فقلت في سخرية: وكيف تحطمني؟ هل أنت إله أيها السيد؟ ثم لماذا تريد أن تحطمني؟ ألأني لا أسخر نفسي لك؟ ألأني أرفض أن تشتري ضميري؟ إذن فاسمع أيها السيد، افعل ما تقدر عليه فلست أعبأ بتهديدك، افعل ما تقدر عليه فلست أرهب سطوتك، أنت لا تملك من أمري شيئا؛ لأني غير محتاج إليك في شيء، أنت لا تزيد في نظري على صندوق مملوء بالذهب في قاع المحيط.
وتركته مبادرا قبل أن يجيبني، وكان ينظر نحوي هائجا ينتفض من الغيظ.
ولما صرت في فناء المحلج واستلقيت الهواء البارد أحسست أن جسمي كله يشتعل حرارة، وخرجت متباعدا عن المكان الذي فيه السرادق حتى لا يراني أحد، وكان قلبي يغلي غيظا، ولكنه كان في الوقت عينه حزينا آسفا على هذه العاصفة التي ثارت فجأة.
كانت الساعة العاشرة من المساء عندما خرجت من محلج السيد أحمد جلال، وسرت في الطريق المؤدية إلى جسر الترعة وأنا موزع بين الرضا والأسف والقلق: أما الرضا فلأني كنت أحس وجودي منذ وقفت أمام السيد الكبير وجبهته برأيي ورددت عليه إهانته وتحديت سلطانه عندما هددني بأن يسحقني ويحطمني، وأما الأسف والقلق فلأني كنت أفضل لو لم أصطدم بالسيد أحمد مثل هذا الاصطدام الذي لم يدع سبيلا بيننا إلى الأمل في حفظ مظاهر المودة والمسالمة، فإني عندما خرجت من خدمته من قبل لم أقطع ما بيني وبينه قطعا يحول دون الرجوع إلى مصافاته؛ ولهذا لم أتردد في أن أذهب إليه لأبيع له قطن الشرنوبي، ولم يتردد هو في أن يبعث إلي لأكون معه في أيام الانتخابات، ولكن تلك المصادمة الأخيرة جعلت موقف كل منا نحو الآخر لا يقل عن موقف العداوة الصريحة، وما كنت أحرص على شيء مثل حرصي على حفظ مظاهر المودة بينه وبيني على الأقل، وقد تحرج الموقف بيننا فجأة، ولم يكن ليخطر ببالي أن ذهابي إليه في تلك الليلة يؤدي إلى مثل تلك المغاضبة.
سرت في الظلام أراجع نفسي وأجادلها، والدوافع المتعارضة تتقاذف بي حتى اقتربت من عطفة من العطفات الصغيرة التي تنتهي إلى الجسر، فلمحت عندها جمعا كبيرا من رجال ونساء وأطفال تعلوا أصواتهم في سكون الليل ، ولا يظهر منهم في الظلام إلا أشباح تتحرك في الأشعة الخافتة من مصباح ضئيل عند رأس العطفة، ولم أجد بقربي عطفة أخرى أستطيع أن أنفذ منها إلى المدينة حتى أتفادى المسير بين ذلك الجمع، فلم أجد حيلة سوى أن أتقدم وأشق طريقي، وكان الناس يتزاحمون ويتواثبون ويصفقون في زياط، ويثيرون الغبار القذر بأقدامهم حتى ضاقت أنفاسي من روائحه، فأسرعت في السير كاتما نفسي حتى اجتزت بهم وبدأت أملأ صدري من الهواء الخالص عندما بعدت عنهم، ولكني سمعت من خلفي صيحات مذعورة تنادي: «الإسعاف»، وأصوات أخرى تصيح: «لقد مات!» فتوقفت عن سيري ثم اندفعت بغير تفكير عائدا إلى موضع الزحام لأسأل من هناك عما حدث، وكان أول ما خطر لي أن هناك غريقا يحتاج إلى إسعاف، وتدسست بين الجمع حتى وصلت إلى قلب الحلقة، فإذا أنا أمام شخص حمادة الأصفر ملقى فوق كومة من التراب لا يعي شيئا، ومن حوله بركة قذرة من المواد العفنة التي طردها من جوفه، وشعرت بوخزة مؤلمة في رأسي كأن مسمارا دق في أعلى صدغي، وملت عليه في قلق لأستمع إلى دقات قلبه، وأنا متقزز من الرائحة الكريهة المنبعثة منه ومن الكومة التي حوله، وكان جسمه رخوا تغطيه رطوبة لزجة، وقلبه يدق ضعيفا، فلم أدر ماذا أفعل، فما كنت أقدر على أن أتركه هناك وأمضي في سبيلي، وما كنت كذلك أقدر على البقاء في ذلك المكان القذر لأشارك المتزاحمين حوله في الصباح عبثا أين الإسعاف، فأخرجت منديلين من جيوبي، وأخذت أمسح وجهه ورقبته ويديه مما علق بهما من القذر وألقيت بهما إلى جانب، وصحت في الجمع قائلا: هيا بنا أيها الرفاق نحمله إلى جهة نجد فيها الإسعاف.
ولكن الواقفين نظروا نحوي في تردد، ونظر بعضهم إلى بعض، فقلت لهم: أليس هنا صيدلية قريبة؟
فقال أحدهم: في السوق.
فقلت متوسلا: أرجو أن تساعدوني على نقله إلى مكان قريب نطلب منه الإسعاف.
فاستجاب ثلاثة من الشبان إلى ندائي، ومالوا في صمت إلى الجثة الهامدة ورفعوها معي، واتجهنا إلى ناحية «أبو الريش» وهي الأقرب إلى العمران، ولما سرنا نحو مائتي متر بلغنا الباب الخلفي لمحلج السيد أحمد جلال، فصاح الشبان في نفس واحد: هنا!
وعرجوا إلى الباب ليلقوا فيه حملهم قبل أن أجد وقتا لمناقشتهم، وهناك ظهر وجه حمادة في ضوء المصابيح الكهربائية القوية أبيض مثل وجه الموتى، وهب البواب ومعه ثلاثة من العمال يمنعوننا من الدخول، ولم يجدني نفعا أن قلت لهم إنه «حمادة الأصفر»، وتلفت حولي لأرى موضعا نضع عليه الجسد الذي نحمله، فوجدت دكة البواب فطرحناه عليها، وصاح البواب بنا غاضبا، ولكني لم ألتفت إلى أقواله، وأخذت أمسح العرق الذي كان يتصبب مني، وأخذ الشبان الثلاثة يتشاورون بالنظرات فيما يفعلون، وصاح أحد العمال بنا: «امشوا من هنا.»
Unknown page