الفرق في أفعال الإنسان عن سائر الكائنات، وهو معذور حينئذ؛ لأنه لم يكن يعلم أن هذا الفرق نسبي فقط، خصوصا مع أقربها إليه - أي الحيوان - فلما ترعرع العلم الطبيعي واكتهل، سقطت كل هذه الحواجز بين الكائنات في الطبيعة واتضح حينئذ أنها جميعا من حي وجماد وإنسان وحيوان من أصل واحد مشترك في موادها وقواها، وأنها جميعا متحولات بعضها إلى بعض ومنحلات بعضها إلى بعض، فمادة الدماغ من طبيعة العناصر التي تنحل إليها، وأفعال العقل الراقي من جنس الألفة الطبيعية التي في هذه العناصر، وإن بدا لنا ذلك غريبا بين طرفي سلم الكائنات من أدناها إلى أعلاها، فليس هو بهذه الغرابة للمتدرج فيها، وما هو بأغرب كذلك من أفعال سائر القوى في مظاهرها المختلفة ... فتحريك الآلات بالكهربائية ونقل الأصوات بالتلفون، وحفظها في الفونوغراف ورسم الصور المتحركة في السينماتوغراف، ونقل الأنباء بالتلغراف السلكي واللاسلكي مما لو سمعنا عنه في أوائل القرن الماضي لنسبناه إلى الجن، هي جميعها من أصل الكهربائية البسيطة المعروفة من عهد طالس اليوناني، والتي تجذب إليها قصاصات الورق وقصالات القش مع الفرق الجسيم بينها في الظاهر، وليس من غرضنا أن نثبت كل ذلك هنا بالتفصيل؛ لأن المقام لا يتسع له أيضا، بل نوقف القارئ على النتيجة الكلية الكبرى التي أقرها العلم اليوم باتفاق علماء الطبيعة أجمع، وهي أن الإنسان بمواده وقواه طبيعي هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة وموجود فيها.
فإذا كان العلم اليوم يرى أن المواد والقوى الموجودة في الطبيعة والمشتركة بين سائر كائناتها، كافية وحدها لتفسير جميع تحولاتها وأفعالها البسيطة والمركبة الراقية، فأية حاجة بنا بعد ذلك إلى القول بقوى غريبة لا يدل عليها العلم؟! وليس لنا أقل دليل علمي كذلك على وجود غير منظور ما دام كل شيء تقوم به مواليد الطبيعة موجودا في العالم المنظور ينشأ فيه ويعود إليه، حتى ولا دليل فلسفي كذلك يستقي مصادره من العلم، فلم يبق إلا أن الخروج إلى غير العالم المنظور اجتهاد منا مرضاة لرغائب ومتمنيات غريبة هي نفسها، والتثبت من العلم يزيدها كل يوم غرابة.
تأثير العلم الطبيعي في الأديان
أما غرابة آرائي الدينية فليست إلا لكونها مخالفة للآراء الغالبة بين الناس في أصل الإنسان وحقيقته في هذا الوجود، وقد كان الاعتقاد في القديم أن أصل الإنسان غير ما قرره العلم اليوم، فكانت الآراء الدينية حينئذ متناسبة مع ذلك الاعتقاد، وأما اليوم وقد قرر العلم أن الإنسان كسائر الأحياء في الطبيعة ليس فيه شيء غريب عنها لا في مواده ولا في قواه، فصارت الأفكار الدينية القديمة غير صالحة لأن تكون نتيجة لازمة لهذا العلم، وصار التوفيق بينها وبينه غير ميسور لها بالعلوم العقلية الفلسفية وغيرها من علوم الكلام كما كان في القديم، ومهما بذل من الجهد اليوم في ذلك فالعلوم الطبيعية تنفيه.
ولكن إذا كان البحث من هذه الجهة في الأديان يبدو عقمه في العلم، فقد اتسع له المجال كثيرا من جهة علاقتها بالإنسان في أطوار نشوئه الأدبي وتقلبها معه في العصور، وقد نشأ الإنسان في معبوداته وتحول فيها كما نشأ وتحول في كل شيء له علاقة شديدة به كعاداته ولغاته ونظاماته جميعها، فلم تكن عباداته في أول أمره كما هي اليوم في أديانه الكبرى، بل كانت بسيطة جدا عبارة عن خوف فقط لم ينظر فيه أولا إلا إلى مصلحته القريبة، فعبد كل من رأى له سلطانا عليه، وكم عبد الناس ملوكهم وألهوهم في القديم! ولجهله في أول نشوئه لم يدع شيئا في الطبيعة ضارا أو نافعا، عظيما أو حقيرا، مرغوبا أو مرهوبا، إلا وتوهم فيه ذلك فعبد الحجر والشجر والحيوان والإنسان نفسه، ولم ينتقل بمعبوده إلى ما وراء المنظور إلا بعد أن ارتقى ورأى فساد معبوداته في أشياء هذا الوجود المشهود.
ففكرة البقاء بعد الموت لم تكن به في أول الأمر، أو كانت غير معينة ولم تنشأ فيه إلا بعد ذلك بزمن طويل، فارتسمت له حينئذ مرارة الموت ودفعته إليها محبة الذات
1
حرصا على بقاء العين، وهي حتى اليوم ليست في كل الأديان على حد سوى، والتوراة خالية منها ولا عبرة بالتأويل. ولم تتحول العبادات إلى أديان ذات غرض اجتماعي وانتظمت شرائع أكثرت من التهديد بالعقاب والترغيب بالثواب إلا بعد أن ارتقى الإنسان كثيرا، وانتظمت مجاميعه وأصبحت الشرائع المدنية بأيدي الأقوياء آلة يتصرفون فيها لمصلحتهم، فصار من اللازم لمصلحة الاجتماع وضع نظام يكبح جماح الجبابرة الظالمين ويخفف عن الضعفاء المظلومين؛ فهي من هذه الجهة شرائع اجتماعية أيضا، وإنما جعل سلطانها فوق سلطان أعظم عظيم في البشر لغرض اجتماعي واضح ، على أنها عادت في أيدي الرؤساء كما كانت الشرائع المدنية بأيدي الملوك أنفسهم، ولكنها مع ذلك هونت على الإنسان تحمل الظلم في دنياه بقدر ما فسحت له من الأمل في أخراه.
Unknown page