هذه هي المسألة التي يلهج بها الأدباء الفرنسيون في باريس منذ وضعت الحرب أوزارها، بل قبل أن تشب الحرب نارها؛ فقد فرضت هذه المسألة نفسها على الأدباء الأوروبيين منذ كان الاصطدام العنيف بين المذاهب في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية بين الحربين حين عظم أمر الشيوعية في روسيا، وأمر الفاشية في إيطاليا وألمانيا، واجتهدت الديمقراطية التقليدية في أن تثبت بين هذين المذهبين من مذاهب السياسة والاجتماع، وفي أن تدفع عن نفسها خطر الفناء الذي يأتيها من التسلط المطلق للجماعة، ومن التسلط المطلق للفرد، على دقائق الحياة الاجتماعية والفردية على السواء.
فقد وجدت الشيوعية أدباء شاركوا فيها، ودافعوا عنها، وقاموا دونها يحسونها بألسنتهم وأقلامهم، ويحاولون نشرها في أقطار الأرض.
ووجدت الفاشية كذلك أدباء أنفقوا ما يملكون من قوة وجهد في الذود عنها، والقيام دونها.
ونظرت الديمقراطية؛ فإذا الساسة وحدهم هم الذين يناضلون ويجاهدون لحمايتها أول الأمر، وإذا الأدباء لا يحفلون بها ولا يتكلفون حمايتها، وإنما يؤثرون أنفسهم بخيراتها، ويستمتعون في ظلها بما يتاح لهم من الحرية ليحيوا كما يحيون، وينعموا كما يستطيعون، ويكتبوا كما يشاءون والتي يشاءون وفيما يشاءون من الموضوعات.
وأكبر الظن أنهم كانوا خليقين أن يمضوا في طريقهم تلك لا يلتفتون إلى ما حولهم من الحياة الواقعة، لو لم يحسوا الخطر يأتيهم من انتشار الشيوعية والفاشية في بيئاتهم الخاصة التي يعيشون فيها، ولو لم يشعروا بأن هذا الخطر يتغلغل في حياة أوطانهم تغلغلا مخيفا، ويوشك أن يخضعهم لأحد المذهبين اللذين كانا يتنازعان أوروبا بين الحربين.
هنالك تبينوا أن حريتهم معرضة للخطر، وأن ثقافتهم معرضة للزوال، وأن فنهم معرض للفناء، وأنهم مخيرون بين اثنتين: إما أن يفنوا في الشيوعية أو الفاشية؛ فيذهبوا مذهب غيرهم من الأدباء الشيوعيين والفاشيين، وإما أن يمنحوا الديمقراطية التقليدية ألسنتهم وأقلامهم، ويشاركوا أصحاب السياسة في الدفاع عنها والقيام دونها وحمايتها من أن يجتاحها هذا الخطر أو ذاك؛ رأوا ذلك رأي العين، وأحسوه إحساسا قويا ملحا، فاضطروا إلى أن يشاركوا في الدفاع عن الديمقراطية، وذهب بعضهم مذهب الفاشية، وذهب بعضهم الآخر مذهب الشيوعية، وخرج الأدب من عزلته، وانحدر الأدباء من بروجهم العاجية إلى أسواق السياسة وميادين الصراع حول المنافع العاجلة والمصالح القريبة، ونشأت هذه الظاهرة الأدبية التي تسمى التضامن في تبعات الحياة.
ثم كانت الحرب، واضطر كثير جدا من الأدباء إلى ما اضطر إليه غيرهم من عامة الناس من مصانعة العدو أو مقاومته، ومن الانحياز إليه أو التألب عليه، ولم يبق أو لم يكد يبقى أديب أوروبي يستطيع أن يقول إنه محتفظ بعزلته، مستأثر بوحدته، معتصم ببرجه العاجي، ينظر إلى اضطراب الناس من حوله كما ينظر إلى ضوء الشمس حين تشرق، وإلى ظلمة الليل حين تغمر الكون، وإلى الأغصان حين يداعبها النسيم، أو إلى ماء الجدول حين يداعب الحصباء، وإلى الطير حين تملأ الجو غناء وبكاء، وإلى أمواج البحر حين تعصف بها الريح.
أكره الأدباء على أن ينزلوا بأدبهم إلى الحياة الواقعة، وعلى أن يشاركوا الناس في آلامهم وآمالهم، وفيما يتاح لهم من سعادة أو شقاء، حتى الذين آثروا الصمت منهم لم يؤثروا الصمت ترفعا عن المشاركة في الحياة الواقعة، ولا تمنعا على التضامن الاجتماعي، ولا حبا في الاعتصام بالبروج العاجية، وإنما اتخذوا الصمت سلاحا لعله كان أمضى من الكلام أحيانا.
فقد كان العدو المنتصرون يودون بجدع الأنوف لو ظفروا من هؤلاء الأدباء الصامتين بشيء من تأييد، كما كان الصديق المتضامنون مع العدو عن رضا أو عن كره، والذين كانوا يسمون بالكويسلنج يتمنون أيضا بجدع الأنوف لو أتيحت لهم معونة هؤلاء الأدباء الصامتين.
فقد اضطر الأدباء إذن إلى أن يشاركوا في الحياة الواقعة، وإلى أن يختاروا بين المذاهب السياسية والاجتماعية التي كانت تتنازع أوروبا في ذلك الوقت، وأدوا ثمن هذه المشاركة غاليا؛ ضحوا فيها بأنفسهم أحيانا، وبراحتهم أحيانا، وبحريتهم دائما، ثم تضع الحرب أوزارها بين الجند المقاتلين دون أن تضع أوزارها بين الساسة المختصمين.
Unknown page