الأدب العربي بين أمسه وغده
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
بول ڤاليري
شاعر الحب والبغض والحرية
صور من المرأة في قصص ڤولتير
في الحب
الساحرة المسحورة
الأمل اليائس
قصة فيلسوف عاشق
ثورتان
الأدب بين الاتصال والانفصال
الأدب المظلم
بين العدل والحرية
فرانز كفكا
ملاحظات
إجازة
في الأدب الأمريكي
في الأدب الفرنسي (1)
في الأدب الفرنسي (2)
حول رسائل سيسرون
الأدب العربي بين أمسه وغده
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
بول ڤاليري
شاعر الحب والبغض والحرية
صور من المرأة في قصص ڤولتير
في الحب
الساحرة المسحورة
الأمل اليائس
قصة فيلسوف عاشق
ثورتان
الأدب بين الاتصال والانفصال
الأدب المظلم
بين العدل والحرية
فرانز كفكا
ملاحظات
إجازة
في الأدب الأمريكي
في الأدب الفرنسي (1)
في الأدب الفرنسي (2)
حول رسائل سيسرون
ألوان
ألوان
تأليف
طه حسين
الأدب العربي بين أمسه وغده
لست أدري أكان الناس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية، وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم، ولكل سؤال جواب، كما يقول جميل لصاحبته بثينة، ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبئون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف، ومن رقي أو انحطاط، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض، أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
وقد كذبت الحوادث كثيرا من هذه النبوءات وصدقت منها كثيرا، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجيب عن سؤال من هذه الأسئلة ألقي عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية، بأنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، وليس هذا الجواب إلا نوعا من أنواع الشك وفنا من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق، فليس من سبيل إلى أن ننكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام أثرها البعيد في حياة الناس، ومتى تأثرت حياة الناس فقد تأثرت آدابهم؛ لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيرا عن هذه الحياة وتصويرا لها، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه.
ولو أن اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم ما نلتمس، لجاز أن يسأل بعضهم بعضا عما كان يمكن أن تحدثه الحرب الميدية من الأثر في آدابهم، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنها ستحدث آثارا بعيدة جدا لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها الناس على اختلاف العصور وتباين الظروف، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعا عنيفا، وستنتج للإنسانية كلها آيات إيسكولوس وسوفوكل وأوريبيد، وبأنها ستدفع أحاديث القصاص دفعا عنيفا إلى التطور، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت، وتنشئ للإنسانية فنا من أجل الفنون الأدبية خطرا وهو فن التاريخ، وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي أنتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين، ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى، لجاز أن يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلوبونيز من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية، ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند أوريبيد، وستمكن أرستوفان من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه الفلسفة العميقة التي كان أرستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب، ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم، وكانوا يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح من الطير، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفرا قاصدا أو غير قاصد، فطلبوها عند «أبلون» في «دلف» أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الأصفياء من الرجال والنساء، فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولا يفكرون فيها، وحسبهم أن يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر، وبما ينتج أصحاب الفن لهم من روائع التصاوير والتماثيل والبناء.
والشيء الذي لا شك فيه أن الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شررا أذكى نارهم العقلية المقدسة، ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علما ونورا، وأن حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولا وبأقطار أوروبية أخرى ثانيا، فكشفت لهم عن ذوات أنفسهم وأظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية فأحسوا وشعروا وفكروا، كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون، ثم صوروا وعبروا، كما لم يكونوا يصورون ويعبرون، وتستطيع أن تقول مثل هذا بالقياس إلى حروب الإسكندر، ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في إيطاليا وفي غير إيطاليا من أقطار الشرق والغرب، كل هذه الحروب أثرت في الآداب القديمة تأثيرا عميقا، وأنتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة ما نزال نستمتع بها إلى الآن، وستستمتع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأي رمز لذلك أبلغ من أن الإلياذة والأوديسا إنما هما نتيجتان لحرب لا يكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئا، وهي حرب طروادة.
ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم، فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والتعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية، ومن فتوح خارج هذه البلاد من التأثير في حياة الأدب العربي، ولكان من الممكن أن يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأن هذا كله سيذهب بالشعر العربي مذاهب لم تخطر لهم على بال، وسينشئ لهم فنونا من النثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب، ولكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولا يقفون عنده، ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير، ويشقون بما تقدم إليهم من شر، فإذا أبعدوا في التماس الغيب أسرفوا في الإبعاد فالتمسوا الغيب عند السوانح والبوارح من الطير، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين، وعند الأنبياء وما يلقى إليهم من وحي وما يهيأ لهم من معجزات، ثم هم كانوا كاليونان والرومان لا يلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة، ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد أنشأ لها أدبا واحدا، ووجه هذا الأدب توجيها جديدا، وليس من شك في أن اصطدام العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم، وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم، فامتلأت الأرض معرفة ونورا، بفضل هذا الاصطدام، وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج، ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينها وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون عليه من شئون الحياة.
ومن يدري؟! لعل القدماء كانوا أدنى منا إلى الحق وأقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثارا للقصد والاعتدال؛ فهم كانوا لا يكلفون أنفسهم ما لا تطيق ولا يحملونها ما لا تحتمل، وإنما كانوا يتلقون الحياة ويحيونها، ثم يسجلون ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر، فقدماء العرب قد عرفوا ما كان من تطور الأدب العربي بعد وقوعه، كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه، وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلا مقاربا يسيرا لا تكلف فيه ولا إبعاد، وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حينا وتكذبها أحيانا، وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي أتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول: إنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، والأمر كله يرجع، فيما يظهر، إلى أن الرقي الذي أتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى ألوان من الغرور وخيل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء، وما دمنا قد استطعنا أن ننهب الأرض بالقطار والسيارة، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه، وننهب الجو بالطائرات، وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق وبالراديو، ما دمنا قد استطعنا أن نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف أستارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو أن ينتهي إلى غاية، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان، وقد قيل: إن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي، ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه، وقليل جدا من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل، وأكبر الظن أن هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة، ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية، وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول - أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون، ولكننا لا نحب صوابهم هذا ولا نكلف به، بل لا نطمئن إليه؛ لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال، ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الإغراق في الغرور، وما قيمة الإنسان إذا لم يعبث به الغرور فيخيل إليه أنه قادر على كل شيء، وأن من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء!
من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن أشياء كثيرة، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي ستدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وقاربت بين الأجيال المتباعدة، وألغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب، وغيرت كثيرا من صور الأشياء، ثم غيرت كثيرا من قيم الأشياء، ثم غيرت كثيرا من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون، فأما المقتصدون من الأدباء الأوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفا، أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حسابا لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أبعد الأثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة، وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شك في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وفي أن ما نجهله أكثر جدا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئا كثيرا في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جدا بالقياس إلى ما ينتظر أن نحققه.
وهذا الذي ينتظر أن نحققه قد يفاجئنا بعضه مفاجأة وعلى غير انتظار، وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد، فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة، ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعا، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون من مستقبل الحياة الأدبية، ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط.
وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لن أتنبأ بشيء لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ، وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في الأيام المستقبلة، فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد، وبين غده القريب دون البعيد، وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولا، وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق؛ لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما يكن هذا الفصل طويلا.
وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب، فقد عمر الأدب اليوناني القديم قرونا طوالا ثم ألقى بينه وبين الناس ستارا، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدبا مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءا منه ولا استمرارا له، فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه، أريد أنه لا يستمد حياته من أمة حية، تنميه وتقويه وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار أو أفلاطون لا نفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر، وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها، ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال، وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالا بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها، فلست أعرف مثلا أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعرا كراسين أو كاتبا كجيرودو أو شاعرا كاتبا كبول فاليري، وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد، ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني، فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية، إن صح هذا التعبير، وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرنا إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألوانا من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه ما زال حيا قويا يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لا تزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لا تزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيدا فهي تمنحه وتأخذ منه، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع ما يقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار، فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع، ويظهر أنها لن تنقطع، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد - هذه الصلة ما زالت قائمة متينة خصبة، كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء، ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية متينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظه ملاحظة مباشرة، ونستقصي أطواره استقصاء حسنا، فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعا مرة مستأنيا مرة أخرى متثاقلا مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلا بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف.
ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا، سالكين معه نفس هذه الطرق، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم ، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث.
فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جدا وحديث جدا قد اتصل قديمه بحديثه اتصالا مستقيما لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض.
أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواز السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون وما زال ماء الحياة فيها غزيرا يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء.
فلنتتبع هذا الأدب تتبعا يسيرا مقاربا، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام.
وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره، أنه يأتلف من عنصرين خطيرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي أنتجته، والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور، ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد، والتجديد.
فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم ما بذل الأدباء وما سيبذلون من الجهود الهائلة المضنية، مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرها في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائما عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التحول عنها؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها، فأنا لا أبحث الآن عن العلل والأسباب، وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلا. لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز بها الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، كل ذلك ممكن، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لا يستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها.
فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من الناس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث عن هذه اللغة المعربة الفصحى، فأنتجوا آثارا فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدبا، ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح، وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبنا العربي لا يهمل الأسماع إهمالا قليلا أو كثيرا، وإنما يعنى بها أشد العناية؛ فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدبا مكتوبا مقروءا، وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه.
وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه، أساسا لكل هذه الخصال.
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر، هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا عليه أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يقل في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع؛ فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائما بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزانا يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء، ثم لم يستطيعوا على كثرة ما عابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية على شعرائها البادين، وقد كان أبو نواس من أشد الناس عيبا للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم، ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولا، كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء، وحن حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الأعرابي القديم يحن إلى ديار هند وأسماء، فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ، وقد أنكر أبو نواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل، ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين، وقد هم الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا، ولكن تكلفهم يرد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء، كما أن مبالغتهم ترد إلى قصد القدماء واعتدالهم، أو تصبح مصدرا للسخر والاستهزاء.
وقد حاول الموشحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة، فيزاوجوا بين أوزان وأوزان، ويخالفوا بين قواف وقواف، ولكن فنهم لم يستطع أن يعمر طويلا، ففني في الزجل، وأصبح لونا من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين.
فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم أستقصها، وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها، وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئا من التجديد، فلا ينجحون نجاحا صحيحا إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار، والنثر مع أنه استحدث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام، قد اتخذ لنفسه أصولا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة المعربة، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصافة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالا ساذجا لا يخلو من روعة وجلال.
ومع أن كثيرا من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية، فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصا شديدا واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إماما أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك، وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء، واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم، ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء، وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية؛ فكما أنك لا تسمع قصيدة ولا تقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب، فأنت لا تقرأ كتابا ولا فصلا إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكاتب أو ذاك من كتاب العصر القديم.
ما زال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر: تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل، للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل ما يكون هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى، مع الحرص كل الحرص على الإعراب، والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظا غاليا في المحافظة، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحا معتدلا، وقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد، وقد يبلغ بهذا الغلو أقصاه، فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف، أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول، ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لا يخرج بالعربية عن أصولها، وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرب ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة، مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى، ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفا عناصر التجديد، وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لسانا ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها.
فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية، مكون من هذين العنصرين اللذين كان «أوجست كونت» يسمي أحدهما ثباتا واستقرارا، ويسمي ثانيهما تحولا وانتقالا. والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار، أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور، وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة، فكان الأدب في بعض العصور مسرعا إلى التطور ممعنا فيه، وكان في بعضها الآخر مؤثرا للثبات حريصا عليه، فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن، حين نشأ الجيل الجديد من العرب، واتصل بالأمم الأجنبية منتقلا إليها ومستقرا في أرضها غازيا أو مرابطا أو عاملا في مصالح الدولة أو مستعمرا وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد، سبيا وموالي، تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شئون الحضارة والثقافة ما لم يكن يعلم. في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء، ولم يكن الأدب بطيئا في الاستجابة لهذا التجديد، فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، واستحدث النثر خطبا مطولة وقصصا مفصلة، ورسائل موجزة مجملة، ثم كثرت أحداث السياسة، فتطورت النفس العربية بدوافع جاءتها من داخل، واشتد الاتصال بين الأمم الإسلامية فتطورت النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج، ثم قوي الاتصال، فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شئون الحياة المادية، وإنما قرأ العرب ما كان عند غيرهم، وقرأ المستعربون ما كان عند العرب، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور العباسية في القرن الثاني والثالث والرابع.
ولست محتاجا إلى أن أفصل هذا التطور أو أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة من جهة أخرى، فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في إسبانيا، اتصلت كل هذه الثقافات اتصالا يختلف قوة وضعفا ويتفاوت سعة وضيقا ويتمايز سرعة وبطئا، ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف المعقد الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الإسكندر وقيام الدولة العربية، فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها، وإنما ورثت حضارتهم أيضا، وورثت معها ما كان عند هذه الأمم من ثقافات متباينة، نقلتها كلها إلى اللغة العربية، وصبتها كلها في القالب العربي، بحيث يمكن أن يقال: إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العرفي في القرون الأربعة الأولى للهجرة، ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الأحداث، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف، وتفوق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور، ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولا ثم الاتصال الدقيق المنظم بينها ثانيا.
والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه، ثم ألغيت المسافات الزمنية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة، الآن وقد كان كل هذا، ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟ أما الذي حدث فمعروف يقرؤه الناس في الكتب، ويدرسه التلاميذ في المدارس، وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيا، وما كان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر منها بنوع خاص.
كل هذا قد غير كثيرا من خصائص النفس العربية، واضطرها إلى أنحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد، ولكنه كان تطورا رائعا حقا. كان تطورا يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه، وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب، فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال.
والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع، وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن، أن يتم التقاطع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام في غير أناة، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكستين، ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها، كما ثبتت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفا للعواصف المتنافرة المتدابرة، وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمودهم أحدا، وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان، ولكن غلوهم لم يلبث أن رد إلى الاعتدال والقصد.
والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، على نحو ما تحقق في العراق والشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين.
وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ اللغة العربية له لسانا، وعرض كثيرا من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة، ثم استقر في البلاد العربية، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حينا، وباللغات الأجنبية حينا آخر. يذهب العرب لطلبه في أوروبا وأمريكا، ويحمله الأوروبيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم.
وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، فقد كان الاتصال القديم ضيقا أشد الضيق، محدودا لا يكاد ينهض به إلا أفراد يمكن إحصاؤهم، وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان ، وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العربي المختلفة، أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينا وبالترجمة المكتوبة حينا آخر، فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث، وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشأوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم.
وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم، وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشرا في أكثر الأحيان، وإنما كان يتم بالواسطة، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل، ومن هنا صرف بعض المذاهب الفلسفية اليونانية عن موضعه، وأضيف بعضها إلى غير أصحابه، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية، أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة، فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضا فينقلون عن فهم وبصيرة في كثير من الدقة والإتقان، وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينتشر درسها في الشرق العربي، فقد ينقل الأدب الفرنسي من طريق الفرنسية والإنجليزية، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك من طريق هاتين اللغتين.
ولكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها، والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الإتقان من النقل بالواسطة في العصر القديم، فالذين ينقلون كتابا ألمانيا من طريق الفرنسية مثلا يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الإنجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ، ولم يكن شيء من هذا ممكنا في العصر القديم، ولعلها أن تكون أجل خطرا من الخصال الأخرى، فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودة، وكان اتصالهم بها بطيئا ضيقا قليل الإتقان. كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضا، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلا، فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه، وهم قد عرفوا الأخلاق وما بعد الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئا، أما الآن فنحن نتصل من طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لا تكاد تحصى، وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية، وقد نتصل بالثقافة الإسبانية والإيطالية.
وقد نقرأ كتبا تنقل إلينا من بلاد أوروبا الشمالية، وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد! ولكن الأوروبيين قد زاروها واستعمروها وكتبوا عنها ونقلوا إلينا كثيرا من أنبائها، ثم إن ثقافتنا لا تتصل بالثقافات الأجنبية من طريق المكان وحده، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضا، فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم، وليس من شك في أن علمنا بتاريخ المصريين القدماء الآن، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ، وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند، وما شئت من أقطار الأرض المتحضرة، فلا غرابة إذن في أن هذه الأبواب التي فتحت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، تباعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى، وقد استطاع أبو العلاء أن يقول:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أنبائهم طرف
ولو قد نشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده، لم تكن شيئا مذكورا بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن، ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن، إلى علمنا نحن في هذه الأيام، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه، ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، خليقة أن تنشئ فروقا خطيرة بين الأدبين في أنفسهما، وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها قد أخذت تظهر شيئا فشيئا أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه، ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسيين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياة الأدبية في فرنسا إنما يبتدئ بالحرب العالمية الأولى، وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية، ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبئ بما كان أدبنا مشرفا عليه من تطور خطير. ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي وعبد الله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران، وكان هؤلاء جميعا وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر، يصورون طورا من أطوار الانتقال؛ فهم كانوا يحافظون على كره، ويجددون على استحياء، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها، وأن فجر حياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئا فشيئا، ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا وإكبار، ولكن فيها كثيرا من الإشفاق والرثاء، وفيها ما يدفع أحيانا إلى الثورة والغضب، فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشئ في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم، ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سرا دائما وإعلانا بين حين وحين، والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل، ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ، ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي، ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي، في الصحف السيارة اليومية، وفي المجلات الشهرية والأسبوعية، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك، فقد كان هذا كله إنباء بأن تطورا خطيرا يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله، وفي تصوره وتصويره، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس، وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشارا وتغلغلا في طبقات الشعب، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبها، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيرا شديدا، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته، وكان هذا لا يزيده إلا استيقاظا وتنبها وإسراعا إلى التطور، ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين، وانجلت عنه الغمرة، وإذا كثير جدا من شئونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لا بأس به، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جدا.
ثم تتقدم الأعوام شيئا، وإذا قرارات تتخذ، ونظم توضع، من شأنها أن تغير الحياة الأدبية في الشرق العربي تغييرا خطيرا، فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى، ولكن انتشار التعليم كان محدودا ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقتير، ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب، فيتنوع ويزداد انتشارا، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جميعا مقدارا من العلم يمكنهم من أن يقرءوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة، وتجد الدولة في تنفيذ هذا الدستور منجحة حينا مخفقة حينا آخر، ولكنها تزيد عدد القارئين على كل حال، وقد ظفرت مصر منذ ثورتها في أعقاب الحرب بحظ من حرية التفكير والتعبير لم تعرفه من قبل، واشتدت فيها الخصومات حول المثل العليا في السياسة والأخلاق والاقتصاد والأدب والفن، فكان هذا كله أشبه شيء بالحطب الجزل يلقى في النار المضطرمة فيزيدها تلظيا واضطراما، وقد صدمت مصر بألوان من الكوارث في حياتها السياسية حدت من حرية الرأي والقول بين حين وحين، ولكنها زادت العقل المصري قوة وأيدا؛ لأنها علمته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانا من الحيل للتعبير عما كان يريد أن يعبر عنه، ولست أدري أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثر في حياتها السياسية، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات.
ولم تكن مصر منفردة بهذا التطور العنيف ولا بهذه الأزمات التي كانت تكبو بها مرة وتنهض بها مرة أخرى، وإنما كان هذا كله حظا شائعا لبلاد الشرق العربي كله تقريبا، فجرى التطور الأدبي متوازنا شيئا ما، ولكن مصر امتازت بمكانها من السبق في السياسة وفي الاقتصاد، وبما أتيح لها من الثروة التي مكنتها من الإسراع إلى نشر التعليم على اختلاف فروعه، ويكفي أن نلاحظ أن مصر أنشأت جامعتين في أقل من ربع قرن، ونشرت التعليم الثانوي في جميع عواصم الأقاليم، ونشرت التعليم الابتدائي في جميع المدن، ونشرت التعليم الأولي في كثير جدا من القرى. ذلك إلى تنوع هذا التعليم واختلاف فروعه، وإلى ما أنشئ من المؤسسات المختلفة التي تعنى بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة، وإلى إرسال الشباب إلى العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعاء الأساتذة من هذه العواصم على اختلافها. كل هذا جعل مصر مركزا خطيرا من مراكز الثقافة العالمية في الشرق، وكل هذا فتح للأدباء أبوابا من التفكير وشق لهم طرقا إلى الإنتاج ما كانوا ليعرفوها لو جرت الأمور في مصر على ما كانت تجري عليه أثناء الاحتلال وقبل إعلان الاستقلال وإصدار الدستور.
ثم صدم العالم صدمته الثانية، وكانت الحرب العالمية الأخيرة، وذاقت مصر من مرارتها غير قليل، واصطلت بعض نارها ست سنين، وكان أهم ما مس الأدب من هذا كله فرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولست أدري إلى أي حد ضاق الأدباء بهذه الرقابة، ولكن الذي أعلمه هو أن هذه الرقابة لم تمنعنا من الإنتاج الأدبي الخالص، ولعلها صرفت بعضنا عن الأدب السياسي فاضطرته إلى إنتاج آخر لعله أن يكون أبقى وأجدى من الأدب السياسي، ولأضرب لذلك مثلا الأستاذ العقاد، فقد صرفته ظروف الحرب عن عنفه السياسي وقتا ما، ولست أعرف أضاق بذلك أم لم يضق، ولكني أعلم أنه دفع إلى ألوان جديدة من البحث والتفكير، وأنتج كتبا ما أشك في أن قراءه يؤثرون أيسرها على أدبه السياسي كله، وجملة القول أن الأدب العربي الحديث خضع أثناء ربع قرن لمؤثرات كثيرة مختلفة دفعته إلى تطور خطير من جميع نواحيه، دفعته إلى التطور في شكله وفي موضوعه، ودفعته إلى التطور سعة وعمقا وتنوعا واختلافا. ويكفي أن نستعرض الفنون التي يمارسها الأدباء لنتبين صدق هذا التقدير؛ فقد أدركنا هذا القرن وأدبنا العربي ينقسم إلى شعر ونثر، وكان شعرنا قديما يحاول التجديد، وكان نثرنا كتبا يسيرة وفصولا تنشرها الصحف، بعضها يمس السياسة، وبعضها يمس الحياة اليومية، وبعضها يحاول التعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها كان يفرغ للأدب الخالص فراغا تاما، وكان عندنا تمثيل نستعير قصصه من أوروبا ولا نكاد نجيد عرضه على النظارة، ولعلنا كنا نسيء إلى فن التمثيل أكثر مما كنا نحسن إليه، وكنا نحاول النقد فنذهب فيه مذاهب القدماء، وكان الشباب يريدون أن يجددوا هذا النقد فلا يظفرون إلا بالإعراض والإنكار، وقد حاول بعضنا أن يحدث في الأدب فنا جديدا، فحاول المويلحي رحمه الله أن ينشئ قصة فأنشأ مقامة طويلة، وحاول حافظ رحمه الله أن يتحدث إلى سطيح فلم يصنع شيئا.
أما بين الحربين فقد دفع أدباؤنا إلى الأعاجيب، وكان أول هذه الأعاجيب هذه الخصومات السياسية التي يسرت اللغة تيسيرا غريبا، ومنحت العقول حدة رائعة ونفاذا بديعا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة والاهتمام لها والتفكير المتصل فيها ، وأحدثت - أو قل أحيت - في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
على أن هذه الخصومة السياسية لم تمس النثر وحده، وإنما ردت إلى شعرائنا الشيوخ شيئا من شباب، فاضطرمت نفس حافظ وشوقي رحمهما الله واستطاعا أن يتصلا بالجمهور بعد أن كانا قد بعدا عنه شيئا، وهذا الشباب الذي رد إلى شوقي في أعقاب الحرب العالمية الأولى دفعه إلى تقليد الشعراء التمثيليين الأوروبيين فأنشأ شعرا تمثيليا قد نرضى عنه أو لا نرضى عنه، ولكن كثيرا منه فتن الذين قرءوه وسمعوه في دور التمثيل.
وهذه الخصومة السياسية دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس فافتنت فيما جعلت تنشر من الفصول، وإذا الأدباء يستعرضون الأدب القديم يحيونه حياة جديدة بالنقد والتحليل، وإذا هم يستعرضون الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول حتى تصبح كتبا تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولا تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعض فإذا هي أسفار قيمة يجد فيها القارئ نفعا ولذة ومتاعا، فهذا نوع جديد من الأدب عرفه الأوروبيون منذ زمن بعيد ولم نعرفه نحن إلا في هذا العصر الحديث، ثم ننظر فإذا تمثيل شعبي ينشأ فجأة يصور حياة الثورة وما استتبعته من تطور الأخلاق، وتغير القيم، وإذا نحن نشغف بهذا التمثيل الشعبي، ولكنا نشهده للهو وقطع الوقت ولا نرقى به إلى مرتبة الأدب الرفيع، فيشعرنا ذلك بأن للتمثيل مكانة أدبية يجب أن تعرف له في مصر، وإذا نحن ننشئ فرقة للتمثيل، وإذا القصص التمثيلية توضع لها حينا وتترجم لها أحيانا، وإذا أدبنا التمثيلي قد نشأ متواضعا ولكنه قد نشأ على كل حال، وكل هذا لا يكفينا، فقد قرأنا القصص الأوروبي طويله وقصيره ومتوسطه، وقرأناه في اللغات المختلفة، وسألنا أنفسنا شاعرين بذلك أو غير شاعرين: ما بالنا لا نقص في لغتنا كما يقص الأوروبيون والأمريكيون في لغاتهم؟ ثم حاولنا مقلدين أول الأمر، مبتكرين بعد ذلك، وإذا نحن نبلغ من الإجادة في هذا الفن الجديد حظا عظيما، وإذا قصصنا يشيع في الشرق العربي ثم ينقل إلى الغرب الأوروبي، وإذا قصصنا يختلف في موضوعه وأغراضه ومذاهب الكتاب فيه على نحو ما يختلف القصص الأوروبي في هذا كله، وإذن فنحن قد دفعنا شاعرين أو غير شاعرين إلى أن نسمو بأدبنا العربي إلى مكانة الآداب الحية الكبرى، وبلغنا من ذلك حظا ليس به بأس وإن لم نبلغ من ذلك ما نريد، ومتى بلغ الناس ما يريدون؟!
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أيسر الموازنة بين أدبنا هذا الحديث الذي لا نكاد نرضي عنه أو نقنع به وبين أدبنا ذلك القديم الذي فتنا به فتونا، يدل على أننا قد وثبنا بالأدب العربي وثبة لم يكن القدماء يحلمون بها ولم تكن تخطر لهم على بال، وقد كان العصر العباسي عصرا ممتازا في التاريخ الأدبي من غير شك، ولكن عصرنا نحن أشد منه امتيازا وأكثر منه خصبا وأعظم منه استعدادا للبقاء.
على أن هناك تطورا آخر لأدبنا الحديث أعظم خطرا وأبعد أثرا من كل ما قدمت، وهو الذي سيوجه الأدب في المستقبل القريب إلى غاياته التي لا يستطيع عنها تحولا أو انصرافا فيما أعتقد، ولهذا التطور الخطير وجهان: أحدهما يتصل بأشخاص الأدباء، والآخر يتصل بالموضوعات التي يطرقها الأدباء، فأما الوجه الأول فنستطيع أن نتبينه في سهولة ويسر إذا نظرنا إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، وإلى العقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى، فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم. أريد أنهم كانوا يتخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة لا تمتاز بالاستقلال، كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له ما يحب من العيش والمكانة، ولا بد له من «مسين» كما يقول الأوروبيون، يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب، أما الثلاثة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب، يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك ويكبرون أدبهم أن يرعاه هذا القوي أو ذاك. هم يعيشون أولا ويعيشون أحرارا، ثم ينتجون أولا وينتجون أحرارا، وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حسابا لهذا أو ذاك. هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها.
وقد تقول إنهم ينتجون للجمهور، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا شيء شائع مجهول لا يستطيع أن يعبث بحرية الأديب ولا أن يعرض كرامته لما لا يحب، وكل إنسان في بيئة متحضرة إنما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما أن الجمهور نفسه يعيش لكل إنسان وبكل إنسان، فالظاهرة الخطيرة في أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي مكنتهم من أن يكونوا أحرارا فيما يأتون وفيما يدعون.
أما الوجه الثاني لهذا التطور فهو أن هذه الحرية نفسها قد فتحت للأدباء أبوابا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعا للسادة والعظماء، وقد أثرت ظروف التطور الإنساني في توجيه هذه الحرية، فقد كان الأدباء القدماء يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون، فأصبح الأدباء المحدثون يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف الأدباء على أنفسهم فحللوها وعرضوها، واستخرجوا من هذا التحليل علما كثيرا ومتاعا عظيما، وكذلك فرغ الأدباء لفنهم فجودوه كما يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفن، لا كما يريد هذا السيد أو ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشعب، فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار، وهذا كله قد رفع الأدب إلى الصدق والدقة، وجعله إنسانيا لا فرديا، ووضعه حيث وضعت الآداب الحية الكبرى نفسها بحكم التطور الذي دفعتها إليه ظروف الحياة الحديثة.
فإذا أردنا أن نتبين الاتجاهات التي سيدفع إليها الأدب العربي غدا، بعد أن عرفنا اتجاهات الأدب العربي في ماضيه القريب والبعيد، وبعد أن رأيناه يحيا بين أيدينا في حاضره الذي نشهده الآن، فقد يخيل إلي أننا نستطيع أن نستنبط هذه الاتجاهات من بعض الحقائق الواقعة، وأول هذه الحقائق الواقعة هو هذا الاستقلال الذي كسبه الأدباء لأنفسهم ولأدبهم، فهم قد أخذوا بحظ من الحرية وهم لن يكتفوا بما أخذوا، ولكنهم سيمعنون في استقلالهم وحريتهم حتى يرتفعوا عن كل رقابة مهما يكن مصدرها، وحتى يتعرضوا - وقد تعرضوا بالفعل - لبعض الأذى في سبيل هذه الحرية.
ومن هذه الحقائق الواقعة أن التعليم ينتشر انتشارا هائلا، ينشأ عنه كثرة القراء من جهة، واختلاف هؤلاء القراء في حظوظهم من الثقافة من جهة أخرى، وسيكون لهذه الحقيقة تأثير خطير في الأدب، فسيحرص بعضهم على كثرة القراء وانتشار آثاره، وسيضطر إلى ملاحظة هذه الكثرة كما كان الأدباء القدماء يلاحظون سادتهم ومواليهم، وسيضعف أدب هؤلاء حتى يصل إلى الابتذال أحيانا، ولعلنا نشهد بعض ذلك منذ الآن، وسيحرص قوم آخرون من الأدباء على كرامة الفن وجودته أكثر مما يحرصون على انتشاره وشيوعه، فيجودون أدبهم ويحفلون بهذا التجويد، ثم يرسلون أدبهم إلى القراء غير حافلين بالرضا أو السخط، ولا بما ينتجه الرضا أو السخط من الفقر والثراء.
وهؤلاء هم قوام الحياة الأدبية، وهم هداة الناس وقادتهم إلى الحق والخير والجمال.
وهناك حقيقة واقعة رابعة، وهي أننا نعيش في عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء - وقد أخذ يعرضهم بالفعل - لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الأناة التي تمكنهم من التجويد، وسيجدون أنفسهم بين اثنتين: إما أن يستجيبوا للراديو والصحف والمجلات فيضعف فنهم ويبتذل بعض الشيء، وإما أن يمتنعوا عليها فيشقوا على أنفسهم ويخلوا بين الجمهور وبين أصحاب الأدب الرخيص، وأكبر الظن أنهم سيلائمون بين هذا كله، فيؤثرون الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفلون به ويفرغون لتجويده ويذيعونه في الناس متى أرادوا هم لا متى أراد الناس، ويقدمون إلى الجمهور من طريق الراديو والصحف والمجلات أدبا يسيرا ، مهما يكن من يسره فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرا على الجمهور.
وهناك واقعة حقيقة خامسة، وهي أن هذه الثقافات الكثيرة التي تصل إلى أدبنا الآن من كل وجه ستوجه كتابنا اتجاهات مختلفة، فمنهم من يساير الثقافة الإنجليزية، ومنهم من يساير الثقافة اللاتينية، ومنهم من يذهب مذهب الروسيين في الأدب، ومنهم من يذهب فيه مذهب الأمريكيين، ويوشك هذا الاختلاف أن يفسد الأمر على أدبنا العربي، لولا أن أدبنا ليس بدعا في ذلك من الآداب الكبرى، فكل أدب خليق بهذا الاسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه، والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته، ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور، وسيوجد بين أدبائنا من يتطرف في هذه الناحية أو في تلك، ولكن ستوجد بين أدبائنا هذه الصفوة التي تعرف كيف تلائم بين مصادر الثروة الأدبية على اختلافها، وكيف تستخلص منها هذا الرحيق الذي تقدمه غذاء للعقول وشفاء للقلوب والنفوس.
وهناك حقيقة واقعة سادسة، وهي التي أريد أن أختم بها هذا البحث الطويل، وهي أن الحياة الإنسانية على اختلاف بيئاتها تتجه الآن اتجاهات شعبية لا فردية، ومن طبيعة هذه الاتجاهات الشعبية أن تستغرق كل شيء وتلتهم كل شيء، ومن طبيعة الأدب الرفيع والفن الجميل أن يمتاز ويأبى الفناء في أي قوة مهما تكن، فسيمتحن الأدباء فيما يحرصون عليه من الامتياز، وسيتعرضون إما للعزلة المؤذية أو الخلطة التي تدعو إلى الابتذال، ولكنهم سيلائمون في أدبنا العربي كما لاءم زملاؤهم في الآداب الأخرى بين امتياز أدبهم الرفيع وطموح الشعوب إلى أن تستغرق كل شيء، وسيكون أدبهم الرفيع الممتاز مرآة صافية صقيلة رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه فيحب منها ما يحب ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح، وينظر الأدب العربي الحديث فإذا هو في مستقبل أيامه كالآداب الحديثة الكبرى، قائد الشعوب إلى مثلها العليا من الخير والحق والجمال.
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
تستطيع أن ترسم لبلاد العرب في هذه الأيام صورتين مختلفتين أشد الاختلاف، وكلتاهما مع ذلك صادقة صحيحة، فهي قسم من آسيا يسمى باسم واحد منذ عصور بعيدة جدا ولكنه يتألف من أقطار وأقاليم تختلف في طبيعتها وتتباين أحوالها الجغرافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضا، فمنها السهل ومنها الوعر، ومنها المرتفع ومنها المنخفض، ومنها الخصب الغني ومنها الجدب القاحل، ومنها ما يسكنه الحضر ومنها ما يسكنه البدو، ثم منها ما يحتفظ باستقلال سياسي قوي أو ضعيف، ومنها ما خضع للأجنبي خضوعا تاما، ومنها بعد هذا كله من يذهبون في الدين مذهب أهل السنة ويتشددون في المحافظة على عقائد السلف الصالح من المسلمين، ومن يذهبون مذهب الشيعة معتدلا أو متشددا، ومن يقيم حياته الدينية على التصوف، ومن يعيش عيشة المسلمين العاديين في البلاد الإسلامية الأخرى، ومن جهل الإسلام جهلا تاما وانغمس في نوع من البداوة هو أشبه شيء بما يصوره الشعر العربي القديم من حياة العرب الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان والأشجار قبل ظهور الإسلام.
تجد هذا كله في بلاد العرب، فلا تكاد تصدق أن لهذه البلاد وحدة ما، أو أن من اليسير أن تتحدث عنها وعن آدابها كما تتحدث عن أي بلد آخر من بلاد الشرق العربي، فأنت تستطيع أن تتحدث عن مصر وعن سوريا وعن تونس أو الجزائر، فتصف حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية في غير مشقة ولا صعوبة؛ لأن لكل بلد من هذه البلاد وحدته الجغرافية والسياسية واللغوية، وهذه الوحدة تمكنك من أن تصف كل بلد من هذه البلاد وصفا مقاربا إن لم يكن دقيقا كل الدقة، أما بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسميها الجغرافيون فليس لها من هذه الوحدة حظ، فما تقوله عن الحجاز لا يصدق على اليمن وما تقوله في أمر نجد لا يصح بالقياس إلى تهامة، فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم. •••
وهذه الصورة التي أصورها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القرب من الصورة التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلها تتفق إلا في الاسم ، وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطار، وحين لم يكن الجمل - وهو أداة المواصلات الوحيدة - يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق، فهذه الأقاليم لا تزال اليوم كما كانت قبل الإسلام، لم تلغ فيها المسافات ولم تقرب بينها السكك الحديدية، ولم يؤثر فيها تأثيرا قويا استعمال التلغراف على قلة استعماله، ولا مرور السفن البخارية على سواحلها في البحر الأحمر أو بحر الهند أو الخليج الفارسي، فهي إذن على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي، وهي إذن على حالها القديم لا يكاد يوجد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية، ومن الغريب أن وضعها السياسي بعد الحرب الكبرى يشبه جدا وضعها السياسي في القرنين الخامس والسادس للميلاد قبل أن يظهر الإسلام فيوثق الصلة بينها وبين بلاد الشرق الأدنى والأوسط.
كانت أطراف الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس للميلاد متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث، وأي شيء الآن إمارة شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء، فيها مدن لها حظ ضئيل من الحضارة، وفيها بادية قوية غنية، وعلى رأسها أمير كان غسانيا قبل الإسلام وهو هاشمي الآن، وهذه الإمارة كانت خاضعة لحماية قسطنطينية قبل الإسلام وهي الآن خاضعة لحماية لندرة، وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة الساسانية من غارة البدو، وهي الآن تقوم فيها مملكة عربية ليس على رأسها لخمي كما كانت الحال من قبل بل هاشمي، وليس يحميها الفرس وإنما يحميها الإنجليز، وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرنين الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم، وكانت تخضع للروم بواسطة الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين أولئك وهؤلاء، وهي الآن كما كانت من قبل، بعضها خاضع لسلطان الإنجليز مباشرة على الساحل، وبعضها مستقل ولكنه موضع النزاع والتنافس بين القوة الإنجليزية والقوة الإيطالية.
تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها وتغيرت بعض الشيء أشكال الحماية والطمع، ولكن طبيعة الأشياء لم تتغير وأسباب الحماية والطمع لم تتغير؛ فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفا من البدو وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري وإما للأمرين جميعا، وطريقة العرب أنفسهم في فهم العلاقة بينهم وبين الأجانب لم تتغير، هي في القرن العشرين كما كانت في القرنين الخامس والسادس تقوم على الحاجة إلى المال والخوف من القوة، فأي الأجانب المجاورين للجزيرة كان أشد قوة وأكثر مالا فهو صاحب النفوذ عند هؤلاء الناس.
أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلا، بادية مستقلة استقلالا تاما تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفا وطمعا، فليس هناك فرق بين إمام صنعاء في اليمن وبين ملك من ملوك حمير في العصر القديم له سلطته المركزية في الحضر، ولكن أصحاب البادية مستقلون لا يخضعون له إلا بمقدار ما يخافونه أو يطمعون في عطائه، ومثل هذا في نجد وتهامة والحجاز. •••
هذه إحدى الصورتين اللتين أشرت إليهما في أول هذا الفصل، أما الصورة الثانية فتمثل بلاد العرب من حيث إنها وحدة متشابهة من بعض الوجوه، فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة، وإذن فمهما يختلف سكان الجزيرة العربية في موطنهم الجغرافي وفي نظامهم السياسي وفي مذهبهم الديني وفي علاقتهم بالأجانب وفي لهجاتهم الخاصة فهم جميعا مسلمون وهم جميعا يكتبون لغة القرآن إذا كتبوا، ويفكرون ويعيشون على نحو ما كان يفكر ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوروبيين والأمريكيين.
ومن هذه الناحية يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد، على أن من الحق عليه أن يلاحظ الظروف الخاصة التي تحيط ببعض الأقاليم فتجعل في آدابه صفات ليست في غيرها من آداب الأقاليم الأخرى، ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه؛ ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطنا للأدب الخالص طول القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعا من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد.
ومع أن العراق قد عظم شأنه جدا في العصر العباسي ونبغ فيه جماعة من الشعراء - منهم من أصله فارسي ومنهم من أصله من هذه الأخلاط السامية التي كانت تنتشر في العراق والجزيرة والشام - فقد ظل في البادية شعراء ممتازون كانوا يفدون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثالث للهجرة، ثم انقطعت الصلة الأدبية، أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشرق العربي، وعادت الجزيرة العربية إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامة في الأدب، وشديدة في السياسة وغيرها من مظاهر الحياة.
فما سبب هذه العزلة التي نشأ عنها أن أصبحت هذه البلاد - التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله - موطن الجهل والظلمة؟ وأصبحت هذه البلاد - التي كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي - أقل البلاد حظا من الامتياز في الأدب واللغة والدين فضلا عن العلوم الأخرى؟
ليس الجواب على هذا السؤال عسيرا، فقد كانت الدولة الأموية عربية خالصة، وكان خلفاء بني أمية ينظرون إلى جزيرة العرب نظرا خاصا؛ لأنها موطن الأرستقراطية الحاكمة من جهة، ولأنها موطن الأمة التي يستمد منها الجند من جهة أخرى، فليس غريبا إذن أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازا في ذلك الوقت. كانت موطن الرءوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكوما، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرءوس المفكرة، بالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أقصي العرب شيئا فشيئا عن الجيش والدواوين.
ولم تكن بلاد العرب تشبه في الخصب والغنى بقية البلاد الإسلامية فأهملتها الدولة ويئست هي من الخلافة، ولم تكن المواصلات بينها وبين عاصمة الخلافة منظمة ولا سهلة، فليس عجيبا أن تضعف العلاقة بينها وبين مركز الحكومة الإسلامية في بغداد شيئا فشيئا حتى انقطعت انقطاعا تاما. أضف إلى ذلك أن تغلب الفرس والترك على بغداد لم يكن من شأنه أن يحتفظ بالعلاقة بين جزيرة العرب نفسها ومواطن الحضارة الإسلامية، وأن جزيرة العرب نفسها لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جلبت إليها جلبا أيام الأمويين؛ لهذا كله انسحبت الجزيرة - إن صح هذا التعبير - من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلا قليلا، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم، ولولا أن البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأهملت هذه البلاد إهمالا تاما ولنسيها تاريخ المسلمين.
نشأت عن هذه العزلة آثار سيئة جدا في حياة الآداب واللغة العربية عامة، وفي حياة اللغة والآداب في جزيرة العرب نفسها بنوع خاص؛ فقد كان اتصال العالم الإسلامي بجزيرة العرب في القرون الأولى للتاريخ الإسلامي يبعث في الآداب العربية في العراق والشام ومصر روحا من البداوة وحياة الصحراء يمنحها شيئا من القوة والجزالة في الألفاظ والأساليب والمعاني أحيانا، فلما انقطعت هذه الصلة أمعن هذا الأدب العربي في الحضارة والترف وفقد روحه العربي الخالص شيئا فشيئا حتى استحال آخر الأمر إلى جسم لا تكاد تمشي فيه الحياة؛ فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض.
وكانت جزيرة العرب في تلك القرون الأولى تستفيد من هذا الاتصال، فكان وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز ونجد، يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلوا في عزلتهم الأولى، ويكفي أن يلاحظ أن الغزل الحجازي - وهو أجمل ما قيل في الإسلام من غزل - إنما هو نتيجة لتبادل الصلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق والشام ومصر، على أن العلم نفسه قد خسر بهذه العزلة خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدون في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح.
وعلى هذا أخذت اللغة العربية وآدابها في الجزيرة تتغير وينالها التطور من حين إلى حين دون أن يدون هذا التطور أو يسجل، وأصبح من المستحيل الآن أن نعرف الصلة الحقيقية بين اللهجات العربية في الجزيرة الآن وبين اللهجات التي كانت فيها أثناء القرون الثلاثة الأولى.
على أن العلاقات لم تنقطع بين بلاد العرب وبين البلاد الإسلامية الأخرى من كل وجه، فقد كان المسلمون يحجون في كل سنة كما قدمت، وكان مركز اليمن التجاري يهم بلاد البحر الأبيض المتوسط دائما؛ ولذلك لم تكد تفسد العلاقة بين الجزيرة وبغداد حتى قامت مقامها علاقات أخرى بين الجزيرة والقاهرة وحرصت القاهرة منذ أيام الفاطميين على أن يكون نفوذها عظيما جدا في الحجاز واليمن بنوع خاص، ولكن هذه العلاقات كانت سياسية دينية أكثر مما كانت أدبية علمية، والذين يريدون أن يتتبعوا تاريخ الأدب العربي داخل الجزيرة يستطيعون أن يظفروا بشيء من ذلك في مدن الحجاز واليمن، وذلك بفضل هذه العلاقة بين القطرين وبين مصر، وبفضل المكانة الدينية لمكة والمدينة.
أما نجد فإن حياته الأدبية قد ضاعت ضياعا تاما إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريبا. •••
وعلى كل حال فإن في الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها؛ في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية، وهذا الأدب - وإن فسدت لغته - حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب.
باديتهم، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنا، فطبيعي إذن أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء، وما يثور في نفس الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حينا والحب حينا آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ بالغزل القليل البسيط المؤثر، ثم تنتقل إلى وصف الإبل والصحراء فتطيل في ذلك ثم تصل إلى غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر، ومثل ذلك يقال في الخطابة، فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم، حلو الحديث محب للسمر والقصص إذا اطمأن واستراح، خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو جدال، وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحيانا، ولسوء الحظ لا يعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما؛ لأن لغته بعيدة عن لغة القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين.
أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة ، وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير، وإذا كان الأدب الشعبي مصورا للحياة العربية البدوية تصويرا صادقا ممتازا فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير؛ ذلك لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب، وإنما يمثل ما يريد الشعراء والكتاب أن يضعوه فيه. حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين، كذلك كان أدباء المدن في جزيرة العرب طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن، ونستطيع أن نؤكد أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج ولكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرءونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يقرأ ويدرس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين كما أنهم يقلدونهم في الدرس، وهم إن أرادوا أن ينظموا الشعر قلدوا المصريين والسوريين. •••
أما أهل اليمن فليس تأثرهم بمصر أقل من تأثر الحجازيين، وإن كان لهم مذهبهم الديني الخاص، فهم على كل حال يذهبون مذهب المصريين في درس العلوم الدينية واللغوية. هم تلاميذ الأزهر يفدون عليه فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم فيعلمون، والغريب أنهم لا يزالون يدرسون العلوم الرياضية والطبيعية على نحو ما كانت تدرس في الأزهر قبل أن يمسه التجديد في أوائل هذا القرن، فالفلك والحساب والمساحة والهندسة والطبيعة؛ كل ذلك يدرس في الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية قبل أن تتأثر بالحضارة الأوروبية الحديثة، ولليمن شعر ولكنه تقليدي كشعر الحجاز يذهب فيه أصحابه مذهب المصريين قبل أن يرتقي الشعر المصري، وأنت تكلف نفسك مشقة شديدة إن أردت أن تلتمس في اليمن أو الحجاز الآن شعرا له قيمة فنية حقيقية، إنما هي ألفاظ مرصوفة يكثر فيها البديع وتدور حول معان تافهة، وما رأيك في أربعة أو خمسة من الشعراء يضيعون وقتهم في صنعاء في نظم القصائد الطويلة الركيكة حول هذا المعنى وهو: «أي الأمرين خير: قرب الروح من الروح أم قرب الجسم من الجسم؟»
وقل مثل هذا في مدح الحجازيين واليمانيين ورثائهم وهجائهم وغزلهم؛ كلام لا طائل تحته ولا غناء فيه، صورة صحيحة لما كان يقال في مصر والشام قبل خمسين سنة.
أما شرقي البلاد العربية فتأثره بالعراق أشد من تأثره بمصر والشام، ففي بعض القرى في أطراف الجزيرة مما يلي العراق شعراء، وفيها أيضا علماء في اللغة والدين، وهم تلاميذ العلماء والشعراء الذين يظهرون في بغداد والبصرة، ولم يكن أهل العراق أحسن حالا من السوريين والمصريين أيام السلطان التركي فليس غريبا أن يكون تلاميذهم في أطراف الجزيرة العربية وفي نجد مقلدين متكلفين، وإنه لمما يضحك أن تقرأ طائفة من الشعر رواها الألوسي لجماعة من شعراء نجد يصفون بها عينا ينبع منها الماء الحار هناك ويختلف الناس إليها للاستشفاء. لا تجد في ذلك الكلام المنظوم فنا ولا شعورا بالجمال ولا تصويرا له ولا شيئا يبعث في نفسك اللذة الفنية وإنما هي ألفاظ سقيمة ثقيلة قد زادها النظم السيئ فسادا ورداءة.
هذه كانت حال الأدب في بلاد العرب إلى وقت قريب جدا إلى ما بعد الحرب الكبرى؛ تقليد شديد عقيم للمصريين والسوريين والعراقيين في علوم الدين واللغة وفي الأدب.
ولكن حركة التجديد العلمي والأدبي ظهرت في مصر والشام والعراق منذ القرن الماضي واشتدت جدا في هذا القرن ولا سيما بعد الحرب بفضل هذا الاختلاط العنيف الذي يزداد كل يوم بين الشرق والغرب، فتأثر كل شيء بحركة التجديد هذه في الشرق حتى الأزهر نفسه، ولم يكن بد من أن يصل أثر هذه الحركة إلى بلاد العرب لأن الحرب الكبرى هزتها كما هزت غيرها من البلاد، ولأنها اتصلت بالأوروبيين اتصالا مباشرا شديدا بعد الحرب ولأن العلاقات كثرت جدا بينها وبين الشرق العربي، وكما أنها كانت تقلد هذه البلاد فيما كان عندها من أدب القرون الوسطى فلا بد لها من تقليدها في أدبها الحديث. •••
على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضا؛ هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد.
نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معا، فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك؛ فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه.
وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبا رسميا يعتمد على قوة سياسية تؤيده وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لتعرف ما هو، وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث.
قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معا ، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله ويعظمون الأشجار والأحجار ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسما لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوما مسلمين حقا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنا.
ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشغب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له الطاعة وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.
ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول، ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيما خطيرا من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان، وهو قد لفت المسلمين جميعا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب.
فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين كان أنصار القديم من علماء العراق، سواء منهم أهل السنة والشيعة يردون على هذا المذهب ويكفرون أصحابه، وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم، وكان أولئك وهؤلاء يقرءون كتب السلف في التفسير والحديث والتوحيد والفقه يلتمسون الأدلة على آرائهم، وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل والكتب التي يجمعونها، كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يرجع إليها في التماس الأدلة والبراهين، وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون، ونشرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم، واستفاد العالم العربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة، وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضا، فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي؛ ينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبا جديدة في الفقه والتوحيد والحديث، وما زالت مطابع القاهرة إلى الآن تطبع الكتب المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن. •••
وفي أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد جماعة من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عما يصيبهم من الهزيمة، وليس من الممكن أن يقال إنهم جددوا في الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن، ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر والثالث عشر في لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة التي لم تكن تسمع من قبل. هذه النغمة التي لا يقلد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلف فيها البديع وإنما يبعثها حرة ويحملها كل ما تجيش به نفسه من عزة وطموح إلى المثل الأعلى ورغبة قوية في إحياء المجد القديم.
نجح المصريون في إخماد هذه الثورة الوهابية، أو قد نجحوا في إفساد هذه النهضة ولكنهم لم يقتلوها؛ أضعفوا سلطانها السياسي ولكن سلطانهم هم السياسي قد أضعفته أوروبا بمعاهدة سنة 1840، وعجز الترك عن أن يحكموا قلب الجزيرة العربية؛ فاستراح الوهابيون وأسوا جراحهم واستأنفوا قوتهم ونشاطهم ومضت نهضتهم الدينية في سبيلها، ثم تبعتها في هذه الأيام نهضة سياسية بسطت سلطانهم على نجد كله وعلى الحجاز كله وأعادت لهم المثل الأعلى وهو توحيد الكلمة العربية، ولكن بلوغ هذه الغاية الآن ليس من السهولة واليسر بحيث كان أوائل القرن التاسع عشر، فقد استيقظ الشعور القومي في البلاد العربية كلها وأحاطت بجزيرة العرب من جميع أطرافها قوة ليس فيها ما كان في القوة التركية من الضعف والفساد والاضطراب والفقر وهي قوة الإنجليز، وليس الذي يعنينا هو المستقبل السياسي لهذه البلاد وإنما الذي يعنينا هو المستقبل الأدبي، ومن المحقق أن هذا المستقبل الأدبي سيكون باهرا في يوم من الأيام، قريب أو بعيد.
جمع ملك الوهابيين الآن جزءا عظيما جدا من الجزيرة العربية ولم يبق سبيل إلى أن يظل الوهابيون وغيرهم من ملوك العرب وأمرائهم بمعزل عن الحياة العالمية العامة كما كانوا من قبل، بل هم مضطرون إلى أن يتصلوا بالممالك الإسلامية والأوروبية اتصالا سياسيا واقتصاديا منظما، وقد بدأوا ينظمون هذا الاتصال بالفعل؛ فللوهابيين وزير مفوض في لوندرة، وملك الوهابيين على اتصال مستمر بممثلي الإنجليز في عدن، وقد بدأ الإيطاليون يدورون حولهم، وهناك صلات أخرى ربما كانت أشد وأسرع تأثيرا من هذه الصلات السياسية والاقتصادية وهي الصلة العقلية التي تحدثها الصحف والمجلات، والكتب تطبع الآن بكثرة في مصر وفلسطين والشام والعراق وأمريكا، وكلها أو كثير منها يصل إلى كثيرين من أهل الجزيرة العربية، وهم يقرءون فيفهمون أحيانا ويعجزهم الفهم أحيانا أخرى، ولكنهم يعجبون على كل حال، والإعجاب أول التقليد، والتقليد أول الإنتاج الفني.
وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية ، ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدبا وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين وهي الآن تسمى أم القرى، وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضا وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية الابتدائية تدرس فيها أوليات العلم درسا حديثا وتعلم فيها بعض اللغات الأوروبية، كل هذا إلى جانب التعليم الديني القديم، وأغرب من هذا أن دعوة إلى التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون، وهذه الدعوة عنيفة جدا فهي ساخطة أشد السخط على كل قديم في الحجاز؛ على التعليم الديني والأدبي وعلى نظام الحكم وعلى الحياة الاجتماعية، وقوام هذه الدعوة أن الحجاز يجب أن يحيا حياة الأوطان الحرة المستقلة وأن يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الأوروبيين بعد ذلك ما استطاع، وأن يستفيد من إقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين، وأن يعنى أهله أشد العناية بالتعليم المدني وباللغتين الإنجليزية والفرنسية لأن إحداهما لغة الاقتصاد والتجارة والأخرى لغة العلم والأدب.
وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما يدرسه المصريون، وأصحاب الدعوة إلى التجديد لا يكتفون بهذا بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندرة، وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما. •••
ومع إسراف النجديين في المحافظة، بحكم مذهبهم الوهابي، فلن يستطيعوا مقاومة الحركة التجديدية التي تأتيهم من العراق ومصر، وبين يدي الآن طائفة من القصائد غير قليلة أنشأها جماعة من الشعراء النجديين في مدح الملك عبد العزيز بن سعود، والذي يقرأ هذه القصائد يجد فيها تأثيرا ظاهرا جدا للروح العراقي الذي يتجلى في شعر جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي، والروح المصري الذي يتجلى في شعر حافظ وشوقي، ولكن للشعر النجدي الجديد شخصية تميزه من شعر العراق ومصر، فهو على تأثره بالشعراء المحدثين محافظ في لغته محافظة غريبة، يتخير القوافي الصعبة ويطيل فيها ويكثر منها ويسرف في الألفاظ الغريبة البدوية كأنه يلتمسها من المعاجم، وكأنه يأخذها من لغة البادية النجدية التي هي في مادتها على كل حال لغة الشعر العربي القديم، وقلما يستطيع الشعراء النجديون أن يتتبعوا شعراء العراق في تأثرهم بفلسفة المعري والخيام، أو بالنزعات الأوروبية الحديثة، أو يتتبعوا المصريين في تجديدهم العنيف لألفاظ الشعر وأساليبه ومعانيه، وإنما هم معتدلون، وهم إلى إحياء الشعر القديم أقرب منهم إلى إيجاد شعر جديد، وهم بدويون على كل حال، وهم ينشدون الملك في شعرهم كما كان يفعل القدماء، ويجيزهم الملك على هذا الشعر بالإبل أحيانا وبالثياب أحيانا أخرى وقلما يجيزهم بالذهب والفضة، وأهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرا، والعراقيون يصعدون إلى نجد، ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي.
وفي تهامة وعسير حياة عقلية ولكنها ضئيلة جدا، وهي ممعنة في التصوف متأثرة في ذلك بإفريقيا الشمالية، فقد نقل إليها الإدريسيون طريقة مغربية انتشرت فيها وظفرت بالسلطان السياسي، ولكنها لم تحدث نهضة أدبية ولم تغير من حال الأدب شيئا.
أما اليمن فهي أشد البلاد العربية محافظة على قديم القرون الوسطى، يعنى أهلها بعلوم الدين على طريقة الزيدية من الشيعة وينشرون الكتب الكثيرة في هذه العلوم يطبعونها في مصر، ولهم شعر كثير ولكنه ما زال قديما متأثرا بالروح المصري الشامي الذي كان منبعثا في الشعر قبل النهضة الحديثة، والشعر عندهم مختلط بعلوم الدين، فقلما تجد منهم عالما دينيا إلا وله مشاركة في الشعر، وأكثر أئمتهم شعراء، وإمامهم يحيى الآن يجيد الشعر على النحو القديم، ومن غريب أمر اليمن أنها ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلاد العربية حظا من العلم والأدب في حواضرها، وكان يرجى أن تكون أسرع البلاد العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة الجديدة، ولكنها الآن ربما كانت أشد البلاد الإسلامية كلها تمثيلا للحضارة القديمة والأدب القديم، وأهل اليمن يفدون على مصر ولكنهم يفدون للتجارة أو لدرس العلم في الأزهر، وليس منهم من يفكر في الاتصال بالمدارس الحديثة، وليس في صنعاء مدرسة وليس فيها مطبعة، ومصدر ذلك - فيما يظهر - إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاقهم أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعا، ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة. •••
وجملة القول أن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: إحداهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة، وقد يقال إن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريبا في بعض البلاد وبعيدا في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال.
بول ڤاليري
يسميه الفرنسيون شاعر العقل، ونستطيع أن نسميه عقل الشعر؛ فهذا الوصفان يصورانه أصدق تصوير، وكلا الوصفين يطابق صاحبه مطابقة دقيقة صادقة، والواقع أن حياة بول ڤاليري قد كانت سباقا بينه وبين الأدب، يفر هو من الأدب ما وجد إلى الفرار سبيلا، ويجد الأدب في طلبه ما وجد إلى الجد في طلبه سبيلا، وقد يضطر هذان المتسابقان إلى أن يلتقيا، فإذا كان بينهما اللقاء بدأ بينهما حب عنيف ووصال شديد القسوة قوامه الصراع المتصل، ثم ينكشف هذا الجهاد عن أثر من الآثار لا يستطيع الإنسان أن يقول أي المصطرعين قد غلب صاحبه عليه، أهو الأدب الذي قهر بول ڤاليري فأكرهه على أن يخرج للفرنسيين أروع ما عرفوا من الشعر وأبرع ما قرءوا من النثر، أم هو بول ڤاليري الذي قهر الأدب واضطره إلى أن يذعن لسلطان العقل ويخضع لأصوله الدقيقة ومناهجه الصارمة، ويخرج للفرنسيين حكمة مشرقة وفلسفة مضيئة قوامها الخير في أبدع صوره، والحق في أكرم مظاهره، والجمال كأروع ما يكون الجمال.
وقد يظن القارئ أني أذهب بهذا الحديث مذهب التمثيل والمجاز المقارب أو المباعد والافتنان في التعبير، ولكن الواقع في حياة بول ڤاليري ومن جهده العقلي والأدبي يطابق هذه الصورة التي عرضتها عليك أدق المطابقة وأصدقها، فقد ولد بول ڤاليري سنة 1871 في مدينة ست ونشأ فيها وبدأ فيها درسه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة انتقل إلى مونبلييه ليتم فيها درسه الثانوي، وكان أثناء هذا الدرس مزدريا لنظام الدراسة، معرضا عن درس المعلمين، ناقدا لأساتذته، ساخرا مما يقولون، مؤثرا الاعتماد على نفسه في تحصيل ما يحتاج إليه أو ما يميل إليه من العلم، وكان طموحا إلى العمل في الأسطول ضابطا بحريا، ولكنه لم يظفر من العلوم الرياضية بما كان في حاجة إليه ليدخل المدرسة البحرية؛ ولذلك أعرض عن البحر وعن الأسطول وعن الرياضة واكتفى بدراسة الحقوق، ثم كانت الخدمة العسكرية حين أتم التاسعة عشرة من عمره في مدينة مونبلييه أيضا، وفي هذا الوقت عرف شابين فرنسيين كان لهما حظ من البحر عظيم؛ أحدهما بيير لويس، والآخر أندريه جيد. ولما فرغ من الخدمة العسكرية - وكان قد قرض شيئا من الشعر - لم تعجبه الحياة الأدبية؛ فقرر الانصراف عنها والفراغ للحياة العقلية الخالصة، وأنفق في هذه الحياة العقلية الخالصة أعواما، وأكبر الظن أنه أخذ يقرأ آثار الفلاسفة القدماء والمحدثين، ويفكر فيما يقرأ ناقدا محللا مستنبطا، وأكبر الظن أن السباق بينه وبين الأدب قد بدأ في ذلك الوقت؛ فهو كان قرض شيئا من الشعر ونشره في بعض المجلات وظفر بشيء من الإعجاب، ولكنه أعرض عن الشعر وفرغ للفلسفة، وإذا حياته العقلية التي فر إليها من الأدب تثير في نفسه خواطر لا يجد بدا من تسجيلها، ولو استطاع لما سجلها ولا حفل بها، ولكن هذه الخواطر تلح عليه وتلح، وتضطره إلى أن يقف عندها ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب آيته الرائعة «مسيو تست»، ومسيو تست هذا ليس إلا بول ڤاليري في هذا الطور من حياته، حين شغف بالعقل وآثر أن ينحاز إليه ويقف نفسه على التفكير فيه، وحين بهره ما رأى من حياة العقل فيما بينه وبين نفسه أولا وفيما بينه وبين الحقائق الخارجية ثانيا، وقد اضطره هذا المشهد الرائع الذي استكشفه حين عكف على نفسه إلى حياة داخلية قوية أشد القوة، إن صح هذا التعبير، فهو قد استكشف في ضميره عالما أشد جمالا وأعظم روعة وأكثر دقة وتنوعا من العالم الخارجي الذي يعيش فيه، فمنح عنايته كلها أو أكثرها لهذا العالم الداخلي، وعاش مع نفسه أكثر وقته، ولم يصبح العالم الخارجي بالقياس إليه إلا وسيلة للعالم الداخلي يمنحها من العناية أيسرها وأهونها شأنا، فهو يحيا بين الناس وكأنه لا يراهم، ويتحدث إليهم وكأنه لا يسمعهم لأنه مشغول بهذا العالم الرائع البديع الذي يملأ نفسه من جميع أقطارها، فحياته في العالم الخارجي آلية غافلة ذاهلة، ولكنه يمنح هذا العالم الخارجي في بعض الأوقات النادرة لفتة من لفتاته، وإذا هو يلتهمه التهاما وينقض عليه كما ينقض الوحش على فريسته، ثم لا يلبث أن ينصرف عنه إلى عالمه الخاص وكأنه لم يره ولم يلمم به.
والمهم هو أن بول ڤاليري الذي فر من الأدب إلى الفلسفة لم يستطع أن يفلت من الأدب، وإنما أدركه الأدب، وكان بينهما هذا الجهاد الذي انتهى بإنشاء هذا الكتاب الذي سيظل شابا دائما وخصبا دائما وحافلا بما يملأ النفس إعجابا وبما يدفع العقل إلى التفكير المتصل الذي لا يضيع في غير نفع ولا يذهب في غير غناء.
وفي هذا الكتاب الصغير القصير الحجم الكبير الطويل بقيمة ما فيه من فن وفلسفة، ظهرت هذه الشخصية القوية التي عرفها المثقفون والمتأدبون لبول ڤاليري أثناء حياته كلها، فإذا كان شخص بول ڤاليري يمتاز بشيء في حياته، وفيما أنتج من شعر ونثر، فإنما يمتاز بهذا الصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيء، المتناول لكل شيء، بين عقله العظيم الرزين ذي المزاج المعتدل والبصيرة النافذة والقدرة على التجريد والنظر إلى الأشياء من عل، وبين حسه الدقيق المرهف وشعوره الرقيق الحاد وذوقه المصفى المهذب، ثم يمتاز بأن هذا الصراع ينتهي دائما إلى نوع من السلام الممتاز الرائع بين العقل والحس والشعور والذوق، فأنت حين تشهد نتائج هذا الصراع إنما تشهد انسجاما غريبا بديعا بين هذه العناصر كلها، قد أخذ من كل واحد منها بمقدار، ولاءم بين هذه المقادير ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة، بحيث لا تستطيع أن تجد فيها عوجا ولا أمتا ولا انحرافا، ومصدر هذا كله أن هذه الملكات التي يأتلف منها شخص بول ڤاليري قد كانت قوية إلى أبعد غايات القوة، معتدلة مع ذلك إلى أقصى حدود الاعتدال، وكانت إرادة بول ڤاليري متسلطة على هذه الكلمات تسلطا قوامه الحزم والعدل؛ فهي تلائم بينها في صرامة وتقيم الأمر بينها بالقسطاس وتمنع بعضها أن يبغي على بعض، وما أعرف أني قرأت لكاتب أو شاعر في لغة من اللغات التي استطعت أن أقرأ فيها، فوجدت هذا الاعتدال والاستواء والتناسق كما أجدها فيما أقرأ لهذا الكاتب الشاعر العظيم، لا أستثني من ذلك إلا حوار سقراط، وما أظن أن شيئا قد أثر في التكوين العقلي لڤاليري كما أثر فيه حوار سقراط.
وفي أواخر القرن الماضي في سنة 1898 كان بول ڤاليري الذي قارب الثلاثين يعيش في باريس، وقد اشتغل موظفا في وزارة الحرب معرضا عن الأدب والأدب يطلبه، متصلا مع ذلك بالشاعر الفرنسي العظيم «ستيفان مالرميه» محبا له مفتونا بفنه الغامض الذي يروع باستوائه والتوائه، إن أمكن أن يجتمع الاستواء والالتواء، والذي يفتن بدقته وارتفاعه إلا عن العقول والملكات التي امتازت حتى كادت تصبح هي والامتياز شيئا واحدا. وفي سنة 1900 فقد بول ڤاليري أستاذه مالرميه وترك وزارة الحرب والتحق بشركة هافاس البرقية واتخذ له زوجا، وأمعن في الانصراف عن الأدب، وخيل إلى نفسه وإلى الناس أن قد قطعت الصلة بينه وبين خصمه هذا العنيد إلى آخر الدهر، ويقول الذين يعرفونه، والذين تتبعوا حياته في الأعوام الأولى من هذا القرن، إنه مضى في حياته العقلية الفلسفية، وإنه تعمق الرياضة التي استعصت عليه في أيام الشباب الأولى، ولكنه قد نشر في بعض المجلات وأرسل إلى بعض الأصدقاء مقطوعات من الشعر أحبوها ورضوا عنها، وقد أقبل أندريه جيد ذات يوم على صديقه بول ڤاليري سنة 1911 حين بلغ الأربعين من عمره يطلب إليه الإذن في أن يجمع ما تفرق من شعره لينشره في المجموعة التي كانت تنشرها المجلة الفرنسية الجديدة، وقد امتنع بول ڤاليري على صديقه امتناعا شديدا، ولكن أندريه جيد ألح إلحاحا شديدا أيضا، وانتهى الأمر إلى أن قبل ڤاليري إعادة النظر في شعره ذاك.
وقد استأنف النظر في هذا الشعر، فلم ينفق في ذلك أياما ولا أسابيع ولا أشهرا، وإنما أنفق فيه خمسة أعوام أو أكثر من ذلك قليلا، ففي سنة 1917 فوجئ الناس بظهور الديوان الأول لهذا الشاعر الممتنع على الشعر ولهذا الأديب المتأبي على الأدب، وكان بول ڤاليري قد قارب الخمسين من عمره، وليس من شك في أن ديوانه الأول ثم ما تبعه من الشعر والنثر بعد ذلك قد فجأ المتأدبين فجأة قوية رائعة، وإذا بول ڤاليري يحتل مكانه بين الأدباء والشعراء والممتازين، كأنما كان هذا المكان الممتاز قد هيئ له من قبل فهو ينتظره منذ وقت طويل، ومنذ ذلك الوقت شغلت البيئات والمجلات الأدبية والصحف السيارة بأدب بول ڤاليري أكثر مما شغلت بأي إنتاج أدبي آخر، ثم أخذ نجمه يتألق في الأفق حتى ملأه نورا، وإذا هو يتجاوز حدود فرنسا إلى أقطار الأرض كلها، وإذا هو أديب عالمي في أقل من عشر سنين منذ نشر ديوانه الأول، وإذا هو عضو في المجمع اللغوي الفرنسي في سنة 1927 يشغل كرسي أناتول فرانس ويلقي خطبته الرائعة التي لم يفرغ الناس من الحديث عنها بعد والتي لم يدافع أحد عن أناتول فرانس كما دافع عنه فيها، وقد أنشأت عصبة الأمم مجلس التعاون الفكري، وأنشأ هذا المجلس لجنة الفنون والآداب، وأصبح بول ڤاليري رئيسا لهذه اللجنة بل أصبح عقلها المفكر وقلبها النابض، ثم أنشئ معهد البحر الأبيض المتوسط في نيس وأصبح بول ڤاليري رئيسا له، ثم أنشئ في الكوليج دي ڤرانس كرسي للشعر وأصبح بول ڤاليري صاحب هذا الكرسي، وهو قد عين أستاذا بعد أن نيف على الستين.
وكذلك أصبح بول ڤاليري حامل لواء الأدب والشعر في فرنسا وعلما من أعلام الثقافة العليا في أقطار الأرض كلها، واتصل بكل شيء وشارك في كل شيء، حتى كان يقول إنه أصبح رئيسا لهيئات ومؤسسات لا يكاد يحصيها، وإنه كثيرا ما يدعو نفسه بكتاب منه إليه ليشهد هذا الاجتماع أو ذاك لهذه الهيئة أو تلك.
فإذا امتازت الحياة الأدبية لبول ڤاليري بشيء من ظاهر الأمر فإنما تمتاز بامتناع صاحبها على الأدب أشد الامتناع وإيثاره للعزلة حتى جاوز الأربعين، ثم استجابته بعد ذلك للأدب كارها، واندفاعه في هذه الاستجابة حتى عوض ما فات واسترد ما كان خليقا أن يكسبه من المجد والشهرة في عزلته الطويلة، وكسب في وقت قليل ما ينفق فيه غيره الأعوام الطوال، والأعوام الطوال ليكسب بعضه، فقد ظهر بول ڤاليري فجاءة في السابعة أو الثامنة والأربعين من عمره، ولم يبلغ الستين حتى كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس - كما كان يقال في المتنبي منذ ألف عام، فلما توفي وقد نيف على السبعين كانت الفاجعة بموته خطبا شاملا للعالم المثقف كله لا محنة مقصورة على فرنسا وطنه.
وما زالت هناك مسألة غامضة سيكشفها التاريخ الأدبي في وقت قريب أو بعيد، وهي مسألة عظيمة الخطر ، فهل كان بول ڤاليري أثناء عزلته الطويلة يتهيأ عن عمد لهذا المجد الأدبي الذي فاجأ به الناس، أم هل كان صادقا كل الصدق مخلصا كل الإخلاص في إعراضه عن الأدب وامتناعه عليه حتى فاجأه المجد كما فاجأ الناس؟ ومهما يكن من شيء فإن الحقيقة الواقعة التي نستطيع أن نسجلها مطمئنين هي أن بول ڤاليري قد آثر الأناة والاحتياط والحذر، وأبغض الشهرة والمجد والمتهالكين عليها، وقدر الفن على أنه غاية لا وسيلة، بل على أنه الغاية العليا التي يطمح إليها الإنسان حين يبلغ أقصى ما يستطيع أن يبلغ من الامتياز من الثقافة والمعرفة، فهو لم يبغض شيئا كما أبغض السهولة، ولم يزدر شيئا كما ازدرى الإسراع إلى الإنتاج، والإسراع في الإنتاج والاستجابة لهذه الدواعي الكثيرة التي تدعو إلى الإنتاج وتدفع إليه دفعا في كثير من الأحيان، وليس بالشيء القليل أن يمتنع الفرد على عصره، ويلتزم عزلته، ويزدري هذه المغريات الهائلة التي كان الناس يستجيبون لها من حوله، بل يسعون إليها سعيا ويلحون في التماسها إلحاحا، ويبتغون إليها من الوسائل ما يعقل وما لا يعقل، وهنا تظهر الخصلة التي يمتاز بها بول ڤاليري في حياته الخلقية، وهي خصلة الكرامة التي تمنح صاحبها مزاجا من التواضع والكبرياء، وتمنحه التواضع بالقياس إلى المثل العليا وما يحتاج إليه من تكلف الجهد العنيف واحتمال العناء الشاق والإلحاح في السعي المتصل وتمنحه الكبرياء التي ترفعه عن الصغائر وتنزهه عن الدنيات وترغبه عن الأشياء التي يقرب تناولها، وتنحرف به عن الغايات التي يسهل الوصول إليها، ثم تؤلف له في هاتين الخصلتين هذا المزاج المعتدل الرفيع الذي يجعله من هذه الأرستقراطية العقلية، وإذا هو يسعى إلى مثله العليا - على بعدها - ملحا في السعي، غير راض بما يبلغ منها مهما يكن ما يبلغه، متخذا في سعيه إليها أبعد الطرق وأشدها عسرا وأكثرها عقابا، واجدا لذته في إساغة هذا العسر وقهر هذه العقاب والتغلب على هذه المصاعب، مبتكرا هذه العقاب والمصاعب إن أحس أن الطريق قد سهلت له واستقامت أمامه وأصبحت خليقة أن تبلغ به غايته في جهد معتدل وسعي يسير.
وهذه الخصلة لم تؤثر في حياته الأدبية وحدها، وإنما أثرت في حياته المادية أيضا؛ فهو لم يلتمس قط ثروة ولم يسع قط ليبلغ هذا المأرب أو ذاك من مآرب الحياة، ولما أدركته الشهرة لم يستغلها ولم يستثمرها ولم يتخذ أدبه وسيلة إلى فتنة القراء ورضا الجمهور وتحقيق الثراء العريض، وإنما ظل مزدريا للشهرة معرضا عن المجد، يشتهر عن رغمه ويرقى على كره منه ولا يبلغ من ذلك ثراء ولا رخاء، وقد كان عضوا في المجمع اللغوي منذ عشر سنين حين أنشئ له كرسيه في الكوليج دي فرانس، فهو لم يسع إلى الكوليج دي فرانس وإنما هي التي سعت إليه، ولم يطلب المجمع اللغوي وإنما هو الذي طلبه، ولقد شهدته في بعض المجامع الأدبية وقد نهض بعض الحاضرين يذكر الأدباء الذين بلغوا من المجد ما بلغوا ويسرت لهم الحياة فاطمأنوا إلى شيء من الدعة، ولاءموا بين ذلك وبين حرصهم على إرضاء الفن والنهوض بحقه، وكأن بول ڤاليري أحس في حديث هذا المتحدث تلميحا إليه أو تعريضا به، فقال هذه الجملة التي لن أنساها، في ذلك الصوت الذي لن أنساه: «نعم؛ بعد أن كادوا يموتون جوعا.»
وقد عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ الناس بأدبه الرفيع في أعقاب الحرب الماضية، فأعجبت به كما كان يعجب به الناس إعجابا يقوم على التقليد أكثر مما يقوم على الدراية الصحيحة، ثم أقبلت على آثاره أقرؤها المرة والمرة والمرات وإذا أنا أحبه عن فهم له، ولكن أي فهم! فهم ليس بالقريب ولا بالمقارب ولا باليسير، وإنما هو نتيجة الجهد المكرر والقراءة المرددة والتفكير المتصل، ثم هو بعد ذلك ليس راضيا عن نفسه ولا مطمئنا إلى ما وصل إليه، والذين يقرءون آثار بول ڤاليري سواء أكانت شعرا أم نثرا يتفقون على أن اللذة التي يحصلونها من هذه القراءة لا تأتي من فهمه واستيعابه، وإنما تأتي من محاولة فهمه سواء أنجحت المحاولة أم أخفقت، ثم تأتي مع ذلك من هذه اللغة الصافية العذبة السائغة التي تجمع بين الرقة والرصانة وبين النعومة والجزالة، والتي تخيل إليك أنها واضحة كل الوضوح، وهي كذلك واضحة كل الوضوح ولكنها على ذلك مليئة بالأسرار. لا تقرؤها مرة إلا حصلت من قراءتها علما ولذة لعقلك وذوقك وشعورك جميعا، وقد أتيحت لبول ڤاليري أشياء لم تتح لكثير غيره من الكتاب والشعراء، فقد كان كشاعرنا القديم المتنبي يستطيع أن ينشد:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وقد تحدثت في غير هذا الموضع عن اختلاف العلماء والأدباء من الفرنسيين في فهم شعره وتأويله وتفسيره، وعن قصيدة المقبرة السحرية التي خصص أستاذ من أساتذة السوربون بعض دروسه لتفسيرها للطلاب، وقد شهد بول ڤاليري بعض هذه الدروس، وجمع الأستاذ بعد ذلك دروسه في كتاب قدمه له بول ڤاليري بمقدمة فيها ظرف وثناء كثير، ولكن الذين يقرءون هذه المقدمة يخرجون من قراءتها غير واثقين بأن الشاعر قد رضي عن شارحه الأستاذ كل الرضا.
وليس نثر بول ڤاليري أقل حاجة إلى التدبر والروية ومراجعة القراءة من شعره، وليس هو أقل إمتاعا للنفس وإرضاء للعقل والقلب من شعره أيضا، ومع ذلك فقد كان بول ڤاليري نفسه يرى أن النثر أقصر حياة من الشعر؛ لأن النثر أيسر على الأفهام من الشعر، وإذا فهمت نصا فقد قتلته، ولست أدري أصحيح هذا أم غير صحيح، ولكني واثق بأن الجيل المعاصر لبول ڤاليري لم يقبل نثره كما أنه لم يقبل شعره، ولكني أشارك النقاد المعاصرين من أهل فرنسا في أن الأجيال المقبلة لن تستطيع أن تتقبل شعره أو نثره، ولكني مطمئن كما اطمأن النقاد المعاصرون في فرنسا إلى أن بول ڤاليري لم يمت وإنما ذهب شخصه المادي، فأما شخصه المعنوي فخالد فيما ترك من شعر ونثر.
وقد تحدث بول ڤاليري نفسه عن «ديكارت» فأنبأ الذين كانوا يسمعون له في السوربون أن عظماء الرجال من أهل الثقافة خاصة إنما تنمو شخصياتهم وتقوى بعد أن يموتوا وبعد أن يمضي على موتهم وقت طويل أو قصير، وكأنما كان يتحدث عن نفسه؛ فشعره ونثره وأدبه كله سيقدم إلى الأجيال هذا الغذاء الرفيع وسيحيا في هذه الأجيال حياة متصلة، وستكون هذه الحياة مؤتلفة ومختلفة معا، مؤتلفة في هذه الكتب والدواوين التي تركها للإنسانية تراثا، ومختلفة في نفوس الذين سيقرءونها ويسيغونها ويتمثلونها ويكونون لأنفسهم صورة ما لصاحبها تلائم ما يستطيعون من التصور والتصوير جميعا.
ولم يكن بول ڤاليري كغيره من الأدباء ينظم الشعر ويكتب النثر في هذه الموضوعات التي يتكلفها الكتاب والشعراء قصصا وتمثيلا ودراسات، ولكنه كان صاحب تعمق لأشياء مختلفة، لا تكاد تتفق إلا في أنها كلها تتصل بالفن المترف الجميل من جهة، وبالعقل الناقد المستقيم من جهة أخرى.
فهو يكتب في العمارة، ويكتب في الرقص، ويكتب في النفس، ويكتب في العقل، ويكتب في التصوير والنحت والرسم والموسيقى والغناء، ثم هو يكتب في نقد الأدباء والفلاسفة والمثالين والمصورين، وما أعرف أن أحدا قرب إلى القراء ديكارت أو ليونارد دي ڤنسي أو ستندال أو مونتسكيو أو لافونتين كما يقربهم بول ڤاليري، وما أعرف أن أحدا حلل الفنون الرفيعة كما يحللها بول ڤاليري، وما أعرف أن أديبا أو فيلسوفا حلل عمل العقل الإنساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويستمتع ويعكف على نفسه كما حلله بول ڤاليري.
وقد قلت في أول هذا الحديث إن بول ڤاليري قد تأثر أشد التأثر بحوار سقراط كما نقله أفلاطون، وما أشك في أن بول ڤاليري كان من أشد الناس إتقانا للغتين القديمتين، وعلما بأسرارهما وتذوقا لخصائصهما، وقد كان يقول في شيء من السخرية: إن الذين يزعمون أنهم يحسنون اللاتينية أو اليونانية في هذه الأيام يخدعون أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستعينوا على قطع الوقت في القطار بقراءة توسيديد أو تاسيت، ولن يحسن الإنسان لغة إلا إذا قرأها في غير مشقة وفهمها في غير جهد، وذاقها في غير عناء، ولكن بول ڤاليري لم يتأثر بقديم اليونان والرومان كما يتأثر به غيره من المثقفين الممتازين فحسب، وإنما تمثل الأدب اليوناني الرفيع والفلسفة اليونانية العليا تمثلا غريبا رائعا حقا حتى استطاع أن يحدث ألوانا من الحوار ينطق فيها سقراط وبعض تلاميذه بملاحظات في الفن وفي الجمال، منها ما يتصل بالعمارة، ومنها ما يتصل بالنفس، ومنها ما يتصل بالرقص، ما كانت لتخطر لسقراط وأصحابه على بال، وأحسب أنها لو نقلت إلى اليونانية الأتيكية التي كان يصطنعها سقراط وتلاميذه، لما كانت أقل روعة وجمالا من يونانية أفلاطون، ولما كانت أقل روعة وجمالا في تلك اليونانية منها في هذه اللغة الفرنسية الرصينة المتينة الرقيقة العذبة التي اصطنعها بول ڤاليري في القرن العشرين، ثم هي تزيد على ذلك أن فيها معاني وخواطر وآراء لم يكن سقراط وتلاميذه ليسيغوها؛ لأن بينهم وبينها خمسة وعشرين قرنا تطور فيها العقل الإنساني وزاد محصوله من العلم والمعرفة، وأتاح ذلك كله لبول ڤاليري ليرى ما لم تتحه الحضارة اليونانية لسقراط وأفلاطون.
ومهما تقرأ من شعر بول ڤاليري ونثره، ومهما يكن الموضوع الذي يمارسه الأديب شعرا أو نثرا، فسترى دائما أدب اليونان الرفيع وثقافتهم العليا شائعين فيما تقرأ يغذوانه بخير ما فيهما؛ لأن بول ڤاليري قد خالط اليونان القدماء مخالطة نادرة شديدة التنوع، خالطهم في أدبهم وفي فلسفتهم وفي فنهم وفي سياستهم، وخالطهم في دينهم بنوع خاص، ثم خالطهم بعد ذلك في حياتهم العاملة التي كانوا يحيونها في ساعات النهار والليل.
ثم هو قد أضاف إلى هذه الثقافة القديمة خير ما أنتجت ثقافة العصر الحديث فتمثل عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا على اختلاف مظاهر النهضة فيه، ثم تمثل القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا كلها، لم يترك ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية إلا أتقنها علما وفهما وتأويلا وتحليلا، وعني بالعلم عناية خاصة، فتعمق العلوم التجريبية، وتعمق الرياضة حتى استطاع أن يتحدث عن هذه العلوم كأحسن ما يتحدث عنها أصحابها، وأن يجادل الأطباء والعلماء ويصحح لهم آراءهم حين كانوا يشاركون في وضع المصطلحات العلمية للمعجم الفرنسي الذي يصدره المجمع اللغوي.
ثم هو قد تعمق مذاهب الفلسفة منذ فلسف اليونان قبل سقراط إلى أن فرغ برجسون من إقامة مذهبه الفلسفي الأخير، وهو من أجل ذلك يحاور في الفلسفة كأحسن ما يحاور فيها الفلاسفة، ولعله يتمثلها خيرا مما تمثلها الفلاسفة؛ لأنه جمع إلى عقله الناقد الممتاز قلبا ذكيا وإحساسا مرهفا وشعورا رقيقا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيء.
وقد انتهى إلى رأي في الفلسفة والشعر، أو قل: إنه ابتدأ برأي في الفلسفة والشعر لم يتحول عنه منذ الشباب حين كتب عن ليونارد دي فنسي في أواخر القرن الماضي إلى الشيخوخة حين تحدث عن ديكارت في السوربون سنة 1937.
وهذا الرأي يمكن اختصاره في هذه الجملة اليسيرة التي لا تؤديه إلا تأدية مقاربة، وهو أن الفلسفة والشعر إنما يصدران في حقيقة الأمر عن ملكة واحدة في أصلها، وهي هذه الملكة التي ترفع الإنسان عن الحقائق التفصيلية الواقعة إلى عالم آخر أرقى منها، يفسرها ويعرضها في شيء غير قليل من الروعة يسمو بها إلى هذا الكمال الذي يطمح إليه الإنسان الممتاز، فالفيلسوف شاعر يعرض شعره نثرا في أكثر الأحيان، والشاعر فيلسوف يعرض فلسفته شعرا دائما.
وقد كان بول ڤاليري نفسه هو الصورة الكاملة للفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف، ومن أجل ذلك لم يخطئ معاصروه حين سموه شاعر العقل، ولم أبعد أنا حين سميته عقل الشعر في أول هذا الحديث.
قلت إني عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ مجده الناس في أعقاب الحرب الماضية، وظلت معرفتي له تتقدم شيئا فشيئا حتى أصبح أحب المعاصرين من أدباء فرنسا إلي وآثرهم عندي، وحتى أصبح الوقت الذي أنفقه مع كتبه ودواوينه حين يسمح لي العمل بالفراغ لنفسي وإمتاعها باللذة الفنية العليا أعز الأوقات إلي وأكرمها علي، وحتى اتخذت لنفسي منه صورة غريبة رائعة فيها كثير جدا من التواضع وكثير جدا من الكبرياء، وفيها كثير جدا من السماحة وكثير جدا من الامتياز، وقد هممت أن أعرفه لقراء العربية فتحدثت عنه في الرسالة غير مرة، وتحدثت عنه إلى جمهور المثقفين في غير محاضرة، وترجمت في الرسالة شيئا من كتابه عن النفس والرقص، ولكني لم أجد لهذا كله في نفوس المثقفين الشرقيين إلا صدى ضئيلا فآثرت نفسي به، ثم أتيح لي أن ألقاه سنة 1937 فإذا الصورة التي رسمتها لنفسي منه صادقة كل الصدق لولا أنه في تلك السنة لم يكن من الصحة واعتدال المزاج بحيث كان يجب، وقد كان في فصل الصيف من تلك السنة يعالج أسنانه فيما يظهر فكان حديثه عسيرا أشد العسر، وكان الاستماع له شاقا والفهم عنه أشد مشقة، وأذكر أني ذهبت أستمع له حين تحدث عن ديكارت في السوربون، وبذلت جهدا غير قليل لأظفر بمكان في المدرج الذي كان يتحدث فيه، فظفرت بمكان واقف واستمعت لحديثه من أوله إلى آخره فلم أكد أفهم منه شيئا، وسألت بعض الذين استمعوا له معي من الأساتذة فإذا هم مثلي لم يكادوا يفهمون عنه شيئا، ولكنا جميعا كنا معجبين بهذا الصوت الهادئ القوي الحار الذي كان يملأ المدرج حنانا وحبا وإيمانا، ثم قرأنا الحديث بعد ذلك فإذا هو آية من آيات البيان.
على أني لقيت بول ڤاليري بعد ذلك لقاء منتظما في مجلس التعاون الفكري وفيما كان هذا المجلس يعقد من مؤتمرات، وفيما كانت هذه المؤتمرات تستتبع من اجتماعات خاصة، فإذا أرق الناس حاشية وأحلاهم شمائل وأعذبهم حديثا، وأشدهم سخرية، ولكنها السخرية التي تروق وتروع ولا تؤذي ولا تسوء، ولم يكن يكره الدعابة الحلوة التي لا تخلو من مكر ودهاء، وأذكر أنه كان يرأس مؤتمرا من المؤتمرات يوم افتتاحه، فلما أذن للخطباء جميعا في الكلام وفرغ الخطباء من كلامهم وجاء الوقت الذي كان يجب أن يتكلم هو فيه وصغت إليه الآذان وأصغت إليه القلوب واشرأبت إليه الأعناق، قال في صوت هادئ باسم: الكلمة الآن للرئيس إدوار هريو.
ولم يكن إدوار هريو بين المتكلمين في هذا الحفل، ولكن بول ڤاليري أراد أن يسر المستمعين وأن يداعب هريو ويورطه في حديث مرتجل من هذه الأحاديث التي يتقنها هريو أشد الإتقان.
وكان آخر لقائي لبول ڤاليري في مدينة جنيف حين اجتمع مجلس التعاون الفكري في يوليو سنة 1939 قبيل إعلان الحرب ، وكان جو جنيف في تلك السنة قاتما كئيبا، وكان أعضاء المجلس جميعا مشفقين من الحرب وأهوالها، وكان بول ڤاليري أشدهم إشفاقا وأعظمهم اكتئابا وأكثرهم تشاؤما، فلم يحب الحضارة أحد كما أحبها بول ڤاليري، ولم يكبر الحياة أحد كما أكبرها بول ڤاليري ولم يستيئس أحد من حماقة الإنسان وضعفه وجنونه كما استيأس بول ڤاليري، ومن أجل ذلك كان في تلك الاجتماعات لا يتحدث عن شيء ينتظر في المستقبل إلا تحفظ واحتاط كما نتحفظ نحن ونحتاط، فنقول: إن شاء الله. ولكنه هو كان يتحفظ ويحتاط فيقول: إن أتيح للحضارة أن تبقى، أو إن كتب للحرية أن تسلم، أو إن عصم الإنسان من الجنون، أو ما يشبه هذه العبارات.
وقد كتب على بول ڤاليري أن يرى تحقيق كل ما تنبأ به؛ فقد تنبأ بالحرب وأهوالها، وتنبأ بما ستلقاه أوروبا من ذل، وتنبأ بما ستتعرض له المثل العليا من ضعة وانحطاط، وقد رأى هذا كله وذاق مرارته صابرا جلدا شجاعا، واحتفظ بكرامته أثناء الهزيمة، وابتهج بالنصر مع المبتهجين، وقال لأحد أصدقائه وهو يسمع الأناشيد الوطنية للأمم المنتصرة: كل شيء ممكن، ويظهر أن ما أنفق من جهد وما أخذ نفسه به من صبر وجلد وما حمل نفسه عليه من درس وإنتاج وما تعرض له من بؤس وحرمان أثناء أعوام الهول، كل ذلك قد حطم صحته تحطيما، فذاق حلاوة النصر واستمتع بلذة الحرية، ولكنه لم يستطع أن يثبت للنعمة بمقدار ما ثبت للنقمة، فانهار بعد طول المقاومة، وفارق هذه الحياة أشد ما يكون الأحياء حاجة إليه. من أجل ذلك لم تحزن عليه فرنسا وحدها، وإنما حزنت عليه الإنسانية المتحضرة كلها، وقد كنت كلما فكرت في زيارة فرنسا بعد النصر أستحضر ساعة حلوة كنت أعلل نفسي بأني سأقضيها مستمعا لبول ڤاليري، فقد ضيعت الخطوب هذه الأمنية، وما أكثر ما تضيع الخطوب من الأماني!
فحسبي أن أعلل النفس بأني إن زرت فرنسا فسأسعى إلى قبر بول ڤاليري في تلك المقبرة البحرية التي رآها صبيا، وغناها رجلا، واطمأن فيها الآن إلى آخر الدهر.
شاعر الحب والبغض والحرية
كان ذكي القلب حمي الأنف، عضب اللسان، وكان قويا لا يعرف الضعف أبيا لا يقبل الضيم، عصيا لا يطيق الإذعان، وكان حازما لا يحب التردد، مقدما لا يحتمل الإحجام، ولم يكن مع ذلك صريح النسب في قبيلة من القبائل العربية القوية أو الضعيفة، ولم تكن قوته وصلابته وحدته تأتيه من جاه طريف أو تليد، ولا من ثروة عريضة أو ضيقة، فقد كان - فيما يظهر - مغمورا مضيعا بين حمير وقريش، ألحق نفسه بحمير بعد أن أصبح له شأن وبعد أن رأى أنه في حاجة إلى نسب يعتز به وركن يأوي إليه، وألحق نفسه بقريش على أنه حليف من حلفائها وولي من أوليائها، فاجتمع له بذلك نسب يماني في حمير وحلف مضري في قريش، على حين لم يستطع أحد من الرواة والنسابين أن يصله بقبيلة من قبائل اليمن ولا أن يرتفع به إلى أعلى من جده الأدنى، فكل ما يعرف الرواة عنه أنه يزيد بن ربيعة بن مفرغ، ولعل الرواة لا يتفقون على اسم مفرغ هذا؛ فقد روي أن اسمه محمد، وأن مفرغا كان لقبا غلب عليه، وأصل هذا اللقب فيما يقال أنه راهن على أن يفرغ في جوفه عسا من لبن ففعل، فسمي مفرغا، وقد يكون هذا حقا وقد يكون الحق شيئا آخر لا نعرفه، ولكن المهم أن مفرغا هذا لم يكن رجلا ذا خطر، وإنما كان شعابا في المدينة أو قريبا من المدينة، وكان ابنه ربيعة فيما يقال صاحب شعر وغزل، وكان له ابن آخر يسمى عامرا، وكان صاحب زهد ودين، فأما صاحبنا يزيد فلم يعرفه تاريخ الشعر ولا تاريخ السياسة إلا حين تقدم به الشباب وحين أصبح شاعرا ظريفا رائع الشعر حسن المحضر، يتنافس فتيان قريش في قربه ومنادمته واصطحابه فيما يعرض لهم من الأسفار.
وأكبر الظن أنه انتفع بحلفه في قريش، فعاشر فتيان بني أمية في العراق وآثرهم بمودته، وآثروه بمعروفهم لحسن موقعه منهم، ولحسن بلائه في التعصب لهم والثناء عليهم، وأول ما نعرف من أمره معرفة دقيقة هو أن شابين من شبان بني أمية تنافسا فيه، فأما أحد هذين الشابين فسعيد بن عثمان بن عفان، وأما الآخر فعباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان أول هذين الشابين قد ولي خراسان، وكان الآخر قد ولي سجستان، وقد عرض سعيد بن عثمان على صاحبنا يزيد أن يصحبه إلى ولايته، وأغراه بمال كثير وبأنه سيكون عند ما يرضيه، ولكن يزيد لم يجب سعيدا إلى ما أراد، وآثر أن يصحب عبادا إلى سجستان، وقد أسف سعيد لانصراف هذا الفتى الظريف عن صحبته إلى صحبة عباد، ولكنه مع ذلك حذره ونصح له، وقال له: إن نبت بك الدار عند عباد ولم تبلغ من صحبته ما تريد فإن مكانك عندي ممهد.
وليس من الغريب أن يزهد يزيد في صحبة سعيد بن عثمان ويؤثر عليها صحبة عباد بن زياد، فقد كان سعيد بن عثمان معرضا لشيء غير قليل من سخط السلطان الأموي عليه وزهده فيه، ومصدر ذلك أن أبناء عثمان - رضي الله عنه - قبلوا ولاية معاوية لخلافة المسلمين؛ لأنه قام دونهم بعد مقتل أبيهم، فثأر لهم وحمل بني أمية على رقاب الناس، ولكن شيئا من الحسد وقع في قلوبهم حين بايع معاوية لابنه بولاية العهد، ويقال إن سعيدا نفسه صارح معاوية بإنكاره لذلك في شيء غير قليل من العنف، وإن معاوية رفق به كما كان يرفق بأعدائه وأصدقائه جميعا، وإن توليته خراسان كانت مظهرا من مظاهر هذا الرفق ولونا من ألوان هذه المصانعة، فلم يكن سعيد إذن أثيرا عند معاوية ولا عند ابنه يزيد، وإنما كان يحتمل في شيء من الجهد ويستصلح في كثير من الرفق، أما عباد فقد كان أبوه زياد موضع الثقة والحب من معاوية، وكان ركنا من أركان الدولة الأموية الجديدة، ضبط لها أمر العراق وما يليه ضبطا حسنا وساسه سياسة حازمة صارمة أخافت الناس في شرق الدولة وغربها، فلما مات زياد ولى معاوية ابنه عبيد الله أمر العراق اعترافا بما لزياد عنده من يد؛ فكان عباد إذن ابن أمير العراق القديم وأخا أمير العراق الجديد، وفتى من فتيان هذه الأسرة العصامية التي مكنت لبني أمية في الأرض، فليس غريبا إذن أن يؤثر الشاعر الشاب صحبة الأمير الزيادي ذي المكانة والحظوة، على صحبة الأمير العثماني الذي لا تحتمله الدولة إلا على كره ومضض، على أن عبيد الله بن زياد أمير العراق كان يعرف أخاه عبادا حق المعرفة، وكان يعرف الشاعر الفتى حق المعرفة أيضا، وكان يشفق من محبة هذا الشاعر الفتى لأخيه، ويقدر أن عواقب هذه الصحبة لن تكون إلا شرا. كان يعرف أن أخاه حاد الطبع سريع الغضب شديد العناية بما يكلف من أمر، يفرغ للهوه ومتاعه حين يتاح له الفراغ، ولكنه إذا نهض بأمر ذي بال أقبل عليه وشغل به عن كل شيء، وكان يعرف أن الشاعر الفتى ظريف غزل، حلو الدعابة، عذب الفكاهة جميل المحضر، ولكنه شاعر لا يرضى من صاحبه بالقليل، ولا يقبل منه الانصراف إلى يسير الأمر أو خطيره، وكان يعرف أن الشاعر الفتى عجل نزق سريع الشعور، قوي الإحساس، طويل اللسان، يسرع إليه الضجر ويستأثر به الملل، ويسبق لسانه إرادته فيتعجل اللوم والهجاء قبل إبانهما، ومن أجل ذلك هم أن يصرف الشاعر عن صحبة أخيه فلم يفلح، فنصح له وألح في النصح، وحذره وألح في التحذير والنذير ومضى الشاعر الفتى مع أميره الشاب إلى سجستان، ولم يبلغ الرفيقان سجستان إلا بعد أن فسد الأمر بينهما أثناء الطريق؛ فقد كان عباد عظيم اللحية جدا، فإنه لفي طريقه ذات صباح أو ذات مساء، وإذا الريح تعبث بلحيته الضخمة فتنفشها، ويرى الشاعر ذلك فيروقه المنظر ويضحكه ويسبق لسانه إرادته فيقول:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا
فنعلفها خيول المسلمينا
وقد سمع الرفاق هذا البيت فتضاحكوا، وسعى بعضهم بالبيت إلى عباد فوقعت الموجدة في قلبه، وهم أن يبطش بالشاعر، ولكنه آثر الأناة وأسر الحقد في نفسه، فلما بلغ سجستان شغل بحربه وخراجه وأبطأ على شاعره، وانتظر الشاعر ثم انتظر، فلما طال عليه انصراف الأمير عنه أطلق لسانه فيه يلومه في أحاديثه ويظهر الندم على أنه قد آثر صحبة عباد على صحبة سعيد، وتبلغ الأحاديث عبادا فيضيف غيظا إلى غيظ وموجدة إلى موجدة، ولكنه على ذلك لا يبطش بالشاعر فجأة ولا يظهر له بغضا، وإنما يدبر أمره تدبيرا ويحكم الكيد لهذا الشاعر النزق الذي أمكن من نفسه، ومتى استطاع الشعراء والأدباء عامة ألا يمكنوا من أنفسهم؟! فلم يكن صاحبنا يزيد نزقا عجلا فحسب ، ولكنه كان صاحب لهو ولذة وإسراف في اللهو واللذة، وكان صاحب كرم وجود وإمعان في الكرم والجود، وكان يداعب آمالا عراضا وأماني كبارا، وينتظر من أميره عطاء جزيلا، فما الذي يمنعه أن ينفق ويتسع في النفقة، وأن يستدين حتى يغرق في الدين إلى أذنيه أليس عطاء الأمير سيملأ يديه بالمال، وسيمكنه من إرضاء الدائنين بل من إرضاء الطامعين فيه؟! وكان عباد ينتظره عند هذا المنعطف من سيرته الملتوية المتعرجة، فما هي إلا أن يدس إلى دائنيه من يغريهم بمخاصمة هذا المدين الذي لا يقدر على شيء، فإذا ارتفعت إليه الخصومة أمر أعوانه أن يكسبوا بيت يزيد ويبيعوا أثاثه ومتاعه وسلاحه وفرسه، وقد فعلوا، وبدأ الشر بين الشاعر والأمير، ونظر الأمير فإذا كل ما بيع من متاع الشاعر أقل من أن يؤدي عنه دينه، فيأمر بحبسه فيما بقي عليه للغرماء.
وكذلك انتهت المحنة إلى غايتها، أو قل: انتهت المحنة إلى أولها، وكان يزيد يملك غلاما يحبه أشد الحب وجارية يؤثرها أعظم الإيثار، وهم عباد أن يمضي في الكيد له والتنكيل به، فأرسل إليه من يعرض عليه أن يبيعه الجارية والغلام. قال يزيد: وهل يبيع الرجل نفسه التي بين جنبيه؟ قال عباد: فبيعوا عليه جاريته وغلامه لمن شاء أن يشتريهما من الناس، وعرض برد وأراكة للبيع، فاشتراهما رجل من الناس وأقبل يقبضهما، فلما رآه برد قال له: بئس ما اشتريت لنفسك من السوء والفضيحة! قال الرجل: وكيف ذاك؟ قال برد: فإنك تعلم أن مولاي إنما يهجو عبادا وآل زياد وهم الأمراء وأصحاب السيادة والحظوة عند أمير المؤمنين لأنهم أبطئوا عليه بالعطاء، فكيف إذا علم أنك تشتري أحب الناس إليه وأنك تسوءه بهذا الكيد؟! إنها والله الفضيحة لك ولقومك إلى آخر الدهر. قال الرجل: فإني أشهد على نفسي أنكما له، وإن شئتما كنتما عندي حتى يخلص من سجنه فأردكما إليه. قال برد: فاكتب إلى مولاي بذلك، فكتب الرجل ورد عليه يزيد شاكرا له مثنيا عليه، راغبا إليه في أن يحفظ الغلام والجارية عنده حتى يجعل الله له بعد عسر يسرا، وفي هذه القصة يقول يزيد:
شريت بردا ولو ملكت صفقته
لما تطلبت في بيع له رشدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي
من الحوادث ما فارقته أبدا
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولدا
أما الأراك فكانت من محارمنا
عيشا لذيذا وكانت جنة رغدا
كانت لنا جنة كنا نعيش بها
نغنى بها إن خشينا الأزل والنكدا
يا ليتني قبل ما ناب الزمان به
أهلي لقيت على عدوانه الأسدا
قد خاننا زمن لم نخش عثرته
من يأمن اليوم أم من ذا يعيش غدا
لامتني النفس في برد فقلت لها
لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا
كم من نعيم أصبنا من لذاذته
قلنا له إذ تولى ليته خلدا
ويقول في هذه القصيدة أيضا، ولكنه في هذا الشعر لا يكتفي بالحزن على برد وأراكة، وإنما يصور ندمه على فراق سعيد وصحبة عباد، ويهجو عبادا هذا أقذع الهجاء:
أصرمت حبلك من أمامه
من بعد أيام برامه
فالريح تبكي شجوها
والبرق يضحك في الغمامه
لهفي على الأمر الذي
كانت عواقبه ندامه
تركي سعيدا ذا الندى
والبيت ترفعه الدعامه
فتحت سمرقند له
وبنى بعرصتها خيامه
وتبعت عبد بني علا
ج تلك أشراط القيامه
جاءت به حبشية
سكاء تحسبها نعامه
وشريت بردا ليتني
من بعد برد كنت هامه
هتافة تدعو صدى
بين المشقر واليمامه
فالهول يركبه الفتى
حذر المخازي والسآمه
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامه
وأكبر الظن أن يزيد قال هذا الشعر في سجنه، ولكنه لم يذعه إلا بعد حين، حين ظفر بحريته وأصبح بمأمن من عادية عباد، وآية ذلك أن الرواة ينبئوننا بأن يزيد قد ثاب إلى شيء من الرشد، أو ثاب إليه شيء من الرشد، فرفق بنفسه واصطنع الحذر والاحتياط، وجعل لا يذكر عبادا إلا حامدا له مثنيا عليه، فإذا ذكر له سجنه ومحنته قال: وأي بأس في ذلك؟! رجل أسرف على نفسه فأدبه أميره ناصحا له مبقيا عليه. وجعلت هذه الأحاديث الحسان تبلغ عبادا فيرق للشاعر ويعطف عليه ويلتمس له المعاذير، ويذكر أنه هو الذي دعاه إلى صحبته على علم منه بأخلاقه ومواطن ضعفه.
وما زال يزيد يتلطف، وعباد يتعطف، حتى أخرج الأمير شاعره من السجن وقدم إليه بعض الخير، وجعل يحتال حتى فر من سجستان ومضى هاربا يترقب ويستخفي حتى انتهى إلى الشام، وكان في أثناء هربه يقول الشعر في هجاء عباد وآل زياد، ويكتبه على الجدران في كل خان ينزل به. حتى إذا انتهى إلى الشام عرف أنه قد بلغ مأمنه وأن يد آل زياد لن تبلغه فأطلق لسانه في غير تحفظ، ونال آل زياد بكل مكروه، ولم يكن آل زياد بمأمن من الهجاء، ولا بنجوة من البغض لهم والوجد عليهم، فقد كانت كثرة قريش تبغضهم أشد البغض، تراهم دخلاء فيها بعد أن استلحق معاوية زيادا في تلك القصة المعروفة.
وكان بنو أمية أنفسهم يبغضون زيادا أشد البغض لما نال من الحظوة عند معاوية ولما استأثر به من حكم العراق دون شباب أمية وشيوخها، واشتد بغض بني أمية لزياد وبنيه حين مات فورث ابنه عبيد الله عنه حكم العراق، وكان زياد قد اشتد على الناس وأخذهم بالعنف، فكرهته الشيعة من أهل العراق كما كرهه الخوارج كرها ظاهرا، وكرهه عامة الناس كرها أسروه في أنفسهم ولم يعلنوه إلا حين كانت الفرصة تمكنهم من إعلانه، ولم يملك شباب قريش ولا شباب الأنصار أنفسهم وألسنتهم فلهجوا بزياد وجحدوا بنوته لأبي سفيان وقالوا في ذلك شعرا كثيرا عرفه معاوية ولكنه أغضى عنه تكرما وحلما وسياسة أيضا، فانتهز يزيد شاعرنا هذا كله وقال في زياد وبنيه أشنع الشعر وأقذعه، فنفى زيادا من أبي سفيان، ونفى بني زياد من أبيهم وهجاهم في أمهاتهم ثم هجاهم في أخلاقهم، ثم هجاهم في سيرتهم، ثم جعل يحرض عليهم اليمانية حينا والمضرية حينا آخر، وجعل شعره يشيع ويصل إلى العراق ويتنقل بين الأمصار، ويطير على ألسنة الرواة، حتى ضاق به عبيد الله أشد الضيق، وكتب إلى الخليفة في دمشق يسأله أن يرد عليه يزيد ليقتله؛ فرد الخليفة إليه يزيد ولكنه تقدم إليه في أن يعذبه عذابا موجعا دون أن يبلغ نفسه.
وهنا نستطيع أن نوازن بين يزيد هذا الذي لا نكاد نعرف له نسبا في قحطان أو في عدنان وإن ألحق نفسه بحمير وزعم لها حلف قريش، وبين شاعر آخر معاصر له كان عظيم الشرف رفيع المكانة في قومه عزيزا بأعظم قبيلة عربية، وكان في الوقت نفسه أملك للشعر وأقدر عليه من يزيد وهو الفرزدق، فقد ساء الأمر بين الفرزدق وزياد، وطلب زياد الفرزدق حتى أخافه، فهرب الفرزدق من العراق واستجار ببني أمية في الحجاز، وجعل يتنقل بين مكة والمدينة ولكنه كف لسانه عن زياد فلم يهجه أو لم يكد يهجوه، وإنما ظل هاربا متحفظا حتى إذا مات زياد عاد إلى العراق وصانع الأمراء من أبنائه ومن غير أبنائه.
ومن المرجح أن مكانة الفرزدق نفسها هي التي اضطرته إلى أن يكف لسانه ويؤثر العافية لنفسه ولقومه، فأما يزيد فلم يكن يحرص على شيء، ولم يكن يخاف على قومه كيدا، فاليمانية إن كان يزيد يمانيا هم قوة أمير المؤمنين وأنصاره لا يستطيع أحد أن يعرض لهم بسوء، وقريش أهل أمير المؤمنين وعشيرته لا يستطيع أحد أن ينالهم بسوء، فلم يبق ليزيد إلا نفسه، ونفسه حرة لا تفرط في الحرية، وهي في الوقت نفسه مبغضة لا تلين في البغض، ومحبة لا تقصر في الحب، وقد أبغض زيادا وبنيه، فيجب أن ينتهي به البغض إلى غايته؛ ولذلك أدخل على عبيد الله بن زياد حين رد إلى البصرة فلم يهن ولم يضعف ولم ينكر من سيرته وشعره شيئا، وإنما استقبل المحنة شجاعا جلدا وصبورا مستئيسا، وقال لعبيد الله: دونك وما تشاء. وقد أمر عبيد الله به فألقي في غيابات السجن، ولكن يزيد لم يكف عن الهجاء حتى في السجن، وقد عذبه عبيد الله عذابا أقل ما يوصف به أنه لم يكن عربيا، وإنما كان أعجميا ينافر أشد المنافرة كرم العرب وكرامتهم وارتفاعهم بأنفسهم وبعدهم عما يشين، وبعض هذا العذاب يذكرنا بما كان يصنع في الأندلس ببعض الثائرين، وبما كان يصنع في إيطاليا بخصوم نظام الفاشية؛ فقد أمر عبيد الله فسقي الشاعر في سجنه نبيذا حلوا فيه مسهل، ثم قرن إلى كلب وهرة وخنزير وطوف به في مدينة البصرة على هذه الحال المنكرة، وجعل الصبية من أبناء الموالي والفرس يتبعونه بالتندر والعبث، وجعل هو يرد على تندرهم في لغة فارسية نقلها أبو الفرج، وجعل الخنزير الذي قرن إليه يضبح كلما جره، وجعل يزيد في هذه المحنة يعبث بسمية أم زياد؛ فقد سمى خنزيره هذا سمية وجعل كلما ضبح الخنزير يقول:
ضبحت سمية لما لزها قرني
لا تجزعي إن شر الشيمة الجزع
ثم أدركه الإعياء فسقط لما لقي من الجهد، وأشفق عبيد الله بن زياد أن يدركه التلف فيخالف أمر الخليفة ويتجاوز به العذاب إلى الموت، فأمر برفعه وغسله ورده إلى السجن، ثم أمر عبيد الله فحمل الشاعر إلى أخيه عباد بسجستان ليشفي حقده ويرضي حاجته إلى الانتقام، وكلف الذين حملوه أن ينزلوا به في الخانات التي نزل بها حين هرب من عباد، وأن يضطروه إلى أن يمحو بأظافره ما كتب على الجدران من هجاء بني زياد، وأن يحولوا صلاته عن قبلة المسلمين إلى قبلة النصارى، فجعل يمحو بأظافره ما كتب حتى ذهبت أظافره، فكان يمحو بعظم أظافره وبدمه، وما زال في هذا العذاب حتى بلغ عبادا فضوعف عذابه في سجستان، ولكن شيئا من هذا كله لم يضطره إلى الضراعة ولا إلى الاستكانة ، وإنما كان صراع رائع عنيف بينه وبين العذاب، يصب عليه بنو زياد ألوان الهول ويصب عليهم هو أشنع القول، وفي نفسه يأس من جهة وأمل من جهة أخرى؛ يأس من الزمان ألا يمهله، وأمل في قريش وحمير أن يشفعوا له عند أمير المؤمنين، وقد انتصر الأمل على اليأس، وسار شعر يزيد في الآفاق وسارت معه أنباء هذا الصراع الهائل بين العذاب والفن، وانتهى الأمر إلى قريش في أنديتها بالعراق والحجاز ، وانتهى الأمر كذلك إلى حمير في أنديتها بحمص ودمشق، وغضبت اليمانية والمضرية جميعا لهذا الشاعر الذي يعذب عذابا لا يعرفه المسلمون، وسعى أولئك وهؤلاء عند يزيد بن معاوية، وما زالوا به حتى أرسل بريدا إلى سجستان وأمره أن يطلق الشاعر من سجنه على الفور، وألا يأذن لأحد من آل زياد في الإمرة عليه، وأقبل البريد، فأخرج الشاعر من سجنه وأصلح من أمره وحمله على بغلة من بغال البريد، فلما استوى عليها قال هذا الشعر الرائع المعروف:
عدس ما لعباد عليك إمارة
نجوت وهذا تحملين طليق
طليق الذي نجى من الكرب بعد ما
تلاحم في درب عليك مضيق
قضى لك حمحام فأنجاك فالحقي
بأرضك لا تحبس عليك طريق
لعمري لقد أنجاك من هوة الردى
إمام وحبل للأنام وثيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة
ومثلي بشكر المنعمين حقيق
وانتهى شاعرنا إلى الشام فأمر أن يقيم في الشام حيث شاء وألا يعرض لآل زياد بمكروه، وأحسن الخليفة صلته تعزية له عما لقي من الشر، ووقفت قصته هنا مع آل زياد ولكنها لم تنته، فلم يكن له بد من أن يذعن لأمير المؤمنين، ولكن شاعرنا لم يكن مبغضا فحسب، وإنما كان محبا أيضا، ولعل حبه هو الذي جشمه كل هذه الأهوال.
كان يحب أناهيد فتاة فارسية، كان أبوها دهقانا في الأهواز، وكانت رائعة الجمال فتانة الحسن جريئة على الرجال لعوبا بعقول الناس، وقد لعبت بعقله فأسرفت في اللعب وكلفته من أمره شططا، وقد أقام في الشام ما شاء الله أن يقيم، ولكنه لقي رجلا من أهل الأهواز فسأله عن أناهيد قال الرجل: صاحبة يزيد بن مفرغ؟ قال يزيد: نعم. قال الرجل: ما يرقأ دمعها بكاء على يزيد، فضرب يزيد وجه فرسه وأقسم لا يستقر حتى يرى أناهيد، ومضى مخالفا أمر الخليفة جاحدا نعمة الذين أجاروه وآووه حتى انتهى إلى الأهواز، وجعل يتردد بينها وبين البصرة، ثم دخل على عبيد الله بن زياد، فخيره بين أن يقتله أو يعفو عنه، فعفا عنه عبيد الله ، ولكن إقامته في البصرة لم تطل؛ فقد كانت أناهيد تكلفه مالا كثيرا، وكان يستدين، وكان الدين يثقل عليه، وكان الأشراف من أهل العراق يؤدون عنه دينه، ولكنه شاعر لا تنقضي حاجاته، والأمراء يتنافسون فيه، فما يمنعه من الرحلة والاكتساب ليغني نفسه ويرضي أناهيد، ويذيع البهجة والغبطة من حوله؛ وقد فعل، فرحل إلى عبيد الله بن أبي بكرة ورجع من عنده بمال كثير دفعه كله إلى أناهيد، وما زال يتردد بين البصرة والأهواز ينعم ويشرك أترابه في النعيم، حتى مات يزيد بن معاوية، وكانت الفتنة في البصرة وهرب عبيد الله بن زياد، فاستأنف قصته مع آل زياد من حيث وقفت في الشام، وجعل يهجو زيادا وبنيه، ويعير عبيد الله بفراره عن أمه ويحرض على آل زياد بشعره وحديثه. حتى إذا قتل عبيد الله يوم الزاب بيد أصحاب المختار لم يستطع شاعرنا أن يخفي شماتته، فتغنى هذه الشماتة في شعر كثير، وظل مترددا بين أناهيد في الأهواز ومجالس لهوه في البصرة، حتى قتله الطاعون أيام مصعب بن الزبير.
وقد قال يزيد شعرا كثيرا جدا، وحفظت لنا كتب الأدب شيئا قليلا جدا من هذا الشعر، ولكنه على قلته يبين لنا أن هذا الفتى المغمور قد كان شاعر الخوف والحب والحرية حقا، ما أعرف أن أحدا من شعراء القرن الأول للهجرة بلغ من تصوير هذه الخصال ما بلغ، ومع ذلك فما أكثر ما عرف ذلك العصر من المبغضين والمحبين، ومن الخائفين والأحرار، ومن الذين أتيحت لهم براعة فنية لم تتح ليزيد! ولكن يزيد أحب بقلبه كله، وأبغض بقلبه كله، وخاف بقلبه كله أيضا، وجلى قلبه المحب المبغض الخائف الحر في شعره دون أن يتكلف في ذلك أو يتصنع أو يتخذ بين الناس وبين قلبه حجابا.
كنت أود لو استطعت أن أروي لك أطرافا من شعره، ولكن كتاب الأغاني قريب منك فاقرأ فيه أخبار يزيد بن مفرغ، فسترى فيه عجبا من العجب وسترى أن لحية ضخمة قد عبثت بها الريح ذات يوم فأضحكت شاعرا وأطلقت لسانه ببيت من الشعر، وكانت من أجل ذلك مصدر محنة مروعة اتصلت أعواما وشقي بها شاعر وشقيت به أسرة من أشراف العرب، ولكنها تركت لنا أدبا فيه المتاع كل المتاع.
صور من المرأة في قصص ڤولتير
موضوع غريب فيما ترى وفيما أرى أنا أيضا، ولكني دفعت إلى أن أتحدث إليك فيه، وقد تسألني: لماذا اخترته دون غيره من الموضوعات التي يمكن أن يساق فيها الحديث؟ فأجيبك في غير تكلف ولا تردد بأني لا أفكر في القارئ حين أريد التحدث إليه، أو بعبارة أدق لا أفكر فيما يحب أو لا يحب، وفيما يلائمه أو لا يلائمه لأني لا أتملق القارئ ولا أترضاه ولا أبتغي إليه الوسيلة، وإنما أعطيه ما عندي، وأتحدث إليه بما يخطر لي، وأسير معه سيرتي مع ذوي خاصتي الذين ألقاهم مصبحا وممسيا، والذين لا أسألهم فيما يريدون أن أتحدث إليهم ولا يسألونني فيما أريد أن يتحدثوا إلي، وإنما هي الحياة تجري بينهم وبيني سهلة سمحة يسيرة، تضطرنا إلى أن نحياها كما تضطرنا إلى أن نتبادل فيها الرأي وندير فيها الحديث.
وقد كان ڤولتير جزءا من حياتي العقلية منذ شهر سبتمبر الماضي، كما كان ديديرو جزءا من حياتي العقلية قبل الصيف، ولو أن مجلة الكاتب المصري ظهرت في يونيو أو يوليو لتحدثت إلى قرائها عن ديديرو كما أتحدث إليهم الآن عن ڤولتير، ولكنها ظهرت في أكتوبر حين كنت أغرق نفسي في الأدب العربي وجه النهار وفي أدب ڤولتير آخر النهار، ومن أجل ذلك تحدثت إلى القراء عن الأدب العربي في السفرين الماضيين، وأنا أتحدث إليهم عن لون من أدب ڤولتير في هذا السفر، والله يعلم عما أتحدث إليهم في السفر المقبل، فالقارئ يرى أني أجري الأمر بينه وبيني على إذلاله لا أتكلف له شيئا ولا أحب أن يتكلف لي شيئا.
ولست أدري لماذا اخترت هذا اللون بعينه من هذه الألوان الأدبية التي يقدمها إلينا ڤولتير، ولكني أعلم أني كنت أسأل نفسي وأنا أقرأ قصص ڤولتير عما يمكن أن يكون حظ هذا الرجل العظيم من التحليل النفسي ومن تعليل ما يحدث أشخاصه من الأحداث وما يعرض لهم من الخطوب، وكنت أحاول أن أضعه في طبقة من طبقات الكتاب هذه التي نعتمدها في العصر الحديث أساسا للتقسيم والتصنيف، فمن الكتاب من يستغرق همه كله في تحليل دقائق النفس حين تفكر وحين تشعر وحين تعمل، ومن الكتاب من يفرغ همه في تحليل الصلات بين الناس فيتجه إلى الناحية الاجتماعية من الحياة الإنسانية، ومنهم من يعنى بغير هاتين الناحيتين من نواحي الفن الذي يصدر عنه الكتاب ويقصدون إليه فيما يكتبون.
كنت إذن أحاول أن أضع ڤولتير القاص في طبقة من هذه الطبقات دون أن أبلغ من ذلك ما أريد، فهو لا ينحاز إلى طبقة دون طبقة ولا يضاف إلى فريق دون فريق، ولعله أن يشارك في خصائص هذه الطبقات جميعا، والشيء المحقق هو أنه لم يفكر في شيء من ذلك، ومن يدري؟! لعل معاصريه لم يكونوا يفكرون في شيء من ذلك، وإنما كانوا يصدرون عن طبائع في غير تكلف ولا تصنع، يرسم لهم الفن نفسه مذاهبهم في القول وطرائقهم في التصوير والتعبير.
على أن هناك حقيقة واضحة معروفة، وهي أن القصص عند ڤولتير لم يكن غاية تطلب لنفسها وإنما كان وسيلة يبتغيها الكاتب ليصل بها إلى غرض من الأغراض الفلسفية، سواء أكان هذا الغرض متصلا بما بعد الطبيعة أم بالنظام السياسي أم بالنظام الاجتماعي أم بالنظام الديني أم بكل هذه الأشياء جميعا.
وإذا كان القصص نفسه وسيلة لا غاية، فمن الطبيعي أن يكون الأشخاص الذين تجري على أيديهم أحداث هذا القصص وسائل لا غايات، فإذا عرض علينا ڤولتير شخصا من الأشخاص الذين يعملون أو يتأثرون في قصصه فطبيعة هذا الشخص لا تعنيه، ولا تعنيه الخصائص التي تأتلف منها هذه الطبيعة، وإنما الذي يعنيه هو ما يصدر عن هذا الشخص من قول أو عمل وما يلم بهذا الشخص من حدث أو خطب، وما يكون لهذه الأقوال والأعمال والأحداث والخطوب من أثر في حياة الناس.
ومن أجل هذا كانت الأشخاص في قصص ڤولتير وسائل من جهة ورموزا من جهة أخرى؛ رموزا لهذه الأغراض التي كان يسعى إليها ولهذه الآراء التي كان يريد أن يثبتها أو أن ينفيها، ومن أجل هذا أيضا كان ڤولتير يتخذ لبعض قصصه عنوانين، أحدهما الشخص الذي اتخذه رمزا، والآخر الفكرة التي أراد أن يرمز إليها، فقصة «كانديد» تسمى كانديد أو التفاؤل، وقصة «زاديج» تسمى زاديج أو القدر، وعلى هذا النحو.
أشخاص ڤولتير إذن ليسوا أفرادا من الناس يعملون كما نعمل ويشعرون كما نشعر ويحسون كما نحس ويتأثرون كما نتأثر، وإنما هم أشخاص قد خلقهم خيال ڤولتير وعقله خلقا، وقد استمدهم هذا العقل وذلك الخيال من المعاني التي قصد إليها وأراد تصويرها أكثر مما استمدهم من الحياة الواقعة التي يراها كل إنسان والتي يستطيع كل إنسان أن يلاحظها من قرب وأن يتناولها بالنقد والتحليل والتعليل، ولعل من الخصال التي تفوق فيها ڤولتير تفوقا ظاهرا انتهى به إلى براعة فنية لا يدانيه فيها كاتب فرنسي آخر، أنه لا يحفل كثيرا بالحياة الواقعة ولا يقف عندها إلا بمقدار، فهو يأخذ منها ما يحتاج إليه ويضيف إليها ما يحتاج إليه أيضا، مزدريا هذا المنطق الطبيعي الذي نفكر به ونتخذه مقياسا لتصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فهو لا يحفل بالزمان ولا بالمكان، وهو من أجل ذلك لا يحفل بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وهو لا يحفل بالطبيعة التي يمكن أن تلاحظ ولا بالخرافات التي ليس إلى ملاحظتها من سبيل، وهو لا يحفل بما يوجد بيننا بالفعل ولا بما ليس له وجود، وإنما يأخذ من هذا كله ما يريد، ويرتب هذا كله كما يريد، ويقدم لنا منه مزاجا رائعا نعجب به أشد الإعجاب ولا نستطيع أن ننكر منه شيئا؛ لأن إنكارنا لا يؤثر في الفكرة الأساسية التي أراد أن يعرضها علينا، فأميرة بابل مثلا تعيش في أقدم العصور التاريخية بل تعيش في أقدم العصور الإنسانية قبل أن يوجد التاريخ، وهي مع ذلك تطوف في أقطار الأرض وتتخذ للتنقل وسائل منها ما يلائم الأساطير، ومنها ما يلائم العصر الذي كان ڤولتير يعيش فيه، وهي تزور مدنا لم تنشأ إلا في عصور متأخرة جدا وتشهد أجيالا من الناس لم يوجدوا إلا بعد أن تقدمت الحضارة الإنسانية حتى انتهت إلى الطور الذي انتهت إليه في القرن الثامن عشر الفرنسي.
هذه الأميرة تعيش في مدينة بابل التي وصفتها الأساطير، وهي تعيش قبل سميراميس بقرون طويلة، وقد أراد أبوها الملك أن يبغي لها زوجا فقرر أن يجري مسابقة بين الملوك قوامها أن يشد المتسابقون قوس نمروذ، وهي قوس لا يتاح لأوساط الناس ولا للمتفوقين منهم في القوة أن يشدوها، فأيهم قدر على أن يشد هذه القوس فعليه بعد ذلك أن يقهر أسدا لم تعرف الدنيا مثله قوة وبأسا وعنفا، فإذا قهر هذا الأسد فعليه بعد ذلك أن يقدم إلى الأميرة هدية نادرة لم يعرف العالم مثلها قط، وقد أقبل ملوك ثلاثة للاشتراك في هذه المسابقة، أحدهم فرعون جاء يركب الثور أبيس وهو يقدم إلى الأميرة هدايا من تماسيح النيل وجرذان الدلتا، والثاني ملك الهند جاء يركب فيلا هائلا تتبعه فيلة كثيرة تحمل من طرف الهند ما عرف الناس وما لم يعرفوا، والثالث ملك السيتيين من أهل البادية في شرق أوروبا وجنوبها جاء ومعه أصحابه يمتطون أجود الخيل وأعرقها في النسب، ويحملون من طرف باديتهم الشيء الكثير، وقد احتفلت بابل بمقدم هؤلاء الملوك احتفالا رائعا واحتفت بهم احتفاء عظيما، حتى إذا كان اليوم المشهود اجتمع الناس ليشهدوا هذه المسابقة، وقد اجتمع منهم في المدرج أكثر من نصف مليون، وجلس الملك في مقصورته ومن حوله وزراؤه ورجال قصره، وجلست الأميرة في مقصورتها ومن حولها وصائفها، وجلس كل ملك من الملوك الثلاثة في المقصورة التي أعدت له، ومع كل واحد منهم حاشيته، ودار على النظارة جيش ظريف قوامه عشرون ألفا من العذارى الحسان يطوفن عليهم بألوان الفاكهة والنقل والشراب، ثم لم يكد مؤذن الملك يؤذن بافتتاح المسابقة حتى رأى النظارة منظرا عجيبا؛ رأوا فتى يقبل من بعيد يتبعه خادمه، وقد وقف على كتف الفتى طائر جميل رائع المنظر، وقد ركب الفتى حيوانا غريبا سريعا رشيقا خفيف الحركة يتوسط رأسه قرن وحيد، وقد انتهى الفتى إلى المدرج يلحظه الملوك والنظارة وتلحظه الأميرة ووصائفها خاصة، ومضى في تواضع حتى انتهى إلى مجلس من المدرج فجلس كغيره من الناس يقوم خادمه من ورائه ويقف على كتفه طائره الجميل.
وقد ابتدئت المسابقة، فتقدم فرعون ليشد القوس فلم يبلغ من شدها شيئا ونصح له كبير كهنته بألا يمضي في هذه المسابقة التي لا تلائم الجلالة المصرية وحسبه ما يقدم من الهدايا، وحسبه أنه صاحب ملك مصر، ولم يكن ملك الهند أحسن منه حظا، وحاول ملك السيتيين أن يشد القوس فكاد يبلغ من شدها شيئا يسيرا ولكن قوته لم تطاوعه، وإذا الفتى يثب من مكانه ويهبط إلى الميدان مسرعا ويتناول القوس في أدب ويشدها في رشاقة ويرسل منها إلى مقصورة الأميرة كتابا تقرؤه الأميرة، فإذا هو شعر جميل يتغنى بجمالها البارع، ثم يخرج الأسد وقد نكل عن لقائه فرعون وملك الهند، ولكن ملك السيتيين أقدم على هذا الصراع الهائل، وكاد يصرع الأسد ولكن الحظ خانه فهم الأسد أن يبطش به لولا أن هذا الفتى يثب مسرعا ويهوي إلى الأسد بضربة تقد عنقه قدا.
وقد أخذ الفتى رأس الأسد فدفعه إلى خادمه، وغاب الخادم لحظة ثم عاد وقد غسل عن الرأس ما كان عليه من دم وانتزع نيوبه وأقر مكانها قطعا من الجوهر لم ير الناس مثلها قط، وأخذ الفتى هذا الرأس من خادمه ودفعه إلى طائره الجميل وكلفه أن يحمله إلى الأميرة، والطائر يسعى في الجو سعيا رفيقا رشيقا حتى يبلغ مقصورة الأميرة فيضع الرأس بين يديها ويقدم إليها تحية تملأ الناظرين فتنة وإعجابا، وقد فتن الملوك والنظارة بهذا الفتى ووقع حبه في قلب الأميرة، وهم عظيم بابل أن يحتفي به، ولكن رسولا يقبل فيلقي في أذن الفتى كلمات، وإذا الفتى يكلف طائره الجميل أن يبقى مع الأميرة، ثم يتحول إلى حيوانه الغريب فيركبه ويعود به من حيث أتى، ويجد البابليون في اللحاق به فلا يبلغونه وقد امتلأ قلب الأميرة حبا وحزنا، وامتلأت قلوب الملوك غيظا وحنقا، واختلط الأمر على عظيم بابل، فهو لم يجد لابنته زوجا، وهو مضطر أن يرجع إلى الآلهة يستشيرهم فيما يصنع، والمهم هو أن الأميرة قد كلفت بالفتى، وأن هذا الحب قد أرقها، فهي تحدث نفسها أثناء الليل والطائر قائم إلى جانب السرير فما يروع الفتاة إلا صوت هذا الطائر يسليها ويعزيها ويواسيها في لغة بابلية رائعة، فالطائر إذن يتكلم لغة الناس، وهو يقص عليها قصصه، فهو ما زال في أول الشباب، لم يبلغ من السن إلا سبعة وعشرين ألفا وبضع مئات من السنين، وهو يحدثها عن هذا الفتى وعن موطنه في أقصى الهند، وقد أشار عليها أن تلحق به، وأشار الوحي على أبيها أن يكلفها الطواف في أقطار الأرض.
وما أريد أن ألخص القصة وإنما يكفي أن أقول: إن الفتاة ذهبت إلى البصرة ثم إلى جنوب البلاد العربية ثم إلى الهند ثم إلى الصين ثم إلى أوروبا على اختلاف أقطارها تطلب هواها في كل هذه البلاد، وهي لا تبلغ بلدا إلا أنبئت بأن الفتى قد رحل منه إلى بلد آخر، ثم يلتقيان ذات يوم أو ذات ليلة في باريس كما سنرى بعد حين.
وفي إلمام الفتى بأقطار الأرض وفي إلمام الفتاة بعده بهذه الأقطار عرض لما يريد ڤولتير أن يعرض من شئون الأمم والشعوب، يجد حينا ويهزل حينا، يصور التاريخ مرة ويخترع الحوادث مرة أخرى، وينقد نظام السياسة والدين والاجتماع دائما، ويلم بالنقد الأدبي بين حين وحين.
وليس ڤولتير في قصة كانديد بأقل ازدراء للتاريخ والجغرافيا والحقائق المادية الواقعة منه في هذه القصة التي أشرت إليها آنفا، فالمهم عنده إذن ليس اتساق القصة طبقا للمألوف من حقائق الحياة ولا طبقا للمألوف من هذا الخيال الذي لا يريد أن يمعن في الغرابة ولا أن يغرق في الاختراع، وإنما يصور الوقائع للناس تصويرا تألفه عقولهم وتطمئن إليه أذواقهم على نحو ما عودهم القصاص في العصر الحديث على أقل تقدير، فڤولتير إذن يذهب بقصصه مذهب الشرقيين في ألف ليلة وليلة وفي كليلة ودمنة، وفي هذا القصص الذي يمتلئ بالأعاجيب ويفعم بالخوارق، والذي يكثر فيه الجن وتتكلم فيه الطير، والذي يتخذ هذا كله مع ذلك وسيلة إلى النقد والإصلاح وتصوير الحياة الاجتماعية المعاصرة بما فيها من خير وشر، فلا غرابة إذن في أن تكون عناية ڤولتير بحقائق الأشخاص في قصصه ضئيلة لا تكاد تكون شيئا ذا خطر.
ومع ذلك فهؤلاء الأشخاص يختلفون في حظهم من عناية ڤولتير اختلافا شديدا، فمنهم الأشخاص الأساسيون والأشخاص الإضافيون، إن صح هذا التعبير، ومنهم الرجال والنساء، ومنهم الشباب والكهول والشيوخ، ولكل أولئك خصال يتمايزون بها فيما بينهم، فأين تقع المرأة من هؤلاء الأشخاص جميعا في قصص ڤولتير؟
هذا هو السؤال الذي كنت ألقيه على نفسي وأنا أقرأ قصصه الطوال وأقاصيصه القصار، ويخيل إلي أن في الوقوف عند هذه النماذج التي يقدمها لنا ڤولتير من النساء والفتيات في قصصه شيئا لا أقول من الفائدة العلمية الخطيرة، ولا أقول من المتعة الأدبية الرائعة، ولكن أقول من الفكاهة والغناء اللذين قد يرغبان بعض الباحثين المتعمقين في البحث في أن يحصوا ويستقصوا، وفي أن يحللوا ويعللوا، وفي أن يوافقوا ويفارقوا، لعلهم أن يخرجوا لنا من هذا كله كتابا قيما يشتمل على صور رائعة في الفن والأدب.
فقصة واحدة مثلا من قصص ڤولتير وهي قصة «زاديج» تعرض علينا صورا من المرأة مختلفة أشد الاختلاف، متفقة مع ذلك أشد الاتفاق، فقد هم زاديج وهو فتى حازم حصيف قد منح طبيعة خصبة وبصيرة نافذة، وذكاء بعيدا وثقافة واسعة، هم زاديج أن يتزوج، فخطب فتاة أحبها كل الحب، وفتنت به كل الفتون، وهي سمير، وقد خرج ذات يوم معها يتروضان في ظاهر المدينة، وكان لها عاشق من الأمراء هم أن يخطفها فأبلى زاديج في الدفاع عنها بلاء حسنا حتى استنقذها، ولكن سهما أصابه قريبا من إحدى عينيه، فلما أيأس الأطباء سمير من شفائه صدت عنه، وقالت: إنها لا تحب العور، ثم تسلى عنها زاديج وتزوج من فتاة أخرى فتنت به أشد الفتنة وكونت لنفسها في الحب رأيا صارما حازما ، وأقبلت ذات يوم على زوجها ساخطة أشد السخط، فلما سألها عن ذلك أنبأته بأنها ذهبت تعزي إحدى صديقاتها عن موت زوجها، وكانت هذه الصديقة مشغوفة بزوجها قد نذرت الوفاء لحبه ما دام الجدول المجاور لقبره يمضي في مجراه، وقد أقامت على قبره لا تريد أن تفارقه، ولكن صاحبتنا رأتها تصنع شيئا عجيبا، رأتها تحول الجدول عن مجراه لتخلص من هذا النذر الثقيل.
وقد ارتاب زاديج بقدرة المرأة على الوفاء وبسخط امرأته على صديقتها، فاحتال مع صاحب له وفي ليعلم علم امرأته، فأظهر المرض وتكلف الموت ودفن في حديقة الدار، وأقبل صاحبه على الأرملة يواسيها فكان الحديث حزينا أول الأمر ثم جعل يرق شيئا فشيئا ويعذب قليلا قليلا، حتى انتهى إلى ما يشبه الحب، ثم أظهر الصديق أن نوبة شديدة من المرض قد نابته، فتعطف عليه الأرملة وتريد أن تطب له، ولكنه ينبئها بأن الطب له مستحيل، فليس إلى علاجه من سبيل إلا أن يوضع على موضع الطحال منه أنف مجدوع، فتشك غير قليل ثم تقول لنفسها: وأي بأس على زوجي الفقيد إن لقي الآلهة بأنفه كاملا أو منقوصا! ثم تهبط إلى القبر وفي يدها حديدة تريد أن تجدع بها أنف زوجها الفقيد لتشفي به طحال عاشقها الجديد، فيهب زاديج وقد تبين أن زوجه التي همت أن تجدع أنفه أشد غدرا من تلك التي لم تستطع صبرا على ما نذرت من الوفاء.
فهؤلاء نساء ثلاث يعرضهن علينا ڤولتير في الفصلين الأولين من هذه القصة: إحداهن ضحت بالحب لأنها لا تطيق عشرة العور، والأخرى همت أن تحول الجدول عن مجراه لأنها لم تستطع صبرا عن الرجال، والثالثة همت أن تجدع أنف فقيدها ولما يمض على موته إلا أقصر وقت لأنها وجدت عشيقا جديدا.
وقد استيأس زاديج من حب النساء وذهب في حياته مذاهب مختلفة لم يجن منها كلها إلا شرا. هم أن يعيش عيشة الأغنياء فوشي به في القصر، وهم أن يعيش عيشة العلماء فوشي به عند رجال الدين وتعرض للمحنة المنكرة، ثم استبانت براءته بعد خطوب، فاختاره الملك لنفسه وزيرا، ولم تكن وزارته أقل شرا من غيرها من ألوان الحياة التي بلاها؛ فقد كثر الطالبون، وكثر الحاسدون، وكثر الماكرون، وثاب النساء إليه من كل وجه يلححن عليه بالإغراء حينا والإطماع حينا آخر، وهو يمتنع ويرتفع ولكنه وقع في شرك الملكة ووقعت الملكة في شركه، ونبه الملك إلى الأمر فهم أن يقتل العاشقين، وإن لم يصارح أحدهما صاحبه بعشق أو غرام، وقد أتيح للعاشقين من ينجيهما من هذا الكيد، فأما زاديج فمضى نحو مصر، وأما الملكة إستارتيه فأخفيت في بابل نفسها، وقد طوف زاديج بالآفاق وخضع لمحن كثيرة، ولكنه لقي في هذه المحن امرأتين أخريين، فأما إحداهما فجرت عليه شرا كثيرا، وأما الأخرى فجرت له خيرا كثيرا. أولاهما لقيها عند الحدود المصرية تصيح وتستغيث لأن رفيقها كان يلح عليها بالضرب والعذاب، فأسرع زاديج لمعونتها وكان الشر بينه وبين ذلك الرفيق فقتله زاديج، وإذا المرأة التي كانت تستعينه وتستغيث به قد أصبحت له عدوا تلعنه وتستعدي عليه، وقد أقبل المصريون فأخذوه وحاكموه، فلما تبينوا أنه لم يقتل إلا دفاعا عن نفسه أبقوا على حياته، ولكنهم باعوه من تاجر عربي كان يقيم بينهم، وهذه المرأة التي استعانت واستغاثت أول الأمر، ثم لعنت واستعدت آخر الأمر لم تلبث أن ترى قوما من أهل بابل قد أقبلوا يجدون، فلما رأوها لم يشكوا في أنها الملكة الهاربة فاقتادوها إلى بابل، وهناك جعلت تمكر وتكيد حتى استأثرت بعقل الملك، وما زالت به حتى انتهى إلى الجنون.
أما المرأة الثانية فعربية جميلة مات عنها زوجها، وكان العرب قد ورثوا عن الهند أن تحرق المرأة نفسها لتلحق بزوجها الفقيد، ولكن زاديج ما زال بالمرأة حتى صرفها عن هذا الإثم وحبب إليها الحياة دون أن يحب هو الحياة ودون أن يحب هذه المرأة لأنه لم يكن يحب إلا الملكة إستارتيه، ومع ذلك فقد غضب الكهان على زاديج وقضوا عليه بالموت، ولكن المرأة العربية عرفت له الصنيعة وأزمعت إنقاذه، فما زالت تمكر بالكهان واحدا واحدا، تطمعهم في نفسها ولا تتقاضاهم على ذلك إلا براءة هذا العبد، فلما ظفرت بهذه البراءة منهم منفردين ضربت لهم جميعا موعدا واحدا، فذهبوا إليها وكلهم مستيقن أنها ستخلص له، ولكنهم التقوا جميعا عندها، فعادوا بالخزي ونجا العبد زاديج بنفسه وما كاد ينجو.
وما زال يطوف في الأرض في الهند وفي سيلان وفي البصرة وفي الشام، وتعرض له الخطوب الكثيرة حتى لقي فيما لقي من الناس جماعة من النساء يبحثن في مرج من المروج عن حيوان غريب، وهن رائعات الحسن بارعات الجمال، فلما سألهن عن أمرهن علم أنهن إماء لصاحب هذا القصر العظيم، وأن سيدهن مريض، وقد وصف الطبيب له هذا الحيوان الخرافي الغريب على أن تجده امرأة، وعلى أن يطبخ له في ماء الورد، فأرسل إماءه للبحث عنه ووعد أيتهن ظفرت به أن تكون له زوجا، فهن مغرقات في البحث متهالكات في إرضاء سيدهن، إلا واحدة قد انتحت ناحية وجلست على شاطئ النهر حزينة كئيبة تخط بعود في الأرض، وينظر زاديج فيما تخط فإذا هي تكتب اسمه، فيأخذه الدهش ثم يسألها، ولا يكاد يسمع صوتها حتى يعرف فيها إستارتيه ملكته وصاحبة قلبه، وقد تبين منها أن زوجها الملك قد قتل في بعض الحروب وأنها وقعت أسيرة في يد المنتصر مع تلك المرأة المصرية وأنها احتالت حتى نجت من أسرها ذاك ولكنها وقعت في أسر جديد، وكلفت مع الجواري أن تبحث عن هذا الحيوان الغريب، فلم تبحث ولم تحفل لأنها لا تريد أن تكون زوجا لأحد، فقد امتلأ قلبها وعقلها بحب زاديج، فهذه هي المرأة الوحيدة التي عرفت الحب الصادق ووفت له واحتملت في سبيله ألوان الهول فصبرت وجاهدت واجتهدت، كما صبر زاديج وجاهد واجتهد، وأعانتهما المصادفات والخطوب التي لا تعنينا الآن حتى اجتمع شملهما، فأصبح زاديج ملك بابل وعادت إستارتيه إلى عرشها ولكن مع من تحب.
هذه نماذج للمرأة في قصة واحدة من قصص ڤولتير، وفي هذه النماذج شيء من الشرق؛ لأن القصة نفسها شرقية قد ترجمت، فيما يقول ڤولتير، لمدام دي بومبادور إلى العربية مع ألف ليلة وليلة ونقلها هو إلى الفرنسية، ولكن هذه النماذج ليس لها من الشرق إلا أيسر المظاهر، فالنساء اللاتي يعرضهن ڤولتير في هذه القصة سواء منهن من ذكرنا ومن لم نذكر غربيات السيرة والتفكير يعشن جميعا في القرن الثامن عشر الفرنسي، وأكبر الظن أن كل واحدة منهن ترمز من بعيد أو من قريب لامرأة عرفها ڤولتير أو عرف من أمرها القليل أو الكثير.
على أننا نجد في «كانديد» نماذج أخرى للمرأة كلها غربي، اثنان منهما ألمانيان والثالث إيطالي، فأما النموذج الأول لهؤلاء النساء فكونيجوند عشيقة كانديد تلك التي نشأت في إقليم ألماني في بيت متهدم كان الناس يرونه قصرا عظيما، بين أب سخيف كان الناس يرونه ذكيا، وأم بدينة كان الناس يرونها رشيقة، ومرب أحمق كان الناس يرونه فيلسوفا، وقد نشأ كانديد في نفس القصر الذي نشأت فيه كونيجوند، وقد أحبها وأحبته، والتقيا ذات يوم فأسقطت كونيجوند منديلها والتقطه كانديد فرده إليها، ثم التقت الشفاه واضطرمت الأعين واصطكت الركب وضلت الأيدي، ومر البارون في أثناء ذلك فوكز كانديد وطرده من القصر وخرت كونيجوند مغمى عليها.
ومنذ ذلك الوقت بدأت محنة كانديد، ووضعت أمامه المسألة الهائلة التي وضعت أمام الإنسانية كلها فلم تستطع لها - ولن تستطيع لها - حلا: أقام أمر العالم على الخير أم قام أمر العالم على الشر؟ فأما المربي الفيلسوف فقد كان يرى رأي ليبنتز وهو أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأما ڤولتير فقد كان يشك في هذا كل الشك، وقد اتخذ كانديد وكونيجوند والمربي بونجلوس وغيرهم موضوعا للمحن المتتابعة، يثبت بذلك أن العالم لم يقم على الخير المحض، وأن الذين يقولون: ليس في الإمكان أبدع مما كان، إنما يقولون باطلا من القول وزورا، وإذا كانت كونيجوند تمتاز بشيء فإنما تمتاز بأن شخصيتها سلبية بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها؛ فهي تحب كانديد لأنها رأت المربي يحب خادما من خادمات الدار، ويغمى عليها حين ترى أباها يطرد كانديد، وتتلقى اللطمة من أمها حين تفيق من إغمائها، وتخضع لاستحياء البلغار حين يغيرون على المدينة، وتخدم ضابطا بلغاريا، ثم تباع فيشتريها يهودي يحملها إلى لشبونة، وهناك تصبح شركة بين هذا اليهودي وبين رجل من رجال الدين يرأس محكمة التفتيش، وقد مرت محن أخرى بكانديد انتهت به هو أيضا إلى لشبونة، ولكنه في أثناء هذه المحن الهائلة لم يكن يفكر إلا في شيئين اثنين: حبه لكونيجوند، وإعجابه بأستاذه بونجلوس. وقد لقي كونيجوند وسعد بهذا اللقاء وسعدت هي أيضا بهذا اللقاء، واستنقذها من اليهودي والمسيحي وفر بها إلى أمريكا، وأراد أن يتزوجها هناك ولكنها راقت الحاكم الإسباني فاغتصبها واضطر كانديد إلى الفرار.
وقد طوف كانديد في أمريكا ما طوف، وطوف في أوروبا كذلك ما طوف، لا يفكر إلا في كونيجوند ولا يحيا إلا لكونيجوند، ثم يلقاها آخر الأمر بعد خطوب كثيرة، وإذا هي قد فقدت جمالها وأصبحت امرأة متهدمة قبيحة المنظر سيئة الخلق، ولكنها على ذلك تعتقد أنها ما زالت نضرة الشباب، ولو استطاع كانديد لانصرف عنها، ولكنه رجل شريف فيجب أن يبر بالوعد، وأن يتخذها لنفسه زوجا، فكونيجوند هي صورة المرأة الغافلة التي لا توجد لنفسها ولا تحس وجودها إلا بمقدار.
أما النموذج الآخر فهي هذه العجوز التي لقيها كانديد في لشبونة خادما لكونيجوند، وهي امرأة شيخة ضئيلة ضعيفة، ولكنها ذكية ماهرة ماكرة نفاذة من المشكلات، مذعنة لأحداث الزمان، قد اكتسبت ذكاءها وإذعانها من المحن التي اختلفت عليها؛ فهي إيطالية قد نشأت نشأة عز وكرامة، ثم اختلفت عليها الخطوب، فأسرها لصوص البحر وحملت إلى مراكش ثم إلى الجزائر ثم إلى تركيا ثم وقعت لهذا اليهودي فاتخذها خادما لكونيجوند، وأقامت معها تدبر أمرها وتنصح لها حين تبهظها الحوادث وتسليها حين تضيق عليها الحياة.
وأما النموذج الثالث فهي هذه الخادم باكيت تلك الألمانية التي ألقت أول درس في الحب على كونيجوند، والتي لعبت بها الأحداث هذا اللعب الشائع المعروف فباعت جسمها لتعيش، وما زالت هذه التجارة المنكرة تحملها من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى بيئة، حتى ضمها كانديد إلى كونيجوند حين انتهى به وبأصحابه المطاف إلى حديقته تلك التي فرغ للعناية بها على ساحل البحر الأسود.
على أن قصة كانديد لم تخل من نموذج فرنسي باريسي ولكنه بالطبع نموذج سيئ رديء، فليس في هذه القصة أو لا يكاد يكون فيها إلا ما هو سيئ رديء، وهذا النموذج الفرنسي الباريسي هو هذه المرأة التي اتخذت لنفسها لقبا أرستقراطيا، وأقامت في الحي الأرستقراطي، ولكنها في حقيقة الأمر مضطربة بين طبقة الأشراف وطبقة السوقة، فهي تستقبل أخلاطا من الناس فيهم النقي الممتاز، وفيهم الدنس المريب، فيهم الجاهل المغرور، وفيهم العالم المتواضع، وهم يجتمعون إلى مائدتها، فيطعمون ويشربون ويلعبون، ويقيمون حياتهم على ما يفيدون من هذا اللعب كما تقيم هي حياتها على ما تفيد من هذا الاستقبال، وآية ذلك أن كانديد لم يكد يدخل دارها حتى أجلس إلى مائدة اللعب فخسر مبلغا ضخما، ثم استمع لألوان من الأدب والنقد، ثم دعي إلى الغرفة الخاصة، وهناك مكرت به هذه السيدة مكرا يكاد يخلو حتى من الرفق، ولم يخرج كانديد من هذه الدار حتى فقد وفاءه لكونيجوند، وفقد مع هذا الوفاء خاتما ثمينا، وكره باريس وفكر في الفرار منها إلى البندقية.
وقصة أخرى من قصص ڤولتير تعرض علينا من المرأة نماذج أخرى تخالف هذه النماذج التي رأيناها، وهذه القصة هي قصة «البريء» -
I’ingénu - ونماذجها كلها فرنسية لأن القصة تبدأ في بريتانيا السفلى وتنتهي في باريس، وهي هجاء لرجال الدين ولليسوعيين منهم خاصة، فالبيئة إذن بيئة قسس، ونحن نجد في أول القصة قسيسين، يعيش كل منهما مع أخته، فأما أحدهما كركابون فأخته قد تقدمت بها السن حتى استيأست من الزواج على كره منها لذلك شديد، وأما الآخر فأخته سانت إيف في نضرة الشباب، تبسم لها الحياة وتبسم هي للحياة، وفي ذات يوم أقبلت سفينة إنجليزية، فألقت مراسيها ونزل أصحابها فباعوا واشتروا، ونزل معهم فتى غريب الأطوار، ساذج إلى أقصى حدود السذاجة، ظريف إلى أبعد غايات الظرف، جميل الطلعة، رائع المنظر، حسن الموقع من القلوب، ولم يكد يتصل بالقس كركابون وأخته حتى أحبهما وأحباه، ثم استكشفا بعد خطوب كثيرة أنه ابن أخ لهما كان قد ذهب محاربا إلى كندا ثم انقطعت أخباره وأخبار امرأته، وأكبر الظن أنهما قتلا وتركا هذا الصبي فنشئ في بيئة غير متحضرة، وأقبل وقد بلغ الرشد، ولكنه ما زال على فطرته الأولى، وقد أقام إذن مع عمه وعمته، وأحبه أهل القرية حبا شديدا، وجعل عمه يثقفه الثقافة المسيحية حتى استطاع أن يعمده في حفل عظيم، وقد فتن بالآنسة سانت إيف كما فتنت هي به، وعاقت عوائق دون زواجهما، فهو يكلف عميه عناء عظيما ليحقق هذا الزواج، وإنه لفي ذلك وإذا الأسطول الإنجليزي يقبل مغيرا على الإقليم، ويبلي الفتى في رد هذا الأسطول بلاء حسنا، يزيد إعجاب الناس به وإكبارهم له، فيرسله عمه إلى فرسايل ومعه الشهادة بحسن بلائه ليقدم هناك إلى وزير الحرب، ويظفر من الملك بالمكافأة على ما أبلى في الدفاع عن الوطن، ولعله أن يضم إلى الجيش، ولكنه يصل إلى فرسايل ولا يكاد يتصل بوزارة الحرب حتى يكون الكيد قد سبقه إلى القصر فيقبض عليه ويرسل إلى سجن الباستيل، ويلقى في حجرة من حجراته مع رجل تقي عالم من رجال الدين، فلندعه في سجنه يتعلم على هذا القس، ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ من الكتب في فنون العلم والأدب والفلسفة ، ولنعد إلى الآنسة سانت إيف.
فقد طالت غيبة البريء على أهل القرية وانقطعت عنهم أخباره فصبروا وأجملوا الصبر، وانتظروا وأطالوا الانتظار، فلما كاد اليأس يبلغ منهم، سافر عمه وعمته إلى باريس ليتحسسا من هذا الفتى الضائع أو المضاع، وكذلك فعلت الآنسة فخرجت مستخفية من القرية وسلكت طرقا ملتوية حتى انتهت إلى فرسايل، وأخوها وآخرون من أهل القرية في أثرها، يريدون أن يردوها إلى القرية، ولكنها سبقتهم وانتهت إلى القصر، وابتغت وسائلها من رجال الدين وغير رجال الدين حتى علمت أن حبيبها في السجن، فجدت في إنقاذه مفتنة في الجد حتى انتهت إلى رجل خطير من رجال وزارة الحرب، ولم تكد تقص عليه أمرها حتى رق لها وعطف عليها، ولكنه فتن بها فتنة شديدة، وإذا هو يساومها في إطلاق حبيبها من السجن مساومة منكرة، وإذا الفتاة بين أمرين أحلاهما مر؛ فإما أن تحرص على الشرف فتفقد حبيبها إلى آخر الدهر وتعرضه للعذاب المقيم في أعماق السجن، وإما أن تبذل هذا الشرف فتخسر نفسها أولا، وتخون حبيبها ثانيا، ولكن الموظف الخطير يساوم ويغلو في المساومة ويطمع ويسرف في الإطماع، والفتاة مضطربة أشد الاضطراب، مترددة بين الشرف والهوان، وبين الوفاء والخيانة، وقد عادت إلى الدار التي أوت إليها وعرضت قصتها على صاحبة الدار وهي سيدة وجيهة، فرفقت بها السيدة وعطفت عليها، ولم ترد أن تشير عليها أول الأمر، وإنما نصحت لها بأن تستشير قسيسا يسوعيا، وقد عرضت أمرها على القسيس، فسخط على الموظف الكبير أشد السخط، ولكنه لم يكد يعرف اسمه حتى أظهر حزنا ثم ترددا، ثم جعل يغري ولا يغري، ويرغب ولا يرغب، ولكنه أطمع الفتاة في المغفرة آخر الأمر، وضرب لها المثل بما امتحن به بعض القديسات في الزمان القديم، وعادت الفتاة إلى مثواها بائسة، ولكن هذه السيدة الوجيهة اجترأت آخر الأمر وشجعت الفتاة تصريحا على ما شجعها عليه القس تلميحا، وبينت لها أن الأمور لا تقضى في فرسايل إلا بمثل هذا الثمن البشع الشنيع، وقد زلت الفتاة آخر الأمر وظفرت بحرية حبيبها وبحرية رفيقه في السجن، بل ظفرت لحبيبها بالمكافأة والمنصب والمستقبل السعيد، واجتمع المتفرقون كلهم، ورضي بعضهم عن بعض إلا هذه الفتاة فلم تكن راضية عن نفسها، ولم تكن ترى نفسها خليقة بهذا الفتى البريء الكريم، ولكنها أنجته من السجن آخر الأمر، وكان من الممكن أن تجتهد في كتمان خطيئتها وأن تستأنف حياة نقية سعيدة لولا أن الدهر لم يرد لها حتى هذه الحياة النادمة؛ فقد أحبها الموظف الخطير، ولم يقنع منها بما أعطته وإنما أراد أن يستزيد، فأرسل إليها الرسل والهدايا، وكاد القوم أن يفطنوا، وأحست هي أن أمرها قد افتضح، فأخذتها العلة، ولم تكد تأوي إلى سريرها حتى أخذتها الحمى، ثم اشتد عليها المرض واستيقنت الموت فاعترفت لحبيبها وأخيها بخطيئتها، وماتت ضحية للحب إن شئت، وللوفاء إن أحببت، وللندم على فقدان الشرف إن أردت، ولهذا كله ولفساد الحياة الاجتماعية كما أراد ڤولتير، فهذا النموذج الرائع يكاد ينفرد بين نماذج المرأة في قصص فولتير كلها، فالفتاة هنا عاملة لا مستسلمة، وجريئة نشيطة لا تعرف ضعفا ولا فتورا، ومصممة لا تعرف ترددا ولا نكولا، ومغامرة لا تخاف الحوادث ولا تهاب الخطوب، ثم هي بعد ذلك شريفة وفية، سقطت بين الشرف والوفاء، وأدت حياتها ثمنا لهذه السقطة، وأنقذت بعد ذلك رجلين كريمين من عذاب متصل مقيم.
وفي هذه القصة نموذجان آخران من نماذج المرأة الفرنسية كما صورها ڤولتير؛ أحدهما هذه الآنسة كركابون شقيقة القس وعمة البريء، تلك التي تقدمت بها السن وأكرهت على حياة فيها كثير جدا من الخشونة والضيق، وحرمت لذة الزواج ولذة الأمومة فقبلت هذا الحرمان راضية كارهة، إن صح هذا التعبير. راضية لأنها لم تثر ولم تصطنع الحيلة، لتظفر بما حرم عليها، ولم تتورط في الخطيئة لا عن عمد ولا عن غفلة، وإنما احتفظت بالطهر والنقاء، وكارهة لأنها لم تر الشباب إلا ذكرت شبابها الضائع، ولم تسمع ذكر الحب والزواج إلا أسفت في تجمل؛ لأنها لم تأخذ بحظها منهما، ولم تكد ترى الفتى البريء حتى غمرته بما كان مكظوما في قلبها من عواطف الأمومة، والنموذج الآخر هو هذه السيدة الباريسية الوجيهة التي آوت الآنسة سانت إيف، والتي لم تجرؤ على أن تشير عليها إلا بعد أن أشار القسيس، ثم تشجعت فنصحت للفتاة بأن تقبل الحياة كما هي، وبأن تسير سيرة غيرها من النساء حين يحتجن إلى الاتصال بأصحاب الجاه. هذه السيدة تصور المرأة العملية في الحياة الفرنسية العامة أثناء القرن الثامن عشر، فهي لا تتهالك على الإثم راغبة فيه، ولكنها مع ذلك لا تتحرج من الإثم حين تدعو إليه المنفعة، وهي على ذلك تحتفظ بما ينبغي للمرأة الكريمة من مظاهر الوقار والارتفاع عن الدنيات.
وكذلك نرى ڤولتير في هذه القصة يعطينا صورا ثلاثا من المرأة؛ فأما إحداها فهي هذه الفتاة التي تصلح موضوعا لمأساة رائعة، وأما الأخريان فهما هاتان المرأتان اللتان يلقاهما الناس في الحياة الواقعة؛ إحداهما كريمة لأنها قنعت بما قسم لها من الحياة، والأخرى متكرمة لأنها خضعت لما في الحياة من ضرورات.
وما دمنا نتحدث عن هذه النماذج الفرنسية فلنمض في الحديث عن نماذج فرنسية أخرى التمسها ڤولتير في أعماق إيران وفي أعماق التاريخ القديم، فقد ارتفعت الشكوى إلى السماء من هذا الفساد العظيم الذي ملأ مدينة برسيبوليس، وأمر ملك من الملائكة عونا من أعوانه أن يذهب إلى هذه المدينة ليستقصي أمرها، ويرفع إليه تقريرا عنها، فإن كان الفساد أغلب عليها من الصلاح دمرها تدميرا، وإن كان الصلاح أدنى إليها من الفساد خلى بينها وبين البقاء.
وقد ذهب هذا العون إلى المدينة فاختبر أمرها كله، فكان يسخط أحيانا حتى يرى فيما بينه وبين نفسه أن هذه المدينة يجب أن تمحق محقا، وكان يرضى أحيانا أخرى فيرى أن هذه المدينة يجب أن تستمتع بالبقاء، وواضح جدا أن مدينة برسيبوليس هي في أكبر الظن باريس، فأكثر محاسنها هي الخصال التي كانت باريس تمتاز بها، بل التي كانت فرنسا كلها تمتاز بها في عصر ڤولتير، وقد عرض علينا ڤولتير فيما عرض من شئون هذه المدينة، شئون السيدات الحسان اللاتي كن يستقبلن في دورهن، ويذهبن إلى الملاهي والمسارح، ويختلفن إلى المعابد والحدائق والمتنزهات، ويجمعن إلى جمال الخلق وحسن الشارة والبراعة في الزينة، رقة القلب وعذوبة الحديث، ودقة الإحساس، والتسامح فيما يتصل بالسيرة والأخلاق، ويظفرن مع ذلك بسماحة الأزواج وتلطفهم وإغضائهم حين يحسن الإغضاء، وربما كان أصدق تصوير لهؤلاء النساء قول إحداهن لهذا العون، وقد أظهر الخوف والجزع حين رآها تسرف في خيانة زوجها: إني لا أحب أحدا كما أحب زوجي، وإنه لا يحب أحدا كما يحبني، وإني أضحي في سبيله بكل شيء إلا بخليلي، وإنه يضحي في سبيلي بكل شيء إلا بخليلته، وأظنك قد عرفت أني أشير إلى تلك القصة الرائعة التي سماها ڤولتير «الدنيا على علاتها » -
Le monde comme il va - على أن هذه النماذج من المرأة الباريسية لم تصور في هذه القصة وحدها، وإنما صورت في قصة زاديج، فالبابليات اللاتي يختلفن على القصر ويحاصرن مكتب الوزير، ويتناجين ويتناغين ويتساعين بالكيد والنميمة فيما يتبادلن من زيارات، لسن في حقيقة الأمر إلا نساء الطبقة الممتازة في باريس وفي عواصم الأقاليم.
وأريد الآن أن أعود إلى أميرة بابل تلك التي تركها تجوب أقطار الأرض ساعية في أثر عاشقها ذاك الجميل، فقد صورت بعض شخصيتها ولم أصور بعضها الآخر؛ لأني كنت أتحدث عن هذه القصة أثناء العرض العام لمذهب ڤولتير في القصص، وأحب الآن أن أصور لك هذه الفتاة كما عرضها علينا ڤولتير، فهي محبة صادقة الحب، جريئة بعيدة الجراءة، مغامرة شديدة المغامرة، تشبه في ذلك الآنسة سانت إيف في قصة البريء، ولكنها أميرة سيئول إليها ملك عظيم هو ملك بابل، فقد نشئت إذن كما ينشأ الأميرات، فيها إترافهن وما يستتبعه الإتراف من الرقة واللين، ومن الضعف والفتور، ولكن فيها مع ذلك طموح ساذج إلى إرضاء هذا الحب الذي ألقاه الفتى في قلبها، وهي تريد أن ترضي هذا الحب لأنها تعودت أن ترضي كل حاجاتها، وأن تبلغ كل ما تريد، ولكنها على ذلك مترددة ما دامت في ظل أبيها الملك، وما دامت خاضعة لنظم القصر وتقاليده ، فكل خصالها كامنة في قلبها كما تكمن النار في العود أو كما يكمن الرحيق في العنقود، فيما يقول ابن الرومي، فإذا أذن لها الملك في الحج إلى معبد البصرة، وإذا خرجت من المدينة ومعها طائرها ظهرت هذه الخصال كلها، وإذا الفتاة محبة لا تعرف إلا الحب، عاشقة لا تعرف إلا العشق، مفتونة لا تفكر إلا في صاحبها، وفي أن من حقها ومن الحق عليها أن تراه، ولكن الظروف لا تواتيها، وإنما تخلق لها مشكلة يسيرة غريبة في وقت واحد، وهذه المشكلة هي التي ستدور عليها القصة كلها.
فقد انصرف الملوك من بابل مغضبين، فأما فرعون وملك الهند فقد تحالفا، وتم الاتفاق بينهما على أن يعودا إلى بابل غازيين كلاهما يقود جيشا قوامه ثلاثمائة ألف من الجند، حتى إذا تم لهما النصر اقترعا أيهما يظفر بالأميرة، وأما ملك السيتيين فقد اختطف ابنة عم الأميرة ومضى بها تحت الليل إلى مملكته فاتخذها لنفسه زوجا، وأزمع أن يعود إلى بابل غازيا ليرد إلى زوجه عرش بابل الذي غصب منها غصبا، وكذلك أراد ملك بابل أن يزوج ابنته الأميرة فورموزنت، فجر على نفسه وعلى ملكه شرا مستطيرا، وقد مضت الأميرة فورموزنت مع طائرها، ونزلت في طريقها إلى البصرة بفندق من الفنادق، وإذا فرعون قد نزل في هذا الفندق نفسه، وإذا هو يتعجل الفوز وينتهز الفرصة ويدخل على الأميرة في غرفتها، فيعلن إليها في صلف وغلظة أنها قد أهانته في قصر أبيها، وأنه قد ظفر بها الآن فسينزلها على حكمه وسيكرهها على أن تشهد معه مائدة الغداء، وهنا تظهر مهارة الأمير وسعة حيلتها، فتظهر لفرعون أنها لم تحب أحدا غيره، وأن الحياء والخوف هما اللذان منعاها من إظهار حبها، وأنها حين تقبل دعوة الملك إلى الغداء لا تنزل على حكمه وإنما تنزل على حكم الحب الذي ملأ قلبها فتونا، وهي بهذا الحديث قد فتنت فرعون وأنزلته هو على حكمها، وقد اتفقت معه على الغداء ورغبت إليه في أن يمنحها ساعة أو ساعتين لتصلح من شأنها استعدادا لهذه السعادة، ولم تكد تخلو إلى نفسها حتى دعت وصيفتها وطبيبها وتقدمت إليهما في أن يسقيا الملك وأعوانه وجنده إذا كان الغداء من نبيذ شيراز على أن يدسا في هذا النبيذ مخدرا يدعو إلى النوم فلا يرد النوم له دعاء، ولم يكد القوم يمضون في غدائهم وفرعون يداعب الأميرة حتى كانوا قد شربوا فأسرفوا في الشراب، وحتى كان نبيذ شيراز قد أغرقهم وأغرق الجند معهم في نوم عميق، هنالك انسلت الفتاة وحاشيتها، ولكنها لم تمض إلى البصرة لتنفذ أمر أبيها، فقد نسيت أباها وأمره والبصرة، وإنما مضت إلى أقصى الهند لتلتمس عشيقها أمازان، وقد بلغت أقصى الهند، ولكنها لم تلق الفتى وإنما لقيت أمه محزونة بائسة، وعرفت منها أن طائرا ماكرا قد شهد غداءها مع فرعون وأنبأ به الأمير فرآه خيانة بغضت إليه الحياة، فأزمع أن يطوف في أقطار الأرض، يلتمس العزاء عن حب هذه الخائنة، وشرط على نفسه أن يكون وفيا لهذه الخائنة إلى آخر الدهر، وكذلك نشأت العقدة، فالفتاة بريئة أمام نفسها وأمام الحق، ولكنها خائنة في رأي حبيبها، وهي تريد أن تطلبه حيثما كان لتظهره على براءتها من هذه الخيانة، ولتستأنف معه هذا الحب السعيد، وقد تبعته إلى الصين فعرفت أنه أقام في قصر الملك أياما، وكاد يطيل الإقامة لولا أن أميرة من أهل القصر فتنت به وراودته عن نفسه، فأبى عليها وفر منها وترك لها كتابا رقيقا يعتذر فيه من هذه الغلظة؛ لأنه يحب أميرة بابل، وقد أقسم أن يظل وفيا لها إلى آخر الدهر، فلا تكاد الأميرة تقرأ هذا الكتاب حتى يجن جنونها، وحتى تلاحق حبيبها في كل مكان، وهي لا تصل إلى مدينة إلا عرفت أن الفتى قد تركها رافضا حبا يعرض عليه، حتى طوفت في أثره أوروبا كلها وكادت تلحقه في إنجلترا، ولكنه عاد في الوقت الذي كانت تعبر فيه البحر من هولندا إلى بلاد الإنجليز.
على أنها أدركته آخر الأمر في باريس، ولكنها أدركته على شر حال، فهذا الفتى المتيم الذي قاوم الأميرات في جميع قصور الأرض لم يستطع أن يقاوم باريسية، وأي باريسية؟ ممثلة من ممثلات الأوبرا. رأى تمثيلها وسمع غناءها وأحب أن يقدم إليها، فلما عرفها وقع في الشرك، وتأتي أميرة بابل فترى هذا الفتى وهذه الممثلة على شر حال، وقد ضاعت الآمال، وانهارت قصور الأماني، واشتعلت الغيرة حتى حرقت قلب الفتاة وعقلها تحريقا، فهي تهجر باريس مصممة ألا ترى هذا الخائن، وهي تذكر أباها الآن وتذكر أنها خالفت عن أمره، وتريد أن تعود إليه وتعتذر وتتوب وتثوب إلى الطاعة والخضوع، وتتعزى عن هذا الحب الذي جابت من أجله الدنيا كلها ثم آبت منه بالخيبة والحرمان، والفتى في أثرها يطلبها بعد أن كانت تطلبه، ويلاحقها بعد أن كانت تلاحقه ، وقد أدركها آخر الأمر في إسبانيا وأنقذها من محكمة التفتيش، فكفر بذلك عن خطيئته وعادا معا إلى بابل، وكان الزواج وارتقى إلى العرش في خطوب لست في حاجة إلى تفصيلها، وبمقدار ما ترى عند هذه الفتاة من الإقدام والعزم ومن الجراءة والمغامرة ترى عند أميرة أخرى مصرية ما يناقض كل هذه الخصال، بحيث لا تشبه إحدى الأميرتين صاحبتها إلا في شيء واحد هو هذا الحب الملح الذي يضطر صاحبته إلى الصبر والوفاء واحتمال الخطوب، ولكن الأميرة المصرية صابرة وفية، لا تصنع شيئا وإنما تتلقى ما يصب عليها من المحن في سبيل هذا الحب، وأنت تستطيع أن ترى صبر هذه الأميرة وشجاعتها السلبية وتعرضها للموت في قصة الثور الأبيض.
وأعتقد أني قد عرضت عليك من نماذج المرأة عند ڤولتير ألوانا تعطيك منها صورا واضحة دقيقة، وأنا لم أعرض عليك مع ذلك نماذج أخرى أهملتها عن عمد لأنها تشبه هذه النماذج التي عرضتها من قريب أو بعيد.
وهناك أسئلة يمكن أن تخطر للذين يقرءون قصص ڤولتير وللذين يقرءون هذا الحديث؛ فهل بين هذه النماذج كلها وبين السيدات اللاتي اتصل بهن ڤولتير اتصال حب أو اتصال مجون من علاقة بحيث يمكن أن نستدل بهذا النموذج أو ذاك على هذه السيدة أو تلك من صواحبات ڤولتير؟ وهل هناك صلة بين هذه النماذج وبين السيدات الكثيرات اللاتي عرفهن ڤولتير في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا بحيث يستطيع الباحث أن يقول: إن ڤولتير قد صور هذه السيدة أو تلك من السيدات الممتازات اللاتي عرفهن في حياته المضطربة الطويلة؟ وهل بين ألوان الحب التي عرضها ڤولتير في قصصه هذه ما يشبه من قريب أو بعيد حب ڤولتير حين كان يحب، وهيام ڤولتير حين كان يهيم، واضطراب ڤولتير بين اليأس والرجاء حين كان يضطرب في الحب بين اليأس والرجاء؟
أسئلة لا أستطيع أن أجيب عنها، ولا أريد أن أجيب عنها؛ لأني لست إخصائيا في أدب ڤولتير، بل لست إخصائيا في الأدب الفرنسي، ولأني لم أرد أن أقدم إليك بحثا في التاريخ الأدبي وإنما أردت أن أقدم إليك حديثا من هذه الأحاديث التي تدعو إلى التفكير وترغب في القراءة، وإذا كنت قد وفقت في هذا الحديث إلى أن أرغبك في قراءة هذا القصص الرائع الذي تركه لنا ڤولتير، وفي تعمق البحث عن صور المرأة في هذا القصص فأنا راض كل الرضا إلا عن شيئين اثنين؛ أحدهما أني لم أحسن البحث والاستقصاء، والثاني أني كنت أريد الإيجاز فاضطررت إلى الإطالة فأثقلت بذلك على القارئ وعلى المجلة، وشجعت بذلك الكتاب على أن يرسلوا إلينا فصولا طوالا كهذا الفصل الطويل، وأي بأس على الكتاب إذا ذهبوا في الثرثرة مذهب رئيس التحرير.
في الحب
سيبسم لهذا العنوان قوم وسيعبس له آخرون، وسيكون بين الباسمين من يبسم عن رضا لأنه يريد أن يقرأ عن الحب شيئا، ومن يبسم عن سخرية لأنه لا يرضى أن يكون الحب موضوعا للحديث في مجلة ينتظر منها الجد الصارم ولا يحب منها الإقبال على لغو الحديث، فأما العابسون فسيكون عبوسهم سخطا خالصا؛ لأن حديث الحب لهو كله، وما أكثر الصحف والمجلات التي تلهج باللهو وتغرق فيه!
ومع ذلك فقد كانت حياتنا في العصر الأول أسمح من هذا كله وأكثر يسرا، وكانت أحاديث الحب لا تثير سخطا ولا عبوسا وإنما تثير رضا وابتهاجا وتدعو إلى الروية والتفكير في كثير من الأحيان، وقد مضى في تاريخنا الأدبي والعقلي عصر لم يكن الحب فيه هزلا ولا دعابة، وإنما كان جدا خالصا لا يخلو من صرامة وحزم في كثير من الأحيان، فلم يكن حب الغزلين في شمال الحجاز وفي نجد لهوا ولا مجونا، ولا مصدرا للدعابة والفكاهة، وإنما كان جزءا من جد الحياة اقتضته ظروف من السياسة والدين فدفع إليه الغزلون في شيء من التصوف لعله خير ما يستحق البقاء من شعرنا العربي القديم، ونحن نقرؤه فنجد راحة إليه واستمتاعا به لا يشوبهما مجون ولا يتصل بهما ميل إلى العبث واللهو، وإنما تجد فيهما النفوس غذاء روحيا يرتفع بها عن صغائر الحياة، ويعزيها عن هذه السفاسف اليومية التي تنزل بها عما تحب لنفسها من مكان رفيع. على أن هذا الهيام الذي شمل النفس العربية في نجد وشمال الحجاز لم يتردد في أن يغزو البيئات الدينية والعلمية الصارمة الحازمة في مكة والمدينة، فقد كان شعر جميل وكثير والقيسين ينشد في المسجد الحرام وينشد في المسجد النبوي، ويستمتع به في هذين المسجدين المطهرين قوم وقفوا أنفسهم على رواية العلم والدين لا يجدون في ذلك حرجا ولا جناحا؛ وربما تجاوز بعضهم هذا الاستمتاع بأحاديث الحب وما كان ينشد فيه من شعر إلى الحب نفسه؛ فشقي بالحب إن كان الحب شقاء، ونعم بالحب إن كان الحب نعيما، وذاق لذته المؤلمة وحلاوته المرة، إن صح أن تكون اللذة مؤلمة وأن تكون الحلاوة مرة.
وقد كان عبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي صاحب قراءة للقرآن ورواية للحديث، وإقبال على النسك والزهد وتفرغ للعبادة والطاعة، حتى لقبه أهل مكة بالقس، فلم يمنعه ذلك حين رأى سلامة وسمع غناءها أن يحبها حبا انتهى به إلى الهيام وجعله شاعرا غزلا كغيره من الشعراء الغزلين. لم يجد في ذلك حرجا ولا جناحا؛ لأن ذلك لم يورطه في إثم ولا فسوق، وعبد الرحمن بن أبي عمار القس هو الذي يقول في سلامة هذين البيتين الرائعين:
سلام هل لي منكم ناصر
أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم
فمنهم اللائم والعاذر
ويزعم الرواة أن سلامة أحبت القس وحببت إليه، وهمت ذات يوم أن تقبله أو أن تضع فمها على فمه كما يقول الرواة، ولكنه امتنع عليها مؤثرا نقاء القلب وصفاء الضمير، مشفقا أن ينعم بحبها في الدنيا فيشقى بحبها في الآخرة ويصبح من هؤلاء الأخلاء الأعداء الذين ذكرهم القرآن الكريم.
وقد آثر ابن عباس رحمه الله - كما يعرف الناس جميعا - أن يسمع لغزل ابن أبي ربيعة على أن يسمع لأسئلة نافع بن الأزرق في الفقه والحديث وتفسير القرآن، فقد كان القدماء أسمح منا نفوسا وأحسن منا استقبالا لأمور الحياة، يعنفون بأنفسهم في مواضع العنف، ويرفقون بها في مواطن الرفق، ولا يتكلفون هذا الجد السخيف والتزمت الذي لا يدل على شيء، وأنا بعد هذا كله لا أريد أن أتحدث عن الحب مرغبا فيه أو مرغبا عنه، محسنا له أو زاريا عليه، بل لا أريد أن أتحدث عن الحب في نفسه، وإنما أريد أن أتحدث عنه من حيث إنه كان موضوعا للبحث والدرس والتأليف عند أديبين عظيمين؛ أحدهما عربي مسلم قديم، والآخر أوروبي مسيحي حديث، فأما أولهما فهو ابن حزم الأندلسي، وأما ثانيهما فهو ستندال الفرنسي، فقد عاش أولهما في القرن الحادي عشر، وعاش ثانيهما في القرن التاسع عشر، فبينهما نحو ثمانية قرون، وهما بعد ذلك يختلفان أشد الاختلاف ولا يكادان يتفقان إلا في الشيء اليسير جدا.
فابن حزم مسلم متعمق للإسلام، يؤمن به إيمانا صادقا متينا، يرتفع به إلى شيء يوشك أن يكون نسكا، وهو قد وقف حياته أو أكثر حياته على تعمق العلوم الإسلامية والعربية؛ فهو متقن لرواية الحديث، محسن للفقه، متخصص في الكلام متفوق في الجدل، عالم بشئون الفرق الإسلامية، مهاجم لأكثرها مدافع عن أقلها، منافح عن الإسلام، ناقد لما ورث المسيحيون واليهود من المسيحية واليهودية، عارض لكل مسألة من مسائل الدين بالدرس والنقد والتحليل، مظهر رأيه فيها، مؤيد له بما يرى أنه الحجة القاطعة والبرهان الساطع الذي لا يمكن الشك فيه، فهو بذلك رجل من رجال الدين، ومن رجال الدين الذين وقفوا أنفسهم وحياتهم على درسه واستقصائه، والذود عنه والقيام من دونه.
وهو صاحب مذهب بعينه في الدين ليست عليه كثرة المسلمين؛ فهو ظاهري يؤثر النص ويكره التأويل، ولا يحب التأول ولا يميل إلى التأويل، وهو من أجل ذلك لا يخاصم في الكلام وحده وإنما يخاصم في الفقه أيضا، وهو من أجل ذلك متقن للغة أشد الإتقان، متعمق لكل ما يتصل بها من علم أشد التعمق؛ فهو لغوي، وهو نسابة، وهو راوية للشعر والأدب والأخبار، ثم هو قبل هذا كله من أسرة قد تولت الوزارة واتصلت بالقصور وعملت في الدواوين ودبرت أمور السياسة، وقد شارك في بعض ما نهضت به الأسرة من الأعباء، ولكنه صرف نفسه عن السياسة، أو صرفته الظروف عن السياسة إلى العلم، فأحاط بكل ما كانت تتكون منه الثقافة الإسلامية العربية في ذلك الوقت، ثم لم يكتف بأن يكون عالما ممتازا، بل أراد أن يكون معلما ممتازا أيضا، ومؤلفا ممتازا كذلك، هذا هو ابن حزم.
أما ستندال فقد نشأ في عصر الثورة الفرنسية، وشارك في الخطوب السياسية والعسكرية التي امتلأ بها عصر نابليون وقاتل في غير موقعة من مواقع هذا القائد العظيم، وشهد الأحداث الكبرى التي اضطربت لها فرنسا ثم اضطربت لها أوروبا ثم اضطرب لها العالم كله في آخر القرن الثامن عشر وفي النصف الأول للقرن التاسع عشر، وهو بحكم نشأته وبيئته والعصر الذي عاش فيه، مسيحي اللون حر الضمير واسع الثقافة إلى أبعد حد ممكن، ولكنه لم يكن وزيرا ولم يحاول أن يكون وزيرا، ولم يكن معلما ولم يحاول أن يكون معلما، وإنما عاش لنفسه أولا، ومنح قلبا ذكيا وعقلا خصبا وضميرا حيا ونبوغا فنيا ممتازا، فلم يجد بدا من أن يصور حياته وحياة الناس من حوله وحياة العصر الذي عاش فيه.
فالاختلاف بين هذين الرجلين بعيد إلى أقصى غايات البعد، ولكنهما على ذلك يلتقيان في بعض الأمر، فكلاهما أوروبي المولد والنشأة؛ ولد ابن حزم ونشأ وعاش في إسبانيا، وولد ستندال وعاش في فرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية.
وقد ذكرت آنفا أن ابن حزم عربي مسلم، وما أردت بعروبته هذا المعنى الضيق الذي يتصل بالجنس والنسب؛ فقد يقال إن ابن حزم لم يكن عربيا صليبة، وإنما أردت هذه العروبة التي تتصل بالثقافة والسياسة والدين واللغة والنشأة، وهذه الخصائل التي هي أهم ألف مرة ومرة من الجنسية والعنصرية.
فقد كان الرجلان إذن أوروبيين، ولكن أحدهما عربي الحياة والآخر فرنسي الحياة، وأحدهما من أبناء القرن الحادي عشر والآخر من أبناء القرن التاسع عشر، وقد كان الرجلان يلتقيان في شيء آخر؛ فكلاهما عاش في عصر فتنة واضطراب. عاش ابن حزم في عصر انهيار الدولة الأموية في الأندلس وانتثار النظام السياسي في هذا الجزء من أوروبا، وقل إن شئت في هذا الجزء من العالم الإسلامي القديم، وقد شهد ابن حزم انتقال السلطان من بني أمية إلى حجابهم، ثم انهيار الأمر حول هؤلاء الحجاب، وقيام ملوك الطوائف، وتدخل البربر في شئون العرب الإسبانيين، ثم هو لم يشهد ذلك من برجه العاجي، وإنما شهده شهود المشارك فيه، المصطلي بناره، المتحمل لآثاره، فذاق السجن ونفي من الأرض وتقاذفته مدن الأندلس، بل تقاذفته مدن العالم الإسلامي الغربي؛ فهو قد عبر إلى إفريقية، وهو قد عبر إلى الباليار، وهو قد لقي في هذا كله ألوانا من المحن وضروبا من الخطوب.
وعاش ستندال في عصر الثورة وفي عصر الحروب التي أثارها نابليون أو أثيرت عليه، وشارك في هذه الحروب فانتصر حين انتصر نابليون وانهزم حين انهزم نابليون، واضطرته هذه الحروب إلى التقلب في أقطار أوروبا، فذهب إلى ألمانيا والنمسا والروسيا وأقام في إيطاليا فأطال الإقامة وعاد آخر الأمر إلى فرنسا.
وليس المهم بالقياس إلى هذين الرجلين أنهما عاشا في عصر فتنة واضطراب وتأثرا بهما في حياتهما المادية، وإنما المهم أن كليهما قد منح حسا دقيقا وشعورا رقيقا، وعاطفة ثائرة، ومزاجا حادا وذوقا رفيعا، فتأثر بهذه الفتنة وتأثر بهذا الاضطراب، وعاش عيشة سخط وشذوذ وقلق لا عيشة رضا واطمئنان وحرص على ملاءمة الجيل الذي كان يعيش فيه.
كان ابن حزم شاذا في إسبانيا المسلمة المضطربة، وكان ستندال شاذا في فرنسا المسيحية الثائرة، وكان كلاهما ساخطا على ما يرى، منكرا لما يشهد، عاكفا على نفسه يتسلى بعلمه وأدبه عما يجري حوله من الخطوب.
في هذا كله كان الرجلان يختلفان ويتفقان، ومن هنا فرغ ابن حزم لعلوم اللغة والدين، وفرغ ستندال للقصص والإنشاء الأدبي الخالص، ومن النافع أن نقف عند هذين الكاتبين وقفة قصيرة؛ فقد يكون من المفيد أن نرى كيف عني الأديب المسلم القديم والأديب المسيحي الحديث بهذا الأمر الخطير الذي هو الحب.
وإذا قلت إن الحب أمر خطير؛ فإنما أصدر في ذلك عن ابن حزم من جهة وعن ستندال من جهة أخرى، ولست في حاجة إلى أن أصدر في ذلك عن شعر الشعراء ولا عن أدب الأدباء ولا عن الحياة نفسها؛ لأني لا أكتب فصلا في الحب من حيث هو، وإنما أكتب فصلا في الحب كما صوره هذان الأديبان.
والظاهر أن الحب قد كان خطيرا حقا في إسبانيا المسلمة أيام ابن حزم، وليس أدل على ذلك من أن هذا المحدث الفقيه المتكلم الفيلسوف المنفي من أرض وطنه قد فرغ لكتابة رسالة فيه، وهو لم يفرغ لكتابة هذه الرسالة إلا لأن صديقا من أصدقائه الفقهاء المحدثين المتأدبين قد طلب إليه أن يكتب هذه الرسالة، فلولا أن الأمر له شيء من خطر لما طلب هذا الفقيه المحدث الأديب إلى ابن حزم أن يفرغ له ويكتب فيه، ولما أجاب ابن حزم إلى ما طلب إليه وهو على جناح سفر قد أزعج عن وطنه واستقر في شاطبة لينتقل منها إلى منفى آخر.
ثم نحن نقرأ كتاب ابن حزم فنرى أن الحب قد شغل ابن حزم في حياته كلها كما شغله الفقه والتفسير والحديث والكلام، ونقرأ كتاب ابن حزم فنرى أن الحب لم يشغله وحده، ولم يشغله مع صاحبه الذي طلب إليه تأليف الكتاب وحدهما، وإنما الظاهر أنه كان يشغل الناس جميعا في إسبانيا المسلمة لعهد ابن حزم، ولعله كان يشغل المثقفين والممتازين أكثر مما كان يشغل غيرهم من الناس.
أما في فرنسا فالحب شيء خطير في كل وقت لا يحتاج ذلك إلى دليل، ولكنك سترى أن ستندال لم يكن يقدر الحب كما ألفه مواطنوه الفرنسيون.
أكاد أعتقد أن في نفوسنا من إسبانيا المسلمة صورة غير مطابقة للحقيقة الواقعة أثناء القرن الخامس للهجرة على أقل تقدير، فنحن نقرأ فقها وفلسفة وحديثا وكلاما وتفسيرا ولغة، ونحن نقرأ أخبار الفتن والحرب فيخيل إلينا أن إسبانيا المسلمة قد كانت في القرن الخامس موطن الجد المظلم والثورات المنكرة والاختلاف المؤذي للنفوس، لا نكاد نستثني من ذلك إلا هذه البيئات الخاصة التي كانت تمتاز بالعكوف على اللذات والانصراف إلى الشعر والموسيقى والغناء، ولكن ابن حزم يعطينا في كتابه «طوق الحمامة» صورة أخرى لإسبانيا المسلمة في ذلك العهد، صورة وطن كان الناس فيه جميعا يذوقون الحب، ويبلون لذاته وآلامه، يتعرضون له كما يتعرضون لغيره من محن الحياة، بل يتعرضون له كما يتعرضون للموت، لا فرق في ذلك بين أصحاب الجد منهم وأصحاب الهزل، ولا بين الذين يفرغون للعلم والدين، والذين يفرغون للأدب والفن، والذين يفرغون للسياسة والحرب.
وأكبر الظن أن أمور الناس كلهم تجري على هذا النحو في جميع أقطار الأرض، ولكن حظوظ الناس من الحرية في تصوير هذا والتعبير عنه تختلف باختلاف الأوطان والبيئات والظروف، والظاهر أن إسبانيا المسلمة كانت على حظ عظيم لا في الحب وحده بل في التحدث عن الحب أيضا، ومن الحق أن ابن حزم تحرج شيئا أو كاد يتحرج شيئا من الكتابة في هذا الموضوع، ولكنه لم يلبث أن يعفي نفسه من هذا الحرج بآثار رواها في أول الكتاب وبحض على الطاعة ونهي عن المعصية، وترغيب في الفقه سجلها في آخر الكتاب، فقد روى ابن حزم بسنده المتصل إلى أبي الدرداء رحمه الله أنه كان يقول: «أجموا النفوس بشيء من الباطل؛ ليكون عونا لها على الحق.» وروى آثارا أخرى عن جماعة من السلف الصالح رحمهم الله.
وكان هذا أشبه باستئذان للدخول في هذا الموضوع الخطير الذي يظهر أن ابن حزم فكر فيه وعاش معه منذ نشأ إلى أن مات، وأخص ما يتفق فيه ابن حزم وستندال أنهما لم يريدا أن يكتبا في الحب كتابة المتزيد المتكلف، وإنما أرادا أن يكتبا فيه كتابة العالم الذي يؤثر البحث والاستقصاء، ويعتمد على الملاحظة والمشاهدة، ويستنبط من هذا كله أصولا وقواعد هي أشبه بالعلم وأقرب إليه من شبهها بالأدب وقربها إليه، فليس الذي يعنيهما أن يرويا الأخبار ولا أن يستنبئا الخيال ولا أن يفلسفا في غير موضع للفلسفة، وإنما الذي يعنيهما أن ينظرا إلى الواقع ويعمدا إليه ويأخذا منه في غير تكلف ولا تصنع أيضا، كلاهما يريد العلم ويعتمد على الظواهر الواقعة، ولكن أحدهما يعيش في القرن الحادي عشر، والآخر يعيش في القرن التاسع عشر، وبين حياة العقل الإنساني في هذين العصرين أمد بعيد؛ فابن حزم يعيش في عهد الكلام وما بعد الطبيعة، وستندال يعيش في عهد العلم والتجربة، فليس غريبا أن يكون ابن حزم فيلسوفا حين يفسر الظواهر الواقعة، وأن يكون ستندال عمليا حين يفسر هذه الظواهر نفسها.
ومن هنا عمد ابن حزم إلى تعريف الحب كما كان الناس في عصره يعمدون إلى تعريف كل شيء، وعمد إلى تعريفه على النحو الفلسفي الذي ألفه أصحاب المنطق؛ فهو يثبت قبل كل شيء أن الحب حقيقة واقعة لا منصرف عنها ولا تخلص منها، وأنه من أجل ذلك شيء مباح لا ينكره الدين ولا العرف ما دام لا يتجاوز حدود الدين والعرف، وهو يذكر الحب الذي ألم بطائفة من خلفاء بني أمية في الأندلس ومن خلفاء الفاطميين في مصر، والحب الذي ألم ببعض الفقهاء من أبناء الصحابة والتابعين وما أفتى به ابن عباس رحمه الله في بعض الأمور التي تتصل بالحب، ثم يذكر بعد ذلك «مائية الحب» كما يقول، وهي كلمة يأخذها من «ما»، وهي توازي كلمة «الماهية » عند الشرقيين من أصحاب المنطق والفلسفة، كأن الشرقيين يأخذون كلمتهم من «ما هو»، وكأن ابن حزم وأصحابه الأندلسيين يأخذون كلمتهم من «ما» وحدها، فيجعلون الألف همزة حين ينسبون. ومائية الحب كما يقول ابن حزم، أو ماهيته كما يقول الشرقيون؛ هي عند ابن حزم: «الاتصال بين أجزاء النفس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.» كان ابن حزم يذهب إلى ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من قدماء اليونان من أن هناك عنصرا رفيعا تأتلف منه نفس واحدة قد قسمت أجزاؤها على المخلوقات ذوات النفوس، فقد يحدث اتصال بين بعض هذه الأجزاء المقسمة بين الناس فيكون الحب، وقد يحدث انفصال فيكون البغض، وبمقدار ما يكون الاتصال قويا أو ضعيفا يقوى الحب أو يضعف، وبمقدار ما يكون الانفصال قويا أو ضعيفا يشتد البغض أو يلين.
وهذا الاتصال إنما هو ملاءمة في الشكل وتشابه في الطبع وحنين جزء من النفس إلى جزء آخر من النفس، والأعراض الطارئة هي التي تباعد بين هذه الأجزاء أو تتيح لها أن تقترب وتأتلف، وابن حزم لا يحب أن يذهب مذهب إمامه محمد بن داود الظاهري ومذهب غيره من الفلاسفة الذين يرون أن النفوس كرات مستقلة تستقر في المخلوقات إلى حين، وإنما هو يرى أن النفوس أجزاء من نفس واحدة قد قسمت على المخلوقات إلى حين، ثم هي تعود إلى أصلها، وإن كان ابن حزم لم يصرح بهذه العودة في هذا الكتاب، والشيء المهم هو أن الحب عند ابن حزم لا يأتي من الأجسام وإنما يأتي من النفوس، وليست الأجسام في حقيقة الأمر إلا وسائط ووسائل تتيح للنفوس أن تتقارب أو أن تتباعد، وآية ذلك أن من الناس من يحب شخصا تنقصه هذه الخصلة أو تلك من خصال الجمال الجسمي وهو يعلم أن بين الناس من يستوفون خصال الجمال كلها أو أكثرها، ومن يزيدون على محبوبه في هذه الخصال، فلو كان الجمال الجسمي مصدر الحب لما أمكن أن يحب الإنسان شخصا قبيحا أو منقوص الحسن، ونحن نعلم أن العاشقين لمن لا يبلغ الحسن فيهم أقصاه ولمن يقدر عليهم القبح ليسوا قليلين، ولا تفسير لذلك عند ابن حزم إلا أن الحب ظاهرة تتصل بالنفوس ولا تتصل بالأجسام إلا اتصالا عارضا، فنحن هنا أمام بحث فلسفي يتصل بما بعد الطبيعة أكثر مما يتصل بالطبيعة نفسها، أو قل: إنه يتخذ الطبيعة سلما يرقى فيه إلى ما بعد الطبيعة، وليس شيء من هذا كله غريبا؛ فابن حزم يعيش في القرن الحادي عشر، والعلم عنده ما ورث عن الفلاسفة والمتكلمين.
فأما ستندال فهو لا يعمد إلى التعريف ولا يفكر في الاستنباط المنطقي، وإنما يعمد إلى الاستقراء والاستقصاء، فهو لا يعرف الحب جملة وإنما يستقصي أنواع الحب عند أفراد الناس وعند أصنافهم، وهو يضع أصلا في أول كتابه لا يكاد يحققه حتى يشك في دقته ويفتح باب الاستقراء والاستقصاء من جديد.
فليس هناك حب واحد إذن، وإنما هناك أنواع أربعة من الحب؛ أولها الحب الجامح الذي يملك على النفس أهواءها وعواطفها وحسها وشعورها، والذي يندفع كالسيل لا يلوي على شيء ولا يترك لصاحبه حظا من أناة أو روية أو تفكير، والثاني الحب المترف الذي ينشئه التكلف وما تقتضيه الحضارة الراقية المصفاة من إتراف في الذوق، وتأنق في فنون المتاع، والذي لا يكاد يتصل بالنفس ولا بالقلب، ولا يكاد يؤثر في العاطفة أو في الشعور، وإنما هو لون من ألوان الذوق، وفن من فنون الترف، قد وضعت له قواعده وأصوله، وأحاط الناس بأسراره ودقائقه، فهم يصعدون فيه عن علم وينتهون إلى غايته عن بصيرة، والثالث الحب الجسدي الذي تدفع إليه الغرائز والذي يشترك فيه الإنسان والحيوان، والرابع حب الغرور الذي ينشأ عن الكبرياء وإيثار النفس بهذه الظواهر الخداعة التي يكبر بها الإنسان أمام نفسه وإن لم يكبر بها في أنفس الناس، وقد مثل ستندال لأنواع الحب هذه بأمثلة تصورها تصويرا صادقا وتدل عليها دلالة واضحة، فأبطال الحب المعروفون الذين تحدث عنهم التاريخ يصورون النوع الأول، والمترفون من الفرنسيين أثناء القرن الثامن عشر يصورون النوع الثاني ، والصائد الذي يشتهي قروية رآها تهيم في الغابة فأعجبه شكلها يصور النوع الثالث، وكثرة الشعب الفرنسي في عصر ستندال تصور النوع الرابع. على أن ستندال لا يلبث أن يلاحظ أن هذا التقسيم ليس دقيقا ولا نهائيا، وأن من الممكن أن ينحل كل نوع من هذه الأنواع الأربعة إلى أنواع أخرى جزئية يدل عليها بألفاظ أخرى، فأمور الحب أشد دقة وأكثر اختلافا وأيسر تفاوتا من أن تستقصى على نحو قاطع محتوم، وليس المهم عند ستندال أن تحصى أنواع الحب أو تستقصى، وإنما المهم أن نتبين كيف ينشأ الحب وكيف ينمو وكيف يضعف وكيف يموت، وستندال يرى أن هذا كله إنما يجري طبقا لقوانين يعرضها في هذا الكتاب، والإعجاب هو أول درجة من درجات الحب ترقاها النفس حين تتجاوز نظرتها العادية البريئة من الاكتراث إلى الشخص الذي كتب لها أن تحبه، فهي تبدأ بالخروج عن عدم الاكتراث إلى التفات خاص لا يكاد يتم حتى ينشأ عنه إعجاب يقف النفس عند هذا الشخص الذي التفتت إليه، ولا يكاد هذا الإعجاب يتصل حتى ترقى النفس في هذا السلم إلى درجة أخرى، وهي درجة التوق والشوق أو الطموح إن شئت، وهي الدرجة التي يقول فيها الإنسان لنفسه: أحبب إلي بأن أقبل هذا الشخص أو بأن يقبلني؛ فهو طموح إلى الاتصال المادي بعد أن تم الاتصال النفسي.
ثم يرقى الإنسان إلى الدرجة الثالثة، فأنت تستطيع أن تتوق وأن تشتاق وأن تطمح، ولكن هذا كله شيء وانتظار الوصول إلى ما تطمح إليه شيء آخر، فإذا تجاوزت الطموح إلى الأمل فقد ارتقيت إلى الدرجة الثالثة في تصديك للحب، ثم لا يكاد يستقر الأمل في نفسك، أو لا تكاد نفسك تستقر في الأمل، حتى تبلغ الدرجة الرابعة، وهي الدرجة التي يتم فيها تكون الحب، فأنت قد أعجبت ثم اشتقت ثم أملت، ثم استحال هذا كله في نفسك إلى لذة قوية تحدث بمجرد أن ترى من تحب أو أن تسمعه أو أن تمسه أو أن تتصل بسبب من أسبابه، وأنت إذا وجدت هذه اللذة معرض لأن تجد الألم إذا انقطعت الأسباب بينك وبين من تحب، وكذلك لا تبلغ الدرجة الرابعة حتى تضطرب بين ما يحدث الحب من لذة وألم، ومن نعيم وجحيم، وإذا وجد الحب فلا بد له من أن ينمو، إلا أن يقتل يوم مولده ونموه. يبدأ حين تبلغ الدرجة الخامسة، وهي ما يسميه ستندال التبلور الأول، ومنشؤها اتصال تفكيرك فيمن تحب، فأنت لا تفكر فيه كما هو قبل أن تلتفت إليه، أو قل: إنك لا تفكر فيه كما يفكر فيه غيرك من الناس الذين لا يحفلون به ولا يأبهون له، وإنما تسبغ عليه شيئا من إعجابك به وشوقك إليه وأملك فيه، وإذا أنت تضيف إليه محاسن تزعم أنها لا توجد في غيره، وإذا أنت تقوي شعورك بالغبطة حين تتصل به بمقدار ما تضيف إليه من المحاسن، فهو وحده الذي يستطيع أن يرضي ما تطمح إليه نفسك من المثل العليا في اللذة والسعادة والنعيم، وغيره لا يقدر على أن يبلغك من هذا كله شيئا؛ لأن هذا كله موصول بما خلعت على محبوبك من المحاسن والخصال التي ميزته بها من الناس جميعا، وكذلك تتصل نفسك به اتصالا قويا متينا غير مقطوع، وإذا أنت حريص أشد الحرص على استبقاء هذا الاتصال والتزيد منه في كل لحظة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وإذا بلغت هذا الحرص فليس لك بد من أن ترقى إلى الدرجة السادسة؛ فالحرص مصدر الخوف والشك، ومتى انتهيت من الحرص إلى غايته فلا بد لك من أن تشك في أنك موفق أو غير موفق، وأنت في هذه الدرجة السادسة تسأل نفسك بين لحظة ولحظة، أيجد حبك صدى في نفس محبوبك أم لا يجد؟ ثم أنت لا تكتفي بهذا السؤال، ولا تطمئن إلى هذا الشك، ومتى اطمأن الإنسان إلى الشك؟! إنما أنت مضطر إلى أن تلتمس الدليل القاطع على أنك لم تخطئ فيما قدرت، ولم تخفق فيما طلبت، وعلى أن محبوبك يقارضك حبا بحب ويبادلك هياما بهيام، وأنت كذلك تسأل نفسك ثم تجيب نفسك، ثم تشك في الجواب فتستأنف السؤال، فإذا طال عليك هذا الأمر وظفرت بالإشارة الدالة أو اللمحة المطمعة أو الآية المقنعة فأنت راق على رغمك إلى الدرجة السابعة وهي التبلور الثاني كما يسميها ستندال، فأنت قانع بأنك محبوب، وأنت تزين لنفسك هذا الحب الذي تجده والذي تطمئن إلى أن له صدى في نفس من تحب، تخلع على هذا الحب من صفات القوة والسعة والعمق والجمال ما شئت وما لم تشأ، ثم يصبح هذا الحب حياتك التي تملك عليك كل شيء، وتصرفك عن كل شيء وتأخذ عليك طريقك، وقد انتهيت الآن إلى قمة الحب، فلم يبق إلا أن يتصل نعيمك به أو شقاؤك، بما يمكن أن يعرض له من الضعف والفتور.
كذلك يعرض ستندال مقدمات الحب ونشأته ونموه وبلوغه إلى أقصى غاياته، ثم هو يعود إلى هذه الدرجات بعد ذلك فيدرسها درسا مفصلا عميقا يضرب له الأمثال ويستدل عليه بالوقائع، فهو كما ترى بعيد كل البعد عما بعد الطبيعة، قريب كل القرب من الطبيعة نفسها، لا يلتمس للحب حدا ولا رسما ولا تعريفا، وإنما يميز أظهر أنواعه ثم يتبعه منذ تتهيأ النفس له إلى أن تفنى النفس فيه، وواضح جدا أن ستندال حين يسلك هذه الطريق إنما يذهب مذهب العلماء المعاصرين له الذين تأثروا بنشأة العلوم التجريبية وتطورها، فاعتمدوا على الملاحظة المباشرة أكثر مما اعتمدوا على أي شيء آخر.
وقد هم ابن حزم أن يسلك هذه الطريق نفسها، بل هو لم يسلك إلا هذه الطريق، طريق الملاحظة المباشرة؛ فهو لا يخترع أحاديثه عن الحب اختراعا ولا يبتكرها ابتكارا ولا يخلقها من عند نفسه، وهو لا يكاد يلم بالفلسفة إلا حين يحاول تعريف الحب، وهو لا يقرر أصلا من الأصول ولا فرعا من الفروع إلا مستمدا له مما رأى بنفسه، أو مما وجد في نفسه، أو مما سمع من الذين لا يعرض الشك له فيما يلقون من الأحاديث، فابن حزم معتمد على الملاحظة المباشرة كما يعتمد عليها ستندال، ولكن ابن حزم لا ينتفع من ملاحظته المباشرة كما ينتفع بها ستندال، فبين الرجلين دهر طويل تطور فيه العقل الإنساني، وتطورت فيه مذاهب البحث ومناهجه، ووسائل الملاحظة وأدواتها تطورا عظيما بعيد المدى، فملاحظة ابن حزم دقيقة كملاحظات ستندال، ولكنها قريبة لا تتعمق ولا تكاد تتجاوز نفسها إلا قليلا؛ لأن ابن حزم لم يظفر من أدوات البحث والاستقصاء والتعمق بمثل ما ظفر به الكاتب الفرنسي الحديث.
وبين الرجلين فرق آخر، وهو أن ابن حزم على شذوذه الذي لفت إليه المعاصرين جميعا في الشرق والغرب، بل لفت إليه الذين جاءوا بعده بوقت طويل، لم يستطع أن يخلص من العادة المألوفة في التفكير والاستنباط؛ فهو قد فكر كما كان الناس يفكرون من حوله، بل كما فكر الناس من قبله ومن بعده، واستنبط كما كانوا يستنبطون، لم يستطع أن يتجاوز ذلك؛ لأن وقت تجاوزه لم يكن قد آن، ولأن وسائل هذا التجاوز لم تكن قد استكشفت بعد.
وقد يكون من الغريب أن ابن حزم قد صرح أكثر مما صرح ستندال، فستندال يزعم صادقا أو غير صادق - ومن المحقق أنه غير صادق - أنه لم يتخذ نفسه موضوعا للملاحظة في أي فصل من فصول كتابه؛ فهو لم يتحدث عن نفسه ولا عن عواطفه وشعوره بحال من الأحوال، أما ابن حزم فيحدثنا عن نفسه في صراحة رائعة حقا، ولعل أحاديثه عن نفسه هي خير ما اشتمل عليه الكتاب، وليس عليه من ذلك بأس؛ لأنه يحدثنا صادقا من غير شك أنه لم يقترف في الحب إثما، ولم يورطه الحب في خطيئة كبيرة من الكبائر.
وهو من أجل ذلك يحدثنا عن نفسه في صراحة وإسماح، ويقص علينا من أنبائه ما يثير في نفوسنا كثيرا جدا من الرفق به، والرثاء له، والعطف عليه. فنحن نشهده في دار أبيه الوزير وقد تعلقت نفسه بجارية من جواري الدار رائعة الحسن، بارعة الجمال، قوية النفس، صادقة العزم، حازمة الجد، لا تحب العبث ولا تميل إلى الدعابة، وإنما تغرق في الجد إغراقا يكاد يدفعها إلى العبوس، وقد اجتمع أهل الدار في يوم من الأيام التي يجتمعون فيها لبعض الأمر، وقد ألم بهم ضيف فطعموا ونعموا، وأشرفوا من بعض أطناف الدار على البستان ينظرون إليه ثم إلى النهر، ثم يمدون أبصارهم إلى أبعد من البستان وأبعد من النهر، فيرون من قرطبة وضواحيها منظرا عجيبا، وقد وقفت هذه الجارية عند باب من أبواب الطنف تشرف منه على هذا المنظر الرائع الجميل، وابن حزم يحتال متنقلا ليدنو منها ويقف من مكانها غير بعيد، ولكنها لا تحس احتياله ولا تلاحظ قربه حتى تنأى وتنتقل إلى باب آخر، وابن حزم يتبعها رفيقا دائما محتالا دائما متهالكا دائما، وهي تبعد كلما قرب، وتنأى كلما دنا، ثم يقترح مقترح أن تهبط الجماعة إلى البستان وتجلس على عشبه الأخضر بين ما يزينه من شجر وزهر فيهبط القوم، ويحاول ابن حزم أن يدنو فتنأى صاحبته، ثم يقترح مقترح على الجارية أن تغني، وكانت بارعة في العزف متفوقة في الغناء، فتضرب وتغني، ويكون هذا كل ما استطاع ابن حزم أن يظفر به من هذه الجارية، ثم تمضي الأيام وتحدث الأحداث وتلم الخطوب ويبعد العهد، ويعود ابن حزم بعد أعوام إلى وطنه في قرطبة فيرى هذه الجارية وقد ابتذلتها حوادث الدهر، واضطرتها الخطوب إلى أن تتكلف ما لا يتكلف أمثالها من المترفات، وإذا الزهر قد ذوى، وإذا الحسن قد غاض، وإذا الضر قد بدا أو كاد يبدو، ونحن نرى ابن حزم يصور نفسه لنا وقد شغفت فتاة قلبه كما لم تشغفه فتاة قط، وقد اتصل الحب بينه وبينها، ثم اختطفها منه الموت، فانظر إلى الجزع الذي ليس بعده جزع، والوجد الذي ليس بعده وجد، والعذاب الذي لا يشبهه عذاب، وإذا هو يقضي أياما لا يضع ثيابه ولا ينعم بطعام أو شراب، وإذا هو يذكر حبيبته مستيقظا ويحلم بها نائما، ويقول في حبه لها الشعر أثناء اليقظة وأثناء النوم، وإذا الأيام تمضي حتى تصبح أعواما وأعواما، والسن تتقدم بالفتى قليلا قليلا حتى يصبح كهلا ثم يصير إلى الشيخوخة، وحبه لتلك الفتاة ما زال شابا في قلبه لم يؤثر فيه مر الزمن ولم يستطع السلوان أن يرقى إليه.
فابن حزم إذن يعتمد على الملاحظة المباشرة الحرة الصريحة، يلاحظ نفسه وخلطاءه، ويلاحظ الناس من حوله، ولكنه على هذا كله مقيد مقصوص الجناح، لا يكاد يتعمق ولا يكاد يرتفع؛ لأنه يفكر كما كان يفكر الناس في عصره؛ فأسبابه إلى التعمق والاستقصاء قصار لا تتجاوز به القواعد السطحية أو التي توشك أن تكون سطحية.
وقد رتب ابن حزم كتابه ترتيبا منطقيا مقاربا، ولكنه كره أن ينفذ كتابه على النحو المنطقي الذي رتبه قبل أن يبدأ في إنشائه، وآثر أن يخالف بين الخطة المرسومة وتنفيذ هذه الخطة فوضع فصول كتابه حيث اقتضت مناسباتها أن توضع، لا حيث اقتضى الترتيب المنطقي أن تكون، وهذا أيضا دليل على أن ابن حزم قد حاول أن يتخفف من أثقال عصره ويتحرر من قيود التفكير التي كانت تمنع معاصريه من الحركة الحرة، كما نفهمها نحن الآن، ولكنه لم يبلغ مما أراد إلا أقله وأيسره.
ودليل آخر على أن ابن حزم أراد أن يتحرر من هذه القيود فذهب إلى أبعد مما ذهب إليه ستندال، ولكنه مع ذلك لم يبلغ ما أراد، وهو أن ابن حزم كره أن يرجع بحديث الحب إلى ما امتلأت به كتب الأدب من أخبار العشاق والمحبين، فلم يحفل بكل ما كان من حديث الأعراب، ومن غزل الغزلين في نجد والحجاز، ومن تكلف الشعراء بعد ذلك لما تكلفوا من فنون الحب، وأبى إلا أن يقصر ملاحظته على نفسه وعلى ما رأى وما سمع من معاصريه، على حين لم يكتف ستندال بما رأى وما سمع، وإنما اعتمد على ما قرأ أيضا، وعلى ما قرأ من أخبار القدماء في جنوب فرنسا نفسها وفي إسبانيا المسيحية والمسلمة، بل على ما قرأ من كتب العرب أنفسهم؛ فهو قد عرف كتاب الأغاني ونقل عنه أطرافا من أخبار الغزلين، ومن أخبار جميل وبثينة بنوع خاص، والغريب أننا نعجب بابن حزم لأنه أعرض عما كان يعرف من أمر القدماء وأبى أن يعتمد على غير الملاحظة المباشرة، ونعجب في الوقت نفسه بستندال لأنه طلب ما لم يكن يعرف من حب القدماء، فاستقصى حب الغزلين في جنوب فرنسا وتأثرهم في هذا الحب بحضارة المسلمين في الأندلس، ثم مضى يستقصي أصل هذا الحب الإسباني حتى انتهى به «الأغاني» إلى صدر الإسلام ثم إلى العصر الجاهلي، وقد أخطأ فيما فهم من ذلك وأصاب، ولكنه حاول ما لم يتعود أمثاله أن يحاولوه، فنحن نعجب به من هذه الناحية، كما نعجب بابن حزم لأنه ترك ما لم يتعود أمثاله أن يتركوه.
كلا الرجلين قصد إلى إجادة الدرس وإتقان البحث وتعمق الاستقصاء، ولكن أحدهما وفق لما لم يوفق له الآخر لأنه ملك من الوسائل والأدوات وأسباب العلم والثقافة ما لم يتح لصاحبه.
على أن هناك نواحي امتاز بها ستندال ولم تخطر لابن حزم على بال، فكلا الرجلين قد حاول درس النفس الإنسانية من بعض نواحيها، وكلا الرجلين قد اتخذ هذا الدرس وسيلة إلى نقد الحياة الاجتماعية المحيطة به، وكلا الرجلين قد أعطانا صورة دقيقة أو مقاربة لهذه الحياة، ولكن ابن حزم وقف عند هذا الحد، فأما ستندال فتجاوز النقد إلى الاقتراح، فستندال ينقد الحياة الفرنسية نقدا مرا، لا يكتفي بذلك بل يعرض لتربية الفتاة فيستخلص عيوبها ويرد إلى العيوب كثيرا من آفات الحب عند الفرنسيين بل عند الأوروبيين، ثم هو لا يكتفي بذلك بل يقترح مذهبا جديدا في تربية الفتاة لتستطيع أن تحب حبا صحيحا صالحا نقيا، وتلهم الفتى حبا صحيحا صالحا نقيا، ثم هو يتجاوز ذلك إلى الزواج، فينقد نظامه، ويقترح ألوانا من الإصلاح تقرب المسافة بين الحب والزواج تقريبا بعيدا، وكل هذه أمور لم تخطر لابن حزم؛ لأنه كما قلت كان مثقلا بقيود عصره مقصوص الجناح لم يستطع أن يتعمق ولا أن يرتفع.
وفي كتاب ستندال لون آخر من ألوان البحث لم يخطر لابن حزم ولم يكن يمكن أن يخطر له، فستندال يبحث عن الصلة بين الحرب وبين طبائع الشعوب من جهة، وبين الحب ونظام الحكم من جهة أخرى، وهذا اللون من بحث ستندال ممتع حقا، ولا سيما حين يعرض لبعض خصائص الشعوب والحكومات، فالحب مقيد بارد شديد الكسل والفتور في بلاد الإنجليز؛ لأن طبيعة الإقليم وطبيعة الشعب وطبيعة الحكومة الأرستقراطية، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الإنجليزي خجلا مستخذيا لا يظهر إلا على استحياء، والحب في إيطاليا جامح مندفع لا يثبت أمامه شيء، وهو لا يستخفي ولا يتردد ولا يستخذي ولا يخجل، وإنما يظهر صريحا حرا كما تظهر الشمس؛ لأن طبيعة الإقليم الإيطالي والشعب الإيطالي وتفرق السلطان في إيطاليا لعهد ستندال، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الإيطالي جريئا عنيفا مقداما، والحب في فرنسا مغرور منافق لا يكاد يثبت ولا يستقر؛ لأن طبيعة الشعب الفرنسي والإقليم الفرنسي ونظم الحكم في فرنسا بعد انهيار الإمبراطورية، كل ذلك يقتضي أن يكون الحب الفرنسي مرائيا ثرثارا لا يقول شيئا ولا يصور شيئا، فأين نحن من ابن حزم الذي لم يتجاوز بالحب وطنه الأندلسي؟! وقد خطر له مرة أو مرتين أن يعبر بالحب مضيق جبل طارق ففعل، ولكنه تحدث إلينا عن أندلسي باع جارية له كان يحبها لبعض البربر، ثم تبعتها نفسه، ولم يستطع السلو عنها، ولم يرد البربري أن يعفيه من البيع، فرفع أمره إلى السلطان في قصة طريفة مؤثرة.
وقد مضى ابن حزم بالحب إلى الشرق فأبعد حتى انتهى إلى بغداد، ولكنه يحدثنا عن عالم أندلسي انتهى إلى حارة لا تنفذ، ورأى في هذه الحارة جارية دلته على أن الحارة غير نافذة، وكانت الجارية سافرة؛ فراعه حسنها وشغفه حبها، وخاف على نفسه ودينه الفتنة فسافر إلى البصرة ومات فيها شهيدا لهذا الحب.
فكأن ابن حزم لم يرد أن يعرض في كتابه لغير الحب الأندلسي، درسه في موطنه، ثم تبعه أحيانا إلى مهاجره في إفريقية أو في بغداد.
على أن هناك مسألة هي فيما أعتقد أجل خطرا من كل ما عرضت له في هذا الحديث إلى الآن، لماذا ألف ابن حزم كتابه طوق الحمامة؟ ولماذا ألف ستندال كتابه في الحب؟
أما أيسر الجواب عن هذه المسألة فهو أن صديقا لابن حزم طلب إليه أن يضع له هذه الرسالة ففعل، وأن ستندال أنفق حياته كلها متتبعا للحب على اختلاف صوره وأشكاله ومواطنه، فألف فيه كتابا، ولكن هذا لا يقنعني، ويخيل إلي أن هناك جوابا آخر قد يكون أجل من هذا خطرا وأبعد منه أثرا، فكتاب ابن حزم وكتاب ستندال لم يقصد بهما إلى الحب في نفسه، وإنما قصد بهما إلى الفن، إلى فن تصوير الحب والتعبير عنه. فقد ألف ابن حزم كتابه في البلاغة إذن، وقصد به إلى أن يعلم الشعراء والكتاب - والشعراء خاصة - كيف يتصورون الحب وكيف يصورونه وكيف يصفونه في الشعر والنثر، وآية ذلك هذه النماذج الشعرية التي يبثها في كل فصل من فصول الكتاب، وهي نماذج ينشئها هو ولا ينقلها عن غيره، وأكبر الظن أنه صنع كثيرا من هذه النماذج خاصة لهذا الكتاب.
وأما ستندال فقد ألف كتابا في النقد وفن الجمال، أراد به إلى أن يشرح أولا مذهبه فيما عرض من أمر الحب في قصصه المختلفة، وأراد به بعد ذلك أن يعلم القصاص كيف يتصورون الحب وكيف يصورونه وكيف يعرضونه فيما ينشئونه من القصص الطوال والقصار، وآية ذلك هذه النماذج القصصية التي أضافها إلى كتابه بعد أن عرض نظرياته في الحب.
فنحن إذن أمام كتابين من كتب العلم لم يقصد بهما صاحباهما إلى العبث ولا إلى اللهو ولا إلى مجرد التجربة، وإنما قصدا بهما التعليم قبل كل شيء.
وقد أعجب القدماء بكتاب ابن حزم ولكنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه أثر أدبي، على أنه غاية في نفسه لا وسيلة إلى فن الشعر، ولم يعجب المعاصرون لستندال بكتابه في الحب حين نشره في أوائل القرن الماضي، فقد بيع من طبعته الأولى في عشر سنين بضع عشرة نسخة، فلما مضى على نشره عشرون عاما أنبأنا ستندال نفسه بأنه لا يظن أن الذين ذاقوه وفهموه قد بلغوا المائة ، أما الآن فقد تقدمت دراسات الحب من نواحيه المختلفة تقدما هائلا، حتى أصبح كتاب ابن حزم وكتاب ستندال كتابين لهما خطرهما في التاريخ الأدبي ليس غير، ولكنه خطر غير قليل.
الساحرة المسحورة
فتح الحب العابس لها باب الدنيا، وفتح الحب الجاد لها باب الآخرة، فسلكت بين هذين البابين طريقا عسيرة بثت فيها العقاب واكتنفتها المصاعب، وملأتها الآلام، ولم تخل مع ذلك من لذة قليلة، وبهجة ضئيلة، ومتاع عقلي متصل، فلما اختطفها الموت قدر الناس أنها قد أورثت بعض القلوب والعقول حزنا عظيما وبؤسا ممضا، وأصبحت حديثا من أحاديث التاريخ الأدبي ستحفظه ذاكرة الأيام وقتا يقصر أو يطول، ثم يمسه النسيان قليلا قليلا حتى يمحوه في يوم قريب أو بعيد، كما محا كثيرا من الأحاديث لكثير من الناس في كثير من العصور وفي كثير من البلاد، ولكن القرن التاسع عشر لم يكد يتقدم قليلا حتى تبين أنها لم تترك للناس ذكرا فحسب، وإنما تركت لهم آية أدبية من أروع آيات الأدب، لا في وطنها الفرنسي وحده، ولا في القرن الثامن عشر وحده، بل في جميع الأوطان المتحضرة، وفي جميع العصور التي عنيت فيها الإنسانية بالإنتاج الأدبي الرفيع.
هذه هي مدموازيل دي لسبيناس التي أريد أن أحدثك عنها في هذا المقال، والتي ولدت سنة 1732 وتوفيت سنة 1776. لنفرغ من ذكر الأرقام التي يظهر أن المؤرخ لا يكون مؤرخا إلا إذا حفظها وحققها، واستقصى ما يتصل بها من الأحداث والخطوب.
وأحب أن تعلم منذ الآن أني لا أريد في هذا الفصل أن أكون مؤرخا للأدب الفرنسي، فلست من تاريخ هذا الأدب في شيء، وإنما قرأت عن هذه الآنسة في بعض ما أقرأ، فأعجبني حديثها، فحاولت أن أتعمق هذا الحديث فازددت به إعجابا، وجعلت لا أمضي في استقصائه إلا دفعت إلى مزيد من التعمق، حتى أنفقت في ذلك شهرا وبعض شهر، ولعلي أغالط نفسي بعض المغالطة؛ فقد أنفقت في ذلك شهرين، ولم أفرغ منه بعد على كثرة الكتب والمجلات التي تجتمع بين يدي، وتنتظر أن أفرغ لها ساعة من ليل أو ساعة من نهار، وأنا مع ذلك معرض عنها مصر على هذا الإعراض؛ لأن أحاديث هذه الآنسة ما زالت تدعوني، وتلح في الدعاء، ولأن هذه الأحاديث لا تكاد تنقضي.
لا تنتظر مني إذن بحثا عن التاريخ الأدبي الفرنسي في القرن الثامن عشر، ولا تحقيقا للحوادث، ولا تحليلا للنتائج والمقدمات؛ فما أحب أن أعرض لشيء من ذلك الآن، وما أكره أن أعرض له في يوم من الأيام، ولعلي أن أخصص كتابا أعرض فيه حياة هذه الآنسة عرضا مفصلا دقيقا، فأما في هذا الفصل فليكن تحدثي إليك عنها سهلا سمحا لا يكلفك ولا يكلفني مشقة ولا عناء، وإنما نرسل فيه النفوس على سجيتها، ونقف فيه أحيانا عند هذه العاطفة أو تلك ونتعمق فيه أحيانا أخرى هذا الخاطر أو ذاك ، وأنت تعلم من غير شك أن حياة الطبقة الممتازة من الفرنسيين في النصف الأول من القرن الثامن عشر كانت قد دفعت إلى نوع من الحرية المسرفة يوشك أن يكون إباحة وإمعانا في المجون، دفعتها إلى ذلك أشياء كثيرة، منها حاجة الفرنسيين إلى شيء من الهواء الطلق والتنفس الحر، بعد أن ثقلت عليهم تلك الحياة التي فرضها حكم لويس الرابع عشر عليهم، نصف قرن أو أكثر من نصف قرن، وكلفهم فيها كثيرا من الجهد وعرضهم فيها لكثير من الخطوب، وحملهم فيها كثيرا من التضحيات، فلم يكد هذا الملك العظيم ينتقل إلى الحياة الثانية حتى أحس الفرنسيون كأن عبئا ثقيلا جدا قد حط عن كواهلهم، فأصبحوا أقدر على الحركة، وأميل إلى النشاط، وأسرع إلى الاستمتاع بالحياة في غير تكلف ولا استخفاء، ومنها أن العقل الفرنسي كان قد اتصل بالنهضة العلمية التجريبية كما تأثر بالفلسفة الحديثة التي تحررت من قيود أرسطاطاليس، فتغير فيه كثير من القيم، وعرف كثيرا مما كان ينكر، وأنكر كثيرا مما كان يعرف، ونظر إلى الحياة التقليدية نظرة فيها كثير من السخرية والازدراء، ولم تلبث الحياة العملية أن دفعت إلى الحرية التي دفع إليها العقل، فأعلن الناس كثيرا مما كانوا يسرون، وأظهروا كثيرا مما كانوا يخفون.
ومنها أن الأدب الفرنسي نفسه كان قد أخذ في هذا العصر يضيق بالقيود والقوانين التي فرضت عليه أثناء القرن السابع عشر، ورسمت له طرقا لا ينبغي أن يعدوها، ومذاهب لا ينبغي أن يخالف عن أمرها، تخضعه بذلك لمذاهب القدماء من اليونانيين والرومانيين، كما صورت في إيطاليا أو كما صورها الفرنسيون لأنفسهم في فرنسا نفسها أثناء القرن السادس عشر وفي أول القرن السابع عشر، فلم يكد عصر لويس الرابع عشر ينتهي أو يقارب الانتهاء حتى ظهر الخلاف ثم اشتد بين القدماء والمحدثين، وما من شك في أن هناك أسبابا أخرى كثيرة، دفعت الطبقة الممتازة في فرنسا إلى استئناف هذه الحياة الجديدة الحرة الماجنة المتهالكة التي ظهرت قوية في عهد الوصاية، وجعلت تزداد قوة وتسلطا كلما تقدمت الأيام، وهذه الأسباب تتصل بالسياسة، وتتصل بالاقتصاد، وتتصل بالثقافة، وتتصل بهذا المركز الممتاز الذي أتيح لفرنسا في ذلك العصر وجعلها أعظم مركز من مراكز الحضارة في أوروبا، ثم تتصل آخر الأمر بهذه العلاقات القوية التي استوثقت بين الفرنسيين وبين البلاد المجاورة لهم، فجعلوا يرحلون إلى هذه البلاد ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة، كما جعل أهل هذه البلاد يرحلون إلى فرنسا ويظهرون على ما فيها من ألوان الحياة أيضا، والواقع من الأمر على كل حال هو أن فرنسا دفعت في هذا العصر إلى حياة جديدة، تحرر فيها الممتازون من كثير جدا من قوانين الخلق والعرف والدين.
ومولد الآنسة التي أريد أن أتحدث عنها في هذا الفصل، مظهر من مظاهر هذا الانحلال، وأثر من آثاره في وقت واحد، فقد كانت أمها سليلة أسرة نبيلة غنية، وكان زوجها الكونت دالبون سليل أسرة نبيلة غنية أيضا، وكان هذان الزوجان قد نعما بالحياة عصرا، ورزقا في أثناء ذلك الولد من الذكور والإناث، ولكن الأمر بينهما فسد - وما كان أكثر ما يفسد الأمر بين الأزواج! - فاتصلت أسباب الزوجة برجل نبيل غني هو الكونت جسبار دي فيشي، ورزقت منه غلاما انتهت به الحياة إلى التربية الدينية، وإلى أن أصبح رجلا من رجال الدين، ورزقت منه طفلة هي هذه الآنسة التي نتخذها موضوعا لهذا الحديث، وقد عمدت هذه الطفلة في كنيسة من كنائس ليون، ولكن اسمي أبويها قد اخترعا اختراعا مخافة العار، فلم تنسب إلى أمها ولا إلى أبيها، وإنما ذكر للقسيس اسمان من أسماء الطبقة الوسطى العاملة، واطمأنت الأم إلى أن نفس ابنتها قد أصبحت نفسا مسيحية، وما ينبغي أن نفترض أن الأم قد قصرت في ذات ابنتها أو أحبتها حبا فاترا، فقد كلفت الأم بابنتها كلفا شديدا، وعنيت بتربيتها عناية متصلة، لم تستخف بشيء من ذلك ولم تحتط فيه، وإنما ضمت ابنتها إليها، وقامت على تأديبها وتثقيفها، ومنحتها من حبها وعطفها مكانا ممتازا، ولم تقصر إلا في شيء واحد هو هذا الذي يتصل بالحياة المدنية الرسمية؛ فهي لم تلحقها بأبيها لأن ذلك لم يكن ممكنا، ولم تلحقها بأمها لأنها لم ترد أن تعترف على نفسها بالإثم، وإنما أعطتها اسما من أسماء الأرض التي كانت ملكا لأسرتها الخاصة، فسميت جولي دي لسبيناس، ومنحتها بعد ذلك كل ما كانت تملك لأبنائها الشرعيين من الحب والعطف والإيثار.
على أن المشكلة لم تلبث أن ثارت غير مرة حين تقدمت السن بالفتاة، وربما كان أيسر الأشياء - أو قل أيسر الخطوب التي عرضت لهذه الفتاة - أمر مستقبلها حين تقدمت السن بأمها، وأخذت تحس أنها تسعى إلى الموت مسرعة، أو أن الموت يسعى إليها متمهلا، كما يتمهل دائما في سعيه إلى الناس، فلم يكن من الممكن أن ترث الفتاة أمها، وتشارك في تركتها الضخمة، لم يكن ذلك ممكنا؛ لأن الأم لم تستلحق ابنتها، ولأن إخوة الفتاة لأمها يكرهون ذلك أشد الكره ويمانعون فيه أشد الممانعة، ولم يكن من الممكن أن توصي الأم لابنتها بشيء ذي خطر يحميها من عاديات الأيام؛ فقد كانت الأسرة تراقب هذه الأم وتراقب تصرفها في ثروتها كلما دنت من الموت، أو دنا الموت منها.
ولذلك لقيت الأم البائسة من التفكير في مستقبل ابنتها عناء شديدا، وانتهت آخر الأمر إلى أن أوصت لها بإيراد ضئيل، إن لم يتح لها الترف وخفض العيش فإنه يعصمها من البؤس، ويكفل لها حياة محتملة.
على أن الأم قد احتالت لإيثار ابنتها ببعض الخير، فادخرت لها مقدارا من الذهب لا بأس به، وأظهرت الفتاة على مكانه، وأسرت إليها أن احتفظي لنفسك بهذا المال حين يدركني الموت، ولكن الفتاة كانت نقية النفس، كريمة الطبع، نزيهة الخلق، محبة لإخوتها، فلم تحتفظ لنفسها بشيء، وإنما أدت إلى أخيها الأكبر كل شيء، وسنتبين بعد حين أثر هذا كله فيما تعرضت له الفتاة في حياتها من الأحداث، على أن المشكلة الخطيرة التي عذبت الفتاة عذابا شديدا، وعذبت أمها عذابا ليس أقل مما احتملت الفتاة هولا، ولعله أن يكون أعمق أثرا وأعظم نكرا، هي هذه التي ثارت حين أحب الكونت جسبار دي فيشي أبو الفتاة الآنسة ديان دالبون أخت الفتاة لأمها، فخطبها واتخذها لنفسه زوجا، ولم تستطع الأم البائسة أن تمانع أو تقاوم، لأسباب تتصل بالثروة والشرف والعلاقة بين أسر النبلاء، وقد كانت هذه الخطبة وما تبعها من الزواج أساسا للمأساة التي قتلت نفس الأم وعذبت نفس الفتاة عذابا طويلا، وأثرت في الأدب الفرنسي كله آثارا بعيدة المدى، وهذه المأساة التي لم يتخيلها أحد ولم ينشئها كاتب قديم أو حديث، وإنما أنشأتها الظروف ومثلتها الحياة، هذه المأساة ليست أقل روعة من أي مأساة أخرى تصورها القدماء أو المحدثون.
فهناك امرأة ترى عشيقها وأبا ابنيها يخطب ابنتها الشرعية ويتزوجها، فدع كرامة هذه المرأة ودع شرفها، وقف عند الصراع العنيف بين حب المرأة لخليلها وحبها لابنتها الشرعية، وحبها لابنتها الأخرى، وشعورها بهذا الإثم المنكر وما نشأ عنه من تعقيد بغيض في حياة أبنائها، وعجزها عن أن تقول في هذا كله شيئا، أو أن تقاوم هذا كله بشيء، وإذعانها لحكم القضاء الذي لا مرد له ولا منصرف عنه، وعذاب نفسها المتصل حين ترى ابنتها زوجا لخليلها وزوجا لأبي أخويها.
ثم قدر موقف الفتاة نفسها من هذا كله؛ فقد كانت تشعر به شعورا غامضا، ثم جعل هذا الشعور يتضح شيئا فشيئا حتى عرفته الفتاة معرفة دقيقة.
فقدر موقفها من أبيها الذي أصبح لأختها زوجا، ثم قدر موقفها حين ماتت أمها، وحين انتقلت إلى قصر الكونت دي فيشي، فعاشت بين أختها وأبيها، ثم قدر موقفها حين رزقت أختها الولد فأصبح أبناء أختها لها إخوة قد منحهم الحياة أب واحد، وهي تعيش في هذا كله، وتحتمل أثقال هذا كله، وتألم من أعقاب هذا كله، ولا تستطيع أن تجهر منه بشيء أو أن تنكر منه شيئا، أو أن تدفع عن نفسها من آثاره شيئا.
قدر هذا كله وحدثني أيهما أبرع في التصور، وأقدر على الابتكار، وأمهر في ابتداع المأساة: خيال الكتاب والشعراء أم خيال الحوادث والظروف؟
مهما يكن من شيء فقد أنفقت الفتاة في قصر أبيها وأختها أياما طوالا ثقالا، ثم أرادت الظروف أن يزداد بؤسها نكرا حين تقدم إخوتها وأبناء أختها في السن، فقامت منهم مقام المربية المؤدبة، وقد كانت الفتاة كريمة النفس، نبيلة القلب، نقية الطبع، فأحبت هؤلاء الأطفال حبا شديدا، وأخلصت في تربيتهم وتأديبهم أتم الإخلاص وأمتنه، واقتضت ظروف الحياة في عام من الأعوام أن يرتحل الزوجان عن القصر في غيبة تطول بعض الشيء، فقامت هذه الأخت الخالة من إخوتها مقام الأم، وشملتهم من العطف والرعاية والحنان بما حمل الأبوين على شكرها حين عادا إلى القصر، ولكن السعادة الخالصة لم تقدر للناس، وازدراء المنافع المادية لم يتح لكثير منهم، والارتفاع عن الظلم والطغيان والبطر لم يقدر إلا لأفراد يحصون بين حين وحين؛ فقد كان الزوجان يضيقان بهذه الفتاة على رغم وداعتها، وسماحة نفسها، ونقاء ضميرها، تضيق بها أختها لمكان هذه الأخوة الآثمة، ولمجرد التفكير في أن هذه الأخوة قد تثير اختلافا حول المنافع المادية في يوم من الأيام، ويضيق بها أبوها لمكان هذه الأبوة الآثمة، ولحرصه على المنافع المادية أيضا بالقياس إلى نفسه وإلى أبنائه، ولهذا الحرج الثقيل الذي لم يكن بد من أن يجده بين حين وحين كلما فكر في أن قصره يظلل أختين إحداهما امرأته والأخرى ابنته، ولم تكن الفتاة أقل ضيقا بهذه الحياة المنكرة من هذين الزوجين، يدفعها إلى هذا الضيق شعورها بهذا الإثم الذي يحيط بها والذي لا تحمل أوزاره؛ لأنها لم تقترف منه شيئا، وشعورها بهذا الحق المضيع، والكرامة المهدرة بين قوم كان من الحق عليهم أن يشملوها بالحب والعطف والحنان. أب من الحق عليه أن يبر ابنته وهو ينكرها ويظلمها، وأخت من الحق عليها أن تؤثر أختها بالمودة، وهي تعقها وتستأثر من دونها بالخير كله، وتصرف عنها قلب أبيها، وتتخذها خادما أو شيئا يشبه الخادم، ومن أجل هذا كله أخذ الأمر يفسد شيئا فشيئا بين الزوجين وبين هذه الفتاة، وقد احتملت الفتاة ما استطاعت أن تحتمل، فلما لم تجد إلى الصبر سبيلا فكرت وقدرت، وأزمعت أن تخرج من هذا السجن البغيض.
وكان أمامها طريقان للخروج من هذا السجن: إحداهما يسيرة سهلة ولكنها بغيضة إلى نفسها أشد البغض مناقضة لطبعها أشد المناقضة، وهي الطريق إلى الدير لتصبح راهبة، وما أكثر الراهبات اللاتي دفعن إلى الدير لا تأثرا بالدين ولا تهالكا على التقوى، ولكن نفتهن ظروف الاقتصاد، أو ظروف الاجتماع عن الحياة العاملة، ولكن الفتاة لم تكن تطيق التفكير في الدير ولا في الانقطاع للدين؛ فقد كانت حياتها أقوى وأغزر وأخصب وأكثر بعدا عن التصوف من أن تعدها لهذا الانزواء الخامل الجدب في أعماق الدير، أما الطريق الثانية فلم تكن ميسرة ولا خالية من العقاب، فقد كانت الفتاة تود لو استطاعت أن تستقل، وتنعم بحياة حرة لا تخضع فيها لأحد، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وإيرادها أضيق من أن يسع حاجاتها ومطالبها؟ أليس من الممكن أن يعينها أخوها ذاك الذي يعمل ضابطا في الجيش والذي أظهر حبا لها وعطفا عليها؟ فلتعتمد عليه إذن ولتكتب إليه، ولكنه يرد عليها مخيبا أملها، لا بخلا ولا قسوة، ولا تعمدا لإيذائها، ولكن ظروفه لا تسمح له بأن يبذل لها المعونة التي ترجوها، وهو من أجل ذلك يتقدم إليها في ألا تحاول هذا الاستقلال ولا تطمع فيه.
وفي أثناء ذلك تزداد الحياة ثقلا في القصر ويزداد الخلاف نكرا بين الأختين، وتلم بالقصر زائرة ذات خطر، تواسي الفتاة وتسليها أول الأمر، وتجد لها مخرجا من ضيقها وفرجا من حرجها آخر الأمر، وهذه الزائرة الخطيرة هي مدام دي ديفان.
ومدام دي ديفان ليست في حقيقة الأمر إلا عمة الفتاة، نشأت كما نشأ أخوها في هذا القصر ثم اختلفت بهما أسباب العيش، فتزوجت من المركيز دي ديفان، ثم فرقت بينهما الأحداث، فسلكت في باريس وفي قصر الوصي على العرش مسالك الريبة والعبث، واستمتعت بالحياة الماجنة وقتا ما، ثم ثابت إلى نفسها وراجعت أمرها وجددت سيرتها، واتخذت لها رفيقا خليلا من رجال القضاء، ومضت تدبر حياتها في حزم وجد، حتى اكتسبت لنفسها في باريس مركزا ممتازا، ثم اتخذت لنفسها دارا ملحقة بدير من الأديار في باريس، وجعلت تستقبل في هذه الدار أعلام الأدب والفلسفة والسياسة، حتى أصبح «صالونها» من أهم المراكز الثقافية الممتازة في العاصمة الفرنسية، وقد توثقت الصلات بينها وبين الأعلام الممتازين في الحياة الفرنسية، حتى أصبح اسمها علما من الأعلام في الحياة الأدبية الفرنسية وفي التاريخ الأدبي الفرنسي بوجه عام، وقد جعلت كلما تقدمت بها السن تشعر بشيئين يدفعانها إلى التشاؤم دفعا شديدا: أحدهما مادي وهو هذا الضعف الذي أخذ يصيب بصرها شيئا فشيئا ويصورها لنفسها ضريرة بعد وقت طويل أو قصير، والآخر معنوي وهو هذا البغض لأوضاع الحياة، والشك في قيمتها، والإنكار لهذه القيمة آخر الأمر، حتى انتهت إلى مثل ما انتهى إليه أبو العلاء حين قال:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
فقد كانت تقول: إن أبغض شيء في حياة الإنسان هو حياة الإنسان. ولذلك أحست شيئا شديدا من الضيق، والتمست إلى العزاء والشفاء وسائل مختلفة، ومن بين هذه الوسائل زيارتها لقصر أخيها، وفي هذه الزيارة لقيت هذه الفتاة فكلفت بها أشد الكلف، وأعجبت بها أعظم الإعجاب، ثم لم تلبث أن رأت في هذه الفتاة رفيقا لها في حياتها البائسة في باريس، فجعلت تتقرب إليها وتتلطف لها حتى ارتفعت بينهما الكلفة، وأخذت الفتاة تبثها آلامها وأحزانها وتجد عندها التسلية والمواساة.
وقد عادت مدام دي ديفان إلى باريس، وصممت الفتاة على ترك القصر، ففارقته بعد خطوب، وأوت إلى دير من الأديار في مدينة ليون، لم تلتحق به، وإنما اتخذته لنفسها مثوى كما يأوى الناس إلى الفنادق الآن، وقد أقامت في هذا الدير وقتا غير قصير، ريثما تقنع أخاها بحسن رأيها في الحياة المستقلة، وقد كان هذا الإقناع عسيرا، جدت فيه الفتاة، وجدت فيه مدام دي ديفان، وتوسط فيه أحد الأساقفة، وانتهت الفتاة بعد لأي إلى ما كانت تريد، وظفرت مدام دي ديفان بعد مشقة بما كانت تتمنى، ووصلت الفتاة ذات يوم إلى باريس واستقرت عند عمتها أو صديقتها في الطابق الأعلى من الدار.
وقد فتن المختلفون إلى صالون مدام دي ديفان بهذه الفتاة الوافدة من الأقاليم، لا لجمالها فلم تكن ممتازة الجمال، ولكن لظرفها وخفة روحها ورجاحة عقلها، وسعة معرفتها وقدرتها على المشاركة في كل الأحاديث التي كانت تدور في هذه الاجتماعات.
وما أحب أن أفصل حياة الفتاة في هذه الدار؛ فذلك شيء لا يتسع له هذا الحديث، ولكني ألاحظ أن إقامتها في هذه الدار لم تطل حتى صبت إليها بعض القلوب، فوجدت في نفسها بعض الصدى، ولكن في كثير من التحفظ والاحتشام. صبا إليها قلب هذا القاضي الذي كان خليلا لعمتها، وصبا إليها قلب نبيل فرنسي أديب آخر، وصبا إليها بنوع خاص قلب نبيل أيرلندي كان يختلف إلى الدار، وهمت الفتاة أن تصبو إليه، ولاحظت مدام دي ديفان ذلك فاصطنعت بعض العنف، وطردت هذا الأيرلندي من دارها، ولم تلبث الفتاة أن ثابت إلى الرشد والحزم، أو ثاب إليها الرشد والحزم.
على أنها لقيت في صالون مدام دي ديفان فرنسيا آخر، لم تلبث أن صبت إليه كما صبا إليها، وإذا حياتها تتغير تغيرا جوهريا، والغريب من أمر هذا الفرنسي أنه كان يشبهها من بعض الوجوه، ولعل هذا الشبه أن يكون له أثر في هذا الود.
هذا الفرنسي هو دالمبير، والقراء يعرفون من غير شك المركز الممتاز الذي كان دالمبير يشغله في الحياة العقلية الفرنسية في ذلك الوقت، فقد كان دالمبير فيلسوفا وأديبا ورياضيا، وكان متفوقا في هذا كله تفوق النبوغ، وكانت الأندية الباريسية تختصم فيما بينها أشد الاختصام أيها يظفر به ويحظى بزيارته.
وكان دالمبير، كما كانت فتاتنا، قد ولد لأبوين نبيلين سنة 1717، ولكنه ولد مولدا غير شرعي، كما ولدت الفتاة مولدا غير شرعي، وقد حظيت الفتاة بعطف أمها، فأما دالمبير فقد فقد هذا العطف فقدا تاما، وجده رئيس من رؤساء الشرطة عند كنيسة من الكنائس، فالتقطه وعمده والتمس له المراضع خارج باريس.
فقدت الفتاة عطف أبيها، وحظيت بعطف أمها، وفقد دالمبير عطف أمه مدام دي تنسين، ولكنه ظفر بعطف أبيه مسيو دي توش، فقد عاد هذا الرجل إلى باريس من بعض المهمات التي كان كلف القيام بها، فعرف مولد الطفل واطراحه والتقاط الشرطة له، وجد حتى اهتدى إليه والتمس له المراضع في باريس نفسها، ولم يستطع أن يستلحقه لأنه كان متزوجا، فقام على تربيته وأوصى له بما يكفل له حياة متواضعة.
وقد نشأ الصبي نشأة حسنة في حجر مرضعه الفقيرة، فدرس حتى تخرج في الأدب والفلسفة والطب والرياضيات، وبرع في هذا كله حتى أصبح علما من أعلام الثقافة الفرنسية، بل طابعا لهذه الثقافة في القرن الثامن عشر.
وكان الود متصلا بينه وبين مدام دي ديفان، حتى استأثرت به استئثارا، فلم يكن يختلف إلا إلى صالونها، أو لم يكن يواظب إلا على صالونها، وكانت تؤثره أشد الإيثار وتختصه بمودتها وبرها، ولكنه لقي عندها هذه الفتاة، فصبا إليه وصبت إليه، واتصل بينهما ود لم تلبث صاحبة الدار أن ارتابت فيه، ثم ضاقت به، ثم لامت، ثم عنفت في اللوم، فاضطر دالمبير إلى أن يسافر من باريس ويذهب إلى برلين، مستجيبا لدعوة فردريك يلتمس في هذا السفر إرضاء مدام دي ديفان، وسلوا عن مدموازيل دي لسبيناس. على أنه عاد إلى باريس، فإذا قلبه ما زال كما كان حين ارتحل عنها، وإذا قلب الفتاة ما زال كما كان حين فارقها.
على أن دالمبير إن انفرد بحب الفتاة فهو لم ينفرد بإكبارها والكلف بحديثها، وإنما شاركه في ذلك جماعة من الذين كانوا يختلفون إلى الدار، يقدمون موعد زيارتهم، ويصعدون إلى حيث كانت الفتاة تقيم، فيتحدثون إليها ويسمعون منها، حتى إذا كان موعد الاستقبال عند مدام دي ديفان في الساعة السادسة من المساء هبطوا إليها، وقد عرفت صاحبة الدار هذا الأمر، فسخطت له أشد السخط ونفت عن دارها مدموازيل دي لسبيناس كما نفت عن دارها أثيرها دالمبير.
وأثيرت حرب شعواء بين السيدة والفتاة، وانقسم الناس في أمرهما انقساما عظيما، كانت له آثار في الأدب الفرنسي، والمهم هو أن أصدقاء الفتاة من الرجال والنساء منحوها كثيرا من العطف والود، واتخذوا لها دارا غير بعيدة من دار مدام دي ديفان، فأقامت فيها وجعلت تستقبل أصدقاءها، وما هي إلا مدة قصيرة حتى أصبح صالونها ممتازا في باريس ينافس صالون مدام دي ديفان منافسة خطيرة حقا.
أقامت في الدار وحدها أول الأمر، ولكن الظروف كانت تريد أن تجمع بينها وبين دالمبير في دار واحدة، وقد كان دالمبير يعيش عند مرضعه في بيتها الحقير، لم يخطر له أن يفارقها، ولكنه مرض مرضا شديدا فقامت على تمريضه مدموازيل دي لسبيناس ولم تفارقه حتى أتيح له الشفاء.
ثم مرضت مدموازيل دي لسبيناس نفسها، أصابها الجدري حتى عرض حياتها للخطر، وقام على تمريضها دالمبير حتى أتيح لها الشفاء.
وكذلك قضت الظروف أن يعيش الصديقان في دار واحدة: تعيش الفتاة في الطابق الأدنى، ويعيش الرجل في الطابق الأعلى، وألف الناس منهما ذلك، فلم ينكروه ولم يضيقوا به، والواقع أن هذا الأمر لم يكن فيه ما يدعو إلى ضيق أو إنكار؛ فقد تحاب الصديقان ولكن في غير ريبة، ومع أن الألسنة لم تمتنع عن التعريض والتلميح في أول الأمر، فقد تبين أن الحب بين الصديقين لم ينزل قط عن مكان الحب الأفلاطوني النقي البريء.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت مدموازيل دي لسبيناس علما من أعلام الحياة العقلية الفرنسية، وأصبح صالونها مركزا من مراكز الثقافة العليا في الأدب والفلسفة والفن والسياسة والاجتماع. يختلف إليه مرات في كل أسبوع زعماء الحياة العقلية في باريس، فيحاورون ويجادلون ويقررون أيضا، ويختلف إليه في الوقت نفسه أعلام الأجانب الذين يمرون بباريس أو يقيمون فيها إقامة متصلة.
من هؤلاء الأجانب أدباء وساسة وفلاسفة ممتازون، من الإنجليز، والإيطاليين، والإسبانيين، والألمانيين أيضا، ثم كانت مدموازيل دي لسبيناس وصديقها دالمبير يغشيان الصالونات المختلفة في باريس عند مدام جوفران ومدام دي شوازل ومدام نيكر ومدام هلڤسيوس ومدام دي لكسسبورج، وعند طائفة أخرى من السيدات اللاتي كن يتخذن هذه الصالونات مراكز للحياة العقلية القوية الخصبة.
في هذا الوقت لقيت مدموازيل دي لسبيناس في أحد هذه الصالونات فتى إسبانيا ممتازا امتيازا أجمعت عليه الصفوة الباريسية كلها، وهو مسيو دي مورا. كان ضابطا في الجيش الإسباني، وكان أبوه سفيرا في باريس. لم تكد مدموازيل دي لسبيناس تلقى هذا الفتى حتى صبت إليه، ولم يكد هذا اللقاء يتكرر حتى وقع حبه في قلبها كما وقع حبها في قلبه، ولم يكن هذا الحب عابرا ولا سطحيا، وإنما كان من هذا الحب الذي لا يكاد يبلغ القلوب حتى يستقر فيها ويستأثر بها ويملك عليها كل شيء، ويصبح فتنة لا تجد النفوس عنه منصرفا، ومحنة لا تجد القلوب إلى التخلص منه سبيلا، وقد كان هذا الحب محنة بأدق معاني هذه الكلمة، سعد به العاشقان سعادة تعجز النفوس عن احتمالها وتقصر الألسنة عن وصفها، وشقي به العاشقان شقاء كان سبيلهما إلى الموت.
كان حبا نقيا ممعنا في النقاء، ولكنه على ذلك لم يكتف بنقائه الأفلاطوني وإنما حاول أن يسلك طريقه الشرعية إلى الرضا، فهم العاشقان أن يقترنا، وقامت دون أمنيتهما هذه أهوال ثقال. أهوال مختلفة، بعضها جاء من اختلاف الطبقة، فقد كان الفتى من أرفع الأسر الإسبانية منزلة وأعلاها مكانة، وأعرقها نسبا، وأعظمها ثروة، وأوسعها جاها ونفوذا، وكانت مدموازيل دي لسبيناس كما علمت لا أسرة لها وليس لها نسب إلا هذا الذي يعتز به المتنبي في كثير من شعره، والذي لا يرجع إلى الأسرة وما يكون لها من مجد قديم، وإنما يرجع إلى الشخص وما يستحدث لنفسه من المجد.
فليس غريبا أن تضيق الأسرة الإسبانية بفكرة الزواج هذه وتراها ضلالا وانحرافا عن الجادة، وتقيم في سبيلها العقاب التي لا يمكن تذليلها.
وليس غريبا أن يصمم الفتى على بلوغ ما أراد، وأن تثار حرب عنيفة منكرة خفية بينه وبين أبويه، ولو أتيحت الصحة للفتى وواتته الظروف لكان من الممكن أن ينتصر آخر الأمر، فقد كان حازما عازما شديد المضاء، ولكن الأيام والحوادث كانت أشد منه حزما وعزما وأبعد منه مضاء. أغرت به الأسرة وأغرى به المرض أيضا؛ فقاوم الأسرة ما وسعته المقاومة وكاد ينتصر عليها، وقاوم المرض ما وسعته المقاومة، ولكن المرض انتصر عليه وهو في طريقه إلى باريس عائدا إليها من وطنه، ليتم ما صمم عليه من الزواج.
ولم تصل إلينا الرسائل التي تبادلها العاشقان، وقد كانت كثيرة ما في ذلك شك؛ فقد كتب الفتى إلى صاحبته اثنتين وعشرين رسالة في عشرة أيام، ولم يكن بعيدا عنها، وإنما كان قريبا منها في ضاحية من ضواحي باريس، وإنما عرفنا أخبار هذا العشق وخطوبه من رسائل أخرى لمدموازيل دي لسبيناس ومن رسائل تبودلت بين دالمبير وأسرة الفتى في مدريد.
على أن أمور مدموازيل دي لسبيناس تعقدت فجأة تعقدا غريبا هو الذي أظهر الأدب على شخصيتها هذه الفذة وأورثه فنها هذا الرفيع. كان عاشقها في مدريد يقاوم أسرته ويقاوم علته، ويتخذ من حبه القوي أداة ناجعة لهذه المقاومة، وكانت هي في باريس تنتظر، سعيدة بالانتظار شقية به أيضا، مشفقة أشد الإشفاق على حبيبها من هذه العلة المرهقة، ولكنها أجابت ذات يوم مع دالمبير دعوة إلى وليمة من الولائم في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم تحيط به طبيعة رائعة قد نسقتها الحضارة والفن أحسن تنسيق، فجمعت فيها بين ترف المدينة وسذاجة الريف، في هذا القصر لقيت مدموازيل دي لسبيناس فتى فرنسيا نبيلا كان الناس قد أخذوا يكبرونه ويعظمون شأنه لأنه أظهر تفوقا وامتيازا.
كان ضابطا في الجيش، وكان قد أصدر كتابا في فن الحرب أعجب به المختصون وفتن به المثقفون عامة، وقيل: إن بونابرت كان يصحب هذا الكتاب بعد ذلك في جميع مواقعه الحربية الكبرى، وكان هذا الفتى حلو الحديث راجح العقل حسن المحضر لطيف المدخل، قد جمع إلى براعته في فنه العسكري ظرفا فاتنا وثقافة واسعة وأدبا رفيعا، حتى إن كثيرا من الأدباء والفلاسفة الفرنسيين كانوا ينوطون به آمالا عراضا، ويعتقدون أن مسيو دي جيبير سيكون البطل الذي ينقذ فرنسا في يوم من الأيام.
لقيت مدموازيل دي لسبيناس هذا الفتى في ذلك القصر، فتحدثت إليه وسمعت منه، وأكبر الظن أنها سايرته غير متكلفة في بعض هذه الحدائق الرائعة ، فوقع من نفسها وأعجبها حديثه وظرفه وثقافته، فلما عادت إلى باريس قرأت كتابه فازداد إعجابها به وإكبارها له، ولم تملك نفسها فكتبت إليه تثني على هذا الكتاب، وأقبل هو يزورها ليشكر لها هذا الثناء، ولم ينصرف من هذه الزيارة حتى ترك في قلب مدموازيل دي لسبيناس جذوة لا سبيل إلى إطفائها، وأصحاب علم النفس والمتعمقون لدقائق الحب وما يثير في القلوب من العواطف والأهواء يستطيعون أن يجيبوا عن هذا السؤال: كيف اجتمع السيفان في غمد؟ وكيف ائتلف الحبان في قلب؟ وكيف قامت الجذوة القديمة التي أوقدها الفتى الإسباني منذ سنين إلى جانب الجذوة الحديثة التي أوقدها الفتى الفرنسي منذ أيام؟ وقد أجاب جوت عن هذا السؤال حين قال في بعض كتبه: «إن القلب الإنساني كبير يسع كل شيء وضعيف يحطمه أيسر شيء.» وقد اختلف الكتاب اختلافا شديدا جدا في حل هذه المشكلة، وما يعنيني من اختلافهم شيء؛ فأنا لا أكتب حديثا في الحب، وإنما أقص قصة امرأة جمعت في قلبها بين حبين.
فهي لم تسل عن فتاها الإسباني، وإنما ازدادت به تعلقا وبحبه استمساكا، ومن الحق أنها دافعت الحب الجديد عن نفسها فلم تستطع، ثم خادعت نفسها عن هذا الحب فصورته على أنه مودة فلم يغن الخداع عنها شيئا، ثم وقفت حائرة ممزقة بين هذين الحبين: نصف قلبها في إسبانيا، ونصف قلبها الآخر في باريس. أستغفر الله! بل غرب نصف قلبها إلى إسبانيا وشرق نصفه الآخر إلى ألمانيا؛ فقد سافر الكونت دي جيبير إلى ألمانيا والنمسا وكاد يسافر إلى روسيا، فتبعه قلب مدموازيل دي لسبيناس أو قل: نصف قلبها، أو قل إن شئت: إنها جعلت ترسل إليه قلبها أقساطا منجمة في هذه الكتب التي كانت تكتبها إليه.
وقد علمت مدموازيل دي لسبيناس أن قلب صاحبها الفرنسي لم يكن خالصا وأنه كان يحب سيدة نبيلة أخرى، وأنه لم يكن يبخل على نفسه باجتناء زهرات الحب واقتطاف ثمرته، حين كان ذلك يتاح له بين حين وحين. علمت ذلك فذاقت مرارة الغيرة واصطلت بنارها المحرقة، وعذبت نفسها وعذبت صاحبها في ذلك عذابا شديدا، واستيقنت منذ أحست هذه الغيرة أن قلبها لا ينعم بالمودة الهادئة وإنما يشقى بالحب العنيف.
وما زالت تعذب نفسها وتعذب الفتى حتى استخلصته أو ظنت أنها استخلصته لنفسها من دون النساء، وقد عاد الفتى الفرنسي إلى باريس، وأخر المرض عودة الفتى الإسباني إليها، فكانت تلقى صاحبها الفرنسي في كل يوم، تقول له ويقول لها، والأمر بينهما مستقيم لا يتجاوز النقاء الأفلاطوني البريء، والناس يعلمون أنها تكبره وتؤثره بالود، وأنه يكبرها ويؤثرها بالإجلال، والناس يعرفون ذلك ولا ينكرونه، حتى كان يوم من أيام فبراير سنة 1772 ذهب الصديقان فيه إلى الملعب وسمعا فيه الموسيقى، وكان للموسيقى في نفسهما أثر أي أثر، فلم يتفرقا حتى شربا من تلك الكأس التي لا يعرف الناس أتقدم لشاربيها رحيقا أم حريقا، كما يقول ابن الرومي، أتقدم إليهم شرابا صفوا أم سما زعافا. مهما يكن من شيء فقد كان قلب مدموازيل دي لسبيناس ينقسم نصفين: نصف لحب الفتى الإسباني ونصف لحب الفتى الفرنسي، فقد أصبح منذ ذلك اليوم ينقسم أثلاثا، ولا يخلص للحب وحده وإنما يقوم الندم فيه بين هذين الحبين مقاما غريبا، يشتد ويقسو حتى يخيل إليها أنها آثمة مجرمة قد خانت الرجل الذي تحبه وحده وتؤثره بحبها من دون الناس، ثم يضعف ويتضاءل حتى ينسيها نفسها وينسيها كل شيء ويقدمها ضحية متهالكة متضائلة إلى هذا الحب الآخر الجامح الذي لا يعرف قصدا ولا اعتدالا، وقد أرادت الحياة أن تمعن في القسوة حتى تبلغ بها أقصى غاياتها، وأن تجعل كل شيء من أمر هذه المرأة غريبا حقا.
ففي نفس اليوم الذي أثمت فيه اشتدت العلة على صاحبها الإسباني حتى بلغت حد الأزمة المهلكة، وصلت إليها الأنباء بذلك بعد أيام، فسجلته وسجلت معه ندما ما أعرف أنه صور في أدب من الآداب كما صور في رسائل مدموازيل دي لسبيناس، ثم جاءتها الأنباء بأن صاحبها الإسباني قد مات في طريقه إلى باريس؛ فلم تشك في أن خيانتها له قد قتلته، وإن لم يعلم من أمر هذه الخيانة شيئا، وقد همت أن تقتل نفسها، ولكن صاحبها الفرنسي ردها عن الموت أو رد عنها الموت، فعاشت بعد ذلك عيشة رائعة مروعة حقا: تحب كما لم يحب أحد قط، وتندم كما لم يندم أحد قط، وتصور ذلك في رسائل لم يكتب أحد مثلها قط. بعض هذه الرسائل تكتب إلى عاشقها الحي، وبعض هذه الرسائل تكتب إلى عاشقها الذي مات، وهي في أثناء ذلك تعيش عيشتها المألوفة، تستقبل الفلاسفة والأدباء والساسة وتزورهم، وتغشى الصالونات وتختلف إلى ملاعب التمثيل والموسيقى، وتسعى في أن ينتخب فلان أو فلان عضوا في المجمع اللغوي الفرنسي، وتسعى في أن يحقق هذا الوزير أو ذاك لهذا الصديق أو ذاك هذا الأمل أو ذاك، وتشارك في النقد الأدبي وفي النقد السياسي وفي كل ما يشارك فيه الأدباء والساسة والفلاسفة، وتكتب إلى أخيها من أختها وأبيها، وتعنى بأمره عند السلطان وتظهره مع امرأته على باريس.
وتكتب في أثناء هذا كله إلى عاشقها الفرنسي، أو قل ترسل إلى هذا العاشق قطعا من النار المدمرة التي لا تبقي ولا تذر، وقطعا من النسيم الحلو الذي يملأ القلوب أمنا وسلاما وغبطة وابتهاجا، ترسل إليه هذا الكتاب القصير الذي أعجب به سانت بوف والذي لا تؤرخه بيوم كذا من شهر كذا من عام كذا، وإنما تؤرخه بكل لحظة من لحظات حياتها: «أيها الصديق إني آلم، إني أحبك، إني أنتظرك.»
وأغرب من هذا كله أن الناس لا يعلمون من أمر هذا الحب شيئا، وأن دالمبير الذي يعيش معها في دار واحدة لا يعلم من أمر هذا الحب شيئا، وإنما يحس فتورها عنه ولا يجد لهذا الفتور تعليلا.
وقد قضت ظروف الحياة على الكونت دي جيبير أن يتزوج، فتألمت مدموازيل دي لسبيناس وثارت وغضبت، ثم أذعنت لأنها لم تكن تملك إلا الإذعان، وقد عاهدت نفسها وعاهدت صاحبها على أن تحترم هذا الزواج وتحترم الفضيلة التي ينبغي أن تظله وتسيطر عليه، وقد وفت بالعهد واحتملت في هذا الوفاء أهوالا ثقالا، وهم صاحبها ذات ليلة أن يخرج عن هذا الوفاء النقي، كان يقرأ معها بعض رسائلها إليه، فصبا قلبه وثارت نفسه وجمحت عواطفه، وطغت غرائزه، ولكنها ردته ردا منكرا عنيفا، فعاد إلى داره متهالكا متخاذلا، وكتب إليها من ساعته معتذرا نادما، ووصل إليها كتابه فإذا هي غارقة في دموعها؛ لأنها كلفت نفسها من الجهد فوق ما تطيق، والفتى محب لزوجه، مستبق صلته مع خليلته الأولى في غير إثم كما يقال، ولكن مدموازيل دي لسبيناس تكتب إليه: «ضعني حيث شئت من حبك القديم ومن حبك الجديد؛ فلن أقول شيئا، ولكن اجتهد في ألا تنزلني منزلة مخزية فإني لا أستحق هذا الخزي.»
وقد أخذت العلة تسعى إلى مدموازيل دي لسبيناس، وأخذت هي تستبطئ الموت، حتى إذا تقدمت العلة فغيرت من شكلها ومن جسمها أوت إلى غرفتها ثم إلى سريرها، ثم أبت أن تلقى صاحبها لأنها لم ترد أن يراها وقد تغير شكلها على غير ما يهوى.
أبت أن تلقاه، ولكنها مضت في الكتابة إليه إلى آخر لحظة. كان يعودها مرات في كل يوم فتعلم بمكانه في دارها، وتسعى الكتب بينها وبينه، حتى كان آخر شيء كتبته وهي في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة كتاب حمل إليه، ولم يكد يبلغه حتى كانت محتضرة تعالج سكرات الموت.
وقد ماتت مدموازيل دي لسبيناس ومضت على موتها أعوام وأعوام، ومات الكونت دي جيبير أيضا، ثم عرف الناس في أول القرن الماضي وعرف من بقي من أصدقائها أمر ذلك الحب حين نشرت رسائلها إلى الكونت دي جيبير.
وكم كنت أحب أن أتحدث عن هذه الرسائل، ولكني لم أكتب هذا الفصل إلا لأغري القراء بقراءتها في أصلها الفرنسي وبترجمتها إلى اللغة العربية، فما أعرف أن أدبا من الآداب الحية أو القديمة قد صور الحب والندم والألم والغيرة كما صورتها مدموازيل دي لسبيناس.
الأمل اليائس
ولدت في آخر القرن السابع عشر سنة 1697، وماتت في آخر القرن الثامن عشر سنة 1780، وجمعت لنفسها من مزايا هذين العصرين، ما جعلها أبرع الناس أدبا، وأشد الناس شكا، وأوسع الناس أملا، وأقتم الناس يأسا، وأظهر الناس فرحا، وأعمق الناس حزنا، ولكني أنسيت أن أسميها، وقد كان يجب أن أبدأ هذا الحديث بتسميتها، فهي ماري دي فيشي شمبرند
Marie de Vichy Champrond
التي يعرفها تاريخ الآداب الفرنسية باسم مدام دي ديفان
Madame du Deffand .
كان مولدها ونشأتها في هذه السنين القاتمة التي ختمت حكم لويس الرابع عشر، وأدركها اليتم طفلة فأرسلت إلى دير من هذه الأديرة التي كان يرحل إليها بنات الأغنياء، وكانت أسرتها عريقة في الشرف والنبل، متقدمة في خدمة الدولة، محتفظة بمكانة رفيعة بين أشراف الأقاليم، وكانت هذه الأسرة من أشراف بورجوني
Bourgogne ، وأهل هذا الإقليم من فرنسا معروفون بالنشاط القوي وحدة الذهن، وذلاقة اللسان، وحب الحياة، وإيثار ما تقدمه إلى الناس من لذات، فلم يطل مقام هذه الصبية في ديرها الأرستقراطي حتى ظهر من حديثها وسيرتها ما أقلق الأسرة، وأقلق رئيسة الدير، ويجب أن يكون هذا الذي ظهر من سيرتها وحديثها خطيرا جدا، فلم تكن أسر الأشراف لتقلق من شيء يسير، ولم يكن أهل الأديرة ليضيقوا إلا بالشيء الذي لا يطاق؛ ذلك بأن حياة الناس في ذلك العصر كان قد أخذها الفساد الخلقي، من جميع نواحيها، حتى استهانوا بكل شيء، وتجافوا عما لم يكن يتجافى الناس عنه إلا في مشقة وعنف.
وحسبك أن تعلم أن الأديرة كانت قد استحالت في ذلك العصر إلى قصور فخمة، يلهو فيها من أبناء الأشراف وبناتهم من لم تسمح له ظروف الحياة بالعمل في السياسة أو في الجيش، ومن لم تتح لهن في ظروف الحياة أن يظفرن بالزوج، وكان بنات الأشراف خاصة يتخذن من هذه الأديرة دورا للعبث واللهو، يسترن ذلك بستار رقيق من اسم الدين، ولم يكن ليتحرجن من استقبال الزائرين والزائرات، ولا من إقامة الحفلات الراقصة، بل كان الرقص والموسيقى جزأين أساسيين من برنامج التعليم الذي كان يلقى إليهن فيها، فإذا استطاعت صبيتنا هذه أن تزعج أسرتها، ورئيسة الدير بما أظهرت في سيرتها وأحاديثها من خروج على التقليد، فيجب أن تكون قد أتت أمرا عظيما، وهي قد أتت أمرا عظيما حقا، فقد كانت تجادل في الدين ولما تبلغ الثانية عشرة، وكان جدالها هذا خطرا مخيفا؛ لأنها كانت تنكر أصول الدين إنكارا، وقد استعانت الأسرة ورئيسة الدير على جحود هذه الصبية بعظيم من عظماء الكنيسة وخطيب من أبرع الخطباء في عصره وهو ماسيون
Massillon
فدعي هذا الحبر للقاء هذه الطفلة ومحاورتها، فلما رآها سمع لها وتحدث إليها وانصرف عنها يائسا وهو يقول: إنها لظريفة، فلما سألته رئيسة الدير عما تصنع لردها إلى طريق الحق أطال الصمت ثم قال: ضعي في يدها كتابا من أرخص كتب الدين، ثم لم يزد على ذلك شيئا، وذكرت الصبية حين تقدمت بها السن حوارها مع هذا الحبر العظيم، فقالت: إن عقلي قد اضطرب أمام عقله، وقالت: إني لم أذعن لحجته وإنما أذعنت لجلاله!
ومعنى ذلك أن الخصمين التقيا فلم يقنع أحد منهما صاحبه، ولكن أكبر كل منهما صاحبه، فلما بلغت هذه الفتاة العشرين أو جاوزتها قليلا، زوجت من رجل شريف، عظيم الخطر، من حكام الإقليم، ولكنها لم تكد تقضي معه أشهرا حتى أنكرته وضاقت به وكرهت عشرته كرها شديدا، وكانت تقول عنه: إنه يبذل أقصى ما يستطيع ليسوءك ويصرفك عنه، على أنها قد أقنعته بالرحلة إلى باريس، ولم تكد تصل إلى هذه المدينة وتستقر فيها حتى اندفعت في حياة اللهو والعبث، اندفاعا لفت إليها الناس، وجعلها موضوع الأحاديث في هذه المدينة الباسمة اللاهية.
وكان لويس الرابع عشر قد مات، وكان أمر الدولة إلى الوصي الذي أقيم على الملك، الصبي لويس الخامس عشر، وكان هذا الوصي صاحب لهو لا حد له، وصاحب مجون وعبث لا حد لهما أيضا، وكان الناس قد ساروا سيرته كأنما أرادوا أن يعوضوا ما فاتهم في تلك الأيام الحزينة التي ختمت حكم الملك الشيخ، وما أسرع ما اتصلت صاحبتنا بقصر الوصي واشتركت فيما أقام فيه من حفلات، ثم اتصلت بالوصي نفسه، وأصبحت له خليلة، ولكن حبه لها لم يتجاوز خمسة عشر يوما، على أنها قد ربحت من هذا الحب القصير ستة آلاف من الجنيهات الفرنسية، تصرف لها في كل عام ما امتدت لها الحياة، وأسرفت صاحبتنا في اللهو حتى أنكرها أصحاب اللهو من أهل باريس، وحتى ساءت الصلة بينها وبين زوجها، فافترقا دهرا ثم كان بينهما صلح لم يطل، وعادا إلى الفرقة، ثم كان بينهما صلح آخر، قوامه أن يلتقيا على الغداء والعشاء، وألا يعيشا معا، ولكن هذا الصلح نفسه لم يتصل أيضا، ففرق بينهما، وعاد الرجل إلى قصره في الأقاليم وأقبلت هي على لهوها في باريس لا تدع فنا من فنون العبث إلا أخذت منه بحظ عظيم، على أنها لم تكد تجاوز الثلاثين حتى تبينت أن ما هي فيه من الأمر باطل كله، وحتى سئمت اللهو وعافته، وأخذت تحس انصراف الناس عنها، فأوت إلى أخ لها قسيس أقامت عنده دهرا، ثم انصرفت عنه إلى أخ آخر لها في الأقاليم، ثم عادت مرة أخرى إلى باريس، واتصلت بقصر من قصور الأشراف كان يئوي أكبر من تعرفهم فرنسا وأوروبا من الأدباء والفلاسفة، وأصحاب الفن، وفي هذا القصر ظهرت قيمتها الأدبية، واستكشفت براعتها في الحديث وتبين الذين عاشروها أنها امرأة ليست كغيرها من النساء، بل ليست ككثير من الرجال، وإنما تمتاز بقلب ذكي، وعقل قوي، ولسان فصيح عذب، ومهارة في تصريف الحديث لا تبلغ الإعجاب وحده، ولكنها تبلغ إعجاز المحدثين مهما تكن منزلتهم، ومن ذلك الوقت أخذ أمر هذه المرأة يعظم، وشأنها يرتفع، لا من حيث إنها امرأة جميلة خلابة، تحب اللهو وتسرف فيه، فقد كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقصر عن اللهو وتعري أفراس الصبا ورواحله، كما يقول زهير، بل من حيث إنها امرأة أديبة أريبة يستطيع أن يستمتع بحديثها، وعشرتها، وبراعتها، ذوو العقول، وقد آثرتها صاحبة القصر إيثارا عظيما حتى لم تكن تصبر على فراقها، وأحبها ڤولتير، وكلف بها منتسكيو، وأطاف بها أعلام الأدب والفلسفة من الفرنسيين يستبقون إلى مودتها.
وما هي إلا أن تتخذ لنفسها دارا في باريس وتدعو إليها أصدقاءها هؤلاء من الأدباء والعلماء والفلاسفة يسمرون عندها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ثم تضيق هذه الدار بمن يقصد إليها من رجال فرنسا وأوروبا على اختلافهم، فتتحول عنها إلى دار أخرى رحبة تستأجرها في دير من هذه الأديرة الأرستقراطية في باريس.
وفي هذه الدار التي استأجرتها كانت تقيم قبلها مدام دي منتسبان خليلة لويس الرابع عشر، تلك التي ملأت حياة الملك العظيم لذة وإثما، وكلفت رجال الدين من حوله مشقة وجهدا، والتي كانت تأوي إلى هذا الدير من حين إلى حين تستغفر الله من خطاياها، وتضرع إليه في الوقت نفسه أن يحفظ عليها هذه الخطايا.
أقامت صاحبتنا في هذه الدار، ونظمت استقبالها لأعلام فرنسا مرتين في الأسبوع يتناولون عندها العشاء، ويسمرون إلى قريب من آخر الليل، ويتحدثون فيما شئت من أدب وعلم، ومن فلسفة وفن، ومن سياسة وحرب، ولكنها لم تكن تحب أن تشارك الأدباء والعلماء والفلاسفة فيما كان يجري بينهم من حوار؛ لأنها كانت تكره الأدب والعلم، وكانت تكره الفلسفة خاصة، وتضيق بها ضيقا شديدا، وكانت تعنى بأشخاص زائريها أكثر مما تعنى بما كان عندهم من علم، أو أدب، أو فلسفة. كانت مسرفة في الشك، وكان إسرافها في الشك يصرفها عما كان يكلف به الناس في عصرها من هذه الفلسفة الحرة الغالية التي كانت تعمل في الهدم، أكثر مما كانت تعمل في البناء.
وتتقدم السن بصاحبتنا وقد مات زوجها وأصبحت حرة حتى أمام القانون، وقد جدت في تنظيم حياتها، وانصرفت عن اللهو والمجون إلى حياة الجد ولذة الحديث والسمر، ولكنها على ذلك اتخذت لها خليلا عاشت معه عيشة الأزواج، لم تكن تحبه ولكنها لم تكن تكرهه، إنما كانت تستعين به على احتمال الحياة، كما كانت تستعين بكل شيء على احتمال الحياة، فقلما عرف تاريخ الآداب امرأة ضاقت بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة، بل قلما عرف تاريخ الآداب رجلا ضاق بالحياة كما ضاقت بها هذه المرأة. كانت متشائمة كأشد ما يكون التشاؤم، وكانت تردد هذه الكلمة التي تقربها من أبي العلاء وهي: إن شر ما ابتلينا به من الشقاء إنما هو الحياة.
وكانت تستعين بإسرافها في المجون والعبث، ثم في الجد والإنتاج الأدبي على احتمال الحياة، ولعلها لم تله، ولم تعبث، ولم تجد إلا لتنسى الحياة وتنصرف عن نفسها، فقد كانت تكره العزلة وتخافها خوفا شديدا، فكانت تسهر الليل، ولا تنام إلا قليلا في النهار، وتنفق وقتها قارئة أو لاهية، أو مستقبلة، ولا تكاد تبلغ الخمسين من عمرها حتى يتم الله محنته لها، وحتى يأخذها الشقاء من كل وجه، فهذا حجاب رقيق يلقى شيئا فشيئا بينها وبين النور، ثم يتكاثف هذا الحجاب قليلا قليلا، وهي تحس ذلك وتجزع له وتلجأ إلى الأطباء والسحرة، والمشعوذين، فلا تجد عند أحد منهم شيئا، والحجاب يتكاثف ويتكاثف، حتى يستحيل إلى سور صفيق يقطع كل سبب بينها وبين الضوء، وإذا هي عمياء.
أفتظن ذلك قد غير من سيرتها أو اضطرها إلى شيء من القصد والاعتدال؟ ليس من شك في أنها قد حزنت لذلك حزنا عميقا ولكنه حزن أضيف إلى حزن. حفظته في أعماق نفسها ولم تظهر منه للناس شيئا، إنما كتبت إلى بعض أصدقائها من أعلام الأدب والسياسة تنبئهم بهذه الكارثة، فمنهم من رق لها كڤولتير، ومنهم من عبث بها كمنتسكيو، وكلهم قد مضى في إكبارها، والاختلاف إليها، لم يغير من سيرته شيئا كما لم تغير هي من سيرتها شيئا، فظلت مائدتها تقام يوم الاثنين والأربعاء من كل أسبوع، وظلت تختلف إلى الأوبرا والملاعب، وتشترك في الحفلات كما كانت تفعل من قبل، واتخذت لها رفيقة فتاة من أهل الأقاليم ولدت في أسرة شريفة ولكن مولدها لم يكن شرعيا، وكانت هذه الفتاة مدموازيل لسبيناس ذكية بارعة الذكاء، حساسة قوية الحس، مثقفة واسعة الثقافة، وكانت المودة بينها وبين سيدتها قوية متينة، دامت عشر سنين لم يكدر صفوها مكدر، ثم لاحظت صاحبة الدار أن زوارها أو فريقا منهم إذا انصرفوا عنها لم يخرجوا، وإنما أتموا سمرهم عند الفتاة، فغاظها ذلك وكانت القطيعة بين الصديقتين، ولكنها لم تكن قطيعة مألوفة إنما كانت حدثا من أحداث العصر في باريس، انقسم له الأدباء والفلاسفة انقساما عظيما، تعصب بعضهم للشيخة وتعصب بعضهم للفتاة، وكانت كثرة الفلاسفة وعلى رأسهم دالمبير
d’Alembert
من أنصار الفتاة وكانت الأرستقراطية المعتدلة والمحافظة من أنصار الشيخة.
ثم استأنفت الحياة المنظمة طريقها عند صاحبتنا، واتخذت الفتاة لها ناديا أو صالونا أدبيا، واشتدت المنافسة بين هاتين المرأتين، وصاحبتنا الآن في الثامنة والستين من عمرها قد فقدت البصر منذ ثمانية عشر عاما، وعظمت مكانتها في أوروبا حتى لم يكن عظيم من الأوروبيين يزور باريس إلا رأى حقا عليه لنفسه ولمكانته أن يلقاها ويتحدث إليها، وفي أكتوبر من هذه السنة 1765 زار باريس رجل من عظماء الإنجليز هو هوراس ولبول
Horace Walpole . كان أبوه روبير ولبول
Robert Walpole
وزيرا وكان هو عضوا في البرلمان، فلما مات أبوه ترك السياسة وانصرف إلى الأدب والفن، وكان في الخمسين من عمره، ولم ير هذا الرجل بدا من أن يزور صاحبتنا هذه ويغشى ناديها كما كان يغشى أندية الأدب والسياسة كلها في باريس، فلما رأى هذه الشيخة أنكرها، وكتب إلى صديق له يصفها بأنها عجوز عمياء فاجرة العقل، على أن وقتا قصيرا لم يمض على هذه الزيارة حتى تغير الأمر بين هذا الإنجليزي وهذه الفرنسية، وتكررت الزيارة فوقع الإنجليزي من نفس هذه المرأة موقعا غريبا رد إليها الشباب بل رد إليها الصبا، فأحبته، وأنا أعني بهذه الكلمة معناها، أحبته وقد أشرفت على السبعين، ولم يرفض هو هذا الحب، ومن المحقق أنه لم يلق هذا الحب بمثله، ولكنه أضمر لهذه المرأة مودة قوية صادقة لم تغيرها الأيام، وأظهر بها إعجابا لا حد له، واتصلت أسباب المودة والحب بينهما ما أقام في باريس، فلما رجع إلى لندرة اتصلت بينهما الكتابة، وكان يأتي إلى باريس من حين إلى حين ليرى حبيبته أو ليرى عاشقته، أو ليرى يتيمته، كما كانت تسمي نفسها، فقد كانت تسمي نفسها يتيمة وتسميه هو وصيا، وكان هو يسميها ابنته الصغيرة، وكان الحنان بينهما كأقوى ما عرف الناس من الحنان بين المحبين، وكانت نتيجة هذا الحب أربعة مجلدات نشرت بعد موتهما وفيها ثمانمائة من الرسائل التي اتصلت بينهما، وهي آيات من آيات الأدب الفرنسي لا أكثر ولا أقل، فيها تصوير لهذه العواطف النادرة، الشاذة، التي لم يألفها الناس والتي تملأ قلوبهم مع ذلك رحمة وبرا، وإشفاقا، وعطفا. وما رأيك في هذه الضريرة التي نيفت على السبعين والتي تكتب لصاحبها رسائل حب وغرام كرسائل الفتيات اللاتي لم يتجاوزن العشرين، على أن صاحبها كان إنجليزيا، ومعنى ذلك أنه كان يخاف السخرية، والمزاح، وكانت الرقابة مضروبة على الرسائل في إنجلترا ذلك الوقت، فكان صاحبنا مروعا دائما يخشى أن تفض رسائل صاحبته، وأن يعرف ما فيها من هذا الحب الغريب، فيتندر الناس به في القصر وفي الأندية، فكان يرد صاحبته إلى القصد في تصوير عواطفها الحارة، وكانت هي تخاصمه في ذلك، وكان الأمر يفسد بينهما أحيانا، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى خير ما كان، وانقطعت رسائله عنها مرة فكتبت إليه: يظهر أنك لا تريد أن تظهرني من أمرك على شيء، فاحذر أيها الوصي أن تصبر على ذلك فإني خليقة إن فعلت، أن أرسل إليك سكرتيري وأن أكلفه الإسراع إلى لندرة وآمره أن يلزمك وأن يرسل إلي بأنبائك، وأن يعلن إلى الناس جميعا وفي كل مكان أني يتيمتك، وأنك وصيي، وأني أحبك، وأن يهيئ لي عندك مكانا فألحق به، وأعلن إلى الناس جميعا ما بيننا، لا أخاف فضيحة مهما تكن، فاختر لنفسك بين الفضيحة والكتابة إلي.
ولعلها كانت في بعض الوقت تذعن وتطيع، وترد نفسها إلى القصد، ثم تثور فترسل نفسها على سجيتها وتطلق حبها صريحا حرا، وكذلك عاشت هذه المرأة خمسة عشر عاما، استرد قلبها فيها شبابه كله، وتبينت هي وتبين هو وتبين الناس في عصرهما، ومن بعدهما أن ما اندفعت فيه هذه المرأة من العبث واللهو، ومن المجون والفساد، ثم من الجد الخصب والنشاط المنتج، كل ذلك لم يكن إلا ضيقا بالحياة وافتقادا لهذا النور الذي يحببها إلى النفس، وهو الحب، ومصارعة لهذا العدو الفاتك وهو اليأس، فلما بلغت السبعين أو كادت تبلغها ظفرت بالحب عند هذا الإنجليزي، وظفرت به من غير طريقه كما كان يقول المعاصرون، فإن العيون هي أوضح طرق الحب إلى النفوس، ولكن الحب قد يسلك إلى النفوس طريق الآذان كما قال شاعرنا القديم، وأكبر الظن أن صوت هذا الإنجليزي هو الذي حمل الحب إلى نفس هذه الفرنسية فثبته فيها تثبيتا.
وفي سنة 1780 ماتت هذه المرأة وكتبت قبل موتها بقليل جدا إلى صاحبها كتابا تنبئه فيه بقرب آخرتها، وتنبئه بأنها لا تأسف لفراق الحياة؛ لأنها لا ترى في الحياة خيرا بعد أن كتب إليها أن لا تلقاه، وتنصح له بأن يستمتع بالحياة ما استطاع، وتنبئه بأنه سيحزن عليها، فليس من اليسير أن يتعزى الناس عمن كان يؤثرهم بالحب، فلما أتمت إملاء كتابها هم سكرتيرها الشيخ أن يقرأه عليها كعادته، فلم يستطع لأنه كان يقطع قراءته بالبكاء، هنالك أحست هذه المرأة المتشائمة اليائسة التي أسرفت في سوء الظن بالناس، أحست أن هذا السكرتير لم يكن يعمل عندها ليعيش، فقالت له بصوت خافت فيه نغمة الموت، وفيه مع ذلك نغمة الرضا والغبطة: أكنت تحبني إذن؟
هذه صورة من صور هذه المرأة، وهي من غير شك أشد هذه الصور اتصالا بالنفوس، وتأثيرا في القلوب، ولكن لهذه المرأة صورا أخرى عظيمة الخطر جدا في حياة الأدب الفرنسي، فقد كانت ناقدة، ولها في أدباء فرنسا، وفي كبار أدبائها خاصة آراء قيمة تثير الإعجاب لرقتها ولبراعة الصيغ التي كانت تعلن فيها، كانت تؤثر ڤولتير، وكانت تضيق بروسو فانظر إلى هذه الجملة البديعة التي تنقد فيها أسلوب جان جاك: «إن لروسو حظا من الوضوح، ولكنه وضوح البرق، وله حظ من الحرارة ولكنها حرارة الحمى.»
واتصلت هذه المرأة بأصحاب السياسة، واتصلت بالعظماء والأشراف وكانت منهم، وقد كتبت إليهم وتلقت منهم الكتب، وقد صورتهم وصوروها، فهذه ناحية أخرى من حياتها لها أثر في توضيح التاريخ السياسي والاجتماعي لفرنسا في القرن الثامن عشر وقبل الثورة الفرنسية الكبرى.
وبعد، فلعل أحسن ما كتب عن هذه المرأة إلى الآن فصلان كتبهما سانت بوف في أحاديث الاثنين تستطيع أن تقرأ أحدهما في الجزء الأول، وثانيهما في الجزء الرابع عشر، فإن أردت الإيجاز المقنع فاقرأ الفصل الذي نشر عنها في «مجلة العالمين» أول أغسطس، فإن أبيت أن تتكلف القراءة أو تشق على نفسك بالبحث فقدر هذا الوصف الذي كان يصفها به ڤولتير وفكر فيه؛ فإنه يعطيك منها صورة قوية، تملأ نفسك رحمة وإعجابا، فقد كان يسميها: «الضريرة المبصرة».
قصة فيلسوف عاشق
لا أعلم أن الفلسفة تحظر الحب على أهلها، بل الذي أعلمه أن الفلسفة حب كلها، وليس اسمها إلا لفظا من ألفاظ الحب، ولكن هذا الحب إذا احتل قلبا شغله عن كل شيء، واستأثر بكل ما فيه من قوة وعاطفة وهوى، ولم يدع من ذلك للحياة اليومية العاملة إلا شيئا يسيرا جدا.
فالفلسفة حب الحكمة، وهذه الحكمة شديدة الغيرة، شديدة الأثرة، لا تحب الشركة ولا ترضاها، ولا تسمح لعشاقها بأن يصفوا بودهم شيئا أو أحدا غيرها، فمن فعل ذلك أو شيئا منه، فليس هو من الحكمة في شيء! وإنما هو رجل مثلك ومثلي يغشى الأندية، ويضطرب في الشوارع، ويعيش مع الناس، وليس له حظ من المدينة الفاضلة التي يسكنها ويسيطر عليها عشاق الحكمة وحدهم.
لذلك كان أمر هذا الفيلسوف الذي أحدثك عنه عجبا من العجب، وفنا من هذه الفنون النادرة التي لا يظفر بها المؤرخون والقصاص إلا في مشقة وعسر، وإلا على أن تفرق بينها القرون الطويلة والعصور البعيدة، والذي أعرفه أن التاريخ لم يظفر قبل فيلسوفي هذا العظيم بعاشق قد دلهته الحكمة، وعبث بلبه جمال إلهتها العليا، ولكنه على ذلك استطاع أن يشغف بإلهة أخرى، يشركها مع هذه الإلهة التي كان يصورها اليونان في صورة أتينا، تلك التي خرجت من رأس أبيها زوس، تامة الخلق، مكتملة الشباب، فيها جمال فتان، ولكن فتنة تخلب بقوتها لا برقتها!
لم يعرف التاريخ عاشقا من عشاق أتينا استطاع كما استطاع فيلسوفي العظيم، أن يشرك معها امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به إلهة الحكمة نفسها، وأن ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ابنة زوس بابنة باييس، ويتخذ منهما شخصا واحدا يحبه ويقدسه، ويصوغ له دينا قويا خصبا، ويحاول أن يبسط سلطان هذا الدين على الإنسانية كلها، أو على الإنسانية المسيحية على أقل تقدير.
أظنك قد عرفت هذا الفيلسوف، فهو «أغست كونت» مؤسس الفلسفة الوضعية، وواضع علم الاجتماع، وصاحب السلطان العظيم على العقل الفرنسي، ثم الأوروبي ثم الأمريكي، عصرا طويلا من القرن التاسع عشر، وأظنك قد عرفت هذه المرأة التي زاحمت الفلسفة في قلب «أغست كونت» فكادت تغلبها عليه، أو غلبتها عليه بالفعل، ثم أصبحت إلهة للفيلسوف يعبدها كما يعبد النصارى المسيح، وكما كان الوثنيون من اليونان يعبدون أتينا أو أرتميس، ثم أصبحت إلهة لجماعة من تلاميذ الفيلسوف المتفرقين في أطراف الأرض، ثم أقيم لها معبد لا يزال يحج إليه إلى الآن في باييس، وأقيمت لها معابد متفرقة في أمريكا الجنوبية، حيث لا يزال للفيلسوف أتباع يشايعونه في القسم المتطرف من فلسفته.
هذه المرأة هي «كلوتلد دي ڤو»، وأظنك تطمئن الآن وقد سمعت هذين الاسمين، إلى أني لا أخترع ولا أتبع الخيال، ولا أضع قصة! وإنما أكتب فصلا من فصول التاريخ، وليس من الضروري أن يلجأ الكاتب إلى الخيال والاختراع؛ ليستطيع أن يمتع قراءه، وأن يؤثر في نفوسهم ويثير فيها هذه العواطف الحادة المختلفة التي تعبث بها حين تحس لذة أو ألما، وحين تجد حبا أو بغضا، وحين تشعر بحزن أو سرور، فقد تكون الحقائق الواقعة أبرع وأروع من أحسن القصص الخيالية وأبدعها، ولكني في حاجة إلى أن أقدم إليك شخص هذين العاشقين قبل أن أحدثك عن عشقهما، وأقص عليك ما كان بينهما من غرام.
نشأ أغست كونت مع القرن التاسع عشر، ولم يكد يتوسط العقد الثاني من عمره حتى ظهر تفوقه في العلوم الرياضية، ولم تكد تتقدم به السن قليلا حتى عرف له هذا التفوق، وإذا هو حجة في هذه العلوم ، وإذا هو لا يقف عندها ولا يقتصر عليها، وإنما يفكر في الصلة بينها وبين بقية أنواع المعرفة الإنسانية من جهة، ويفكر من جهة أخرى في الحياة الأوروبية المضطربة بعد الثورة والإمبراطورية، فيحاول أن يضع ترتيبا جديدا للعلوم، ويوفق إلى ما يريد، ويحاول أن يجد نظاما جديدا تقوم عليه الحياة الأوروبية، فيوفق أيضا، ويصبح لهذين النوعين من التوفيق صاحب الفلسفة الوضعية ومؤسس علم الاجتماع.
ولكن فلسفته الوضعية هذه، كانت حديثة ثائرة لا تستأثر بالقلوب استئثارا مطلقا، ولا تقطع على أهلها سبيل الحياة، فمسحت لعاشقها «أغست كونت» أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يحب كما يحبون، فعاش وأحب، ولكن أي عيشة وأي حب؟ تركت الفلسفة قلبه حرا، وشغلت عقله كله، فاختار في الحب بحسه وقلبه، ولم يختر بعقله، فيا بئس ما اختار! اختار امرأة جشمته الأهوال، وعلمته كيف يحتمل الآلام، وكيف يتجرع الإنسان مرارة الغيظ، كانت هلوكا فاجرة، وخيل إلى «أغست كونت» أنها نقية طاهرة، فأحبها وأظهرت له الحب، وخطبها فقبلت الخطبة، وتزوجها فقبلت الزواج، وما هو إلا وقت قصير حتى تبين من أمرها ما كره، فخاصمها وقاومته، وأنذرها فازدرته، وحاول أن يعاقبها فثارت به، وصبر الرجل وصابر حتى جن، وإذا هو يلقي نفسه في النهر وإذا الشرطة تستنقذه وتدفعه إلى المستشفى، فيقيم مع المجانين حينا ثم يفيق فيستأنف الفلسفة، ويستأنف التعليم، ويستأنف الحب والعذاب، ويجن مرة أخرى، ويفيق وتنقطع الصلة بينه وبين امرأته في غير طلاق؛ لأن القوانين الفرنسية لم تكن تبيح الطلاق يومئذ، فنشاطه إذن موقوف على الفلسفة والتعليم.
في سنة 1840 كان فيلسوفنا ممتحنا في مدرسة الهندسة
polytechnique ، وكان بين الشبان الذين تقدموا إليه في هذا الامتحان غلام في الخامسة عشرة من عمره، هو «مكسيمليان ماري». رآه الأستاذ الفيلسوف وسأله، فأحبه وأعجب به، ورأى أن الخير في ألا يقبله هذا العام، فأجله سنة ثم قبله بعد ذلك، واتصلت بين الأستاذ وتلميذه محبة لم تلبث أن بلغت أقصاها، وإذا الفتى يميل إلى أستاذه وفلسفته وإلى الحرية خاصة، وإذا هو يستقيل من المدرسة ويتبع الأستاذ ويتتلمذ له ويعيش من التعليم في المدارس الحرة على كره من أبيه، وفي سنة 1844 يتزوج هذا الفتى ويعيش مع امرأته في بيت الأسرة، حيث يزوره الأستاذ من حين إلى حين، وهناك يلقى أخته «كلوتيلد» فلا يكاد يسمعها ويتحدث إليها، حتى تبتدئ بينه وبينها قصة الغرام.
وكانت «كلوتيلد» هذه في الرابعة والعشرين من عمرها، ولكن حياتها كانت ممتلئة بالخطوب، كان أبوها رجلا من الطبقة الوسطى، عمل في جيش الإمبراطورية وارتقى في آخر عهد الإمبراطور إلى رتبة الكابتن، ثم سقطت الإمبراطورية فأحيل إلى الاستيداع، وعاش من مرتبه العسكري الضئيل، وكانت أم الفتاة من أسرة شريفة من أهل اللورين، فنشأت «كلوتيلد» نشأة فيها بؤس وضيق، ولكن فيها احتفاظا شديدا بتقاليد الطبقة الوسطى، ولم تكد تتجاوز الخامسة عشرة حتى زوجت من رجل يحمل اسما من أسماء الأشراف، ولكن حظه من الشرف كان قليلا، وهو «دي ڤو». اقترن بالفتاة وعين جابيا للضرائب، وقضى مع امرأته أعواما لا هو بالسعيد ولا هو بالذي يمنح امرأته قسطا من السعادة، ثم أصبح الناس ذات يوم، وإذا هو قد ذهب إلى سفر مجهول، وما هي إلا أن يبحث عنه ويفتش عن أمره، حتى يظهر أنه قد بدد أموال الدولة، وشيئا كثيرا من أموال الناس في اللعب، ثم هرب من فرنسا، إلى حيث لم يعرف من أمره شيء.
فظلت هذه المرأة الشابة معلقة، لا هي بالمتزوجة، ولا هي بالمطلقة، محزونة، بائسة، لا أمل لها في الحياة، عادت إلى أسرتها تعيش بينها، وعكفت على نفسها تعيد وتبدي ما يجول فيها من خواطر الألم والحزن، ثم أخذت تكتب ما تحس وتقيد ما تجد، وإذا هي كاتبة لها حظ من أدب ونصيب من خيال، وكان جمالها معتدلا لا إسراف فيه، وكانت المحنة قد أفادتها رصانة ورزانة، وأفاضت على شخصها شيئا من الحب يعطف النفوس عليها، وأجرت في حديثها شيئا من العذوبة الحلوة الهادئة، يحببها إلى القلوب.
فلما لقيها الفيلسوف في بعض زيارته لأخيها، نظر إليها فلم تكد تبلغ نفسه، ونظرت هي إليه فأنكرته وأكبرته. أنكرت شكله الدميم، وصورته القبيحة، وخلقه المضطرب المرتبك، وأنكرت صوته الغليظ، وحديثه المتكلف، ولكنها أعجبت بذكائه، وأكبرت عقله وفلسفته، وسكتت عنه وسكت عنها، واتصلت الزيارات، واتصل اللقاء، وأخذت نظرات الفيلسوف تستقر على الفتاة، وأخذت أذن الفتاة تطمئن إلى حديث الفيلسوف، ولكن أحدا منهما لم يشعر بأن صاحبه قد وقع من نفسه موقعا خاصا.
كان الفيلسوف يزور الأسرة ثلاث مرات في الأسبوع، وكان يجد لذة ودعة في الزيارة، كان يلقى ثلاثا من النساء: أم تلميذه وكانت مشغوفة بالتصوير، تحاول دائما أن تصور الفيلسوف، وزوج تلميذه وكانت موسيقية تطربه بالتوقيع على البيانو، وكلوتيلد أخت تلميذه وكانت أديبة تحدثه عن الأدب وعن قصتها التي أنشأتها وسمتها «لوسي» ورمزت فيها لحياتها الخاصة، وربما أنشدته شيئا من شعرها، ولم يكن الفيلسوف يحب الأدب ولا يحفل بالشعر، ولكنه كان يجد لذة في أدب «كلوتيلد»، ويذوق الجمال في شعرها وإن لم يكن هذا الشعر جميلا، وإن لم يكن مستقيم الوزن أحيانا، وكان الفيلسوف يتحدث إلى «كلوتيلد» عن فلسفته الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي ظهرت تذيع هذه الفلسفة في الناس، وعن أنصاره وخصومه، وعن دروسه في الفلك ، وكانت الفتاة تعجب بهذا كله، وإن لم تكن بطبعها مشغوفة بالفلسفة، وكان الفيلسوف يلتمس إرضاءها والتقرب إليها على غير شعور منه، فيذكر لها براعة النساء في الأدب والفلسفة، وكان هذا الحديث يروقها ويتملق كبرياءها، وكانت الفتاة تكبر في نفسها حين ترى الفيلسوف قد رآها لثقته أهلا، وذات يوم سقطت على الفيلسوف من السماء سعادة لم يكن يقدرها ولا ينتظرها ولا يحسب لها حسابا. زاره تلميذه ومعه أخته، وكان الفيلسوف في جماعة من العلماء، وكان الحديث علميا عميقا، فابتهج الفيلسوف وأعجبت الفتاة، وجلست تسمع في إكبار وتثاؤب خفيف لحديث العلماء، ثم همت تريد أن تنصرف فجمع الفيلسوف شجاعته كلها في يديه واستأذن الفتاة في أن يزورها في بيتها الخاص، فأذنت، هنالك بدأت الخصومة بين إلهة الفلسفة وإلهة الجمال، هنالك اضطرب «أغست كونت» بين العقل والقلب، وبين التفكير والحب. هنالك أخذ الفيلسوف يسأل نفسه: ما قيمة هذا العلم الخالص الجاف؟ وما قيمة هذا التفكير العميق العقيم؟ ومتى كان الرجل رجلا بعقله دون قلبه؟ ومتى كان الإنسان إنسانا بالتفكير دون الحب؟ إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في كل وقت، ولكنه يستطيع أن يحب دائما، وإذن فقد تكون آلهة الفلسفة مسرفة في الطغيان، وقد يكون من الممكن أن يتخذ «أغست كونت» رأسه معبدا لأتينا وقلبه معبدا لكلوتيلد.
وابتدأت زيارة الفيلسوف للفتاة في بيتها، وإذا الحب يعلن، وإذا الفيلسوف يلح في حبه ويسلك إلى إقناع الفتاة بهذا الحب طرقا، منها الملتوي ومنها المستقيم، ولكن كلوتيلد لا تحب ولا تهوى، إنما تعجب وتكبر، فهي ترده عنها في رفق، وتطلب إليه مودته دون حبه، فلا يكاد يعرف منها هذا حتى يضيق بنفسه وبالحياة، وحتى تضيق به حصته، ويعجز جسمه ورأسه عن احتمال هذا الخذلان، فهو مريض يلجأ إلى السرير أياما، وهو مشفق أن يعاوده جنونه القديم، على أنه يبل من مرضه، ويحاول أن يجدد عهده بالفتاة، ولكنها تحظر عليه زيارتها في بيتها، وتعده باللقاء عند أمها مرتين في الأسبوع، فلا يكفيه ذلك، فتعده بلقائه مرة ثالثة ، فلا يكفيه ذلك أيضا، وتتصل بينهما كتب فيها حوار حلو ملؤه الحنان يصدر من الفتاة، عنيف معوج ملؤه الفلسفة حين يصدر عن الأستاذ، ثم يستحيل هذا الحب في نفس الفيلسوف إلى شكل جديد، فليس هو حبا عاديا كهذا الذي يكون بين الناس، وإنما هو التقاء شخصين عظيمين قد خلقا ليلتقيا ثم ليتعاونا على إصلاح الإنسانية وإنهاضها. هي إذن قد خلقت له ولن يدعها ولن يتخذ غيرها زوجا إذا ماتت زوجه النائية، ثم تستحيل هذه العواطف ويستحيل هذا التفكير إلى فن من الفلسفة، يضعه «أغست كونت» في رسالة، ويهدي الرسالة إلى الفتاة بهذا العنوان: «رسالة فلسفية في التذكار الاجتماعي»، في هذه الرسالة يتغير رأي «أغست كونت» في المرأة ومكانتها الاجتماعية تغيرا تاما، فقد كان منذ أشهر يكتب إلى تلميذه «ستوارت ميل» فيرى أن ليس في المرأة أمل ولا خير، أما الآن فهو يرى المرأة عنصرا أساسيا في الإصلاح الاجتماعي الذي وقف نفسه عليه، وقد سرت الفتاة بهذه الهدية، وكبرت في نفسها فزارت الفيلسوف مع أمها شاكرة له.
هنالك نشط الأمل وتجددت الحياة، واعتقد الفيلسوف أنه سعيد، واستأنف إلحاحه على الفتاة واستأنفت الفتاة مدافعته عن نفسها، واحتالت في ذلك حتى زعمت له أنها قد أحبت من قبله فتى كان لحبها أهلا، وأحبها الفتى وسعد بهذا الحب! ولكن لم يجدا إلى الزواج سبيلا؛ لأن الفتى كان معلقا مثلها يخاصم امرأته ولا يستطيع لها فراقا، فيئست من الحب والسعادة، وأزمعت أن تنصرف عن لذات الحياة أبدا، ولكن الفليسوف مغرم، والغرم لا يعرف اليأس، وهو إذا كان صحيحا قويا قد يتحول ويتشكل، ولكنه لا يزول، وما الذي يمنع غرام كونت أن يتخذ شكلا فلسفيا ولو إلى حين. لقد كان عود نفسه الحرمان منذ دهر طويل، فألغى القهوة منذ عشرين سنة، وترك التدخين منذ عشر سنين، ثم ألغى النبيذ ثم ألغى الفاكهة، ثم اتخذ ميزانا يزن به ما يلائم حاجة جسمه من الطعام الخشن، وكان ربما يكتفي بالكسرة من الخبز يتبلغ بها، وهو يفكر في إخوانه من الناس الذين قد لا يظفرون بمثلها، وما دام قد سيطر على نفسه إلى هذا الحد، وعودها هذا الحرمان في الطعام والشراب، فما له لا يزيد هذه السيطرة؟ وما له لا يعود نفسه الحرمان لا في الحب بل في لذات الحب؟ إذن فليبق حبه قويا حارا، ولكن ليظل هذا الحب نقيا طاهرا مجدبا من كل لذة، ولينتظر، وليجتنب اليأس، فكل شيء يدني الفتاة منه، وكل شيء يدنيه من الفتاة. لقد أصبحت زميلة له منذ نشرت بعض الصحف السيارة لها قصتها التي وضعتها عن نفسها فأصبحت كاتبة مثله تتحدث إلى الناس في الأدب كما يتحدث هو إلى الناس في الفلسفة. هما إذن زميلان، بل هما أكثر من زميلين؛ فقد أخذت الفتاة تدنو من مذهبه في الفلسفة، وتحس ميلا إلى آرائه الاجتماعية، وتكون منه مكان التلميذ والنصير، فليحب إذن وليصبر، وفي أثناء ذلك كانت أم الفتاة تقول لها: لولا أن مسيو كونت قبيح دميم لقلت إنه يتملقك ويدور حولك كما يدور العاشقون حول من يحبون، ومع ذلك فإن من الحق عليه لك ولنفسه أن يفكر في أن هذه الزيارات المتصلة المنظمة لا تليق بك ولا به؛ لأنها تخالف العرف المألوف أشد الخلاف.
واتصلت زيارة أغست كونت لأسرة كلوتيلد، واشتدت الصلة بينه وبينها متانة وقوة، وأخذت تزول من هذه الصلة بقايا هذه التكاليف الاجتماعية التي تواضع الناس عليها في حياتهم المألوفة، والتي لا يزيلها ولا يمحوها إلا المودة الخالصة إذا بلغت أقصاها، أو الحب الصحيح إذا انتهى إلى غايته. وألحت الأسرة في التعريض بهذه الزيارات المتصلة، وبهذه الصلات التي كانت تتخلص شيئا فشيئا من التكلف والاحتشام، ونزعت الفتاة نفسها وقتا طويلا في أن تتحدث إلى الفيلسوف بهذه الريبة التي أخذت تثور حولهما في نفوس الأسرة، ولكنها انتهت إلى أن أنبأته بما عندها من ذلك فاستمع لها، ولم يحتج إلى تفكير وتقدير ليمتلئ قلبه سرورا وغبطة، وليأخذه شيء من الكبرياء غريب في ظاهر الأمر، ولكنه مألوف عند العشاق والمحبين، وما له لا يسر ولا يغتبط والحجب ترفع كل يوم بينه وبين من يهوى، وما له لا يأخذه الكبر ولا يملؤه التيه وهو يثير الريبة في نفوس الأسرة، ويضطرهم إلى أن يشعروا بحبه للفتاة وبأن الفتاة لا تزدريه ولا تفرط في ذاته، ولا تنظر إليه في غير عناية ولا اكتراث؟ لعلها لا تحبه كما يحبها ولكن في قلبها عاطفة ما تعطفها عليه وتدفعها إليه، ومن يدري؟ لعل هذه العاطفة أن تنمو وتقوى وتخضع لما يخضع له الإنسان بملكاته وعواطفه من التطور، فتستحيل من المودة الخالصة إلى الحب العنيف، وإذن فما له لا يستأنف سعيه وإلحاحه؟ وما له لا يدور حول قلب الفتاة لعله يجد سبيلا لبلوغه والوصول إليه؟ وقد فعل، فهذا الحنان الذي كان قد كظمه في نفسه أو أسبغ عليه لونا من الجد يجعله إلى الود أقرب منه إلى الحب، قد أخذ يتجرد من ثوبه المتكلف ويظهر على حقيقته وفي صورته الصحيحة، وقوته التي لا تبقي على شيء، وهذا التحفظ الذي كان اصطنعه في الحديث يزول شيئا فشيئا، وإذا هو صريح، وإذا هو يجدد إعلان الحب، ويكرر هذا الإعلان ويحيط الفتاة بشباك من الطلب والأمل والتضرع والاستعطاف والإغراء الذي يتجه إلى العقل حينا وإلى الشعور حينا آخر، وكيف تريد أن تفلت الفتاة من هذه الشباك جميعا وهي لا تكاد تخلص من واحدة حتى تتعثر في أخرى؟ هي مضطرة إذن إلى أن تسالم بعض الشيء وتصانع إلى حد ما، وتنهزم عن خط الدفاع الأول كما يقولون.
وهل كانت هي في نفسها منصرفة عن الفيلسوف حقا راغبة عن حبه كل الرغبة؟ لست أدري ولكنها على كل حال عجزت عن المقاومة فكتبت إلى أغست كونت تنبئه بهذا العجز وتظهره على ذات نفسها وتبين له رأيها في التخلص من هذا الموقف الدقيق ورأيها أنها لم تكن تقدر أن أحدا يكلف بها ويتهالك عليها، وأنها هي لا تكلف بأحد ولا تتهالك على أحد، ولكن أملها إن صح أن يكون لها أمل في الحياة، إنما هو طفل تقف عليه حبها وحنانها وقوتها ونشاطها، وهي إذا شاركت رجلا في الحياة فإنما قوام هذه الشركة الوصول إلى تحقيق هذا الأمل، وهي حريصة كل الحرص على أن يكون شريكها إن ظفرت به رجلا ممتازا مرتفع النفس كبير القلب خليقا بالإكبار، وهي تجد هذه الخصال كلها في الفيلسوف ولا تكره أن تتخذه شريكا في تحقيق هذا الأمل وخلق هذا الطفل، ولكنها لا تريد أن تخدعه ولا أن تغره فهي لا تحبه بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، وحياتها ليست بالشيء النفيس الذي يحرص الناس على الاشتراك فيه، فهي يائسة تحتاج إلى من يعزيها، وهي فقيرة تحتاج إلى من يعولها، وهي لا تحمل لشريكها إلا مودة صادقة وإخلاصا لا حد له.
ويقرأ الفيلسوف هذا الكتاب فيجن جنونه وتدور به الأرض ثم تهدأ نفسه، وتشرق في وجهه الدنيا وتبتسم له الأيام، وهل كان يطمع في أن تقبل كلوتيلد منه مثل هذا وترضى أن تكون له خليلة، وتقاسمه الحياة، وتشاركه في خلق إنسان؟ وهو قابل إذن، وهو راض، وهو سعيد، وهو واثق بأن هذه خطوة ستتبعها خطوات، وهو يكتب إليها ويمضي كتابه على هذا النحو: زوجك المخلص أغست كونت.
وتزوره ذات يوم زيارة المستسلمة المستعدة للوفاء بالوعد وإنفاذ هذه الشركة، فيلقاها فرحا مبتهجا ثم يجلسها ويجثو بين يديها ويقدم إليها صلاة فلسفية حارة، ولكنه عالم لا حظ له من براعة الأدباء، ولا من براعة الرجال الذين تعودوا عشرة النساء والتلطف لقلوبهن، فصلاته فلسفية وحديثه بعد ذلك عملي كله، وحركاته حين يضطرب في غرفته منظمة قد قدرت تقديرا، فهو لا يرفع شيئا إلا بحساب، ولا يضع شيئا إلا على نظام، ولا يأتي حركة إلا إذا كانت لها علة ظاهرة وتأويل معقول، وهو يتحدث عن دخله وعما سيحتاجان إليه من نفقة، وعن ترتيب البيت وعن النظام المادي للحياة، وهو على هذا كله دميم لا جمال في شكله ولا روعة، قصير متقدم البطن مضطرب الوجه، فأين يقع هذا المنظر؟ وأين يقع هذا الحديث؟ وأين تقع هذه الحركات المنظمة من قلب امرأة لم تتجاوز الثلاثين بعد؟ ما أسرع ما ضاقت بهذه الشركة ورغبت عنها! وما أسرع ما ضحكت من نفسها في نفسها! وما أسرع ما استيقنت أنها كانت تحاول أمرا لا قبل لها به ولا قدرة لها عليه! وما أسرع ما نهضت وهي تقول: لقد تقدم الوقت دعني أكتب إليك! وما أسرع ما خرجت من الباب وهبطت من السلم وبلغت الشارع ومضت! والفيلسوف ينظر إليها من النافذة، فإذا هي تسرع أمامها لا تلتفت ولا تلوي على شيء، وتكتب إلى الفيلسوف بعد ذلك معتذرة متعللة قائلة: إنها قد تعجلت الوعد وتبين لها أنها في حاجة إلى التفكير الطويل وأن الخير في أن تمهل نفسها لترى، فلا يكاد الكتاب يصل إلى الفيلسوف حتى يحس أنه قد أذاها بحديثه، فيكتب إليها متلطفا ملحا، وتمضي هي في إبائها، ويشتد هو في إلحاحه، حتى إذا أثقل عليها أجابته في شيء من الشدة والصرامة أنها لا تستطيع أن تبيع نفسها ولا أن تساوم فيها فإن كان يقنعك ما أعرضه عليك من المودة الخالصة الطاهرة فذاك، ولك أن تلقاني في بيت أسرتي كدأبك من قبل، ولا بد لي من ستة أشهر أفكر فيها وأروي، وإلا فإني عائدة إلى ما كنت فيه من وحدة وعزلة. هنا يفيق الفيلسوف من ذلك السكر الذي كان غمره وملأ عليه قلبه وعقله، ويعود إلى حاله الأولى ليس شديد الرجاء، ولكنه ليس يائسا بل هو بعيد كل البعد من اليأس، واثق بأن العاقبة له وبأن الفوز لن يخطئه مهما يكن من شيء، سيصبر إذن وسيستأنف حياته الأولى فيلقى الفتاة في بيت أسرتها مرتين في الأسبوع.
وكلاهما سيئ الحال ضيق ذات اليد، أما هي فتبحث عن عمل لتعيش منه أو لترفه به بعض الشيء حياتها الضيقة الخشنة، وهي لا تتردد في أن تشغل مكان السكرتير في مكتب من المكاتب، أو عند رجل ذي مال إن ظفرت به، ولكنها لا تظفر بشيء ولا بأحد إلا فيلسوفها الذي قد وثقت به واطمأنت إليه، فهي لا تخفي عليه من أمرها شيئا، وهو يعدها بالمعونة ويعرض عليها أن يقرضها ما تحتاج إليه، بل يؤكد لها أن كل ما يملك من المال ملك خالص لها تستطيع أن تأمر فيه بما تشاء. نعم؛ ولكنه هو لا يملك شيئا أو لا يكاد يملك شيئا، أعماله شاقة ونفقاته ثقال، والمستقبل أمامه مظلم هو يلقي دروسا رياضية في بعض المدارس الحرة ولكن صاحب المدرسة يريد أن يلغي هذه الدروس رغبة في الاقتصاد، وهو يكسب شيئا من مدرسة الهندسة ولكنه في حاجة إلى أضعاف هذا الذي يكسبه، وهو يلح على تلاميذه في إنجلترا أن يرتبوا له رزقا معلوما، ولكن التلاميذ لا يؤمنون لأستاذهم بهذا الحق وهو مضطر إلى أن يرزق امرأته ثلاثة آلاف فرنك في كل عام، ولا بد له من أن ينقص هذا الرزق وأن يختزل منه ثلثه، وهو على هذا كله يعمل، وهو على هذا كله يحب، وهو حريص على ألا يقصر في ذات فلسفته ولا في ذات عشيقته، وعشيقته أيضا تعمل لخدمة الأدب إن أعجزها أن تعمل لكسب المال. لقد نجحت قصتها الأولى بعض الشيء فما لها لا تكتب قصة أخرى وقد بدأت كتابة هذه القصة واتخذت نفسها لها موضوعا مع شيء من الرمز والإيماء وأخذت كلما كتبت شيئا أرسلته إلى الفيلسوف، فيقرأ ويعجب ويهيم، ويقرظ فيسرف في التقريظ.
ويستأنف زياراته للأسرة محتملا ما يرى من الإعراض، يقابله بمثله في كثير من الأحيان، حتى إذا كتب أخو الفتاة رسالة في الرياضة وعرضها على أستاذه ونظر الأستاذ فيها وأطال النظر فلم تعجبه، فيضطر إلى أن يعلن رأيه إلى تلميذه في غير تردد وإلى أن يتحدث إلى الفتاة بأن حبه لها وحرصه على مودة أخيها لن يمنعاه من أن يعلن رأيه في هذا الكتاب الذي لا خطر له، هنالك يزداد سخط التلميذ على أستاذه وهذا هو الذي يدور حول أخته ويشرب القهوة في البيت مرتين في كل أسبوع، ثم لا يشجع تلاميذه ولا يعترف لهم بما يوفقون إليه من فضل.
ويشتد إنكار الأسرة على الفتاة وتثبت هي لإنكارهم، فتجادلهم في أستاذها وتزودهم عنه، وتخرج من عندهم مكدودة متعبة، وتأوي إلى بيتها وقد فقدت أو كادت تفقد الشجاعة والنشاط، فتفكر في الفيلسوف، وفي أنه الرجل الوحيد الذي يؤثرها بالحب، ويصفيها المودة والعطف، فتنازعها نفسها إليه، ولكن نفورا قويا يمسكها أن تندفع في هذا الحب، فتكتفي بالشكوى، وتقبل من الفيلسوف عطفه وحنانه، ومعونته المالية أيضا، وكانت أعراض الضعف قد ظهرت عليها، فأخذت تحس فتورا وانحلالا، وأخذت تقاوم سعالا متكررا مضنيا، ولم تقدر إلا أن ما تحسه عرض من أعراض هذا الجهد الذي تلقاه، فصبرت واحتملت وجدت في كتابة قصتها، وجدت أيضا في الأنس إلى الأستاذ، وأذنت له أن يزورها في بيتها الخاص، فأحيت أمله، وبالغت في إحياء هذا الأمل حين أهدت إلى الأستاذ باقة من الزهر الصناعي صنعتها بيدها، وأرسلت معها أبياتا من الشعر لا قيمة لها ، ولكن الفيلسوف رآها آية من آيات البيان.
وزارها الفيلسوف ذات يوم فإذا هي متعبة تلقى من الآلام جهدا شديدا فتحدث إليها وأطال الحديث، واطمأنت هي إليه اطمئنانا شديدا، فلما نهض لينصرف اختلس قبلة من فمها، ولكنه لم يكد يبلغ بيته حتى كتب إليها كتابا مشهورا يعتذر فيه من هذه القبلة؛ لأنه لم يكن يثق حين اختلسها بأن نفسه كان نقيا طيب النشر، وردت عليه في هذه السذاجة البديعة: «لا بأس عليك؛ فأنا التي منحتك قبلة صديقة مخلصة.»
ويشتد المرض والفقر بالفتاة، ويشتد الهيام والبؤس بالفيلسوف، وتزول بينهما الكلفة، وتكثر الزيارة عندها وعنده، ويعرض عليها خادمته لتعينها على الحياة، فتأبى، وتقضي الشتاء وحيدة عاملة لا يسليها عما تجد إلا زيارات الفيلسوف لها وعطفه عليها، وقد عرضها على الطبيب فقدر لها مرضا أخذ يعالجه وهو بعيد كل البعد عما كانت تجد، واشترك الفيلسوف في الأوبرا على فقره ليسلي صاحبته بالموسيقى من حين إلى حين، ولكنه لم ينس الحب ولم يفكر في الإعراض عنه، فهو ما زال يلح على الفتاة ويتقاضاها هذه الصلة المادية التي تتوج ما بينهما من ائتلاف العقل والقلب وهي تأبى ، حتى إذا أثقل عليها فأسرف، كتبت إليه تذعن لما يريد، وهي تقول: إنك تطالب بأجر ما تبذل لي من ود ومعونة فلن أماطل في تأدية هذا الأجر. هنالك استحى الفيلسوف واستكبر فرفض هذا التسليم وأبى إلا صلة مصدرها الحب والرغبة.
وزارته ذات يوم وهي مكدودة قد أجهدها المرض، واشتدت بها الحمى فلما انتهت إلى البيت استلقت على وسادة ونظر إليها هو وإن في عينه لحبا لا حد له، وشهوة لا حد لها، وإذا هو يرى عينيها الزائغتين من الألم وخديها اللذين توردهما الحمى فلا يرى إلا جمالا مغريا وحسنا فتانا، وهي مستلقية أمامه لا حول لها ولا طول، وهو قادر عليها! ولكنه ليس قادرا على نفسه، فهو يشتهي إلى حد الهيام ولكن عقله ووقاره يأبيان عليه هذا الغصب، فتنحل هذه الشهوة الحادة العنيفة إلى حب وقور، فيه شيء كثير من جلال الدين، والمرض والبؤس يلحان على الفتاة، والحب والفقر يلحان على الفيلسوف وإذا هي قد لزمت غرفتها، ولزمتها خادم الفيلسوف، وجاء الطبيب فلم يشك في أنها مسلولة مشرفة على الموت، وكثر تردد أمها عليها وكثر تردد الفيلسوف أيضا، وكانت بين الأم والفيلسوف حول هذا الجسم الناحل وهذه النفس التي تتأهب لمفارقة الحياة، خصومات مؤلمة ولكنها لا تخلو من فكاهة، فأما الأم فكانت أسيرة الأوضاع الاجتماعية، أسيرة هذا الحب الذي يعطف المرأة على ابنتها، وأما الفيلسوف فكان أسير هذا الحب الفلسفي، ولم يكن يتردد في أن يعلن أنه وحده صاحب الأمر في هذا البيت لأنه الزوج الخالد للفتاة، ولم لا؟ لقد كان ينهض بكل ما تحتاج إليه، ويعرف من تمريضها ما ظهر وما خفي. لقد كتبت إليه مرة تقول: ما أشد حاجتك إلى الرحمة أيها العاشق التعس! فلم تظفر من خليلتك إلا بشر ما يظفر به الأزواج، وكان مؤلما جدا، وباعثا للابتسام أحيانا أن يرى الفيلسوف جاثيا أمام السرير وهو يصلي إلى الفتاة فيدعوها أخته وزوجه وابنته، ويؤكد لها ويقسم ليعصمنها من الموت، ولئن عبثت الطبيعة بجسمها فليضمنن هو لنفسها الخلود ، ولم لا؟ أليست أرقى امرأة عرفتها الإنسانية؟! لقد لقيت أرقى عقل عرفته الإنسانية، فلن يكون للفناء عليك ولا علي سلطان.
وساءت حال الفتاة، ودعي القسيس ليهيئها لاستقبال الموت، فلم تمانع هي ولم يمانع هو، وأقبل القسيس فأدى عمله والفيلسوف يراه ويسمع له ساخطا حتى إذا انصرف أقبل فأنكر هذه العادة الدينية التي تنتزع المريض انتزاعا من الحياة لتدفعه بين ذراعي الموت.
أقبل عذب الصوت، رضي النفس، حنون القلب، فجثا إلى السرير وحنى على الفتاة، وأخذ يحدثها أحاديث عذبة كلها أمل وكلها رحمة، ثم انصرف وعاد فإذا الأسرة كلها مجتمعة وإذا هم يأبون عليه أن يصل إلى المريضة، فتثور ثائرته ويخرج عن طوره ويأبى أن ينصرف، ويهم بإخراجهم جميعا لأن المريضة زوجه وخليلته وهي له وحده دونهم، بذلك اعترفت له وعلى ذلك أقسمت له، فيجب أن يخلى بينه وبينها، فأما الأم فتنكر وتبكي وتستخذي، وأما الأخ فيقبل على أستاذه منذرا، وأما الأب الشيخ فيقبل هادئا وقورا، هنا يطلب إلى الفيلسوف أن يدع المريضة لأهلها.
فانظر إلى الفيلسوف وقد جثا أمام الشيخ ضارعا مستعطفا حتى رق له الشيخ فقال: انصرف الآن ولك علينا أن ندعوك إذا استيئسنا منها. خرج الفيلسوف فلزم داره، فلما كان من غد جاءه الرسول فأقبل مسرعا حتى انتهى إلى البيت، فلما رأته الأسرة انفرجت له وخلت بينه وبين غرفة الفتاة، فدخل وأغلق الباب من دونه وأرتجه فأحكم إرتاجه، وأقام ساعات طوالا لا يخرج ولا يدخل عليه أحد، ويستطيع الخيال أن يذهب كل مذهب في تصور ما قال الفيلسوف للفتاة المحتضرة أو ما عمل أمام هذا الحب العظيم الذي كان الموت يغلبه عليه قليلا قليلا، فلما تقدم النهار ودنا المساء فتح الباب وخرج صامتا لا يلوي على شيء، فأقام في داره ولم يشهد الجنازة ولم يشيعها إلى القبر، وماذا يعنيه من الجنازة؟ لقد حاول أن يصل إلى هذا الجسم فلم يجد إليه سبيلا، وحاول أن يصل إلى هذه النفس فلم تقاومه ولم تمتنع عليه، وإنما أسرعت إليه فأقامت في عقله وقلبه. لم تمت كلوتيلد وإنما أودعته خير ما فيها فهي إذن في قلبه، هي إذن تقاسمه حياته الزائلة حتى إذا انقضت هذه الحياة الموقوتة امتزجت بنفسه فكانت منها نفس واحدة خالدة. عكف الفيلسوف في داره على هذه الصورة يعبدها ويهيم بها، وما هي إلا أن استحال حبه لكلوتيلد دينا وضعت له التقاليد وألوان الصلوات والعبادات، وأغرب من هذا كله أن الحياة الظاهرة للفيلسوف لم تتغير، فدروسه كانت تلقى في نظام ومجلاته كانت تقرأ في نظام ورسائله كانت تقرأ ويرد عليها في نظام أيضا.
ما أعجب أمر الإنسان! تراه ساذجا يسيرا وإن شخصه لشديد التعقيد.
ثورتان
كانت إحداهما في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، وكانت الثانية في العراق أثناء القرن الثالث للهجرة، وقد عرضت أولاهما الجمهورية الرومانية كلها لخطر عظيم، وعرضت ثانيتهما الخلافة الإسلامية كلها لخطر عظيم، وقد كانت لكل واحدة منهما أعقاب كثيرة خطيرة ظهرت آثارها فيما بعد، كما كانت لكل واحدة منهما خصائص أظهرت أبطالا من المختصمين يستحقون الدرس والبحث، ويستوجبون العناية، ويدعون إلى كثير من التفكير.
فأما أولاهما فهي ثورة الرقيق في إيطاليا، تلك التي قادها سبرتاكوس، وأما ثانيتهما فهي ثورة الزنج في البصرة، تلك التي قادها عبد الله بن محمد المعروف بصاحب الزنج.
وقد يسأل القارئ فيم تعرضي لهذا الموضوع وقد ذهب الرق وانتهت أيام الأرقاء، وليس في حياة الناس الآن ما يدعو إلى التفكير في مثل هذا الموضوع والعناية به، وأحب أن ألاحظ قبل كل شيء أن من الجائز أن يكون الرق الفردي قد ذهب وانقضى عصره، وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمئن إليه، ولكن الرق الاجتماعي لم يذهب بعد ولم ينقض عصره، ولست أدري متى يذهب ومتى تنقضي أيامه، فهناك شعوب تسترق شعوبا، وهناك طبقات من الناس تسترق طبقات من الناس، ومع ذلك، فأنا لم أختر هذا الموضوع لأتحدث عن استرقاق الشعوب واستغلال طبقات الناس لطبقات الناس، وإنما اخترت هذا الموضوع لسبب آخر سيعرفه القارئ بعد حين، وأحب أن ألاحظ بعد ذلك أن ثورة الزنج في البصرة لم تكن في حقيقة الأمر بدعا من حياة المسلمين؛ فقد عرف المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة سخط الساخطين على النظام السياسي والاجتماعي، وثورة الثائرين بالنظام السياسي والاجتماعي، ولقيت دولة بني أمية كما لقيت دولة بني العباس من طلاب العدل السياسي والاجتماعي ألوانا من العناء يعرفها الذين يدرسون تاريخ الخوارج، ويتتبعون تطور مذاهبهم منذ كانت نظرية التحكيم، فليست ثورة الزنج، في حقيقة الأمر إلا مظهرا من مظاهر المطالبة بالعدل الاجتماعي، قد اعتمد على مذهب الخوارج أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر، ويكفي أن نلاحظ أن صاحب الزنج قد كتب على رايته بالخضرة والحمرة الآية الكريمة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون
إلى آخر الآية، فالثورة في مظهرها خارجية، قد باع الثائرون فيها أنفسهم لله يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، كما كان الخوارج يصنعون من قبل، وكما كانوا يصنعون من بعد، وكما كان خارجي آخر يصنع في الوقت نفسه، فيكلف الدولة عناء ثقيلا، يقاتل ومعه أصحابه كما كان يزعم في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وهو مساور الذي خرج على الدولة في أعماق إيران.
وأحب أن ألاحظ آخر الأمر أن ثورة الرقيق على الجمهورية الرومانية في إيطاليا قد أثارت كثيرا من القول، فكتب فيها المؤرخون القدماء وكتب فيها المحدثون، بل تأثر بها بعض المحدثين في آرائهم الاجتماعية والسياسية، وما زالت تلهم الكتاب الأوروبيين إلى الآن، وهذا هو الذي دفعني إلى أن أعرض لهذا الموضوع في هذا الحديث.
فقد قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصة رائعة للكاتب المجري أرتور كوسلر، موضوعها «سبارتاكوس وثورة الرقيق على روما» فسألت نفسي: ما بال ثورة الزنج لم تحدث في حياتنا الأدبية مثل ما أحدثته هذه الثورة الإيطالية القديمة؟ لقد سجل المؤرخون أحداثها كما سجل المؤرخون الرومانيون أحداث الثورة الإيطالية، وقال الشعراء المعاصرون في الثورة كثيرا من الشعر، كما تحدث الأدباء الرومانيون من قبل في اللاتينية واليونانية عن ثورة سبارتاكوس، ولكن الأوروبيين لم ينسوا تاريخ روما وأحداثه، ولم ينظروا إليه على أنه تاريخ ليس غير، وإنما جعلوه جزءا من حياتهم ومن حياتهم الواقعة التي يحيونها بالفعل؛ فهم يستلهمونه كما يستلهمون التاريخ اليوناني وكما يستلهمون أساطير اليونان والرومان، وكما يستلهمون التوراة فيما يكتبون من نثر وما يقرضون من شعر، فأما نحن فنعرض عن التاريخ العربي إعراضا يوشك أن يكون تاما، لا نكاد نحفل منه إلا بعصر البطولة الذي نجتمع كلنا على حبه والإعجاب به، فنحن نتحدث عن عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين، ونحن نذكر دمشق عاصمة بني أمية، ونذكر بغداد عاصمة بني العباس، ونذكر القاهرة عاصمة الفاطميين، نذكر هذا كله نلتمس فيه الفخر بالقديم ونلتمس فيه العبرة والعظة أيضا، وقد نلتمس فيه ما يدفعنا إلى الجد ويثير فينا النشاط، ويعزينا عن بعض ما نلقى مما لا يلائم كرامتنا ولا يوافق مجدنا القديم، وكل هذا حسن من غير شك، ولكن من الخير أيضا أن ننظر إلى تاريخنا على أنه مصدر من مصادر الإلهام الأدبي، وعلى أنه جزء من حياتنا الواقعة لم تنقطع بيننا وبينه الأسباب، فنحن ما نزال نشارك القدماء فيما شعروا وفيما أحسوا، لا يفرق بيننا وبينهم إلا هذا التطور الذي لا بد منه للأحياء.
وربما كان من الطريف أن نلاحظ أن كثيرا منا يفكرون في العدل الاجتماعي، ويحسون حاجة الجماعات إليه، ولكنهم ينظرون إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط، ليلتمسوا في أوروبا مصادر هذا الشعور بالحاجة إلى العدل الاجتماعي، ومظاهر المطالبة به والسعي إليه، ينظرون إلى الديمقراطية المعتدلة وينظرون إلى الاشتراكية الدولية وإلى الاشتراكية الوطنية وقد ينظرون إلى الشيوعية في كثير من التردد والاستحياء، ولكنهم لا ينظرون أو لا يكادون ينظرون إلى فكرة المطالبة بالعدل الاجتماعي، كما وجدها المسلمون قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة، وقليل منهم بل أقل من القليل أولئك الذين يحاولون أن يتابعوا نشأة هذه الفكرة وتطورها في البيئات الإسلامية الثائرة، وما أنتجت من ألوان الأدب، قبل أن تتأثر بالثقافات الأجنبية وبعد أن تأثرت بهذه الثقافات، وما كان لها من أثر في حياتنا العقلية المعقدة في الفلسفة والكلام وفي الفقه والأصول، فضلا عن أن يفكروا في استلهام هذا اللون من ألوان الحياة الإسلامية حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر، ومع ذلك فقد كان للمطالبة بتحقيق العدل الاجتماعي أبطال من حقهم أن يدرسوا، ومن حقهم أن يلهموا الكتاب والشعراء، كما جرت المطالبة بالعدل الاجتماعي على المسلمين في جميع أقطار الأرض الإسلامية خطوبا هائلة من حقها أن تدرس وتجلى، ومن حقها أن تلهم الكتاب والشعراء حين يكتبون وينظمون.
وأنا بالطبع لا أريد في هذا الحديث أن أدعو إلى إحياء حركات الخوارج والزنج والقرامطة، كما أني لا أريد أن أدعو إلى أن نستعير من أوروبا هذا المذهب أو ذاك من مذاهب المطالبين بتحقيق العدل الاجتماعي، وإنما أحب أن ألفت أدباءنا إلى أن لنا في المطالبة بالعدل الاجتماعي تاريخا حافلا عظيم الغناء يستحق أن نرجع إليه بين حين وحين، فلعلنا إن فعلنا عرفنا أن المتطرفين من قدمائنا قد سبقوا إلى طائفة من الأصول في تنظيم الحياة الاجتماعية لم تستكشف في أوروبا إلا أثناء القرن التاسع عشر أو في عصر الثورة الفرنسية الكبرى.
فنحن إذن لسنا عيالا ولا يمكن أن نكون عيالا على المطالبين بتحقيق العدل والثائرين على الظلم الاجتماعي من الأوروبيين، وإنما نحن أبعد منهم عهدا وأشد منهم ممارسة لهذا النحو من محاولة الإصلاح. من قدمائنا من طلب الإصلاح الاجتماعي في رفق ولين، ومنهم من طلبه في ثورة وعنف، ومنهم من أثارها حربا شعواء على النظم القائمة فعرضها للخطر، وكاد يمحو سلطانها محوا.
والثورتان اللتان أريد أن ألم بهما في هذا الحديث تصوران لونا من ألوان السخط يستحق أن يطيل الأدباء التفكير فيه، فقد نشأت ثورة الرقيق على روما من عادة بشعة كان الرومانيون قد ألفوها، ولكنها لم تلبث أن تجاوزت مصدرها الضيق وأصبحت ثورة شاملة على النظام الاجتماعي كله في إيطاليا. هذه العادة البشعة التي أنشأت هذه الثورة هي عادة الاستمتاع بمنظر الرقيق المصطرعين، فقد ألف الرومان أن يشتروا الرقيق ويثقفوهم في فنون الصراع الذي ينتهي إلى الموت، حتى إذا برعوا في هذه الفنون عرضوهم على النظارة في الملاعب وأغروا بعضهم ببعض، وجعل النظارة يستمتعون بما يكون بينهم من كر وفر ومن إقدام وإحجام، وبما يسفك بينهم من دماء، وبما يزهق بينهم من نفوس، وكان الرومانيون يؤثرون هذه اللذة الآثمة على كل شيء، ينعمون حين يصرع الإنسان الإنسان، وينعمون حين يصرع الحيوان الحيوان، وينعمون حين يكون الصراع بين الإنسان والحيوان، وكانوا في أعقاب الجمهورية وفي أيام الإمبراطورية يطلبون إلى سادتهم وقادتهم، كما هو معروف، شيئين اثنين: الخبز واللعب.
ففي مدينة من المدن الإيطالية كان رجل من أصحاب الملاعب قد جمع طائفة من الرقيق يثقفهم هذه الثقافة البغيضة، ويعرض صراعهم على النظارة بين حين وحين، فهربت جماعة الرقيق من مدرسة هذا الرجل في مدينة كابو، وكان عددها ينيف على السبعين، وانطلقت أمامها لا تلوي على شيء، واستعان صاحبها بالشرطة فلم تقدر على ردهم، ولكنهم لم يكادوا يتقدمون في هربهم حتى انضمت إليهم أعداد أخرى من الرقيق، لم تكن تتخذ للصراع وإنما كانت تتخذ للخدمة على اختلاف ألوانها، وما هي إلا أن ينتشر النبأ ويتسامع به الناس حتى ينتشر معه هرب الرقيق وانضمامهم إلى هؤلاء الآبقين، ثم لا يقف الأمر عند الرقيق وإنما يتجاوزهم إلى أشباه الرقيق من الفقراء والبائسين الذين يعملون في الأرض والذين لا يعملون، والذين يحتملون من ألوان البؤس ما يطاق وما لا يطاق، وإذا الجماعة تضخم شيئا فشيئا حتى تصبح خطرا تحسب له الجمهورية حسابا، ثم يتجاوز الأمر هؤلاء جميعا إلى ألوان من الناس لم يكونوا رقيقا ولم يكونوا أحرارا فقراء، وإنما كانوا ساخطين على النظام الاجتماعي، يرون فيه ظلما يجب أن يرفع ويطمحون إلى مثل عليا يجب أن تتحقق. من هؤلاء من كان معنيا بالأدب والبيان ومنهم من كان معنيا بالقضاء والمحاماة، وكل هؤلاء قد نسوا مدرسة الصراع وهرب المصارعين، وأصبحوا لا يفكرون إلا في النظام الاجتماعي السيئ الذي كانوا يحاولون تغييره، ولست في حاجة إلى أن أصور سوء النظام الذي كان هؤلاء الناس يثورون به ويسخطون عليه، وإنما يكفي أن ألاحظ أن الثروة الرومانية الضخمة كانت قد انحصرت في أيدي طائفة قليلة من الناس يمكن إحصاؤهم؛ فهم الذين يملكون الأرض ويسخرون فيها الرقيق ويقصون عنها الأحرار، وهم الذين يحتكرون التجارة داخل إيطاليا من وراء البحار، وهم الذين يحتكرون الحكم في جميع أرجاء الإمبراطورية ويستغلونه لا للشعب، وهم بحكم هذه الثروة الضخمة التي صارت إليهم يستطيعون أن ينشئوا الجيوش على نفقاتهم الخاصة، ينشئونها في الأرض الإيطالية، وينشئونها في أقاليم الإمبراطورية ويستعينون بها على تحقيق ما يريدون من المآرب والآمال.
في ذلك الوقت كانت كثرة الأحرار من أهل إيطاليا متعطلة قد فقدت ما كانت تملك من الأرض وأصبحت عالة على الأغنياء، تعيش لهم وبهم، تتلقى منهم رزقها وتمنحهم أصواتها في الانتخاب، كما تمنحهم سواعدها حين يجد الجد وتثار الحرب، وفي هذا الوقت كانت الثورات في الأقاليم منتشرة عنيفة: فثورة في إسبانيا، وأمر مضطرب في آسيا، وفي هذا الوقت كان البحر ثائرا على روما، قد استبد به جماعة من القرصان فتحكموا في المواصلات كما تحكموا في التجارة، وقضوا على سلطان أساطيل الدولة قضاء يوشك أن يكون تاما، فلا غرابة أن يضطرب مجلس الشيوخ الروماني أشد الاضطراب حين يثور الرقيق وتعظم جماعة الثائرين منهم، وينضم إليهم عدد ضخم من الأحرار، ويتعرض النظام كله لهذا الخطر العظيم، وقد أرسل مجلس الشيوخ جيشا لقهر هؤلاء الثائرين وردهم إلى مواليهم، فمضى الجيش حتى ألجأ الثائرين إلى قمة جبل لاذوا بها، وحاصرهم الجيش هناك وقطع عنهم الميرة، وأقام واثقا بأنهم سينزلون على حكمه في يوم من الأيام، ولكن الثائرين احتالوا حتى انحدروا من الجبل إلى مكان أمين وداروا حول الجبل حتى أخذوا الجيش على غرة، فهزموه هزيمة منكرة وقتلوا منه مقتلة عظيمة، وغنموا ما كان في المعسكر من سلاح ومؤنة وأداة، فاشتد بذلك بأسهم وعظمت قوتهم، واشتد خوف مجلس الشيوخ في روما فأرسل إليهم جيشا آخر لم يكن حظه خيرا من حظ الجيش الأول، ثم أرسل جيشا آخر يقوده القنصلان، فلم يصنع هذا الجيش شيئا، وإنما انهزم كما انهزم الجيشان اللذان سبقاه، وكان انتصار الثائرين في كل مرة ينشر لهم الدعوة في إيطاليا نشرا هائلا، ويحرض الرقيق أن يأبقوا ليلحقوا بهم، ويحرض البؤساء على أن ينضموا إليهم، حتى كثف جمعهم، وحتى فقدت المدن الإيطالية الأمن أمام الخطر الداهم الذي يأتيها من خارج من هذا الجيش الضخم، والذي يأتيها من داخل من هؤلاء الرقيق الذين يعملون في الدور والقصور والأرض ودور التجارة؛ ولذلك اهتمت روما لهذا الأمر اهتماما خاصا، فاختارت لقتال هؤلاء الثائرين رجلا ممتازا من رجالها، ممتازا بشيئين: بالثروة الضخمة التي لم تكن ثروة أخرى تعدلها في روما، والتي أتاحت له أن يتحكم في الأغنياء والفقراء جميعا، وبالطموح الهائل الذي لم يكن يعدله إلا عجز الرجل وقصوره عن النهوض بجلائل الأعمال، وهو مع ذلك قد كان يرى أصحابه وأترابه يشغلون المناصب العليا ويدبرون شئون الدولة ويحكمون الأقاليم، وكلهم كان مدينا له بالمال القليل أو الكثير.
هذا هو ماركوس كراسوس الذي اختارته روما لقتال الثائرين، وأرسلت معه جيشا ضخما حسن العدة، فما زال يتتبع الثائرين يقهرهم حينا ويقهرونه حينا حتى ألجأهم إلى شبه الجزيرة، يأخذهم البحر من أكثر أقطاره ويأخذهم هو من قطره الأخير، وهناك حصر الثائرين، فاحتفر بينه وبينهم خندقا وأقام على هذا الخندق سورا منيعا وانتظر أن يلقوا إليه بأيديهم، وقد تعرض الثائرون لجهد هائل، فقد انقطعت عنهم الميرة حتى ألح عليهم الجوع والظمأ والمرض، وهم زعيمهم سبارتاكوس أن يستعين بالقرصان على تموينهم، فعبثوا به وأخذوا منه ماله ولم يمنحوه إلا المواعيد، وهم أن يصالح القائد الروماني على أن يترك للناس حريتهم يصنعون بها ما يشاءون، ويأخذ القادة ليصنع بهم ما يشاء، ولكن كراسوس أبى إلا التسليم بلا قيد ولا شرط، كما يقول الناس في هذه الأيام، وقد استيأس سبارتاكوس واستيأس أصحابه وأبوا أن يلقوا بأيديهم، فاحتالوا حتى عبروا الخندق وتقدموا للموقعة اليائسة. هنالك تقدم سبارتاكوس بين الصفين فنحر فرسه وقال لأصحابه: إن أقتل فلست في حاجة إليه وإن أنتصر فلن أعدم فرسا مكانه، ثم كانت الموقعة وقتل سبارتاكوس وقتل أكثر أصحابه وأسر سائرهم، وعاد كراسوس وقد جعل من هؤلاء الأسارى نكالا للذين يحاولون الثورة على النظام الاجتماعي، فأقام الصلبان على طول الطريق بين ساحل البحر وروما، وجعل كلما تقدم أميالا صلب جماعة من الأسارى، حتى امتلأت الطريق بين البحر وروما صياحا وعويلا ودماء، وكان كراسوس يظن أن هذا الفوز على الثائرين سيكفل له التسلط على روما، ولكن الشيوخ لم يقدروا هذا الفوز إلا تقديرا متواضعا لأنه كان فوزا على العبيد لا على الجيوش ذات العدة، وقد استطاع كراسوس مع ذلك بفضل ثروته الضخمة وغناه العريض أن يحالف قيصر ويومبيوس، وأن يفرض الثلاثة أنفسهم على روما، وأن يقتسموا الإمبراطورية بينهم، وكانت آسيا نصيب كراسوس، فذهب إليها ومعه جيشه الضخم، ولكنه لم يعد منها كما لم يعد منها جيشه. اندفع إلى حرب البارتيين وغرته قوته ولم تسعفه مهارة ولا سياسة ولا علم بفنون الحرب ولا استماع لنصح الناصحين، فقتل ابنه أولا وقتل هو بعد ذلك ومحق جيشه محقا.
وقد نستطيع أن ننظر من أمر هذه الثورة إلى بطلين من أبطالها: أحدهما سبارتاكوس قائد الثورة، والآخر كراسوس ماحق الثورة، فأما أولهما فقد كان راعيا للقطعان في تراقيا، وقد جلب منها فيمن كان يجلب من العبيد، فتنقل به الرق من مكان إلى مكان ومن يد إلى يد، حتى انتهى إلى صاحب اللعب المصارعين في تلك المدينة الإيطالية، وكان رجلا سمح النفس، طيب القلب، ساذج الطبع، كان راعيا من رعاة القطعان بأوضح ما لهذه الكلمة من معنى، لا يحب قتلا ولا قتالا، ولا يريد شرا ولا خصومة، وإنما يؤثر هذه الحياة السهلة الراضية على خشونتها، يتبع قطعانه في مراعيها، كل همه أن يرد عنها الشر ويصد عنها العدوان، ولكنه لم يستطع أن يرد عنها ولا عن نفسه شرا، ولا أن يصد عنها ولا عن نفسه عدوانا، فأخذ في بعض الغنائم كما أخذت قطعانه، وبيع في بعض الأسواق كما بيعت قطعانه أيضا، وهم سيد من سادته أن يقدمه إلى الموت كما كانت قطعانه تقدم إلى الموت، فهرب فيمن هرب من المصارعين، لا يريد بغيا ولا اعتداء، وإنما يريد أن ينجو بنفسه من أن يكون قاتلا أو مقتولا، وأن ينجو بنفسه كذلك من أن يكون سلعة تباع وتشترى، وأداة تسخر لغير ما تريد، مع أن لها قلبا يشعر، وعقلا يفكر، وإرادة تعرف ما تقصد إليه.
وكان سبارتاكوس رجلا قوي الجسم، مرتفعا في السماء، عريضا في الفضاء، شجاعا لا يعرف الخوف، مصمما لا يحب التردد، قانعا لا يطمع إلا في أن يعيش حرا، ولا يتمنى إلا أن يعود إلى وطنه في تراقيا ويستأنف حياته تلك مع قطعانه ينتقل بها في الرياض والمروج، ولو أطاعه أصحابه لكان من الممكن أن يبلغ من ذلك ما أراد، وقد كان ينصح لهم دائما ويلح عليهم في النصح أن يخرجوا من هذه الأرض الظالم أهلها، وأن يعبروا الألب ويفترقوا بعد ذلك فيمضي كل واحد منهم إلى وطنه، ويستأنف حياته الهادئة التي كان يحياها قبل أن يبسط الرق عليه يده الظالمة، ولكن أصحابه لم يطيعوه ولم يسمعوا له، كانوا قلة ضئيلة ثم أصبحوا كثرة عظيمة، فأعجبتهم كثرتهم ولكنها لم تغن عنهم من الموت شيئا.
ولم يكن سبارتاكوس يبغض شيئا كما كان يبغض النهب والسلب والإغارة على المدن الآمنة، ولو سمع له أصحابه بعد أن رفضوا العودة إلى أوطانهم لاستقروا في هذه الناحية أو تلك من نواحي إيطاليا وعاشوا من كسب أيديهم، ولانتشرت دعوتهم في هدوء وسلم، ولكان من الممكن أن ينعموا بحياة مطمئنة، وأن يدافعوا عن هذه الحياة إن احتاجوا إلى الدفاع عنها، ولكن أصحابه لم يسمعوا له؛ فقد كانت قلوبهم مغيظة محنقة، وكانت نفوسهم ساخطة واجدة، وكانوا مظلومين، فلم يكفهم أن يخرجوا أنفسهم من الظلم، وإنما أرادوا أن يظلموا الناس كما ظلمهم الناس، وأن يذيقوا سادتهم مثل ما أذاقهم سادتهم من الذل والهوان؛ ولذلك اعتدوا على المدن، فحرقوا وخربوا وقتلوا ومثلوا وملأوا أيديهم مما لا يحل لهم من أموال الوادعين الهادئين، فأحفظوا الناس على أنفسهم من جهة وأغروا الضعفاء وأصحاب المطامع باتباعهم من جهة أخرى، وكانوا لا يمر بهم يوم إلا ازداد إقبال الناس عليهم وبغض الناس لهم، فكانوا يستكثرون في كل يوم من الأعداء والأولياء جميعا، وقد هم سبارتاكوس أن يأخذ أصحابه بالحزم ويحملهم على الجادة ويمنعهم من اقتراف الآثام، فأبى بعضهم أن يسمع له وفارقوه إلى حيث لقوا حتفهم، وسمع له الآخرون وقتا ما ثم لم يلبثوا أن ضاقوا بهذه الحياة الهادئة التي يعتدى عليهم فيها ولا يعتدون على أحد، فعادوا إلى سيرتهم وملأوا الأرض من حولهم شرا حتى انتهوا إلى تلك العاقبة التي صورتها آنفا.
وأما قامع الثورة كراسوس فقد كان - كما رأيت - رجلا لا حد لثرائه ولا حد لمطامعه ولا حد مع ذلك لعجزه وقصوره، ولم يكن ماهرا إلا في شيء واحد هو جمع المال يأخذه بحقه قليلا ويأخذه بغير حقه كثيرا، كان مرابيا مفحشا في الربا، ولكنه يشتط على الضعفاء وييسر الأمر تيسيرا للأغنياء وأصحاب الجاه، يأخذ من أولئك أموالهم لأنه لا ينتظر أن يأخذ منهم شيئا آخر، أما هؤلاء فيعطيهم ماله، ولا يأخذ منهم ربحا ماليا؛ لأنه ينتظر أن يأخذ منهم الجاه والسلطان، فلما ارتفع أمره واحتاج إلى جاه الأغنياء وسواعد الفقراء، طابت نفسه عن المال لأولئك وهؤلاء جميعا، فكان يولم الولائم لأهل روما كافة، كان يقيم الوليمة التي تشتمل على ألف مائدة، وكان يتلقى الناس على اختلاف طبقاتهم في كثير من البشاشة والإيناس، كان كما يقول أبو نواس:
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
ولكنه لم يكن يشتري حسن الثناء وحده بالمال، وإنما كان يشتري معه سوء القالة وبغض البائسين، فقد كان يتتبع المحتاجين يشتري منهم ما يملكون بأبخس الأثمان، ولعله كان يدفع الناس إلى الحاجة ويضطرهم إلى أن يبيعوه ما يملكون، كان يتتبع الحريق هنا وهناك ويشتري الدور التي تشب فيها النار، وكان قد احتكر إطفاء الحريق، وألف لذلك فرقة منظمة قوية؛ فكان إذا شبت النار في دار من الدور فاوض المالك في بيعها، ولم يرسل فرقة المطافئ لإطفاء النار حتى يتم البيع، وكان قد احتكر مواد البناء على اختلافها وصناعة البناء على تنوعها، واتخذ من الرقيق والأحرار فرقا تعمل في هذا كله؛ فكانت مدينة روما كلها أو أكثرها ملكا له وكانت له أملاك واسعة في مدن كثيرة أخرى، وكانت له أرض زراعية لا يكاد يبلغها الإحصاء، وكانت غلات هذا كله تئول إلى خزائنه فينفق منها عن سعة ويشتري بها ما يشاء مما يباع وما لا يباع، وكانت هذه الثروة على ضخامتها لا ترضيه ولا تقنعه؛ فقد كان يطمع في السلطان، يريد أن يكون قنصلا وحاكما من حكام الأقاليم وقائدا للجيوش ومنتصرا على الأعداء ومتحكما في الأولياء، وكان يرى أن ثروته يجب أن تبلغه من هذا كله ما يريد، ولم يكن مخطئا؛ فقد كان النظام السياسي والاجتماعي من الفساد بحيث بلغته ثروته من هذا كله ما أراد. اشترى بومبيوس واشترى قيصر واشترى أعضاء مجلس الشيوخ واشترى أصوات الناخبين، وارتقى إلى أعلى مناصب الدولة، وسيطر على آسيا وتحكم في ملوكها، وسعى في كثير من الطغيان والجبروت حتى لقي الموت كما يلقاه غيره من الناس، كأنه لم يملك من الثروة ما ملك، ولم يبلغ من السلطان ما بلغ، ولم يتحكم في أشراف روما وملوك آسيا ما تحكم.
وكذلك قتل زعيم الثورة سبارتاكوس، كما قتل قامع الثورة كراسوس. جاهد أولهما في سبيل حريته وحرية أصحابه وفي سبيل العدل، فظفر بالحرية التي انتهت به وبأصحابه إلى الموت، ولم يظفر من العدل لنفسه ولا لغيره بشيء، بل لم يستطع أن يحقق العدل في معسكره، ولا أن يمنع أصحابه الذين كانوا يطلبون العدل من أن يملأوا الأرض جورا وظلما، وجاهد ثانيهما في سبيل نفسه، فأذل نفوسا لا تحصى وأزهق نفوسا لا تحصى، وأهان الفضيلة في سبيل المطامع وازدرى الحق والواجب في سبيل الشهوات، وخدع الشعب واستذل سلطانه وأكرهه على ما لم يكن يريد، ثم قاد الجيوش لا إلى النصر ولا إلى الهزيمة، بل إلى الموت الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر. كل هذا كان في إيطاليا أثناء القرن الأول قبل المسيح، فأما أحداث العراق فقد كانت تشبه هذا كله من وجوه كثيرة وتخالفه من وجوه كثيرة أيضا، ولم تكن أقل منه هولا على كل حال.
لم يكن عبد الله بن محمد صاحب الزنج غنيا ولا شيئا يشبه الغنى، وأكبر الظن أنه لم يكن شيئا مذكورا، ولولا هذه الثورة لجهله التاريخ كما يجهل الملايين التي لا تحصى من الناس في كل جيل، ولكنه كان - فيما يظهر - ذكي القلب بعيد الأمل دقيق الحس حاد المزاج، ضابطا لأمره مالكا لإرادته، يصبر نفسه على المكروه في غير مشقة ولا جهد. كان يعيش - فيما يقول المؤرخون - ببغداد متصلا ببعض الخدم المعروفين في قصر الخلافة، يرى الفساد يملأ الأرض من حوله، كان يرى فساد السياسة وفساد النظام الاجتماعي وفساد الأخلاق، وعبادة اللذة هنا وعبادة المطامع هناك، كان يرى الحياة من حوله مغامرات لا تنقضي؛ رفيع يتضع ووضيع يرتفع، فقير تنهض به المغامرة إلى الثروة العريضة وغني تنحط به المغامرة إلى البؤس الضيق، وأغمار يأتون من هنا وهناك فإذا هم يرقون إلى أعلى المناصب ويستأثرون بشئون الخلافة ويتحكمون في حياة الخلفاء، كان يرى ذلك من قرب فتنكره نفسه أشد الإنكار. أكانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسا كريمة تحب الخير وتكره الشر وتطمع في العدل وتؤثر المعروف، أم كانت نفسه تنكر هذا لأنها كانت نفسا طموحا تريد أن تشارك فما يشارك فيه المغامرون وأن تأخذ نصيبها من الدنيا؟ مسألة فيها نظر. يرى المؤرخون أنه لم يكن إلا مغامرا شريرا، آثر نفسه بالخير وطمع لها في الرياسة واقترف في سبيل ذلك آثاما يشيب لها الولدان، والمؤرخون لا يسمونه إلا الخبيث واللعين، ولا يصفونه إلا بأنه عدو الله وعدو المسلمين، ولكن بماذا كان المؤرخون يسمونه لو أنه انتصر؟ وبماذا كان المؤرخون يصفونه لو أتيح له الفوز؟
فالناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل
مهما يكن من شيء فقد كره عبد الله بن محمد ما رأى في بغداد، وكره ما كان يحمل إلى بغداد من أخبار الأقطار الإسلامية، فقد كان عرش الخلافة يضطرب أشد الاضطراب، يعبث الأتراك به في الحضرة ويستبدون من دون الخلافة بالأمر ويسومون الخلفاء من الذل والهون ما يريدون، وكان الأمراء والعمال والناجمون في الأطراف يستبدون بما في أيديهم وينشئون الدول المستقلة في الشرق والغرب، يصانعون السلطة المركزية حينا ويبادونها بالعدوان والحرب في أكثر الأحيان، وكان لكل قوي ضعفاء يستذلهم، ولكل غني فقراء يستغلهم، فأي غرابة في أن ينكر عبد الله بن محمد هذا كله، وفي أن يتحدث بهذا كله أو ببعضه إلى نفر من أصحابه، وفي أن يؤامرهم على أن يغامروا كما غامر الناس ويحاولوا تغيير هذا الشر كما حاول الناس من قبل، وكما كانوا يحاولون في أيامه تغيير هذا كله ؛ وقد ارتحل بنيته هذه من بغداد إلى هجر فحاول أن يحدث فيها حدثا، وكاد ينجح لولا أن أثيرت حوله العصبية وكثر القتل بين أصحابه وخصومه، فكرهه الناس وضاقت به هجر، فانتقل منها إلى الأحساء، ثم ضاقت به الأحساء، فانتقل منها إلى البادية، وجعل يطوف بأحياء العرب يدعوهم إلى مذهبه، والعرب يستجيبون له حينا، ويمتنعون عليه حينا آخر حتى ضاقت به البادية أيضا، وجعل يفكر في وجه يقصد إليه ليبدأ مغامرته ولينتهي بها إلى غايتها.
وهنا يتحدث المؤرخون عنه بالأعاجيب فيزعمون أنه أطال التفكير ذات يوم فإذا سحاب يظهر في السماء ثم يبرق ويرعد، وإذا هو يسمع في صوت الرعد، أو ينبئ أصحابه أنه سمع في صوت الرعد أن وجهته يجب أن تكون البصرة، وقد زعم المؤرخون أنه كان يتحدث إلى أصحابه ألوانا من الحديث يزعم أنها من ألوان الغيب، فقد ظهرت له آيات فيما يقول على إمامته، فحفظ سورا من القرآن ألقيت في روعه فجاءة ولم يكن يحفظها من قبل، وكتب له على الحائط كتاب كان يقرأ فيه، يراه هو ولا يراه أحد من أصحابه، وعرضت عليه النبوة فيما قال - أو فيما زعم المؤرخون أنه قال - فأباها، واكتفى بالإمامة؛ لأن أعباء النبوة أثقل من أن يستطيع النهوض بها.
ومن الجائز أن يكون عبد الله بن محمد قد زعم هذا كله أو بعضه لأصحابه؛ فقد كان هذا النحو مذهبا من مذاهب نشر الدعوة ووسيلة إلى إثارة الجماهير، ومن الجائز كذلك أنه لم يقل من ذلك شيئا، وإنما تكلف المؤرخون ذلك غضا منه وتشهيرا به وزراية عليه؛ لأن النجاح لم يكتب له، والشيء الذي ليس فيه شك هو أنه قصد إلى البصرة، وهم أن يثير فيها الفتنة، فنذر به السلطان، وأخذ بعض أصحابه وهرب هو، فعاد إلى بغداد وأقام فيها مع جماعة من رفاقه يحكمون أمرهم، حتى إذا عزل عامل البصرة قصد قصدها، وهناك بدأ مغامرته الخطيرة سنة خمس وخمسين ومائتين بعد أن أنفق في التدبير والتمهيد والتجربة ست سنين.
بدأ مغامرته الخطيرة في رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين؛ اتصل بالرقيق الذين كانوا يعملون حول البصرة في كسح السباخ وفي إصلاح الأرض، وفي استخراج الملح وفي غير ذلك من هذه الأعمال التي سخر أهل البصرة لها عشرات الألوف من الرقيق السود، والظاهر أن أصحاب رءوس الأموال كانوا قساة على هؤلاء العبيد، يسومونهم الخسف ويعنفون عليهم في السيرة ويقترون عليهم في الرزق ويكلفونهم من العمل أكثر مما يطيقون، وآية ذلك أن عبد الله بن محمد لم يكد يتصل بهم حتى استجابوا له مسرعين وحتى تكاثروا حوله، وإذا هو يعدهم ويمنيهم، ويمنحهم الحرية، ويحلف لهم جهد أيمانه أنه سيملكهم الأرض وسيجعلهم سادة يملكون الرقيق، بعد أن كانوا رقيقا يملكهم السادة، وسيملكهم سادتهم، والرقيق يسمعون له ويحفون به، ويفنون في طاعته، وهو يبر لهم بما وعد، ويعطيهم ما مناهم، أليس قد حكمهم ذات يوم في بعض وكلائهم ومواليهم، فأباح لهم أن يطرحوا هؤلاء الوكلاء والموالي وأن يضربوهم بالسياط؟ ثم هو يتخذ من هؤلاء السود قادة ويؤمرهم على الجند ويسوي بينهم وبين البيض الأحرار، يغير بهم على القرى ويغير بهم على السفن، فإذا أحرزوا ما في القرى والسفن، قسمه بينهم لم يفرق بين عبد وحر، فقد أصبحوا جميعا أحرارا، ولم يفرق بين أسود وأبيض، فليس لإنسان على إنسان فضل إلا بالطاعة وحسن البلاء.
وكذلك انتشرت الدعوة بين الرقيق، فتكاثفوا وضخم عددهم، وقلق السادة فأرسلوا إليه يفاوضونه ويخوفونه غدر هؤلاء السود وفرارهم، ويعرضون عليه خمسة دنانير عن كل واحد منهم، فلا يحفل بشيء من ذلك ولا يلتفت إليه، وإنما يمضي في نشر دعوته وتحرير الرقيق من السود، وتأليب الأحرار من الفقراء والبائسين، وإذا هو صاحب جيش ضخم يهتم له السلطان فيرسل إليه الحملة إثر الحملة، وهو ينتصر على ما يرسل إليه من الجيوش، وهو يقهر القائد إثر القائد ويهزم الوالي إثر الوالي، ويزعج أهل البصرة إزعاجا شديدا بعد أن ألقى في روعهم أنهم أصبحوا في متناول يده، ليس عليه إلا أن يبسطها ليأخذهم متى شاء وكيف شاء ، والسلطان المركزي في بغداد يرسل الوالي إثر الوالي والجيش بعد الجيش فلا يظفر بشيء أو لا يكاد يظفر بشيء، حتى أخاف صاحب الزنج هذا القسم من العراق، فأفزع البصرة والأبلة والأهواز، ونشر الرعب حتى اضطر الناس إلى الهجرة والهرب، وهو متنقل بجيشه من مكان إلى مكان، مغير بهذا الجيش على مدينة بعد مدينة، يغير بنفسه حينا، ويرسل أصحابه إلى الغارة حينا آخر، حتى إذا استيقن القدرة على اقتحام البصرة دفع إليها أصحابه دفعا فخربها تخريبا وقتل أهلها تقتيلا منكرا، واستصفى ما كان عندهم من المال، واضطر من بقي منهم إلى الفرار، وأخذ الأسرى من أحرار العرب والعجم من خيار الرجال وكرائم النساء، فوزعهم على أصحابه رقيقا بعد أن كانوا سادة، وعرضهم في الأسواق للبيع والشراء كما كانوا يعرضون الزنج في الأسواق للبيع والشراء، وقد جزع الخليفة المعتمد لهذا الأمر جزعا شديدا، فكلف أخاه الموفق إدارة هذه الحرب، وأعد له جيشا لم تر بغداد مثله منذ عهد بعيد، وذهب الموفق فلقيت جيوشه صاحب الزنج مرة ومرة ومرة دون أن تبلغ منها شيئا، وإنما كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، واضطر الموفق إلى اعتزال هذه الحرب إما يأسا من الفوز وإما لأن الخلافة كانت في حاجة إليه لحرب أخرى في الشرق لم تكن أهون من حرب الزنج شأنا ولا أقل منها خطرا، والمهم أن صاحب الزنج استأثر بالأمر كله في هذا القطر من أقطار الدولة الإسلامية، وملأ العراق رعبا وفرقا ونغص الحياة على أهل بغداد، وسلمت له كور وأقاليم جعل يجبي خراجها وينفق منه على تدبير أمره وتقوية جيشه، وكان هذا القطر من أقطار العراق قد نظم الري فيه أحسن تنظيم وأكمله، فجرت فيه الأقنية والأنهار من كل وجه واتخذت فيه هذه الأقنية والأنهار وسائل للري ووسائل للمواصلات، ثم اتخذت وسائل للحرب أيضا فكانت هذه الأقنية والأنهار دروعا يتقى بها العدو حين تتحارب الجيوش على الأرض، كما كانت هذه الأنهار والأقنية ميادين للقتال حين تتحارب الجيوش على ظهر الماء، وقد اتخذت الأساطيل النهرية من صغار السفن وكبارها، وكانت جيوش السلطان وجيوش صاحب الزنج تلتقي وتقتتل، على ظهر الأرض وعلى وجه الماء.
ولما عظم أمر صاحب الزنج وأصبح خطرا لا على ما يليه من الكور والأقاليم فحسب، بل على عاصمة الخلافة وسلطان الدولة كله، أعاد المعتمد إلى أخيه تدبير أمر الحرب وأطلق يده في أموال الدولة يدبرها كما يشاء وينفق منها كما يشاء، وأطلق يده في جيوش الدولة أيضا يوجهها حيث يشاء ويكلفها من الأمر ما يشاء، ونهض الموفق لهذه الحرب مصمما هذه المرة على ألا يعود حتى يمحق الفتنة محقا، وقد أتيح له ما أراد، ولكن بعد أن بذل أي جهد، وبعد أن احتمل أي عناء، وبعد أن أنفق أي مال، وبعد أن ضحى بعشرات الألوف من الجند وبعد أن عرض نفسه وابنه وقواده لأي مخاطرة، يكفي أن تعلم أنه أنفق في هذه الحملة الأخيرة أعواما متصلة غير قليلة لم يرح فيها ولم يسترح، ولم ينفذ فيها أحكامه وأوامره حسب العرف المألوف، وإنما فرضها دكتاتورية عنيفة شملت أكثر أقطار الخلافة واستغرقت أكثر مرافقها، وينظر الموفق ذات يوم وإذا أخوه أمير المؤمنين قد ضاق بهذه الدكتاتورية ولم يطق صبرا على ما تفرض عليه وعلى جنده من الضيق، وإذا هو يخرج ذات يوم من بغداد قاصدا إلى الغرب، يريد أن يأوي إلى مصر ليعيش في ظل ابن طولون مغاضبا لأخيه، ولكن الموفق كان أحزم من ذلك وأمضى رأيا وأوسع حيلة، فيأمر بعض قواده في الأقاليم أن يتلقى الخليفة ووزراءه وقادته، وأن يقبض عليهم ويردهم إلى بغداد كارهين إن لم يعودوا إليها راضين، والقائد يطيع أمر مولاه، ويرد أمير المؤمنين وأصحابه إلى العاصمة، وقد ضبط الموفق الأمر وأحكمه في الأقاليم التي كانت خاضعة لسلطان الخلافة، ومضى في الحرب لا يعرف هوادة ولا رفقا ولا لينا، يقدم ابنه أبا العباس بين يديه وينتظر منه أن يخاطر بنفسه ليخاطر القواد بأنفسهم وليخاطر الجنود بأنفسهم أيضا، أليس هو يخاطر بنفسه كلما سنحت الفرصة؟!
وكان أمر صاحب الزنج قد بلغ من العلو والارتفاع أن اتخذ لنفسه ولقواده المدن الجديدة، ينشئها إنشاء، ويحصنها تحصينا هائلا؛ فهو يقيم في المدينة المختارة، وقائد آخر يقيم في المدينة المنيعة، وقائد ثالث يقيم في المدينة المنصورة، وقد ملئت الأرض من حول هذه المدن بالجند وأداة الحرب، وملئت الأنهار والأقنية بالسفن، فينشئ الموفق لنفسه مدينة يتخذها قاعدة للحرب يسميها الموفقية، ويجمع فيها كل ما يجتمع في العواصم الكبيرة من المرافق والصناعات التي يحتاج الناس إليها في السلم والحرب، ولا يزال بجيوش صاحب الزنج الأشهر والأشهر، ثم العام بعد العام، حتى يضطرها إلى أن تترك خطة الهجوم وتلتزم خطة الدفاع في مدنها وحصونها، ثم لا يزال بهذه المدن والحصون حتى يستخلصها مدينة مدينة وحصنا حصنا، وحتى يضطر الفلول المنهزمة إلى المدينة المختارة حيث يقيم صاحب الزنج، وإذا الناس يكثرون في هذه المدينة حتى تضيق بهم، وحتى تقصر مرافقها عن إرضاء حاجاتهم، ولكن الموفق يتقدم حتى يضرب حولها الحصار، ويقطع عنها الميرة، وهنا يظهر الموفق من النبوغ والامتياز ما لم يمكن أن يظهره كراسوس في حرب سبارتاكوس، فقوة الموفق هائلة لا تقهر، وهو قادر على أن يأخذ المدينة بالحصار، يضيق عليها حتى يلقي أهلها بأيديهم، وهو قادر على أن يقتحم المدينة وإن كلفه ذلك خسائر هائلة، ولكنه يبدأ فيعرض الأمان على صاحب الزنج، فإذا رفض التسليم مضى في حرب غريبة حقا، فحارب بالرهبة التي لا تعدلها رهبة، وبالرغبة التي لا تشبهها رغبة؛ فهو يبذل الأمان والعفو والخلع السنية لمن شاء من قواد صاحب الزنج وجنوده لا يبخل من ذلك بشيء، فإذا استأمن إليه بعض الناس تلقاه فعفا عنه وأحسن إليه وخلع عليه وكرمه أجمل تكريم، ثم عرضه في سفينة من السفن في هيئته الجديدة ليراه المشرفون من السور فيطمعوا في مثل ما أتيح له من النعيم، وما أكثر ما كان هذا المنظر يطمع ويغري! وما أكثر ما كان قواد صاحب الزنج يتأثرون بهذا الإطماع والإغراء، ويستأمنون للموفق ويصبحون له على قائدهم ورئيسهم ظهيرا!
وإذا أخذ أصحاب الموفق بعض الأسرى وأبوا أن يستأمنوا ضرب أعناقهم، ثم يجمع رءوسهم إلى رءوس الذين يقتلون في الموقعة، ثم ينصب هذه الرءوس على السفن ليراها المشرفون من السور فتمتلئ قلوبهم فزعا وروعا، وقد يقتل القائد الوجيه فيحتز رأسه ثم يرمى به من وراء السور، ومع المنشور من منشورات الموفق قد ملأه الترغيب والترهيب، وكذلك أخاف الموفق كثيرا من الناس، وأطمع كثيرا من الناس، واجتذب إلى نفسه كثيرا من الناس، حتى إذا آن له وقت الهجوم أمر بهدم الأسوار واقتحام المدينة وتهديم الحصون حصنا حصنا، والدور دارا دارا، وجد في ذلك حتى بلغ منه ما أراد بعد مشقة شاقة وجهد عنيف.
كل ذلك وعبد الله بن محمد صاحب الزنج يقاوم كأحسن ما تكون المقاومة، ويدافع كأعنف ما يكون الدفاع، لا تفل عزمه خيانة الصديق ولا يثبط همه قتل الأنصار، وإنما هو يقاوم في مدينته ما وسعته المقاومة، ثم يقاوم في داره حتى تقتحم عليه، ثم يقاوم في كل شبر من الأرض حتى يتفرق عنه أنصاره، منهم من قتل ومنهم من أخذ ومنهم من لاذ بالفرار، وهو قائم يدافع لا يتزحزح عن مكان إلا ليثبت في مكان آخر، حتى إذا أحيط به لم يستسلم ولم يلق السلاح، وإنما قاتل حتى قتل، وحتى احتز رأسه وحمل إلى الموفق، وقد ثبت معه جماعة من قواده دافعوا كما دافع، وأبلوا كما أبلى، قتل بعضهم في الميدان، وأخذ بعضهم إلى بغداد، فقتلوا وصلبوا على شاطئ النهر.
وظن الناس أن ثورة الزنج قد انتهت، ولكنها أعوام تمضي، وإذا ثورة أخرى تظهر في العراق فتملأ الأرض هولا، لا في العراق وحده ولكن في جزيرة العرب وفي الشام، وقد تصل أطراف منها إلى مصر؛ كانت البصرة ضحية ثورة الزنج، ثم صارت الكوفة ضحية ثورة القرامطة. ألم يكن هناك سبب بين هاتين الثورتين؟ بلى قد كان هناك سبب أي سبب؛ طابعهما واحد، هو الخروج على النظام السياسي والاجتماعي والانتساب إلى آل علي، وغايتهما واحدة هي تحقيق العدل في الأرض بعد أن أفسدها الظلم والجور، ونتيجتهما واحدة هي هذا الروع الذي ملأ القلوب وهذا الهول الذي سفك الدماء، وأزهق النفوس ودمر الأمصار، وهذا الجهد الضائع الذي لم يزل ظلما إلا ليقيم مكانه ظلما آخر، والذي يحاول أن ينصف الناس فلا يبلغ من الإنصاف شيئا. أكتب على الإنسانية إذن أن تكون الجهود التي تبذلها في سبيل الإصلاح مضيعة، وأن يصبح الذين يحاولون إزالة الظلم وإقرار العدل أنصارا للظلم وأعداء للعدل؟ كانوا يريدون أن ينقذوا أنفسهم وينقذوا الناس من ظلم الظالمين، فلم يكتفوا بالإنقاذ، وإنما جزوا السادة ظلما بظلم، فكان هذا أول الشر، ثم تجاوزوا ظلم الظالمين من الأعداء إلى ظلم الأنصار والأتباع، فأصبحت الحرية استبدادا، وأصبحت المساواة استئثارا، وأصبح الإنصاف بغيا وعدوانا، ومضت كلمة القضاء في الناس: سعي متصل إلى المثل العليا، وعجز متصل عن تحقيق هذه المثل أو الوصول إليها، وظلم متصل في أثناء ذلك للظالمين وغير الظالمين.
وقد أظهرت ثورة سبارتاكوس رجلين اثنين هما قائد الثورة وقامعها، أما ثورة الزنج فقد أظهرت رجالا كثيرين لا أستطيع بالطبع أن أتحدث عنهم، وإنما ألاحظ مسرعا أنها أظهرت رجلين اثنين من رجال الدولة المحافظين على النظام ، وأظهرت طائفة من الناس كلهم ممتاز خليق أن يحفظ التاريخ اسمه من ناحية الثورة، فلم ينهض بالثورة عبد الله بن محمد وحده، ولم يعتمد فيها على الزنج وحدهم، وإنما نهض معه قوم من أصحابه كانوا في مثل سنه، منهم من خرج من غمار الناس لم تكن له سابقة ولا لأسرته ذكر، كهذا البحراني الذي كان كيالا في وطنه قبل أن تتصل أسبابه بصاحب الزنج، فأصبح بعد ذلك قائدا مجربا، وسياسيا لبقا، ومدبرا داهية، ومنهم من كان من أهل البيوتات، ومن الأسر الأرستقراطية العريقة، كعلي بن أبان المهلبي، هذا الذي ينتسب إلى قامع ثورة الخوارج أيام بني أمية والذي أصبح خارجيا مع صاحب الزنج، والذي أظهر براعة في الحرب ودهاء في السياسة وصبرا على المكروه لا يشبهه فيها إلا أبو العباس ابن الموفق، ومنهم آخرون جاء بعضهم من عرض الطريق فكشفت الأحداث منهم عن رجال أفذاذ حقا ليسوا أقل استعدادا للنهوض بجلائل الأعمال وعظائم الأمور من هذه الأرستقراطية التي احتكرت شئون الحكم احتكارا، فإذا دل هذا كله على شيء فإنما يدل أولا على أن روح المغامرة قد كان شائعا منتشرا في جميع الطبقات، وعلى أن انتشار الثقافة قد فتح للناس وللمغامرين منهم خاصة أبوابا لم تكن تفتح لهم من قبل، وأشعرهم بأن ما يفرض عليهم من نظم الحكم تلك التي اشتملها الفساد، وما يفرض عليهم من نظم الاجتماع تلك التي قامت على الظلم والجور، كل هذا خليق أن يغير، فحاولوا تغييره ما وجدوا إلى ذلك سبيلا. نجحوا أول الأمر هنا وهناك، ثم أدركهم الإخفاق في كل مكان؛ لأن تقدم العقل لم يكن قد بلغ طوره الذي يمكنه من أن يسيطر على الإرادة والغريزة، وأظنك توافقني على أن تقدم العقل لم يبلغ هذا الطور إلى الآن، فما أكثر الثورات التي قامت في العصر الحديث لتغير النظم السياسية والاجتماعية وترد الناس إلى العدل والمساواة، فلم تبلغ من ذلك إلا أقله، وما زال أكثره أملا يرقب ولا يتاح الوصول إليه!
ولنقف وقفة قصيرة جدا عند قائد ثورة الزنج عبد الله بن محمد، وقامع هذه الثورة أبي أحمد الموفق بن المتوكل، فأما أولهما فقد كان رجلا من غمار الناس حقا، زعم المؤرخون أنه انتسب إلى آل علي ولم يكن منهم في شيء، وأنه تردد في سلسلة نسبه إلى زيد بن علي بن الحسين، وزعم المؤرخون أيضا أن نسبه في عبد القيس، وجائز أن يكون نسبه في عبد القيس، وجائز أيضا ألا يكون له نسب في قبيلة من قبائل العرب، وأكبر الظن أنه لم يكن يحفل بشيء من ذلك فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين أصحابه، وإنما كان يتكلف بعض ذلك ليستهوي قلوب العامة ويجمعهم حوله، فقد كانت العامة في العراق وبلاد العرب وأجزاء من بلاد الفرس مؤمنة بأن تغيير النظم السياسية إن قدر له أن يكون فلن يقع إلا على يد علوية تتصل بأهل البيت.
والشيء المحقق هو أن عبد الله بن محمد قد كان رجل حزم وجلد كما كان رجل طمع وطموح. كل شيء في سيرته يدل على صلابة الرأي ومضاء العزم والثبات على المبدأ، والشجاعة التي لا تعرف ضعفا ولا فتورا، والمرونة التي لا تعرف ترددا ولا حيرة أمام المشكلات، وقد يضيف المؤرخون إليه سيئات كثيرة منكرة، وأكبر الظن أنه قد اقترف كثيرا من هذه السيئات، فأسرف في القتل والتدمير، وأنهب أصحابه الأموال، ورد الأحرار إلى الرق كما رد الرقيق إلى الحرية، ولكن كثيرا من سيئاته هذه لا ينبغي أن يحمل عليه وحده، وإنما ينبغي أن يحمل على عصره وعلى الذين كانوا يعيشون في ذلك العصر، سواء منهم من حافظ على النظام القديم ومن أراد تغييره، وكل ثورة خطيرة على النظم السياسية والاجتماعية تستتبع ألوانا من الهول لا يسيغها الخلق ولا يقرها العقل ولا يرضاها الدين، ولكنها تقع مع ذلك لأن الغريزة هي التي تدفع إليها، ولأن الغريزة هي التي تثور، وإذا ثارت، فقل أن تعرف لنفسها حدا تنتهي إليه. والناس يعرفون أهوال الثورة الفرنسية كما يعرفون أهوال الثورة الشيوعية، والناس لا يكرهون الثورة عبثا، وإنما يكرهونها لما تدفع إليه من هول وما تورط فيه من إثم، وما يقترف الناس فيها من المنكرات، ومع ذلك فقد يخطئ المؤرخون، وينسون أنهم يكتبون عن عدو الله الخبيث اللعين صاحب الزنج، قد يخطئ المؤرخون وقد ينسون هذا كله، فيذكرون أمورا تدل على الصدق والرفق، ولا تصدر عن خائن خبيث يتعمد الشر ويتخذ الشيطان له إماما، فهو يأبى مثلا أن يأذن بالإغارة على قرية لأن رجلا من أهلها قتل رجلا من أصحابه، يريد قبل الإيقاع بهذه القرية أن يتبين ويتثبت لعل أهل القرية أبرياء لم يعينوا صاحبهم ولم يشاركوا في إثمه، وهو يلقى بعض أهل القرى وقد أقبلوا يعرضون عليه أموالهم لينصرف عنهم، فيجزيهم خيرا ويترك لهم أموالهم ولا يلقاهم بكيد، وهو يحس أن الزنج يشفقون من أن يتركهم أو يسلمهم لكثرة ما كان يوجه إليه من إغراء، فيجمعهم ويؤمنهم ويطلب إليهم أن يحيطوه بجماعة منهم ترقب سيرته، فإن رأت منه انحرافا عن العهد أو ميلا إلى الإغراء، فتكت به، وهو يوفي عهده، ويثبت على مبدئه، فلا يستأمن حين يعرض عليه الأمان، ولا يستسلم حين يستيئس من الفوز، ولا يحاول أن ينجو بنفسه بعد أن فقد الأمل، وإنما يقاتل حتى يقتل.
أما خصمه أبو أحمد فلم يكن كما رأيت من عامة الناس، وإنما هو من سلالة الخلفاء، أبوه المتوكل بن الرشيد، وقد كانت سلالة الخلفاء من حوله قد أدركها الضعف، وانتشر فيها الخمول، وأترفت حتى تحكمت فيها اللذة، ثم تحكم فيها الرقيق من الخدم في القصور والجند خارج القصور، فظهور أبي أحمد في هذه البيئة المترفة التي أفسدها الترف حتى غلبت على أمرها، وتفوقه هذا الرائع في إدارة السياسة والاقتصاد والحرب، كل ذلك آية على أنه قد كان رجلا نابغة كأكمل ما يكون الرجل النابغة، وقد نظلمه أقبح الظلم إذا وازنا بينه وبين كراسوس قامع الثورة الإيطالية. قد كان أبو أحمد مناقضا لهذا الروماني المترف العاجز الذي أفسده الثراء، فلم يبق له شجاعة ولا خلقا ولا دينا كل المناقضة؛ كان أبو أحمد أشجع بني العباس في عصره، وأشجع من كان يعمل لبني العباس من قادة الترك والموالي عامة، وكان يملك الشجاعة بأروع معانيها وأرفعها، فهو قوي على نفسه، ثم هو قوي على أهله وذوي قرابته قبل أن يكون قويا على غيره من الناس، يخاطر بنفسه في المواقع، ويحمد من ابنه مخاطرته بنفسه في المواقع، فإذا أحس من أخيه أمير المؤمنين ترددا أو ضعفا أو اضطرابا، أخذه بالحزم ورده إلى القصد، وأكرهه على الاعتدال، وإذا رأى من ابنه نفسه بعد الفوز إسرافا في الجموح أو الطموح، قسا عليه أشد القسوة، وألقاه في غيابات السجن، لم يحفل بحبه له وعطفه عليه، والناس يثورون غضبا للأمير الشاب، ولكن أبا أحمد يلقى الثائرين ويردهم إلى الهدوء ويسألهم: أترون أنكم أحب له وأحدب عليه من أبيه؟ وأبو أحمد لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار. كانت شئون الدولة مضطربة أشد الاضطراب، فكان مضطربا مثلها، يدافع الشر حيث ينجم الشر، يحاول أن يقهر ابن طولون في الغرب، ويقمع الثورة في العراق كما يقمعها في شرق الدولة، وحين يعجز عن الحركة، ويضطر إلى لزوم الفراش، فهو يدبر الأمر من سريره، ثم يعاد إلى بغداد، وقد عجز عن الركوب، فيحمل في سرير، يتناوب نقله أربعون رجلا، وهو يحس أن حامليه يشفقون بحمله فيقول لهم في بعض الطريق: وددت لو أني كنت واحدا منكم، أسعى كما تسعون، وأشقى كما تشقون، ولا ألقى من الألم والعجز ما ألقى، ولكنه على ألمه وعجزه، يدبر أمور الدولة إلى آخر لحظة من لحظات حياته، ويفرضها دكتاتورية حازمة لا يعفي من سلطانها ابنه ولا أخاه.
أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن في أحداث التاريخ العربي القديم ما يستطيع أن يلهمهم حين يكتبون النثر أو ينظمون الشعر؟ أليس يرى كتابنا وشعراؤنا أن من حق هذه الأحداث عليهم أن ينظروا فيها بين حين وحين، كما ينظرون إلى أحداث أخرى وإلى ألوان أخرى من التاريخ؟
الأدب بين الاتصال والانفصال
أي المذهبين أهدى سبيلا؟ مذهب الأديب الذي يؤثر العزلة لعقله وقلبه وفنه، وينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة من برجه العاجي، لا يحفل بها ولا يقف عندها، ولا يلتفت إليها إلا أن تكون مصدرا لأثر من آثاره الفنية؛ فهو حينئذ يستوحيها ويستقصيها، ويصدر عنها فيما يرسم من الصور، وما يحدث من الآثار، يقف منها موقفه من الطبيعة غير الواعية، يتخذها مادة لفنه دون أن يشاركها بعقله وقلبه وشعوره فيما يختلف عليها من الأحداث، وما يلم بها من الخطوب.
أم مذهب الأديب الذي يأخذ بحظه من هذه الحياة الواقعة، فيسعد حين تشيع فيها السعادة، ويشقى حين يستأثر بها الشقاء، ويجاهد مع المجاهدين ليكسب لنفسه وللناس، أو قل: ليكسب للناس ولنفسه حظا جديدا من سعادة، وليدفع عن الناس وعن نفسه طائفا عارضا من شقاء؟
هذه هي المسألة التي يلهج بها الأدباء الفرنسيون في باريس منذ وضعت الحرب أوزارها، بل قبل أن تشب الحرب نارها؛ فقد فرضت هذه المسألة نفسها على الأدباء الأوروبيين منذ كان الاصطدام العنيف بين المذاهب في تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية بين الحربين حين عظم أمر الشيوعية في روسيا، وأمر الفاشية في إيطاليا وألمانيا، واجتهدت الديمقراطية التقليدية في أن تثبت بين هذين المذهبين من مذاهب السياسة والاجتماع، وفي أن تدفع عن نفسها خطر الفناء الذي يأتيها من التسلط المطلق للجماعة، ومن التسلط المطلق للفرد، على دقائق الحياة الاجتماعية والفردية على السواء.
فقد وجدت الشيوعية أدباء شاركوا فيها، ودافعوا عنها، وقاموا دونها يحسونها بألسنتهم وأقلامهم، ويحاولون نشرها في أقطار الأرض.
ووجدت الفاشية كذلك أدباء أنفقوا ما يملكون من قوة وجهد في الذود عنها، والقيام دونها.
ونظرت الديمقراطية؛ فإذا الساسة وحدهم هم الذين يناضلون ويجاهدون لحمايتها أول الأمر، وإذا الأدباء لا يحفلون بها ولا يتكلفون حمايتها، وإنما يؤثرون أنفسهم بخيراتها، ويستمتعون في ظلها بما يتاح لهم من الحرية ليحيوا كما يحيون، وينعموا كما يستطيعون، ويكتبوا كما يشاءون والتي يشاءون وفيما يشاءون من الموضوعات.
وأكبر الظن أنهم كانوا خليقين أن يمضوا في طريقهم تلك لا يلتفتون إلى ما حولهم من الحياة الواقعة، لو لم يحسوا الخطر يأتيهم من انتشار الشيوعية والفاشية في بيئاتهم الخاصة التي يعيشون فيها، ولو لم يشعروا بأن هذا الخطر يتغلغل في حياة أوطانهم تغلغلا مخيفا، ويوشك أن يخضعهم لأحد المذهبين اللذين كانا يتنازعان أوروبا بين الحربين.
هنالك تبينوا أن حريتهم معرضة للخطر، وأن ثقافتهم معرضة للزوال، وأن فنهم معرض للفناء، وأنهم مخيرون بين اثنتين: إما أن يفنوا في الشيوعية أو الفاشية؛ فيذهبوا مذهب غيرهم من الأدباء الشيوعيين والفاشيين، وإما أن يمنحوا الديمقراطية التقليدية ألسنتهم وأقلامهم، ويشاركوا أصحاب السياسة في الدفاع عنها والقيام دونها وحمايتها من أن يجتاحها هذا الخطر أو ذاك؛ رأوا ذلك رأي العين، وأحسوه إحساسا قويا ملحا، فاضطروا إلى أن يشاركوا في الدفاع عن الديمقراطية، وذهب بعضهم مذهب الفاشية، وذهب بعضهم الآخر مذهب الشيوعية، وخرج الأدب من عزلته، وانحدر الأدباء من بروجهم العاجية إلى أسواق السياسة وميادين الصراع حول المنافع العاجلة والمصالح القريبة، ونشأت هذه الظاهرة الأدبية التي تسمى التضامن في تبعات الحياة.
ثم كانت الحرب، واضطر كثير جدا من الأدباء إلى ما اضطر إليه غيرهم من عامة الناس من مصانعة العدو أو مقاومته، ومن الانحياز إليه أو التألب عليه، ولم يبق أو لم يكد يبقى أديب أوروبي يستطيع أن يقول إنه محتفظ بعزلته، مستأثر بوحدته، معتصم ببرجه العاجي، ينظر إلى اضطراب الناس من حوله كما ينظر إلى ضوء الشمس حين تشرق، وإلى ظلمة الليل حين تغمر الكون، وإلى الأغصان حين يداعبها النسيم، أو إلى ماء الجدول حين يداعب الحصباء، وإلى الطير حين تملأ الجو غناء وبكاء، وإلى أمواج البحر حين تعصف بها الريح.
أكره الأدباء على أن ينزلوا بأدبهم إلى الحياة الواقعة، وعلى أن يشاركوا الناس في آلامهم وآمالهم، وفيما يتاح لهم من سعادة أو شقاء، حتى الذين آثروا الصمت منهم لم يؤثروا الصمت ترفعا عن المشاركة في الحياة الواقعة، ولا تمنعا على التضامن الاجتماعي، ولا حبا في الاعتصام بالبروج العاجية، وإنما اتخذوا الصمت سلاحا لعله كان أمضى من الكلام أحيانا.
فقد كان العدو المنتصرون يودون بجدع الأنوف لو ظفروا من هؤلاء الأدباء الصامتين بشيء من تأييد، كما كان الصديق المتضامنون مع العدو عن رضا أو عن كره، والذين كانوا يسمون بالكويسلنج يتمنون أيضا بجدع الأنوف لو أتيحت لهم معونة هؤلاء الأدباء الصامتين.
فقد اضطر الأدباء إذن إلى أن يشاركوا في الحياة الواقعة، وإلى أن يختاروا بين المذاهب السياسية والاجتماعية التي كانت تتنازع أوروبا في ذلك الوقت، وأدوا ثمن هذه المشاركة غاليا؛ ضحوا فيها بأنفسهم أحيانا، وبراحتهم أحيانا، وبحريتهم دائما، ثم تضع الحرب أوزارها بين الجند المقاتلين دون أن تضع أوزارها بين الساسة المختصمين.
فالناس لا يقتل بعضهم بعضا منذ حين، وقد انهارت ألمانيا وإيطاليا واليابان، واستسلمت بلا قيد ولا شرط، ولكن الخصومة السياسية حول النظم المختلفة ما زالت قائمة كعهدها قبل أن تشب الحرب، وكعهدها بعد أن شبت الحرب، فما عسى أن يكون موقف الأدباء من هذا الصراع المتصل بين النظم السياسية والاجتماعية؟ أيشاركون فيه بعد الحرب كما شاركوا فيه قبل الحرب وأثناء الحرب، أم يستأنفون حياتهم تلك القديمة؛ فينحاز إلى العزلة منهم من يحب العزلة، ويصعد إلى البروج العاجية منهم من يحب الاعتصام بهذه البروج؟!
وبعبارة موجزة: أيباح للأديب أن يحيا حياة العزلة، وأن يخلص لفنه المحض، وأن ينظر إلى الحياة الإنسانية الواقعة كما ينظر إلى الطبيعة الصامتة يتخذها مادة لفنه ليس غير، أم يفرض على الأديب أن يحيا مع الناس، فيألم حين يألمون، ويأمل حين يأملون، ويشاركهم مشاركة كاملة فيما يجدون من نعيم وبؤس، ومن سعادة وشقاء؟ وبعبارة أشد وضوحا وإيجازا: أينبغي للأدب أن يكون لونا من ألوان الترف، أم يجب على الأدب أن يكون أداة من أدوات الحياة؟
هذه هي المشكلة التي تقيم الأدباء في باريس وتقعدهم منذ حررت فرنسا، وقد يخيل إلى كثير من الناس كما يخيل إلى الأدباء الفرنسيين أنفسهم أنها مشكلة جديدة طارئة، ولكن نظرة يسيرة سريعة في التاريخ الأدبي لأي أمة من الأمم الحية، تكفي لإقناعنا بأن هذه المشكلة ليست جديدة، وبأن حظها من الطرافة ضئيل جدا يوشك ألا يكون شيئا.
فأنت تستطيع أن تنظر إلى أي عصر من عصور الأدب الفرنسي، مثلا منذ أوائل القرن السادس عشر إلى الآن، فسترى أن الأدباء قد انقسموا دائما هذا النوع من الانقسام، فكان منهم المشاركون في الحياة الواقعة، والمؤثرون للعزلة والانفراد، وكان أثر الذين يشاركون في الحياة الواقعة دائما أعظم خطرا، وأجل شأنا من أثر الذين يحبون العزلة، ويعتصمون بالوحدة، ويلزمون بروجهم العاجية ينزلون منها وحيهم الأدبي تنزيلا.
فلست أدري إلى أي حد يمكن أن يقال إن مونتني ورابليه في القرن السادس عشر كانا معتزلين يعتصمان بالبرج العاجي، مع أن الواقع الذي ليس فيه شك هو أن أدبهما يصور حياة الطبقة الفرنسية التي كانا يعيشان فيها أصدق تصوير وأبدعه. وقل مثل ذلك بالقياس إلى الشعراء الذين عاشوا في ذلك العصر؛ فهم قد عاشوا مع طبقتهم عيشة تضامن لا اعتزال، وهم قد صوروا طبقتهم تصويرا صادقا؛ منهم من اتصل بالقصر فصور حياة القصر، ومنهم من عاش من الشعب فصور حياة الشعب.
وكانت الحال كذلك في القرن السابع عشر فلم يكن كورني ولا راسين ولا بوالو معتزلين يلقون وحيهم من بروجهم العاجية، كما كان أبلون يلقي وحيه في معبد دلف، وإنما كانوا يشتقون فنهم من الحياة الواقعة من حولهم، يتخذون مذهب القدماء في الأدب وسيلة إلى تصوير هذه الحياة الواقعة بما فيها من ألم وأمل ومثل عليا؛ فأما موليير فأمره أوضح من أن يحتاج إلى بيان.
أما القرن الثامن عشر، فهو القرن الذي عرف تضامن الأدب مع الحياة الواقعة في أوسع حدوده وأبعد آماده، فمن الخطأ كل الخطأ أن يقال: إن ڤولتير ومونتسكيو وديديرو وروسو كانوا معتزلين أو مترفعين عن الحياة اليومية الواقعة.
والثورة الفرنسية لم تأت من لا شيء، وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة نفسها من جهة، ومن تصوير الأدب لهذه الحياة وتطورها من جهة أخرى، ومن إشعار الأدب للشعب بأن الحياة التي كان يحياها لم تكن تلائم حقه في الحرية والإخاء والمساواة والعدل.
فإذا تركنا هذا القرن ؛ فسنلاحظ أن القرن التاسع عشر كان عصر الصراع بين الأدب، وبين الذين خاصموا الحرية أو حاولوا أن يضيعوا ما كسبه الشعب الفرنسي من ثورته الكبرى؛ وقد احتاج نابليون إلى أن ينظم حربه التي نصبها للأدباء الأحرار، كما نظم حربه التي نصبها لخصومه من الإنجليز والروس والنمسويين، وكانت له شرطته الداخلية ذات النظام الدقيق العنيف، وكان له صرعاه من الأدباء، كما كان له جيشه العظيم وصرعاه من خصومه الخارجيين.
وأكبر الظن أن نابليون لم يحارب الأدباء إلا لأنهم قاوموه، وأن الأدباء لم يقاوموه إلا لأنهم خالفوه في الرأي، ولم يخالفوه في الرأي إلا لأنهم تضامنوا مع الحياة الواقعة، ولم يعتصموا بالبروج العاجية، ولم يؤثروا العزلة وما تستتبعه من العافية على الجهاد مع المجاهدين.
وقد كان للملكية الفرنسية بين الإمبراطوريتين أنصارها وخصومها من الأدباء، وكان لها صرعاها وضحاياها، كما كان لها أصدقاؤها الذين استمتعوا في ظلها بالسعادة والنعيم، وهذا كله لا يدل إلا على أن الأدباء، أو كثرة الأدباء، لم يستطيعوا أن يؤثروا حياة العزلة.
والثورة الفرنسية الثانية سنة 1848، لم تأت من لا شيء وإنما جاءت من تطور الحياة الواقعة، ومن تصوير الأدباء لهذا التطور، ومن إقناعهم للشعب بأن سادته قد أضاعوا عليه ما جنى من الثورة الكبرى، وقد كان للإمبراطورية الثانية صرعاها من الأدباء، وما نظن أننا في حاجة إلى أن نذكر فكتور هوجو، وما أظن أحدا يستطيع أن يقول إن فكتور هوجو ولامرتين كانا من أنصار العزلة وعشاق البرج العاجي، حتى فلوبير الذي أبى أن يحفل بشيء غير الفن، وفرض على نفسه حياة خالصة للأدب وللأدب الخالص، حتى فلوبير لم يستطع أن يمتنع على المشاركة في الحياة الواقعة، والتضامن مع الناس فيما كانوا يجدون من أمل وألم.
ويكفي أن تقرأ قصته الرائعة «التربية الشعورية»
L’Education sentimentale ، وأن تقرأ رسائله، وأن تقرأ كتابه الخالد -
Bouvard et Pécuchet - لتعلم أن برجه العاجي لم يكن إلا ملجأ يأوي إليه ليستعرض ما جنى من مشاركة الناس في حياتهم الواقعة، ثم يعرضه بعد ذلك عليهم في صوره الرائعة التي تدفع إلى العمل، وتملأ القلوب شوقا إلى المثل العليا، وازورارا عن هذه الحماقة التي تعرض الشعب لعبث العابثين.
فإذا كانت الجمهورية الثالثة؛ فالكثرة الضخمة من الأدباء مشاركة في السياسة إلى أبعد حدود المشاركة، وليس من شك في أن جورس، وليون بلوم، وأناتول فرانس، وموريس باريس، وبيجي لم ينتظروا ظهور الشيوعية والفاشية؛ ليشاركوا في الحياة السياسية الواقعة مشاركة تختلف عنفا ولينا باختلاف أمزجتهم وما كان يحيط بهم من الظروف.
وقد عرف الفرنسيون في آخر القرن الماضي أزمة دريفوس تلك التي أكرهتهم جميعا على أن يشاركوا في السياسة مشاركة فعلية عنيفة لم يتخلف عنها عالم ولا أديب.
فإذا لهج الأدباء الفرنسيون الآن بالتضامن الأدبي مع الحياة الواقعة، وإذا أسرفوا في ذكر الأدب المتضامن والأدب المعتزل، فهم في حقيقة الأمر لا يأتون بشيء جديد ولا يواجهون مشكلة جديدة، وإنما هي مشكلة قديمة خالدة، إلى أي حد يستطيع الأدب أن يعتزل الحياة الواقعة دون أن يصبح لغوا من اللغو، وسخفا لا غناء فيه؟ وإلى أي حد يستطيع الأدب أن يشارك في الحياة الواقعة دون أن يضطر إلى الإسفاف الذي يفسده، وإلى الابتذال الذي يلغيه؟ والشيء المحقق فيما أعتقد هو أن الفرنسيين كغيرهم من الأوروبيين، بل كغيرهم من الناس المتحضرين، يمرون بهذه الأزمة العنيفة التي تمر بها الأمم بين حين وحين، والتي تضطر المثقفين وقادة الرأي إلى أن يتجاوزوا عن عزلتهم أكثر مما تعودوا أن يفعلوا، وإلى أن يأخذوا بحظهم من الجهاد اليومي؛ لينصروا هذا المذهب أو ذاك، وليحققوا هذا اللون أو ذاك من ألوان المثل العليا.
وقد صورت في حديث سابق ذلك الصراع العنيف بين العدل والحرية؛ فهذا الصراع لا يمكن أن يتحقق ولا أن تظهر آثاره، ولا أن يؤتي ثمره إلا إذا كان هناك مصارعون يديرون بينهم ما يديرون من هذا الجدال العنيف؛ فالحرية ليست شيئا قائما بنفسه يمكن أن يلتزم خطة الدفاع، أو أن يتخذ خطة الهجوم، والعدل كذلك ليس شيئا قائما بنفسه يمكن أن يتخذ هذه الخطة أو تلك، وإنما الحرية والعدل خصلتان قائمتان في أنفس الناس: هؤلاء يؤثرون الحرية، وهؤلاء يؤثرون العدل، وهؤلاء يؤثرون شيئا وسطا بين ذلك. وهم جميعا يختصمون ويصطرعون، ويجادل بعضهم بعضا، والخصومة بينهم لا تكون بالعمل وحده، وإنما تكون بالعمل والقول، ولعلها أن تكون بالقول أكثر مما تكون بالعمل.
وانتصار الحرية على حساب العدل يعرض الناس جميعا ومنهم الأدباء لحياة قاسية قوامها الظلم. وانتصار العدل على حساب الحرية يعرض الناس جميعا ومنهم الأدباء أيضا، لحياة قاسية قوامها المساواة وفيها شيء كثير من الخضوع؛ فالأديب مضطر إلى أن يدافع عن نفسه؛ لأنه هو نفسه معرض بحكم هذه الأزمة لفقدان الحرية أو لفقدان العدل أو لفقدانهما جميعا.
فالعزلة الأدبية في هذا الوقت ليست إلا حكما بالموت على الأديب، ولولا أن هذه الأزمة العنيفة تثير الشهوات، وتدفع الأهواء إلى الجموح، لما اختلف الأدباء الفرنسيون كما يختلفون اليوم حول الأدب المعتزل والأدب المتضامن.
فالحرية في حاجة إلى أن يدافع عنها أنصارها، والعدل في حاجة إلى أن يدافع عنه أنصاره، والأديب الذي ينحاز إلى نفسه ويعكف عليها ويفرغ لها، لا يزيد على أن يسجل أنه زاهد في الحرية والعدل جميعا، أي: إنه زاهد في الحياة. أو قل: إنه لا يزيد على أن يسجل أنه طفيلي يعيش من كسب غيره، ينتظر أن ينتصر هذا الفريق أو ذاك ليعيش في ظله، وينعم بما يلقى إليه من الفتات.
وهذا الأديب - فيما أعلم - لا يوجد أو لا يكاد يوجد، وفي الحياة بعد ذلك أشياء أخرى غير الحرية والعدل، والناس في حاجة إلى هذه الأشياء؛ فهم يختصمون حولها كما يختصمون حول الحرية والعدل، والأديب مثلهم يحتاج إلى هذه الأشياء كما يحتاج إلى الحرية والعدل، فهو مضطر إلى أن يخاصم ويجاهد ليحقق رأيه في كل مشكلة من المشكلات التي تمس الجماعة وتؤثر في حياتها.
ومن هنا يمكن أن يوجد الأديب الذي لا يخاصم في العدل، ولا في الحرية، ولكنه يخاصم في الدين، أو يخاصم في الإلحاد، أو يخاصم في هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الدين، أو يخاصم فيما شئت من هذه المشكلات الإنسانية التي لا تنقضي والتي تتجدد في كل يوم.
والأدب الفرنسي ليس وحده موضوعا لهذا الخلاف حول التضامن والاعتزال، فالمسألة كما قلت آنفا قديمة لا تتصل بعصر دون عصر، عامة لا تتصل ببيئة دون بيئة، ولا بجيل دون جيل.
أكان الأدب اليوناني مثلا معتزلا أم متضامنا؟ مسألة من شأنها أن تضحك الشعراء والفلاسفة، والكتاب اليونانيين لو أنها ألقيت عليهم؛ فقد كان الأديب اليوناني بطبعه مواطنا يونانيا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ويؤدي واجباته الوطنية، ويشهد الاجتماعات السياسية، ويدافع عن هذا الحزب أو ذاك، ويجني ثمر هذا الدفاع نعيما أو بؤسا وسعادة أو شقاء.
والذين يقرءون الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية يعلمون ذلك حق العلم ويقدرونه حق قدره، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن التراجيديا اليونانية لم تكن تميل إلى المحافظة السياسية، وإن الكوميديا لم تكن تعبث بالديمقراطية، وإن سقراط قد شرب السم؛ لأنه آثر الاعتزال الفلسفي على التضامن مع الحياة الواقعة، وإن أفلاطون لم يغرق في السياسة إلى أذنيه، وإن أرسطاطاليس لم يضطر بحكم السياسة إلى أن يموت غريبا.
ولم يكن الأدب عند الرومانيين أقل مشاركة في الحياة الواقعة من الأدب اليوناني، فربما كان أظهر شيء في الأدب اللاتيني الخطابة، وقد كانت كلها أو أكثرها سياسة، والتاريخ وقد كان كله أو أكثره سياسة.
فأما الشعر فقد حاول أن يتجنب السياسة فلم يبلغ مما أراد شيئا؛ لأن السياسة كانت تفرض نفسها على المواطن اليوناني والروماني فرضا، لا يعنيها أن يكون هذا المواطن أديبا أو حذاء.
وأدبنا العربي أكان متضامنا مع الحياة الواقعة أم كان مترفعا عنها؟ أهو الآن أدب متضامن أم أدب معتزل؟ مسألة لا تخلو من عبرة وعظة، فقد كان أدبنا العربي حيا قويا حين تضامن مع الحياة الواقعة، وكان فاترا متهالكا حين اضطرته الظروف إلى الاعتزال. وما أريد أن أذكر الشعر العربي في العصر الجاهلي؛ فقد كان أمره أوضح من أن يحتاج إلى بيان، كان الشاعر العربي لسان القبيلة، يسجل مآثرها، ويذيع مفاخرها، ويدافع عنها في المواطن التي تحتاج إلى الدفاع، وما كان أكثرها! فقد كان أدبنا الجاهلي، وهو كله شعر، متضامنا لا يطيق الاعتزال ولا يسيغه؛ لأن الشاعر كان فردا من أفراد القبيلة يحيا بحياتها ويشارك فيما يصيبها من خير أو شر، فإن خالف عن هذا التضامن فهو الخليع الذي يجب أن يعيش عيشة الصعاليك، وهو بهذا يخرج عن التضامن مع القبيلة إلى تضامن آخر ليس أقل منه مشاركة في الحياة الواقعة، وهو التضامن مع أمثاله من الصعاليك.
كان أدبنا الجاهلي متضامنا إذن، فأما أدبنا الإسلامي فقد كان تضامنا كله؛ كان تضامنا حين كان الشعراء المسلمون والمشركون يتقارضون قصائدهم دفاعا عن الإسلام أو دفاعا عن حياة قريش قبل أن تسلم قريش، وكان تضامنا حين نشأت الأحزاب السياسية بعد موت النبي، وحين انحاز كل شاعر إلى حزب من الأحزاب يدافع عنه باليد واللسان.
حتى هؤلاء الفحول الذين ظن الناس أنهم فرغوا للشعر وتجاوزوا عن السياسة، لم يستطيعوا أن يفرغوا للشعر ولا أن يتجاوزوا عن السياسة، وإنما انحاز الأخطل إلى بني أمية، وانحاز الفرزدق إلى العثمانية، وعارض الحجاج وغيره من ولاة العراق، وانحاز جرير إلى الزبيريين ثم باع شعره لبني أمية.
وفرغ بعض الشعراء للفن الخالص، فأدركهم الخمول على ما أتيح لهم من الجودة الرائعة، ولعل ذا الرمة أن يكون مثلا صادقا لهؤلاء الشعراء الذين أرادوا أن يعتزلوا فلم يصيبوا من الاعتزال إلا الإخفاق والخمول، وإنا لنبذل ما نستطيع من الجهد لنرد إلى ذي الرمة وأشباهه شيئا من الإنصاف، فلا نكاد نظفر من ذلك بشيء على بعد العهد وتباين الظروف.
وقد ظل أدبنا متضامنا مشاركا في الحياة الواقعة حتى بعد انقضاء العصر الأموي وتغلب الاستبداد الفارسي على القصر في بغداد، والناس يظنون أن تغلب الفرس على العرب بعد الثورة العباسية قد اضطر الأدب إلى شيء من العزلة، وليس هذا بملائم للحق؛ فإني أجد الشعراء في العصر العباسي يختصمون كما كانوا يختصمون في العصر الأموي حول مذهب الشيعة ومذهب الجماعة ومذهب الخوارج.
وليس الكتاب والفلاسفة والفقهاء بأقل تضامنا ومشاركة في الحياة الواقعة من الشعراء، وقد كان تغلب الترك في القرن الثالث على دار الخلافة وعلى السلطان كله خليقا أن يبعد الأدب عن السياسة، ولكنه لم يصنع شيئا؛ فقد كان الترك أقل مشاركة من الفرس في الفن، وأقل منهم احتفالا بهذا الذوق المترف والنحو الرفيع من الأدب، وأشد منهم غلظة في مواجهة المشكلات ومعالجة الخطوب، ولكنهم على هذا كله لم يمنعوا البحتري وأبا تمام وابن المعتز وابن الرومي من أن يشاركوا بشعرهم في السياسة العامة من جهة وفي السياسة الخاصة الطارئة من جهة أخرى.
ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن سينية البحتري وبائية أبي تمام قد صدرتا عن شاعرين معتزلين؟! ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن رسائل الجاحظ قد صدرت عن أديب معتزل لا يشارك في الحياة الواقعة؟! ومن ذا الذي ينكر أن ابن الرومي قد حرض على الزنج واستحث أهل بغداد لنصر الموفق؟! ومن ذا الذي لم يقرأ جدال ابن المعتز لأبناء عمومته من الطالبيين؟! والمتنبي أكان معتزلا للحياة الواقعة أم كان مشاركا فيها؟! أليس من المحقق أن افتتان الأجيال بشعر المتنبي إنما هو نتيجة طبيعية لما كان من تضامن المتنبي في أكثر حياته مع العرب في خصومتهم للفرس والترك، ومع القرامطة في سخطهم على النظام الاجتماعي ومحاولتهم تغيير هذا النظام؟!
وأبو العلاء الذي امتاز بالعزلة وانفرد بهذه الوحدة التي فرضها على نفسه في محبسيه أو في محابسه، والذي ظن أنه قد حقق من هذه العزلة ما أراد مع أنه لم يحقق منها شيئا، أكان أدبه معتزلا أم متضامنا؟ أيستطيع أحد أن ينكر أن أبا العلاء لم يخفق في شيء كما أخفق في محاولته للعزلة؟ أما أنه نجح في عزلته المادية فشيء جائز؛ لأنه لزم داره ولم يخرج منها إلا مضطرا، وأما أنه أخفق في عزلته المعنوية فشيء ليس فيه شك ولا يمكن أن يكون موضوعا للنزاع؛ فلم تخل دار أبي العلاء من الطارئين عليه والملمين به يوما من الأيام، أثناء نصف القرن الذي لزم فيه داره.
ولم ينظم أبو العلاء بيتا من الشعر، ولم يكتب فصلا من النثر إلا كان فيما نظم وما كتب متصلا بالحياة الواقعة أوثق الاتصال وأشده؛ فهذا الشاعر الفيلسوف الذي أنفق حياته طالبا للعزلة، هو الذي أنتج في الأدب العربي أدبا أقل ما يوصف به أنه أدب اجتماعي متضامن بأوسع معاني هذه العبارة وأدقها.
وقد أخفق أبو العلاء في كثير من الأشياء بحكم الظروف التي أحاطت به، ولكنه لم يخفق في شيء كما أخفق في محاولة الابتعاد عن الناس، وأبو العلاء يستطيع أن يقول إنه إنسي الولادة وحشي الغريزة؛ فغريزته هذه الوحشية هي التي ميزته من غيره ودفعت الناس دفعا إلى أن يتهالكوا عليه، واضطرته هو إلى أن يتهالك عليهم أشد التهالك وينكر ذلك على نفسه أشد الإنكار، ويصور هذا في شعره تصويرا بشعا رائعا في هذا البيت:
كلاب تعاوت أو تغاوت لجيفة
وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا
من أشنع الخطأ إذن أن يقال إن أدبنا العربي في عصوره المزدهرة قد كان أدبا معتزلا مترفعا عن الحياة الواقعة أو مهملا لهذه الحياة، وإنما الذين يقولون مثل هذا القول هم الذين غرتهم ظواهر الأشياء عن حقائقها، فلم يروا في شعر الشعراء إلا مدحا وهجاء ورثاء، ولكنهم لم يتعمقوا هذا المدح والهجاء والرثاء، ولم يفهموا هذه الفنون على وجهها، ولم يدرسوا غيرها من الفنون التي طرقها هؤلاء الشعراء، ولم يروا في نثر الكتاب إلا تنميقا وتزويقا وتأنقا في اختيار اللفظ، وتكلفا في تحرير المعاني، وتصنعا في تعقيد الأسلوب، ولكنهم لم يتجاوزوا هذا إلى ما يمكن أن يكون وراءه من مشاركة في الحياة الواقعة أو ترفع عن هذه الحياة.
والغريب أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لا يكادون يفطنون إلى أن أكثر كتابنا إنما كانوا يعملون في المرافق العامة، ويتصلون بالسلطان من قرب أو من بعد، ويتأثرون بالخطوب التي يقتضيها الاتصال بالسلطان والاشتراك في الحياة العامة، ويصورون هذا كله حين يكتبون، سواء أصدروا فيما يكتبون عما يقتضيه العمل أو عما يجدونه في ذوات أنفسهم.
وأنا ألتمس الكاتب العربي أو الإسلامي الذي نفض يده من الحياة العامة نفضا واعتزل الحقائق الواقعة اعتزالا، فلا أكاد أظفر به أثناء هذه العصور الأدبية العربية المزدهرة.
وواضح جدا أن اتصال الأدب بالحياة الواقعة ليس معناه أن ينقطع الأديب عن نفسه، فلا يكتب ولا ينظم إلا فيما يمس هذه الحياة الواقعة. فتصور الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة على هذا النحو ضرب من السخف لا غناء فيه؛ لأن الإنسان، ولا سيما حين يكون على ما ينبغي أن يكون عليه صاحب الفن من دقة الحس ورقة الشعور وصفاء الطبع واعتدال المزاج، لا يستطيع أن ينسى نفسه ولا أن يجحد ما يختلف عليها من ألوان الشعور حين يتصل بظواهر الأشياء وحقائقها.
فإغراق الشاعر في الغناء وإلحاحه في وصف الجمال مهما يكن مظهره، ليس معناه انقطاع هذا الشاعر عن الحياة الواقعة واعتزاله في برجه العاجي، وإنما معناه أنه لا ينسى نفسه كما أنه لا ينسى غيره، وأن ذهنه مهيأ لتلقي الانطباعات مهما يكن مصدرها، ثم لتصوير هذه الانطباعات فيما ينشئ من أثر منظوما كان هذا الأثر أو منثورا.
فإغراق أبي نواس مثلا في وصف الخمر وتهالكه على تصوير أهوائه الجامحة ولذاته الآثمة، ليس معناهما أن أبا نواس قد اعتزل حياة الناس وارتفع أو اتضع بأدبه عن المشاركة في هذه الحياة، بل معناه أنه قد آثر نفسه بمقدار قليل أو كثير من إنتاجه الأدبي دون أن ينسى الحياة الواقعة، وإنما هو يشارك فيها حين يمدح الخلفاء والوزراء والأمراء، ويشارك فيها حين يهجو، ويشارك فيها حين يصور الزهد؛ ومن يدري! لعله يشارك فيها أشد المشاركة حين يغرق في وصف الخمر، وحين يصور الأهواء الجامحة واللذات الآثمة؛ لأنه لم يكن يعاقر الخمر ولا يقارف الإثم وحده، وإنما كان فردا من طبقة ألفت معاقرة الخمر ومقارفة الإثم.
فهو إذن لا يصور نفسه وحدها، وإنما يصور طبقة من معاصريه؛ وهو في هذه الناحية مشارك في الحياة الواقعة حين تكون جدا وكدا ومواجهة للمشكلات، وحين تكون عبثا وهزلا ومجونا ومقارفة للموبقات. وهو من هذه الناحية أيضا مرآة للعصر الذي كان يعيش فيه، أو مرآة إن شئت للون من ألوان الحياة في العصر الذي كان يعيش فيه.
ولولا أن الأدباء يشاركون في الحياة الواقعة بأدبهم لما أمكن أن يلهج مؤرخو الآداب بهذه الجمل التي يلحون علينا بها من أن الأديب صورة لعصره ومرآة لبيئته ومن أن الأدب مصدر من مصادر التاريخ، إلى آخر هذه العبارات التي لا تدل في حقيقة الأمر على شيء إلا أن الأدب متصل بالحياة الواقعة مشارك فيها مصور لها، حافظ بحكم هذا كله لخصائصها التي يمكن أن تنقل من جيل إلى جيل، وأن تصبح بعد ذلك موضوعا لدرس التاريخ.
من السخف إذن أن يقال إن أدبنا العربي قد كان معتزلا للحياة الواقعة، منفصلا عنها في تلك العصور، ومع ذلك فقد يمكن أن نلاحظ أن الشعر مثلا قد نأى عن الحياة الواقعة في بعض عصوره حين غلبت العجمة على الحياة الأدبية، وحين تسلط المستبدون من غير العرب على حياة الشعوب واستأثروا لأنفسهم وخاصتهم بالسلطان كله، ولم يشركوا الشعب في قليل أو كثير من هذا السلطان، وإنما قدسوا سلطانهم ليقدسوا أنفسهم، واحتكروا الأمور العامة وحظروا على غيرهم أن يشارك فيها أو يخوض في ذكرها.
هنالك تضاءلت الصلة بين الأدب والحياة الواقعة العامة، وهنالك عكف الأدباء على أنفسهم وفرغوا لها، وجعلوا يبدئون ويعيدون فيما ورثوا من معاني القدماء، لا يجددون شيئا؛ لأنهم لم يكونوا يصنعون شيئا، فرغوا لأدب لا حياة فيه؛ لأنهم أنفسهم لم يكونوا يحيون، وإنما كانوا مضطرين إلى لون من الحياة يشبه الموت، فصوروا حياتهم كما استطاعوا أن يصوروها.
فالأدب العربي قد اتصل بالحياة العامة حين أتاحت الظروف للأدباء أن يشاركوا في هذه الحياة، وانفصل عن الحياة العامة حين اقتضت الظروف أن يتنحى الأدباء عن هذه الحياة، وربما كان هنالك مثل يبين ذلك في غير غموض ولا لبس، وهو هذا الذي نجده في القرن الأول حين كان الأدب العربي مزدهرا أشد الازدهار، وحين كانت الحياة السياسية قوية أعظم القوة، وحين اضطر فريق من أبناء المهاجرين والأنصار بحكم السياسة الأموية إلى الفراغ والعكوف على أنفسهم ولذاتهم.
هنالك اعتزل عمر بن أبي ربيعة، والعرجي، وابن أبي عتيق، وأمثالهم الشئون العامة، ولكنهم لم يعيشوا في بروجهم العاجية، وإنما عاشوا مع الناس في الحجاز؛ لأن الحجاز كله قد اضطر إلى اعتزال السياسة وتجنب الشئون العامة؛ فكان هؤلاء الأدباء يشاركون في الحياة الواقعة من حولهم؛ لأن هذه الحياة الواقعة كانت ابتعادا عن السياسة واعتزالا للشئون العامة وفراغا للنفس، وتهالكا على اللذات.
وهؤلاء الأدباء مع ذلك لم يحتملوا هذه العزلة راضين عنها محبين لها، وإنما احتملوها على كره منهم وتسلوا عنها بهذا الغزل الرفيع، وهل زاد العرجي على أن صور ألمه وألم أمثاله لهذه العزلة التي فرضت عليهم حين قال:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
على أن العرجي وغيره من شعراء الحجاز في ذلك الوقت قد حاولوا الثورة على هذا الاعتزال الذي فرض عليهم، ولقوا في سبيل هذه الثورة ألوانا من العناء حفظها لنا التاريخ، والأمر لا يحتاج إلا إلى أن نفهم التاريخ على وجهه، وإلى أن نقيس حياة القدماء بحياة المحدثين.
فهناك مشكلة خطيرة هي التي أنشأت مسألة الاتصال بين الأدب والحياة الواقعة أو الانفصال عنها، وهي أن حياة القدماء وحياة المحدثين إلى وقت قريب، لم تكن تعتمد على الديمقراطية التي تعترف بحق الشعوب في الحرية والعدل والمساواة، وإنما كانت تحتفظ بهذا الحق لطبقة ممتازة من الناس، إليها وحدها السلطان، وإليها وحدها الثقافة، وإليها وحدها كل ما يكون الرجل الحر بالمعنى الدقيق، فأما كافة الشعب فكانت أداة مسخرة تجد وتكد وتشقى لتنعم هذه الطبقة الممتازة بالحكم والسلطان وبالأدب والفن وبالفلسفة والعلم.
فما عسى أن تكون الحياة الواقعة العامة بالقياس إلى الأجيال التي جرت أمورها على هذا النحو: أهي حياة الشعب الذي كان أداة مسخرة، أم هي حياة السادة الذين كانوا يستغلون هذه الحياة؟ هذه هي المشكلة التي خيلت إلى كثير من الناس أن الأدب كان معتزلا للحياة العامة، ولكن حقائق الأشياء تدل في غير لبس على أن الأدب لم يعتزل الحياة العامة قط، وإنما الشعوب هي التي أكرهت على اعتزال هذه الحياة العامة ونحيت عنها تنحية.
فالأدب اليوناني الذي كان ينشأ في أتينا إنما كان يحفل بحياة المواطنين الأتينيين، وهؤلاء المواطنون كانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى سكان أتينا وما حولها من المدن والقرى.
والأدب الذي كان ينشأ في البصرة، والكوفة، وبغداد، إنما كان ينشأ للذين يستطيعون فهمه وذوقه من هذه الطبقة التي أتيح لها الامتياز، وهذه الطبقة ضئيلة جدا بالقياس إلى سكان العراق.
والأدب الذي كان ينشأ في باريس، وفرساي في القرن السابع عشر مثلا إنما كان ينشأ لهذه الطبقة القليلة التي كانت تستأثر بالحياة العامة في القصر وخارج القصر، وهي قلة ضئيلة بالقياس إلى سكان فرنسا.
وما ينبغي أن تطلب إلى الأدب أن يتصل بالذين لا يستطيعون فهمه ولا ذوقه، وإنما ينبغي أن تطلب إلى الدولة أن تهيئ الشعب للمشاركة في الحياة العامة أولا، ولفهم الأدب وذوقه ثانيا، ثم تلوم الأدب بعد ذلك إن اعتزل الحياة العامة، وترفع عن الاتصال بالشعوب.
وقد طلب الأدب نفسه إلى أوروبا في القرن الثامن عشر تهيئة الشعب للمشاركة في الحياة العامة، والارتفاع به عن الغفلة والجهل والبؤس، وجاهد في ذلك حتى بلغت الشعوب منه ما أرادت في القرن الماضي وفي هذا القرن، واتصل الأدب بالشعب ما وجد إلى الاتصال به سبيلا.
وبقيت هنا وهناك قلة ضئيلة جدا من الأدباء لم تفطن لما حدث حولها من التطور، أو لم ترد أن تفطن لهذا التطور، فظلت محافظة معتزلة متجافية عن الحياة الشعبية، ولكنها لم تستطع أن تحتفظ بعزلتها وتجافيها، أبت أن تهبط إلى الشعب فارتقى الشعب إليها؛ لأن الشعب إذا أخذ في الثقافة لم يقنع منها بالقليل.
وهذه المشكلة التي عرضت لأوروبا وأثارت فيها هذا الخلاف، قد عرضت لنا نحن وأثارت عندنا هذا الخلاف في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن؛ فقد أدركتنا الحياة الحديثة ونحن على ما كان عليه الناس قبل الثورة الفرنسية : طبقة ضئيلة تستأثر بالحياة العامة؛ فتنعم بالسلطان والثقافة وما يلائمها من الأدب، وشعب مسخر لخدمة هذه الطبقة الضئيلة، لا حظ له من سلطان، ولا من ثقافة، ولا من أدب، في ذلك الوقت كانت الصلة منقطعة أو كالمنقطعة بين الأدب والشعب.
ولكن التطور الحديث لم يلبث أن نبه الشعب إلى حقه، وأن يتخذ الأدباء أنفسهم وسيلة لهذا التنبيه، وإذا هم يتجاوزون الطبقة الممتازة إلى الطبقات المسخرة، وإذا هم يخرجون من تلك العزلة أو قل: يوسعون الميدان الذي كانوا يعيشون فيه؛ ليستطيع أن يتلقى أفواجا من الشعب تستمع لهذا الأدب الذي كان يلقى من وراء ستار؛ فأصبح يلقى في الهواء الطلق تسمع له الجماهير وتنشره الصحف ويسعى إلى القادرين على فهمه وذوقه في الأقطار البعيدة من الأرض.
وربما كان شوقي وحافظ - رحمهما الله - آية بينة على هذا التطور؛ فقد كان شعر شوقي ينشد في القصور، وكان شعر حافظ ينشد في دور الأغنياء وأصحاب الجاه، ثم لم يكد القرن يتقدم حتى أصبح شعر شوقي وحافظ ينشد في الملاعب وينشر في الصحف، وحتى ذاعت دواوين شوقي وحافظ، فتجاوزت طبقة السادة، ووصلت إلى أيدي قوم لم يكن لهم من أمور الحكم والسلطان شيء.
ثم كانت الحرب العالمية الأولى والثورة المصرية، وإذا الحواجز تلغى بين الطبقات، وإذا الشعب يقتحم هذه الحواجز اقتحاما، وإذا الأدباء الذين كانوا يترفعون عن الشعب قد أصبحوا ألسنة لهذا الشعب يعبرون عن نفسه أكثر مما يعبرون عن أنفسهم، ويصورون حياته أكثر مما يصورون حياة أنفسهم.
وقد عرفنا حياة الأحزاب السياسية، وانقسم المصريون بين هذه الأحزاب؛ فعدنا إلى حياة العرب في القرن الأول من جهة: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها، ووثبنا إلى الحياة الأوروبية الحديثة من جهة أخرى: أحزاب سياسية لها أدباؤها وشعراؤها كذلك.
وحقق أدبنا العربي الحديث هذه الصلة الرائعة بين حياتنا القديمة وبين الحياة الأوروبية الحديثة، واستؤنف الاتصال بين الأدب العربي وبين الشعب وحياته الواقعة العامة؛ فأصبح الأدباء مرآة للشعب حقا ينطقون بلسانه ويصورون آلامه وآماله، وقد حاول أديب أو أديبان الارتفاع بالأدب عن الشعب والاعتزال في البروج العاجية، فلم تظفر هذه المحاولة إلا بالإخفاق الفاحش الشنيع.
وكذلك اتصل التاريخ وأصبحت الحياة الحديثة صورة متقاربة للحياة القديمة على ما بينهما من الفروق الهائلة؛ فأدبنا الحديث متصل بحياتنا الواقعة، كما كان أدبنا القديم متصلا بالحياة القديمة الواقعة، والفرق بين الأدبين عظيم؛ لأن الفرق بين الحياتين عظيم جدا؛ حياتنا الواقعة شعبية أو تريد أن تكون شعبية لا يستأثر بها فريق من الناس دون فريق، وأدبنا الحديث شعبي أو يريد أن يكون شعبيا لا ينشئه قوم ممتازون لقوم ممتازين.
والحياة الواقعة القديمة أرستقراطية قد استتبعت أدبا يشبهها، ومن هنا نلاحظ هذه الظاهرة الطريفة ظاهرة الأدب المزدوج في الحياة الواقعة القديمة، والأدب الفرد في حياتنا الحديثة؛ في الحياة الواقعة القديمة أهمل الشعب فعاش عيشته الخاصة، وأنشأ أدبه الخاص، فشاع كتاب ألف ليلة وليلة، وما يشبهه من الأدب الشعبي، وفي حياتنا الحديثة عظم أمر الشعب وأصبح كل شيء، فعني به الأدباء، ولم يحتج إلى أدب شعبي خاص، وإنما اكتفى بهذا الأدب الرفيع الذي كان ينظر إليه من بعيد فأصبح الآن يذوقه، ويتخذه غذاء للعقول والقلوب.
هذه هي قصة الاتصال والانفصال بين الأدب والحياة الواقعة، تظهر خطيرة كل الخطورة حين ننظر إليها نظرا سطحيا، فإذا تعمقناها وبلونا حقائقها رأيناها يسيرة قريبة تنحل إلى شيء يسير قريب، وهو أن الأدب متصل دائما بالحياة الواقعة، فإذا أصبحت هذه الحياة الواقعة شعبية، فليس للأدب بد من أن يكون شعبيا أيضا، وهذا هو الذي تتجه إليه حياة الآداب؛ لأن هذا هو الذي تتجه إليه حياة الشعوب.
الأدب المظلم
ليست حياة الناس كلها وردا، وليست حياة الناس كلها شوكا، وقد أنبأنا شاعرنا القديم منذ عشرة قرون بأن العاقل يشقى بعقله في النعيم، وبأن الجاهل يسعد بجهله في الشقاء، ومعنى هذا أن الحياة شوك بالقياس إلى العاقل الذي يحلل ويعلل، ويحصي ويستقصي، ويحاول أن يرد كل شيء إلى علته، ويستخرج من كل شيء نتيجته، وأن الحياة ورد بالقياس إلى الجاهل الذي يأخذها كما تساق إليه لا يحاول لها فهما ولا تأويلا.
وتستطيع أن تعرض هذه القضية عرضا آخر فتقول: ليست الحياة كلها مشرقة كما يشرق النهار، وليست الحياة كلها مظلمة كما يدلهم الليل، وأكبر الظن أنها تظلم وتدلهم حين يريد العاقل أن يحياها عن بصيرة وفهم، وأنها تشرق وتضيء حين يريد الجاهل أن يقبلها كما تهدى إليه.
وأكبر الظن كذلك أن إشراقها بالقياس إلى الجاهل نفسه لا يخلو من ظلمة تغشاها بين حين وحين؛ فتخفي معالمها وتشوه محاسنها وترد صاحبها على جهله إلى الحيرة حينا وإلى القنوط حينا آخر؛ وأن ظلمتها بالقياس إلى العاقل لا تخلو من ضوء ضئيل نحيل ينفذ إليها أو ينفذ منها كما ينفذ السهم فتشرق له بعض جوانبها لحظات تقصر أو تطول.
وليس في ذلك شيء من الغرابة! فضوء الشمس يحجبه السحاب، وظلمة الليل يجلوها ضوء القمر أو تخترقها أشعة النجوم، والناس كلهم يعلمون أن حياتهم مزاج من الخير والشر، ومن السرور والحزن، ومن الرجاء واليأس، ومن الابتهاج والابتئاس، تختلف حظوظهم من هذه النقائض باختلاف الطباع والأمزجة، وباختلاف البيئة والظروف، وباختلاف هذه المزايا التي ركبت في نفوسهم والتي تعكس لهم الحياة نقية صافية حينا، وكدرة قاتمة حينا آخر.
ولكنهم بعد ذلك يختلفون، أو قل إن أدباءهم وفلاسفتهم يختلفون حين يريدون أن يصوروا لهم هذه الحياة فيما يحدثون من فلسفة، وفيما ينشئون من أدب؛ فبعضهم لا يصور من الحياة إلا صفوها وعفوها، وما يشيع فيها من نقاء وجمال، وبعضهم لا يصور من الحياة إلا شرها ونكرها وما يجثم عليها من فساد وضلال، وبعضهم يتوسط بين ذلك فيصورها شائقة رائقة حينا، ويصورها قاتمة بغيضة حينا آخر.
وليس في شيء من هذا كله جديد؛ فمن الكتاب من يتفاءل دائما، ومنهم من يتشاءم دائما، ومنهم من يأخذ من التفاؤل والتشاؤم بطرف، ولكن الجديد هو أن من الأوروبيين من يلونون هذه الآداب المتباينة ألوانا مختلفة، ويسمونها بهذه الألوان؛ فالأدب الخالص للتشاؤم أدب أسود، والأدب الخالص للتفاؤل، والأدب الملائم بين التفاؤل والتشاؤم يأخذان ما يريد الكاتب أو المتحدث أن يسبغ عليهما من الألوان حين يريد العبث أو الدعابة، وهذا كله لا يزيد على أن يكون نحوا من أنحاء التحذق، وفنا من فون الإغراب.
ولأمر ما لا يكاد الأوروبيون في هذه الأيام يحفلون بأدب التفاؤل، ولا بالأدب الذي يتوسط بين التفاؤل والتشاؤم، وإنما يعنون العناية كلها بالأدب الأسود الذي يخلص للتشاؤم، ويصور الحياة في أبشع صورها وأقبح مناظرها، لا يخفي ولا يحاول أن يخفي من ذلك شيئا، بل يجتهد في إظهار الخفي وتوضيح الغامض، واستكشاف ما لا يهتدي الإنسان إليه من سيئات الحياة، ومن ضعة الحظ الذي كتب للإنسان في هذه الحياة.
وأكبر الظن أن المحن التي امتحنت بها أوروبا في هذا القرن، والخطوب التي صبت على الإنسانية في الحربين العالميتين، وما تكشفت عنه نفوس الأفراد والجماعات من أثرة لا حد لها، وضعة لا سبيل إلى وصفها، وضعف أمام الأحداث، وتخاذل أمام الكوارث كل ذلك قد أظهر الإنسانية على سيئاتها، وكشف لها مخازيها، وعلمها أنها ليست من الرفعة والسمو ولا من الطهر والنقاء بحيث كانت تظن حين كانت حياتها مطمئنة راضية.
وهذه الظاهرة التي نراها الآن في أوروبا، ظاهرة الإقبال على التشاؤم، والإنتاج للآثار القائمة، والإعجاب بالأدب الأسود؛ هذه الظاهرة نفسها ليست جديدة، وإنما هي شيء ألفته الإنسانية منذ أقدم عصورها؛ فهي متفائلة مبتهجة حين تكون حياتها راضية مطمئنة، وهي متشائمة مبتئسة حين تعصف بها الخطوب ويشيع في حياتها القلق والخوف.
وقد نستطيع أن نسجل في هذا الحديث السريع بعض الظروف التي بدت فيها هذه الظاهرة قوية جامحة توشك أن تكتسح كل شيء، وتوشك أن تسبغ على الأدب بنوع خاص هذه الظلمة القاتمة، وهذا السواد المخيف.
والأدب اليوناني بالطبع قد سبق إلى الخضوع لهذه الظاهرة في القرن الخامس قبل المسيح، حين اضطربت حياة العالم المتحضر في ذلك الوقت بالاصطدام بين اليونان والفرس، وحين اضطربت حياة اليونان أنفسهم بالاصطدام بين الأتينيين والإسبارتيين، وليس من شك في أن الهول الذي انتشر في بلاد اليونان بحكم هذه الحروب المتصلة قد حمل العقل اليوناني قبل كل شيء على أن يفكر في الحياة، ويحاول أن يعلل ما فيها من خير وشر، ومن نعيم وبؤس، وهو لم يكد يعرض لهذا الموضوع حتى ثارت أمامه هذه المشكلات الإنسانية الخالدة التي تتصل بالعلاقة بين الإنسان والآلهة، بل بين الإنسان والقضاء الذي يسيطر على حياته ويصرفها كما يشاء هو لا كما يشاء الإنسان.
وليست المأساة اليونانية وآياتها الخالدة إلا مظهرا من مظاهر هذه الحيرة، التي سيطرت على العقل اليوناني حين صور لنفسه هذه المشكلات، وأراد أن يجد منها مخرجا ويلتمس لها حلا.
وكان الجواب الأول الذي ألقاه العقل على الإنسان وصورته المأساة أروع تصوير، هو أن هناك قوة قاهرة ماكرة ليس لأحد عليها سلطان، لا من الناس، ولا من الآلهة أنفسهم، وهذه القوة هي القضاء المحتوم الذي لا يستطيع أحد لأحكامه نقضا ولا تغييرا.
وكل ما في الأمر أن في الوجود طبقتين تتمايزان من جهة، وتتشابهان من جهة أخرى؛ إحداهما: طبقة الآلهة التي لا تخضع لغير القضاء، والتي تمتاز بشيء من القوة وظاهر من الحرية.
والثانية: هي الإنسان الذي لا يخضع للقضاء وحده، أو قل: لا يخضع للقضاء مباشرة، وإنما يخضع له من طريق الآلهة الذين ينفذون فيه الأمر، ويمضون فيه الإرادة المحتومة؛ فالأقدار مثلا قد كتبت على أويدبوس أنه سيقتل أباه، وسيتزوج أمه، وسيكون له منها ابنان يقتل كل منهما صاحبه في موقعة حاسمة، وابنتان تموت إحداهما في سبيل أداء الواجبات الدينية لأحد أخويها حين يدركه الموت، وتأبى الدولة إلا أن تتركه بالعراء نهبا لسباع الطير.
وحظ الآلهة من القدرة إنما هو إنفاذ هذا القضاء، تسخر الإنسان له تسخيرا، تنصح له قليلا وتضلله كثيرا وتعبث به دائما؛ فهي توحي إلى لايوس ملك ثيبة أن سيكون له ابن يرديه، وهي تلقي في روعه أنه إن استطاع أن يتخلص من هذا الابن حين يولد؛ فقد يفلت من هذا القضاء المحتوم. وما تزال تغريه بذلك وتزينه في قلبه حتى يدفع بالصبي حين يولد إلى أحد الرعاة ليقتله ، وقد عاد الراعي إليه فأنبأه بأنه أنفذ إرادته، فيطمئن الملك وينعم بحياة قوامها الغرور؛ لأن الراعي لم ينفذ أمره ولم يصدقه الخبر، ألقت الآلهة في روعه حب الصبي والعطف عليه فلم يقتله، وإنما تركه في حيث استطاع راع آخر أن ينقذه ويكفل له الحياة.
وكذلك عبثت الآلهة بالملك فغرته وأملت له، وعبثت بالراعي فزينت في قلبه الحب والرحمة، وأتاحت للصبي أن ينشأ وينمو ويبلغ أشده ويصبح قادرا آخر الأمر على أن يقتل أباه ويستأثر بعرشه، ويتزوج من أمه وينفذ حكم القضاء؛ فحكم القضاء إذن ضرورة محتومة لا يفلت من سلطانها أحد، وليس الآلهة أنفسهم إلا أدوات لإنفاذ هذا الحكم مهما يظهر من سلطانهم على الناس ومداورتهم لهم، ولكنهم على كل حال يستمتعون بظاهر من الحرية يتيح لهم هذه المداورة.
وقد استطاع العقل اليوناني في هذا الطور من أطواره أن يمنح الإنسان شيئا من الحرية الظاهرة، لا أقول في تغيير حكم القضاء، ولا أقول في التخلص من سلطان الآلهة، وإنما أقول في الثبات لهذا القضاء، والحزم أمام سلطان الآلهة؛ فأويدبوس لا يغير من الضرورة المحتومة شيئا لأنه لا يستطيع تغييرها، وهو ينخدع بوحي الآلهة، فيفر من منفاه معتقدا أنه سيظفر بالحرية كل الحرية نتيجة لهذه المغامرة، وهو يحل اللغز الذي يلقيه عليه ذلك الكائن الغريب أمام مدينة ثيبة، ويظفر بالعرش، ويتخذ الملكة لنفسه زوجا، ويرى أنه قد ظفر بالسعادة كل السعادة، ولكنه لا يلبث أن يتبين أن الآلهة إنما سلكت به هذه الطرق كلها لتنفذ على يده حكم القضاء فتضطره إلى قتل أبيه، ثم لتنفذ فيه هو حكم القضاء فتضطره إلى أن يتزوج أمه ويعقب منها الولد.
فحريته إذن أمام القضاء وأمام الآلهة ليست شيئا، ولكن له مع ذلك نصيبا من الحرية فهو يثبت للكارثة، قد فقأ عينيه، ونفى نفسه من الأرض، ولكنه لا يتهم نفسه بشيء ولا يلومها على شيء، فهو لم يأثم، وإنما كتب القضاء عليه الإثم وضللته الآلهة حتى تورط فيه، ولو خير لاختار، ولو عرف أن هذا الشخص الذي لقيه في الطريق هو أبوه لما قتله، ولو عرف أن هذه الملكة التي أهدت إليه نفسها وعرش زوجها هي أمه لما تزوجها.
وإذن فهو مجبر لا مختار، وإذن فهو لا يحتمل تبعة ولا يستحق لوما، وهو في حقيقة الأمر لا يعاقب نفسه حين يفقأ عينيه ويهاجر من وطنه، وإنما ينفذ حكم القضاء، ويخضع لسلطان الضرورة، لم يكن يملك إلا هذا، ولكنه على ذلك ينكره ويثور عليه، ويرى نفسه بريئا أمام الآلهة وأمام القضاء.
وكذلك نرى الإنسان يعرف نفسه أولا ويعرف ضعفه ثانية، ويعرف أن هذا الضعف لا يأتيه من عند نفسه، وإنما يأتيه من عند هذا السلطان الأعلى الذي يتحكم فيه ويصرف أمره كما يريد، لا يستشيره ولا يستأمره، وإنما يسخره لما يريد تسخيرا.
والمهم بعد ذلك هو أن الإنسان يحقق هذا كله، ويصارح القضاء بأنه غير ملوم .
ومهما يكن من شيء فقد ألقيت المسألة الخطيرة، مسألة الصلة بين الإنسان وبين الآلهة، بل مسألة الصلة بين الإنسان وبين القضاء، والذي يحدث بالقياس إلى أويدبوس هو بعينه الذي يحدث بالقياس إلى غيره من أبطال المأساة، فهم جميعا يمتحنون لا في قدرتهم على الخير، ولا في ترجيحهم بين الحسنة والسيئة، وإنما يمتحنون في احتمالهم للمكروه، وإذعانهم لحكم القضاء، وثباتهم لما ينزل بهم من الملمات؛ فمنهم من يذعن في غير اعتراض، ومنهم من يذعن في شيء من المقاومة، ومنهم من يود لو يثور، فإذا أعجزته الثورة احتفظ بحريته كاملة بينه وبين نفسه، وحمل الآلهة والقضاء تبعة ما يتورط فيه من شر، وما يجري على يديه من أحداث.
فالمأساة إذن في حقيقة الأمر ليست إلا لونا من ألوان التشاؤم حين ينظر الإنسان إلى الصلة بينه وبين هذه القوة المتسلطة التي تحكم لا معقب لحكمها.
ومع ذلك فهذا اللون من ألوان التشاؤم ليس سوادا كله، بل فيه شيء قليل أو كثير من الإشراق؛ لأن فيه شيئا قليلا أو كثيرا من الأمل الذي يأتي من معرفة الإنسان نفسه، من شجاعته عند اليأس، وقدرته على المقاومة، وصبره على المكروه صبرا يأتيه من إرادته لا من شيء آخر، ومن هنا كانت المأساة اليونانية تصويرا لبؤس الإنسان من جهة، ولبطولته من جهة أخرى.
وقد يخيل إلى الناس أن المأساة اليونانية هي وحدها الأدب الأسود في الحياة العقلية اليونانية، ولكن شيئا من التفكير اليسير يظهرنا على أن السواد كان يجلل الأدب اليوناني كله في ذلك العصر المجيد الذي أورث الإنسانية هذا التراث الخالد العظيم.
ففلسفة السفسطائيين في القرن الخامس قبل المسيح لم تكن إلا نوعا من التشاؤم؛ لأنها كانت تنكر الحقائق، وتقيم أمر الحياة كله على التخييل والخداع، لم يكن المهم عند الفلاسفة السفسطائيين أن يعرفوا الحق لأنهم يئسوا من معرفة الحق، وإنما كان المهم أن يلبسوا الحق بالباطل، ويخدعوا نظراءهم من الناس، وواضح جدا أن الفلسفة التي تقوم على اليأس ليست من الإشراق ولا من السطوع في شيء.
والملهاة اليونانية التي كانت تملأ الملاعب ضحكا وتخرج النظارة عن أطوارهم، لم تكن في حقيقة الأمر مشرقة ولا ناصعة، وإنما كان إشراقها تكلفا ونصوعا وخداعا؛ فهي كانت تضحك النظارة من أنفسهم، وتعبث أمامهم بما كانوا يكبرون من القيم، وهي كانت تظفر منهم بالرضا وتضطرهم إلى الإعجاب، ومعنى ذلك أنها كانت تكشف لهم عما في حياتهم الفردية والاجتماعية من السخف الذي لا يستحق منهم إعجابا ولا إكبارا، وإنما يستحق منهم سخرية واستهزاء.
فأرستوفان حين كان يضحك الشعب من حكومة الشعب، وحين كان يعبث بفلسفة الفلاسفة، وسياسة الساسة، وأدب الأدباء، إنما كان يسخر ويحمل الأتينيين على أن يسخروا معه من هذه القيم الفلسفية والسياسية والأدبية التي كانوا يقدرونها ويكبرونها خارج الملعب صادقين فيما بينهم وبين أنفسهم أو كاذبين.
لم يكن أرستوفان يزيد على أن يثبت للأتينيين أن ما كانوا يزهون به على المدن اليونانية، ويزينون به حياتهم لم يكن إلا سخفا وباطلا. ومن هنا نفهم ما يقال في تاريخ الفلسفة من أن سقراط وتلاميذه إنما أنفقوا جهودهم الهائلة الخصبة ليقاوموا هذه النزعات السفسطائية التي تؤيس الإنسان من نفسه، وتفسد الصلة بينه وبين آلهته، وتدفعه إلى نوع من الفوضى لا ينتج له إلا العبث والشك والاستهانة بكل شيء والانتقاض على كل سلطان، وليس يعنيني أن أبين الآن ما أتيح لسقراط وتلاميذه من الفوز بقدر ما يعنيني أن ألاحظ أن الجهود التي بذلها سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس لرد الإنسان إلى شيء من النظام والاستواء، ولتنظيم الصلة بينه وبين هذه القوة العليا التي تدبر أمره، هذه الجهود نفسها قد انتهت إلى الإخفاق.
وقد يكون الأدب اليوناني في عصر سقراط وتلاميذه بعيدا عن التشاؤم، ولكن الشيء المحقق هو أن هذا العصر قد انتهى آخر الأمر إلى تشاؤم الرواقيين والأبيقوريين وأصحاب الشك، وعادت القضية الإنسانية سيرتها الأولى، ووقف الإنسان من الآلهة موقفه القديم الذي كان يملؤه اليأس، ويشيع فيه الإذعان الخالص أو الإذعان الذي تشوبه المقاومة أو الذي كان يدفع إلى الثورة الصريحة التي دفع إليها أبيقور وتلاميذه، والتي أورثت الإنسانية في العصر القديم أروع نماذج الأدب الأسود، ذلك الذي يقطع الصلة بين الإنسان وبين آلهته.
والذي يعلم الإنسان ألا يؤمن إلا بنفسه، ولا يعتمد إلا عليها، ولا يأمل إلا فيها، والذي يعلم الإنسان كيف يبرئ نفسه من الوهم، ويخلصها من خوف الآلهة، ويعصمها من رهبة الموت، ويزهدها في لذات الحياة، ويأخذها بأن تنظر إلى حقائق الأشياء كما هي في غير خداع ولا انخداع.
والذين يقرءون «طبيعة الأشياء» للشاعر اللاتيني العظيم لوكريس يتبينون أن سقراط وأصحابه لم يقهروا الأدب الأسود إلا وقتا قصيرا، وأن هذا الأدب الأسود لم يلبث أن استأنف فوزه وانتصاره وتسلطه في أشكال مختلفة متباينة على عقول الخاصة والعامة جميعا، وواضح جدا أني هنا لا أستقصي ولا أتعمق، وإنما أكتفي بالإشارة والإجمال عن التلميح والتفصيل.
وقد يكون من الخير أن أتجاوز اليونانيين والرومانيين وأدبيهما العظيمين، إلى أدب شرقي ما أظن أنه قد كان أقل منهما تصويرا لهذا الموقف الخطير، موقف الإنسان العاقل من هذه المشكلة المعقدة؛ مشكلة الصلة بينه وبين القضاء - وهو الأدب اليهودي، ويكفي أن يستمتع القارئ بالنظر في سفر أيوب ليرى كيف ألقيت المسألة، وكيف عرضت المشكلة، وكيف ثار حولها الشك، وكيف اقترحت لها الحلول، وكيف انتهى أمرها بالإذعان لقضاء الله الذي لا يستطيع الإنسان أن ينفذ إلى أسراره، ولا أن يتعمق حكمته البالغة.
وليس أدبنا العربي بأقل من هذه الآداب القديمة حظا من الوقوف عند هذه المشكلة والتأثر بها فيما أنتج الأدباء من الشعر والنثر، وفيما أنتج الفلاسفة من الكتب والفصول، وكما أن الاضطراب الذي تعرضت له الأمة اليونانية في القرن الخامس قد أنتج فيها الأدب الأسود الأول، وكما أن الاضطراب الذي نشأ عن حروب الإسكندر وخلفائه وعن حروب الرومان قد أنتج الأدب الأسود الثاني عند أولئك وهؤلاء، وكما أن المحن التي صبت على بني إسرائيل قد أنتجت لهم الأدب الأسود في عصرهم القديم، فكذلك الاضطرابات التي تعرضت لها الأمة العربية بعد الفتوح بحكم الفتن والثورات قد أنتجت لها أدبها الأسود منذ القرن الأول للهجرة، وظلت تنتجه لها إلى أن مات أبو العلاء.
1
فشعر الشيعة المضطهدين، وشعر الخوارج الثائرين، لا يروق لأنه يظهر الحياة جميلة خلابة، ولا يعجب لأنه يظهر لنا محاسن هذا العالم، وإنما يؤثر في النفس لأنه يبين لنا أن هذه الحياة بعيدة كل البعد عن أن ترضي أو تسر، قريبة كل القرب من أن تسخط وتسوء؛ لأن الظلم عليها غالب والفساد فيها شائع، ولأنها قد فقدت شيئا خطيرا لا تطيب الحياة إلا به ولا تستقيم إلا عليه، وهو العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويسوي بين الناس في مواجهة الحياة واحتمال خطوبها، والاستمتاع بما فيها من نعيم ولذة، والشقاء بما فيها من بؤس وألم.
فالشيعة يطلبون العدل الذي يرد السلطان إلى مستحقيه من أهل البيت، والذي يمكن الأئمة أن يملأوا الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، وشعر الشيعة في ذلك الوقت إنما يكتسب سواده وإظلامه من تصوير هذا الظلم الذي صب على المختارين من أهل البيت، فحرمهم الاستمتاع بحقهم، وحرم الناس ما كانوا وحدهم قادرين على أن يشيعوه بينهم من العدل، وعلى أن يسوسوهم سياسة تحملهم على الجادة، وتسلك بهم السبيل الواضحة إلى نعيم الدنيا والآخرة جميعا.
وشعر الخوارج بل أدب الخوارج كله، لا يعجب ولا يروق إلا لأنه يصور ما ينقص حياة الناس من إقرار العدل في الأرض، وتحقيق المساواة بين المسلمين، وهم حين يتغنون بلاءهم في الحروب، وجهادهم لأصحاب السلطان، وسفكهم لدماء المصانعين للحكام، وبيعهم أنفسهم لله يجاهدون في سبيله فيقتلون ويقتلون، لا يصورون حياة ناصعة رائعة، ولا عيشا ناعما سعيدا.
والذين يؤثرون منهم القعود، ويحاولون الاعتذار عن أنفسهم من إيثار العافية، لا يحبون الحياة لأنها خير في نفسها، ولا لأنها تتيح لهم نعيما يستحق أن يحرصوا عليه، وإنما يؤثرون الحياة؛ لأنهم يرونها وسيلة إلى دفع شر لا يدفعه الموت، وإلى تحقيق قليل من الخير قد لا يعينهم الموت على تحقيقه.
فهذا القاعد يؤثر الحياة بأن له بنات عاجزات يخاف عليهن البؤس والشقاء، ويريد أن يعصمهن من الذل والابتذال، وهذا القاعد الآخر يؤثر الحياة لأنه يمتحن بها نفسه ويعودها احتمال المكروه، والصبر على الفتنة، والنفاذ من الخطوب، وهو يراها عبئا ثقيلا يتقرب إلى الله باحتماله، ويتنقل بهذا العبء بين أحياء العرب في البادية، وبين مدنهم في الحاضرة، لعله أن يذيع فيهم كلمة الحق، ولعله أن يحمل بعضهم على الخروج.
فالحياة الواقعة بغيضة إلى الشيعة؛ لأنها قائمة على الظلم، والحياة الواقعة بغيضة إلى الخوارج؛ لأنها قائمة على الظلم أيضا، وأولئك وهؤلاء، وغير أولئك وهؤلاء، يفكرون ويقدرون، ويلتمسون للظلم علله، لعلهم يستطيعون أن يزيلوها فيتاح لهم إزالة الظلم ويلتمسون إلى العدل سبله لعلهم يستطيعون أن يسلكوها؛ فيتاح لهم تحقيق العدل.
وهم حين يفكرون ويقدرون يلقون على أنفسهم هذه المسألة الخالدة: ما موقف الإنسان من القضاء والقدر؟ أحر هو فمن حقه ومن الحق عليه أن يحتمل التبعات، ويخوض إلى الحق والخير والعدل غمرات النضال والجهاد والموت؟ أمجبر هو فينبغي له أن يستسلم وأن يذعن، وأن يستقبل الحياة لا راضيا عنها ولا ساخطا عليها؛ لأنها لا تستحق رضا ولا سخطا، ولأن الرضا والسخط لا قيمة لهما إذا لم يصدرا عن إرادة حرة تستطيع أن تختار وأن تغير من شئون الحياة ما لا تحب؟
وكذلك ألقيت هذه المسألة على العقل الإسلامي وشقي بها الناس، قبل أن يتجاوز القرن الأول للهجرة ثلثيه.
فأما مسألة العدل، فقد ألقيت على العقل الإسلامي في أيام النبي نفسه، وكان الإسلام هو الذي ألقى هذه المسألة حين دعا إلى إنصاف الضعيف من القوي، وإلى تحقيق المساواة بين المسلمين، لا ينبغي أن يتفاضلوا إلا بالتقوى، وقد عرض القرآن وعرضت سيرة النبي على المسلمين صورة رائعة للعدل حببته إلى نفوسهم، وزينته في قلوبهم، ودفعت فريقا منهم إلى الغلو في طلبه، وإلى التشدد في تحقيقه؛ فوجد بينهم من أغضب النبي نفسه حين ألح عليه في تحقيق العدل، حتى قال له النبي: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟!
ووجد بينهم من خاصم الخلفاء وأنكر سيرتهم وأذاقهم معارضة مؤذية، ولقي منهم مقاومة مؤذية؛ فسعد بن عبادة ينفي نفسه من وطنه ويموت غريبا؛ لأنه يرى أن الجماعة لم تعدل حين جعلت الخلافة إلى المهاجرين، وأبو ذر يضطر إلى أن يعيش وقتا من حياته غريبا، وإلى أن يموت غريبا؛ لأنه ينكر سيرة عثمان وعماله في أموال المسلمين.
وكذلك عرف المسلمون منذ القرن الأول للهجرة المشكلتين الخطيرتين اللتين شقي بهما الإنسان دائما: مشكلة العدل الاجتماعي من جهة، ومشكلة الصلة بين الإنسان وبين القضاء والقدر من جهة أخرى. وظهر أثر هاتين المشكلتين في مقدار عظيم من الأدب الإسلامي، حتى أصبح من الممكن أن نقول: إن المسلمين قد عرفوا هذا الأدب الأسود قبل أن ينتصف القرن الأول للهجرة.
على أن هناك أدبا أسود آخر يستحق شيئا غير قليل من العناية؛ لأن مؤرخي الآداب العربية لم ينظروا إليه إلا هذه النظرة اليسيرة السريعة التي لا تحقق شيئا ولا تتعمق شيئا، فهذه الأزمة العنيفة التي ثارت بين الشعراء التقليديين في العراق، والتي أنتجت لنا هذا الهجاء الرائع المروع بين الفحول الثلاثة ومن شايعهم من الشعراء، ما مصدرها؟ وما غايتها؟ وما طبيعتها؟ أكانت لهوا سخيفا يرجع كما يقول المؤرخون إلى هذه الخصومات السخيفة بين حيين من أحياء تميم؟ أمن الحق أن الهجاء قد ثار بين الفرزدق وجرير لهذا السبب اليسير البسيط الذي يذكره المؤرخون؟ أمن الطبيعي أن تثار خصومة غير ذات خطر بين حيين من أحياء العرب في البادية؛ فتنشأ عنها هذه الأزمة الهجائية التي انتشرت في بادية العراق وأمصاره، كما تنتشر النار في الحطب الجزل، والتي فرضت نفسها على جميع البيئات العربية في جميع أقطار الدولة، ثم فرضت نفسها، وما زالت تفرض نفسها، على الأدب العربي كله إلى اليوم وإلى آخر الدهر؟
ألا يمكن أن يكون هذا الهجاء ظاهرة لما كان في الحياة العربية في ذلك الوقت من اضطراب خطير مصدره الانتقال من حياة جاهلية ساذجة إلى حياة إسلامية معقدة، ومصدره أيضا كل هذه المشكلات التي واجهها العرب حين أديل لهم من الفرس والروم، وفتحت عليهم أقطار الدنيا ، وأتيح لهم سلطان لم يكونوا يحلمون به، وثراء لم يكونوا يستطيعون أن يحققوه في أنفسهم، ثم نظروا فإذا هذا السلطان تحتكره قلة ضئيلة من دون سائر العرب على ما كان لبعض قبائلها وأحيائها من سابقة في الشرف والمجد.
ونظروا فإذا هذا الثراء الضخم يتاح لفريق دون فريق، وإذا جماعة منهم ينعمون حتى يبطرهم النعيم، وإذا جماعات أخرى منهم تحرم حتى يضطرهم الحرمان إلى البؤس والاستجداء، وإذا الحفيظة تملأ الصدور، وإذا الغيظ يستأثر بالنفوس، وإذا الحسد يفسد الصلات، وإذا التنافس يجعل بعض الأصدقاء لبعضهم عدوا، وإذا الحياة مظلمة يسبغ الحرمان عليها سوادا حالكا بالقياس إلى بعض الناس، ويسبغ الخوف عليها ظلمة قاتمة بالقياس إلى بعضها الآخر.
وإذا بعض الناس يتتبع مثالب بعض ويحصي عليهم السيئات، وإذا بعضهم الآخر يكيل لهم صاعا بصاع، وإذا الشر يشيع بين هذه الأحياء العربية؛ لأن الله أخرجهم بالإسلام من الظلمات إلى النور، ولكن الزمن لم يكد يتقدم حتى غشيتهم ظلمات جديدة من الفتن وما استتبعت من ظلم وعسف، ومن تنافس حول أعراض الحياة؟
وليس من الضروري أن يكون الشعراء، والذين كانوا يستمعون لهم حين ينشدون، محققين لهذه المعاني كلها في أنفسهم تحقيق الشاعر بها المسجل لها، وإنما يكفي أن تكون هذه الحقائق واقعة في نفسها مؤثرة في نفوس الناس؛ لتؤثر في نظرتهم إلى أنفسهم أولا، وفي نظرتهم إلى الناس ثانيا، وفي نظرتهم إلى الحياة كلها آخر الأمر. ولأمر ما يحرص العرب على أن يستقصي بعضهم مثالب بعض، وعلى أن يحصي بعضهم على بعض السيئات، وعلى أن يذكروا القديم ليحيوا منه ما يسوء الخصم ويسر الصديق، في نفس الوقت الذي بلغ فيه التنافس في السياسة والسلطان وفي المال والثراء أقصى غاياته وأبعد آماده.
والشيء المحقق هو أن الفرزدق حين يهجو جريرا بهذه الخصلة أو تلك من الخصال البغيضة، لا يريد شخص جرير وحده، وإنما ينصب جريرا مثلا لقومه أولا، ولجميع الذين يتصفون بهذه الخصلة من الناس بعد ذلك؛ فهو لا ينحو نحو الفرد، وإنما ينحو نحو الجماعة ونحو الجماعة في أوسع حدودها.
وتستطيع أن تقول مثل ذلك في جرير حين يهجو الفرزدق، وفي غير هذين الشاعرين من الهجائين في ذلك الوقت، فهجاؤهم نوع من النقد العام، ومن الاستقصاء لما كان في الأخلاق من نقص، ولما كان في النظام الاجتماعي من عيب، وليس أدل على ذلك من أن هذا الهجاء قد وجد صداه في النفوس العربية كلها، فتهالك العرب على روايته وحفظه، واختصموا في تقديره وفي تفضيل بعض الهجائين على بعض.
وعنيت السياسة العليا للدولة بهذا الهجاء، فآثر بعض الخلفاء وعمالهم جريرا، وآثر بعضهم الفرزدق، واستطاع عبد الملك أن يؤثر جريرا على الفرزدق، وأن يؤثر الأخطل على جرير، وليس لهذا كله معنى إلا أن تكون هناك صلة بين هذا الهجاء، وبين حقائق السياسة التي كانت تدبر في قصور الخلفاء والأمراء.
فهذه العيوب التي يحصيها بعض الهجائين على بعض عيوب اجتماعية لا فردية في أكثر الأحيان، وهذه القصائد التي تفيض بهذا الهجاء ليست إلا صورا قاتمة لحياة العرب في العراق، كما كان يراها الهجاءون. من هذه الصور ما يسوء ويملأ القلوب حزنا، ومن هذه الصور ما يثير السخرية ويدفع إلى الضحك العريض.
وقد رأيت في أول هذا الحديث أن الأدب الأسود ليس كله حزنا، وأن من الملاهي المضحكة ما هو أشد سوادا من المأساة؛ فالهجاء إذن في ذلك العصر قد كان فنا من فنون الأدب الأسود ابتكره العرب الإسلاميون ابتكارا قبل أن ينتصف القرن الأول.
ولم يكن هؤلاء الهجاءون من الشيعة ولا من الخوارج، وإنما كانوا من الجماعة المحافظة، وإذن فقد كان الأدب الأسود غالبا على حياة العرب أيام بني أمية، على عكس ما يقدر الذين يؤرخون الآداب العربية.
وما أريد أن أتجاوز العراق إلى الحجاز، ولا أن أسأل عن لون الأدب الحجازي في ذلك الوقت؛ فقد بينت في غير هذا الحديث أنه لم يكن صافيا ولا ناصعا، وأن غزل الغزلين ولهو اللاهين إنما كان نوعا من التسلي عن الهم، والتعزي عن الخطوب، والاستعانة بالحب الواقعي أو العذري على نسيان ما كان أهل الحجاز يشقون به من فراغ في الطبقة الغنية وحرمان في طبقة الفقراء، ومعنى ذلك أن أدب الحجاز لم يكن أقل سوادا من أدب العراق.
ولم يكد القرن الثاني يتقدم حتى انتهت هذه الاضطرابات إلى غايتها، فكانت الثورة، وأديل لبني العباس من بني أمية، وأديل للفرس من العرب، فهل عفى هذا كله على آثار الأدب الأسود، وأنشأ مكانه أدبا أبيض ناصعا جميلا؟ مسألة فيها نظر، وأحسبها تنتهي بنا إلى شك مريب؛ فقد نشأ جيل جديد من الشعراء والكتاب، استقبلوا فنونا جديدة من الشعر والنثر، ولكن أكانت نفوس هؤلاء الأدباء مشرقة؟ أكانت آثارهم صورا لهذه النفوس المشرقة؟ لقد لها أهل العراق في القرن الثاني كما لها أهل الحجاز في القرن الأول.
وأكاد أعتقد أن لهو أهل العراق لم يكن أقل سوادا من لهو أهل الحجاز؛ فقد خيبت الثورة آمال كثير من المثقفين الذين كانوا ينتظرون منها خيرا كثيرا، ومن أجل ذلك وجدت الدولة العباسية الجديدة مقاومة من أنصارها بعد أن ظفرت بخصومها، مقاومة بالسيف أحيانا وباللسان دائما؛ فالمنصور يقتل أبا مسلم، ويمكر بعلي بن عبد الله حتى يقتله ، والشيعة العلويون يعارضون الدولة الجديدة بسيوفهم وألسنتهم كما كانوا يعارضون الدولة القديمة، والخوارج ماضون في ثورتهم يظهرون ليستخفوا، ويستخفون ليظهروا.
والمطالبة بالعدل ما زالت قائمة، والنظر في المشكلات الفلسفية يزداد قوة وتعمقا وانتشارا، وبشار يهجو المنصور والمهدي، وابن المقفع يترجم الكتب في التخويف من السلطان، وينتهي أمره إلى موت شنيع، والزندقة تشيع في أمصار العراق، والدولة تنصب لهذه الزندقة وأصحابها حربا لا هوادة فيها ولا لين، وكثير من المثقفين الممتازين يقدمون وقودا لهذه الحرب، وأظن أن شيئا من هذا كله ليس من شأنه أن يدعو إلى إشراق النفوس، ولا إلى إنتاج الأدب المشرق.
ونظرة سريعة إلى الأدب الذي كان ينشأ في ذلك الوقت تظهرنا على أنه لم يكن في جملته صفوا ولا عفوا ولا رائقا؛ لأن حياة الأدباء لم تكن صافية ولا رائقة؛ فقد قتل بشار وقتل ابن المقفع وقتل غيرهما وسجن آخرون؛ فإذا رأيت ابن المقفع يخوف من السلطان، وإذا رأيت بشارا يهجو السلطان، ويسخر من الرعية، وينكر الدين، أو يفضل النار على الطين والشيطان على الإنسان، وإذا رأيت أبا العتاهية يزهد في الحياة ويبغضها إلى الناس، وإذا رأيت أصحاب المجون يسرفون على أنفسهم ويسخرون من كل شيء في غير تحفظ ولا احتياط - إذا رأيت هذا كله فسل نفسك: أكانت الحياة رائقة تنتج أدبا رائقا، أم كانت قاتمة تنتج أدبا قاتما شديد الإظلام؟
وما ينبغي أن تخدعنا ظواهر الأمور عن حقائقها؛ فنحن نرى في الشعر مدحا للخلفاء والوزراء وقادة الدولة وسادتها، فنستنبط من هذا المدح، كما تعود مؤرخو الآداب أن يستنبطوا أن الأدباء كانوا راضين عن الخلفاء والوزراء، وعن القادة والسادة، وأنهم كانوا يهدون إليهم المدح مخلصين.
ونحن نقرر في الوقت نفسه أن المدح كان يشترى بالمال، وأن الشعراء كانوا يتنافسون في إرضاء القادرين على منح الجوائز الضخمة، ثم نحن لا نلائم بين هاتين الحقيقتين الواقعتين، أو لا ننتهي من هذه الملاءمة إلى غايتها، فنقرر حقيقة واقعة ثالثة، وهي أن كثرة هذا المدح لم تكن إلا رياء ووسيلة إلى كسب الحياة، وإلى كسب ما يحتاج إليه الأحياء من ألوان الترف والنعيم.
وليس أدل على ذلك - إن احتاج ذلك إلى دليل - من أن بشارا كان يمدح الخلفاء والسادة ليأخذ جوائزهم، وكان يهجوهم إذا خلا إلى نفسه وإلى شياطينه.
ونحن نرى في شعر الشعراء في ذلك العصر لهوا وعبثا ومجونا، فنستنبط من هذا كله متعجلين أن الحياة كانت رائقة شائقة وجميلة خلابة، وننسى أن الإسراف في العبث والغلو في المجون والإغراق في اللذات، كل ذلك لا يدل إلا على اختلال الموازين وفساد القيم، وانحراف الناس عن الجادة، وحاجتهم إلى أن ينسوا أنفسهم ويتسلوا عن همهم.
وأقل ما يمكن أن تدل عليه موجة الاستهتار التي اكتسحت بيئات الأدباء في البصرة والكوفة وبغداد، هو أن هؤلاء الأدباء كانوا قد انتهوا إلى لون من ازدراء التقاليد والاستخفاف بالسنن الموروثة والاكتفاء أو الاستعانة بانتهاز الفرص على احتمال الحياة.
ونحن إذا استقصينا الشعر الذي كان يقال في ذلك العصر رأيناه ينحل إلى مدح يصور الرياء في جملته، وإلى هجاء يصور ما في الحياة من خلال تستحق المقت، وإلى مجون يصور الحاجة إلى الهرب من هذه الحياة والتخفف من أثقالها، ثم إلى زهد يصور النظر إلى الحياة على أنها جد، ولكنه جد يشيع اليأس في النفوس، ويدفع العاقل إلى أن ينسى حاضره ويتسلى عن يومه ليفكر في غده، وليستعد لما يهيأ له بعد الموت.
ومع هذا كله فقد أخذ العقل الإسلامي يظهر عناية شديدة بالمشكلة الفلسفية الكبرى، مشكلة الاختيار والجبر، وما تستتبع من مشكلة الأمل واليأس، كما أخذ العقل الإنساني يتعمق النظر في شئون الحياة اليومية على اختلاف فروعها، فينكر أكثرها، ولا يكاد يعرف منها إلا القليل.
ونكاد نحس منذ هذا العصر أن التشاؤم قد أخذ يتصور مذهبا مستقلا له عماده الفلسفي، وله في الوقت نفسه وسائله الأدبية؛ فلم يكن بشار متفائلا، بل لم يكن بشار من التفاؤل في شيء، وإنما كان ساخطا متشائما، يقيم سخطه وتشاؤمه على إخفاقه في إرضاء عقله حين التمس إرضاء هذا العقل في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين، فلما لم يظفر بشيء صار إلى هذا الشك البغيض.
وكل ما في الأمر أن التشاؤم يكون باسما أحيانا، وعابسا أحيانا أخرى، وقد يتحول ابتسامه إلى ضحك شيطاني عريض، وقد يتحول عبوسه إلى يأس من كل شيء وقنوط حتى من روح الله، يختلف هذا كله باختلاف المزاج والطبع والبيئة.
وقد كان تشاؤم بشار هادئا باسما أحيانا، وشيطانيا مقهقها في أكثر الأحيان، وليس لهو بشار وتصويره لهذا اللهو فيما روي لنا من شعره إلا مظهرا لهذا التشاؤم، وأحسب أن العابثين من أصحاب بشار كانوا يذهبون مذهبه حين يحسون الإخفاق في إرضاء العقل، وينتهون إلى الشك فيستهزئون بكل شيء، ويسخرون من كل شيء، وينتهزون فرص الحياة.
وما أرى إلا أن حمادا، ومطيعا، ووالبة، وأمثالهم من أصحاب الخلاعة والمجون قد تعرضوا لنفس الأزمة الفلسفية التي تعرض لها بشار، وخرجوا منها على نفس النحو الذي نحاه بشار حين خرج من أزمته.
ومن شباب هذا العصر من تعرض لمثل ما تعرض له بشار، ولكنه لم يخرج من أزمته إلى اللهو والمجون والشك، وإنما خرج منها إلى الجد، فعني بفنون من الحياة يستطيع العقل أن ينتج فيها دون أن يتعرض لمحنة، أو يواجه هذه المشكلات التي لا حل لها، والمؤرخون يحدثوننا عن فقهاء وزهاد عاصروا بشارا وأصحابه، وسلكوا معهم طريقهم الفلسفية، وكادوا يتعرضون لليأس، فشغلوا أنفسهم بالفقه والزهد والنسك عن مواطن الزلل هذه.
ثم يتقدم القرن الثالث، وإذا أمور المسلمين تزداد تعقدا، ويشتد فيها الحرج، وينتشر فيها الاضطراب؛ ثقافة ممتازة تتغلغل إلى بعض طبقات الشعب، وثراء ضخم يزداد انحصاره في أيدي قلة ضئيلة مستأثرة بالحكم، وضعف للسلطان السياسي، وتعمق لمشكلات الفلسفة، وشعور واسع عميق بهذا التفاوت المنكر بين الطبقات، ثم تبرم بهذا التفاوت، ثم إنكار له، ثم ثورة عليه، وإذا ثورة الزنج توشك أن تثل عرش الخلافة، وأصحاب الأقاليم ينتهزون هذا الضعف فيستقلون بأقاليمهم، والأدباء يرون هذا كله ويفكرون فيه ويتأثرون به، ومنهم من شارك في بعضه، وإذا هم يصورون هذا فيما يقولون من شعر وما يكتبون من نثر.
وقد يكون ابن الرومي مضطرب الأعصاب، فاسد المزاج، قد خلق مهيأ للتشاؤم، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الحياة من حوله لم تكن تصده عن التشاؤم وتغريه بالتفاؤل، وآية ذلك أنه أنفق حياته متشائما، وأن حياته هذه المظلمة قد انتهت به إلى أن يموت مسموما.
وقد يكون ابن المعتز قوي الأعصاب، معتدل المزاج، قد خلق مهيأ للتفاؤل، وحاول أن يتفاءل، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أنه لم يجد في الحياة من حوله ما يغريه بالتفاؤل العميق، وإنما وجد ما يسليه عن هموم الحياة وأحزانها، فتسلى بالشعر والعلم والأدب وشيء من الترف، ثم بدا له ذات يوم أن يواجه الحياة كما تعود بنو أبيه أن يواجهوها؛ فلم يكد يفعل حتى أدركته حرفة الأدب، وقتل قبل أن تتم له البيعة بالخلافة.
ولا يكاد القرن الرابع يظل العالم الإسلامي الشرقي، حتى يكون الكتاب قد بلغ أجله، وحتى تصبح حياة المسلمين في الشرق شرا كلها، لا يتفاءل فيها إلا خفاف العقول، أو الذين انتهى بهم الشك الفلسفي إلى أقصاه؛ فأما الذين لهم حظ من عقل راجح وبصيرة نافذة فمتشائمون؛ لأن كل شيء يضطرهم إلى أن يتشاءموا.
لم تكد ثورة الزنج تخمد حتى ثارت في أعقابها ثورة القرامطة، وإذا اللهب ينتشر في الشرق العربي كله، وفي الوقت نفسه تنشأ دولة الشيعة في شمال إفريقية، ويكاد الشرق الأعجمي ينفصل عن الخلافة انفصالا.
وما ينبغي أن نطيل فيما لا يحتاج إلى الإطالة، فقد كان كل شيء في ذلك العصر يمهد لنشأة الشاعر المتشائم العظيم أبي الطيب المتنبي الذي لم يتشاءم بعقله ولسانه فحسب، وإنما هم أن يتشاءم بسيفه فلم يفلح، وهو على كل حال مؤسس التشاؤم الفلسفي المنظم في الشعر العربي، أسسه قبل أن يبلغ العشرين، وأتم بناءه قبل أن يدركه الموت؛ نظر إلى الحياة اليومية فضاق بما كان يملؤها من فساد، وضاق بالنظام السياسي والاجتماعي الذي كان يعرض الناس لهذا الفساد، ثم احتقر الناس لأنهم قبلوا هذا النظام أو أذعنوا له، ثم سمت همته المتشائمة إلى ما هو فوق الناس وفوق نظمهم السياسية والاجتماعية، وإذا هو يسأل عن الموت، ويسأل عن الحياة، ويسأل عن الحرية، ويسأل عن الجبر، وإذا هو ينكر الحياة إنكارا ويراها شرا قد أكره الإنسان عليه إكراها.
فلم يكن أبو العلاء إذن تلميذا للمتنبي في فنه الشعري وحده، وإنما كان تلميذا له في تشاؤمه الفلسفي قبل كل شيء، وقد بينت في غير هذا الحديث أن أكثر أصول الفلسفة العلائية المظلمة قد سبق إليه المتنبي، فألم به إلمامات قصيرة دون أن يحاول تفصيله أو تنفيذه.
وجاء أبو العلاء بعد موت المتنبي بعشر سنين، فلم يكد يفقه الشعر حتى قرأ المتنبي وتأثر به، وجعل يلقي على نفسه الأسئلة التي كان يلقيها المتنبي على نفسه، وقد أحاطت بأبي العلاء ظروفه المعروفة، فقاوم التشاؤم ما وجد إلى مقاومته سبيلا، ولكنه لم يبلغ الثلاثين حتى خطا الخطوات العقلية والعملية التي لم يتح للمتنبي أن يخطوها.
وإذا هو يتخذ من التشاؤم عقيدة وسيرة في وقت واحد، وإذا هو يذهب في تشاؤمه نفس المذهب الذي يذهبه كفكا المتشائم الأوروبي الحديث فيما كتب بين الحربين العالميتين؛ فيرى أن نفسه سجينة في جسمه، وأن جسمه سجين في الأرض، أو قل في العالم.
فأبو العلاء يحدثنا بأن الإنسان لا يستطيع أن يأبق من ملك الله، فيخرج من أرضه وسمائه، فنفسه سجينة في جسمه إذن، وجسمه سجين في هذا العالم المحدود مهما تتسع أرجاؤه وتبعد آفاقه؛ فما يمنع أن يجعل هذا السجن الفلسفي حقيقة عملية واقعة، وأن يلزم نفسه سجنا ضيقا لا يعدوه، وأن يعيش في هذا السجن هذه العيشة الغليظة التي يضطر إليها السجناء.
هذا الشعور العلائي هو الذي وجده كفكا وصوره في كثير من آثاره تصويرا مشابها أشد المشابهة لتصوير أبي العلاء في اللزوميات، وفي الفصول والغايات، ولكنه لم يلزم نفسه دارا ضيقة محدودة كما فعل أبو العلاء.
فأنت ترى من هذا كله أن التشاؤم الفلسفي في الأدب بعيد كل البعد عن أن يكون ظاهرة موقوتة بعصر من العصور، أو مقصورة على جيل من الأجيال، أو محصورة في أمة من الأمم، وأنت ترى أيضا أن ما يسميه الأوروبيون الآن أدبا أسود ليس له من الجدة والطرافة هذا الحظ الذي يتصوره بعض الكتاب الغربيين؛ فقد تشاءم اليونان، وتشاءم الرومان، وتشاءم اليهود، وتشاءم العرب.
ولست أشك في أنك لا تكاد تدرس أدبا من الآداب على اختلافها وعلى اختلاف العصور والبيئات والأجيال إلا رأيت فيه ظلا من التشاؤم قويا أو ضعيفا، ممدودا أو مقبوضا، يختلف هذا كله باختلاف ما لأصحاب هذا الأدب من تعمق الثقافة، ومحاولة لحل المشكلات الفلسفية الخالدة.
ومصدر هذا فيما يظهر أن الفطرة الإنسانية مركبة من عناصر مختلفة يمتاز منها عنصران متناقضان؛ أحدهما: طموح لا حد له يدفعه إلى الأمام.
والآخر: قصور لا حد له يرده إلى وراء أو يقفه في مكان لا يعدوه.
فهو دائما موضوع للنزاع بين هذين العنصرين؛ فإن كان غافلا أو محدود الثقافة قبل الحياة كما هي؛ فاندفع حين تدفعه الظروف، ورجع أدراجه حين تضطره إلى الرجوع، ووقف مكانه حين تكرهه على الوقوف، وإن كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، دقيق الحس، بحث واستقصى، وساءل عن مكانه من هذين العنصرين اللذين يتجاذبانه، وساءل كذلك عن حريته أو عن حظه من الحرية التي تتيح له إن أراد أن يستجيب للعنصر الذي يقوده إلى أمام، أو أن يستسلم للعنصر الذي يرده إلى وراء، أو أن يثور على العنصرين جميعا فيمضي كيف يشاء وحيث يشاء؛ ولا يكاد يسأل عن هذا الحظ من الحرية حتى يدركه التشاؤم؛ لأنه يرى أن هذه الحرية محدودة بحدود لا سبيل إلى تجاوزها، منها ما يأتي من الطبيعة، ومنها ما يأتي من الجماعة، وهو قد يحاول الثورة على هذه الحدود أو تلك، ولكنه يرد آخر الأمر مخذولا مدحورا.
وقد لاحظ أبو العلاء كما لاحظ المتشائمون من قبله ومن بعده أنه دفع إلى الوجود دون أن يستأمر أو يستشار، وأنه يدفع إلى الموت دون أن يستأمر أو يستشار أيضا؛ فسأل نفسه وسأل غيره، كما سأل المتشائمون من قبله ومن بعده: لماذا دفع إلى الحياة؟ ولماذا يدفع إلى الموت؟ وما الذي يراد منه بين الحياة والموت؟ وما الذي يراد به بعد أن يموت؟ وهو لم يتلق على هذه الأسئلة جوابا يرضي عقله ويشفي حاجته إلى الوضوح، فوقف موقف الحائر الذي يضيق بكل شيء، ويضيق بنفسه قبل كل شيء؛ لأنه لا يفهم علة ولا غاية لشيء من الأشياء.
وقد أراد أبو العلاء أن يمتحن حريته ليعرف أحق هي أم باطل؟ ففرض على نفسه ألوانا من الشدة المادية والفلسفية والفنية، وخيل إلى نفسه أنه إن احتمل هذه الشدة وصبر لها كما ينبغي فقد يدل ذلك على أن له من الحرية حظا، ولكنه لم يكد ينفق أعواما في احتمال هذه القيود التي فرض على نفسه وتمرن على احتمالها، حتى شك في حريته، ثم استيأس منها، ثم اعتقد أنه دفع إلى هذه القيود بنفس القوة القاهرة التي دفعته إلى الحياة، والتي تدفعه إلى الموت.
وقد يتاح لي، وقد يتاح لغيري من الدارسين لأبي العلاء، أن نستقصي أصول فلسفته المتشائمة، وأن نوازن بينها وبين فلسفة المتشائمين المحدثين، وأكبر الظن أننا سنصل إلى نفس النتيجة التي وصلنا إليها حين وازنا بين الفلسفة العلائية المتشائمة، وبين فلسفة المتشائمين القدماء، وهي أن المحدثين لم يكادوا يزيدون على أصول الفلسفة العلائية شيئا، ولكنهم زادوها تفصيلا وتوضيحا، كما أن أبا العلاء لم يزد على فلسفة المتشائمين القدماء شيئا، وإنما وضح منها الغامض، وفصل منها المجمل، أتيح له من الثقافة والتجربة ما لم يتح للذين سبقوه، كما أتيح للمتشائمين المحدثين من الثقافة والتجربة ما لم يتح لأبي العلاء.
فالمشكلات التي تدفع إلى التشاؤم واحدة على اختلاف العصور والأجيال والبيئات، ولكن الوسائل التي تتخذ لمواجهتها ومحاولة حلها، هي التي تختلف باختلاف حظ العقل من الرقي ونفوذه إلى أسرار الطبيعة ودقائق الحياة، والغريب أن هذه المشكلات لم تزل قائمة لم تجد لها الإنسانية حلا على اختلاف ما أتيح للإنسانية من رقي العقل، وتقدم العلم ، واتساع المعرفة، واختلاف وسائل البحث والاستقصاء.
ومن يدري! لعل من الخير أن تظل هذه المشكلات غامضة ملتوية لا سبيل إلى حلها؛ فأقل ما لهذا الغموض من المزايا أنه أنتج لنا هذه المحاولات الرائعة، وأتاح لنا هذه الآداب الرفيعة التي نفزع إليها كلما ضقنا بالحياة أو ضاقت بنا الحياة، ونفزع إليها كلما غرتنا الأماني وكادت الآمال تخدعنا عن أنفسنا، وكاد رقي الحضارة يورطنا في البطر والأشر.
فنحن محتاجون إلى أن نسعى، وإلى أن نتقدم مبطئين ومسرعين، ولكنا في الوقت نفسه محتاجون إلى عاصم يعصمنا من الغرور، ويمسكنا أن نندفع في إيماننا بأنفسنا إلى غير حد، ولست أدري إلى أي تهور تندفع الإنسانية، لو أنها وجدت لهذه المشكلات حلولا نهائية مقنعة يطمئن إليها الناس جميعا.
أكبر الظن أن الإنسانية إن أتيحت لها هذه الحلول فستضطر إلى حياة راكدة خامدة، لا طائل فيها ولا غناء. وما قيمة الحياة إذا خلت من الإشفاق والخوف، ومواجهة المشكلات ومحاولة التخلص منها، وإلقاء الأسئلة والتماس الأجوبة لها! وأي غناء في هذه الجماعات الحية الميتة التي وجدت لكل مشكلة حلا، ولكل سؤال جوابا، واطمأنت إلى حظ من العلم التقليدي المغلق الذي يتعرض للنقص ولا يتعرض للزيادة! والغريب أن التجارب تمر بالناس، وأن العصور تختلف عليهم، وأن الرقي يتاح لهم، وأنهم يظفرون بالتقدم بين حين وحين، ولكنهم على ذلك كله يقفون من الفلسفة المتشائمة مواقف متشابهة على ما بين الأجيال والعصور من الاختلاف.
فقد ضاق القدماء بتشاؤم أبيقور، واشتد نقدهم له ونعيهم عليه، وضاق المسلمون بتشاؤم أبي العلاء؛ فأكفره منهم من أكفره، ولا يزال كثير منهم إلى الآن يرى تشاؤمه شرا، ويخاف منه على نشاط الأفراد والجماعات، وقد تعرض المتشائمون الأوروبيون لمثل ما تعرض له أبيقور وأبو العلاء، فضاق بهم من ضاق وأنكرهم من أنكر، وخيف من تشاؤمهم على عقول الناس، وعلى نشاط الأفراد والجماعات، وعلى إيمان الشباب بالحياة، وما ينبغي أن يملأ قلوبهم من الأمل والثقة بالنفس.
ولعل الذي حملني على إملاء هذا الحديث الطويل إنما هو من جهة مظهر من مظاهر الفلسفة الحديثة في التشاؤم، ومظهر من مظاهر المقاومة لهذه الفلسفة من جهة أخرى؛ فقد يخيل إلي أن أوربا لم تشهد قط موجة تشاؤم كهذه الموجة التي كانت تلاعبها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي طغت عليها طغيانا جارفا في هذه الأيام.
وهذا التشاؤم الأوروبي الحديث هو الذي أنتج ما يسميه الفرنسيون في هذه الأيام بالأدب الأسود، والحق أن هذا الأدب مختلف أشد الاختلاف، متنوع أشد التنوع، كما كان أدب أبي العلاء مختلفا متنوعا.
فقد عرض أبو العلاء علينا تشاؤمه شعرا ونثرا، وعرضه علينا فلسفة ووعظا، وعرضه علينا نقدا للسياسة والاجتماع، ونقدا للأخلاق والديانات، وعرضه علينا واقعا وخيالا، ومن يدري! لعله عرضه في ضروب أخرى من الفن لم تصل إلينا؛ لأنا لم نحفظ من أدب أبي العلاء إلا القليل.
والأدب الأوربي مختلف على هذا النحو، تراه يعرض فلسفة يسلك فيها طرق الفلاسفة، وتراه يعرض تمثيلا يشهده النظارة في الملاعب، وتراه يعرض قصصا منها الواضح الجلي، ومنها الغامض الرمزي، ومنها ما يكون بين ذلك فيه كثير من الوضوح وفيه كثير من الغموض.
وقد أنفقت أكثر الوقت الذي قضيته في باريس معاشرا لطائفة من هؤلاء الأدباء السود، لم ألق منهم أحدا، ولكني قرأت لهم كثيرا، ووجدت في قراءتهم اللذة العليا أحيانا، والضيق الشديد أحيانا أخرى، والاشمئزاز الذي تنقبض له النفس في كثير من الظروف، وقد تعودت والحمد لله بفضل أبي العلاء أن أعاشر المتشائمين، فلا أضيق بتشاؤمهم لأنه مظلم، أو لأنه يسيء رأي الناس في الحياة.
ولكن عند الكتاب الأوروبيين والأمريكيين لونا من التشاؤم بغيضا حقا لا أدري أيرفع الأدب أم يخفضه، وقد كدت أملي لا أدري أيتصل بالأدب أم يبعد عنه أشد البعد.
فمن التشاؤم الحديث ما يحاول عرض الحياة الإنسانية الواقعة كما هي، يصورها في أبشع صورها، ويعرض عنها لأشياء لم يكن الأدب يعرض لها من قبل إلا عند القدماء من اليونان والرومان والعرب، وقد كنا نظن أن الأدب العالمي الحديث قد استطاع أن ينقي نفسه من هذه الأوضار ويرتفع بها عن هذه النقائص، وكنا نلتمس للقدماء العذر، ونجد هذا العذر في أنهم كانوا قدماء لم يبلغوا من الحضارة ومن ترف العقل والشعور ما بلغه المحدثون.
ولكن الأدباء المتشائمين في هذا العصر يريدون أن يصوروا الواقع، فلا يصدهم عن تصوير هذا الواقع شيء، ولا يجدون في صدورهم حرجا من أن يصوروا أشياء يريد الإنسان المتحضر عادة أن يخفيها على نفسه، ويكفي أن ينظر القارئ في آثار جان بول سارتر الفرنسي، وفي آثار ميلر الأمريكي، ليبغض هذا النوع من الأدب الذي لا يعتمد على فن مترف، ولا يتجه إلى ذوق مرهف، وإنما هو أدب غليظ يصور حياة غليظة، ويتجه إلى عقول لا تحفل بالذوق، ولا بالفن، ولا بالشعور.
وهناك أدب متشائم ولكنه رفيع؛ لأنه لا ينحط إلى تصوير الطبيعة الغليظة، ولا ينزل إلى تصوير الغرائز الجامحة، وإنما يصور الواقع من حياة الناس في غير مظاهرها البشعة، كما يصورها غفلة الغافل، وعقل العاقل، وموقف هذا وذاك من المشكلات الفلسفية والسياسية والاجتماعية العليا.
وأنت تجد هذا عند جان بول سارتر نفسه، وإن كان يؤذيك ما تفجأ به بين حين وحين من هذا الأدب الغليظ الذي تزور عنه النفس وينبو عنه الذوق، وأنت تجد هذا عند ألبير كامو حين يعرض عليك تشاؤمه قصصا وتمثيلا وفلسفة، وأنت تجد هذا عند كفكا حين يعرض عليك تشاؤمه في قصصه الرمزي الغامض الرفيع، وفي خواطره التي تملأ يومياته فلسفة وفنا.
فهذا هو مظهر الاختلاف في الأدب الأسود الحديث؛ فأما مظهر المقاومة لهذا الأدب الأسود فيشهد من يقرأ الصحف والمجلات الفرنسية، وربما كان من أطرف أشكاله هذا الحوار الذي اتصل بين الشيوعيين، أو قل بين اليساريين من جهة، والمعتدلين من جهة أخرى، حول آثار كفكا أتحرق أم لا تحرق، وواضح جدا أن الإحراق هنا ليس إلا رمزا؛ فالمسألة التي يختلف فيها الأدباء الفرنسيون واليساريون والمعتدلون هي هذه: أتباح قراءة كفكا للشباب أم تحظر عليهم؟
فأما المعتدلون فيؤثرون الحرية على كل شيء ويثقون بقدرة الشباب على مقاومة ما يشيع في آثار هذا الكاتب من اليأس الذي يثبط الهمم، ويفل العزائم، ويميت القلوب، وقد يدفع إلى الانتحار. وأما اليساريون فيرون أن الحياة أمل كلها، وأن تحقيق الآمال محتاج إلى الإيمان لا إلى الشك، وإلى الإقدام لا إلى الإحجام، وإلى العزم الصادق والهم البعيد، وهم من أجل ذلك يشفقون على الشباب من هذا الأدب الأسود الذي يجعل الحياة كلها سوادا.
وواضح كذلك أن الكلمة الأخيرة ستكون للحرية دائما؛ فلم تفلح قوة من القوى في محاربة الرأي، ولم تستطع النار مهما تكن مضطرمة شديدة الالتهاب أن تحرق كتابا، وهي قد تحرق ورقا وحبرا، ولكن الدخان الذي يثور من هذا الحريق يضاعف الإغراء بالقراءة، ويملأ القلوب فتونا بهذه الكتب التي حرقت ولكن لم تمس روحها النار.
ولست أعرف إغراء بالأدب أقوى من محاربته، ولست أعرف إحياء للرأي أقوى من اضطهاده؛ فلن يحرق كفكا، ولن تحرق آثار جان بول سارتر، وإن كانت آثار هذين الكاتبين قد دفعت بعض الشباب إلى الانتحار، ودفعت بعضهم إلى اقتراف الجرائم، ولن يكون القرن العشرون شرا من القرن الثامن عشر والتاسع عشر؛ فالناس يعلمون أن قصة ڤرتر قد دفعت غير واحد من الشباب إلى الموت، ولكنها لم تحرق، ولم تحظر على القراء، والشباب يقرءونها الآن أو يشهدونها في ملاعب التمثيل، فلا تلقي في نفوسهم يأسا، ولا تحبب إليهم الموت، وإنما ترسم على ثغورهم ابتسامات لعلها لا تخلو من بعض السخرية.
وكذلك يقاوم الأدب الأسود الحديث كما كان يقاوم الأدب الأسود القديم.
ولكنك توافقني بعد هذا الحديث الذي طال حتى بلغ الإملال على أن التشاؤم الأوروبي الحديث كغيره من التشاؤم القديم، قد أنشأته ظروف متشابهة فخرج متشابها في أصوله وصوره ونتائجه وموقعه من نفوس الناس.
وإذا كان لهذا الحديث كله مغرى يحسن أن أقف عنده، وأن أتمنى أن يتنبه إليه الأدباء المحدثون، والقراء المحدثون أيضا، فهو أن الأدب الحديث مهما يختلف ومهما تتباين صوره، ليس إلا امتدادا واستمرارا للآداب القديمة، وأن الرقي الأدبي الصحيح محتاج إلى ألا يقطع الأدباء والقراء صلتهم بالقديم؛ ذلك أحرى أن يعصمهم من الغرور، ويحميهم من أن يظنوا بأنفسهم الإعجاز والابتكار، على حين أنهم قد أضافوا الشيء الكثير إلى ما ترك القدماء، ولكنهم لم يعجزوا ولم يبتكروا، وإنما جهلوا إنتاج من سبقهم فغلوا في تقدير أنفسهم غلوا شديدا. ورحم الله أبا العلاء؛ فقد كان شابا في أكبر الظن حين قال:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
بين العدل والحرية
مسألة واحدة تلقى في كل مكان متحضر وفي كل بيئة مثقفة، يلقيها بعض الناس على بعض، ويلقيها الأفراد على أنفسهم عن إرادة وتعمد واختيار حينا، وعلى غير إرادة ولا شعور ولا اختيار حينا آخر.
يلقيها بعض الناس على بعض ويلقيها الأفراد على أنفسهم، عامدين إلى الدرس والتحليل، محاولين أن يجدوا لها جوابا، شاعرين بذلك مريدين له، وتلقيها الحياة العاملة على الأفراد والجماعات في كل لحظة وعند كل فرصة، ويعجز الناس في كثير من الأحيان عن أن يجدوا لها حلا حاسما حازما، أو جوابا قاطعا ساطعا.
وهم من أجل ذلك يضطربون في حيرة متصلة، تظهر آثارها واضحة في أقوالهم حين يتحدثون، وفي أعمالهم حين يعملون.
أيمضي العالم إلى تحقيق العدل أم إلى تحقيق الحرية؟ هذه هي المسألة، أو قل هي المشكلة التي ألقاها القرن التاسع عشر على بعض العقول في أوروبا، والتي جعلت تتسلط على هذه العقول قليلا قليلا حتى شغلتها واستأثرت بها، ثم تجاوزتها إلى عقول أخرى، ثم جعلت تتنزل شيئا فشيئا من الطبقات المفكرة الممتازة إلى الطبقات الوسطى ثم إلى الطبقات الدنيا، ثم استأثرت بالتفكير السياسي كله في أواخر القرن الماضي حتى انقسمت لها أوروبا شيعا وأحزابا.
ثم عظم استئثارها بالحياة الأوروبية في أوائل هذا القرن، ولا سيما في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى اضطربت لها أوروبا اضطرابا شديدا، واضطرب لها العالم خارج أوروبا اضطرابا شديدا أيضا، كان من آثاره أن ثارت الحرب العالمية الثانية، وصبت على العالم ما صبت من الشر والهول.
وقد انتهت الحرب العالمية الثانية كما انتهت الحرب العالمية الأولى دون أن تجد إحداهما جوابا لهذه المسألة أو حلا لهذه المشكلة، وإنما كانت نتيجة الحربين أن المسألة ظلت قائمة ولكنها ازدادت شدة وإلحاحا، وأن المشكلة ظلت قائمة ولكنها ازدادت صعوبة وتعقيدا، والله وحده يعلم أيحتاج العالم إلى حرب ثالثة لتجيب عن هذه المسألة وتحل هذه المشكلة، أم يستطيع السلام المنظم أو غير المنظم أن يخرج الإنسانية من حيرتها ويسلك بها إحدى الطريقين: طريق الحرية أو طريق العدل.
ومن الخطأ أن نظن أن هذه المسألة حديثة لم يعرفها الإنسان إلا حين ألقاها القرن التاسع عشر، وإنما هي مسألة قديمة عرفها الإنسان منذ عصور بعيدة جدا، وقد يستطيع الفلاسفة الذين يدرسون التاريخ ويحللونه أن يستقصوا أصل هذه المسألة، وأن يتتبعوا تطورها منذ فرضها العقل على الإنسان المتحضر فيما يسمونه فجر التاريخ.
وليس من شك في أن الفلاسفة قد فعلوا فدرسوا الحضارة منذ نشأتها، واستقصوا أمر الصراع بين الحرية والعدل في أطوار الرقي الإنساني على اختلافها، ثم انتهوا إلى ما انتهى إليه العالم الآن من هذه الحيرة المتصلة والاختلاط الشديد: فمنهم من آثر الحرية؛ لأنها تحقق كرامة الإنسان، وتتيح له أن يكمل نفسه ويظفر بشخصيته موفورة تامة.
وفريق منهم آثر العدل لأنه يرضي حاجة الإنسان إلى المساواة، ويتيح له حظا من الإنصاف يعصمه من استعلاء القوي على الضعيف، وتحكم الغني في الفقير، وتفوق القادر على العاجز. وفريق آخر حاول أن يلائم بين العدل والحرية، فلم يبلغ من هذه المحاولة شيئا ذا خطر؛ لأن العدل المطلق والحرية المطلقة لا يستطيعان أن يلتقيا إلا إذا قيدت الحرية وقيد العدل، وانتقص كلاهما من أطرافه فشوه خلقه تشويها ما، هنالك يستطيعان أن يلتقيا لقاء لا يخلو من تشويه تتأثر به الحياة الإنسانية نفسها، فتدفعها الحرية إلى العمل والنشاط، ويدفعها حب العدل إلى الاختلاف والاختصام، وتنتهي إلى هذا التطور الذي نشهده الآن كما شهدناه في العصور المختلفة، والذي يبث فيها العداوة والبغضاء ويملؤها شرا ومكرا وكيدا، ثم يدفعها حينا بعد حين إلى حرب من هذه الحروب التي لا تبقي ولا تذر، والتي تزداد على مر الأيام بشاعة ونكرا.
ومن الخطأ كذلك أن نظن أن هذا الصراع بين الحرية والعدل مقصور على بيئة إنسانية دون بيئة، أو على مكان من العالم المتحضر دون مكان، وإنما الواقع الذي نستطيع أن نلاحظه في كل وقت هو أن هذا الصراع قائم في البيئات الإنسانية المثقفة كلها، وفي أجزاء العالم المتحضر كلها أيضا، يقوى ويعنف حيث ترقى الحضارة وتتفوق، ويضعف وتخف وطأته حيث تركد الحضارة وتميل إلى الخمود، ولكنه موجود دائما ومتصل على كل حال.
ويكفي أن ننظر إلى العالم المتحضر الذي نعيش فيه اليوم لنتبين أن الصراع بين الحرية والعدل عنيف إلى أقصى غايات العنف في أوروبا وأمريكا، وأن عنفه في هاتين القارتين أشد منه في القارات الأخرى، وإن كان يختلف قوة وضعفا باختلاف الأمم والشعوب.
وليس المهم أن ندرس هذا الصراع بين العدل والحرية درسا مفصلا مستقصى، فذلك شيء لا سبيل إليه بل لا حاجة إليه الآن، وإنما المهم أن نلاحظ مظاهر هذا الصراع في أوروبا وأمريكا وفي بلاد الشرق الأدنى خاصة، لنتبين إلى أي طريق نحن مسوقون، وإلى أي غاية نحن مدفوعون.
وليس من شك في أن إلغاء المسافات في الزمان والمكان قد جعل شرقنا الأدنى متصلا بأوروبا وأمريكا اتصالا يوميا دقيقا، بحيث لا نستطيع أن نفلت، مهما نحاول ذلك، من التأثر بما يحدث في هاتين القارتين من الأحداث والخطوب، وما يثار فيهما من المصاعب والمشكلات.
ومن المحقق أن الشرق الأدنى لو استؤمر حين أثيرت الحرب العالمية الأولى لآثر العافية، ولتمنى أن يلتزم هذه الحيدة التي تجنبه أخطار الحرب وأهوالها، ولكنه لم يستأمر ولم يكن من الممكن أن يستأمر؛ لأنه كان ميدانا من ميادين الحرب وغرضا من أغراضها، وهو كذلك لم يستأمر حين أثيرت الحرب العالمية الثانية، ولم يكن من الممكن أن يستأمر؛ لأنه كان ميدانا من ميادين الحرب وهدفا من أهدافها، وأكبر الظن أنه لن يستأمر إذا أثيرت حرب عالمية ثالثة؛ لأنه سيكون من أهم ميادين الحرب ومن أعظم أغراضها خطرا.
فينبغي للشرق الأدنى إذن أن يوطن نفسه على أنه جزء من هذا العالم المتحضر الحديث الذي يضطرب أشد الاضطراب بهذا الصراع العنيف المتصل بين الحرية والعدل، متأثر سواء أراد أو لم يرد بهذا الصراع وبما يكون له من أثر في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والخير أن يوطن نفسه على ذلك وإن لم يعد له عدته، وأن يقبل عليه مريدا لهذا الإقبال لا مكرها عليه إكراها. ولم يخطئ الشاعر حين قال:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
وليس للشرق الأدنى بد من أن يركب هذه الأسنة، فإذا أراد أن يحيد عنها أو أن يتجنب ركوبها، فلن يجد إلى ذلك سبيلا، وحسبه أن يعلم أن هذا ليس مقصورا عليه، وإنما هو المصير المحتوم لكل جزء من أجزاء العالم بعد أن ألغيت مسافات الزمان والمكان .
والناس يقولون في كثير من الصواب: إن العالم الآن موضوع للنزاع بين قوتين عظيمتين تريد كل منهما أن تسيطر عليه وتنشر فيه سلطانها، وتخضعه لما يقتضيه ذلك من مذاهبها في السياسة ونظمها الاجتماعية المختلفة، وهاتان القوتان قد تعاونتا أثناء الحرب العالمية الثانية، فاتفقتا ما ظلت الحرب قائمة حتى كسبتا النصر، ثم لم تستطيعا أن تمضيا في الاتفاق فعجزتا عن تنظيم السلم.
وقد انتهت الحرب في أوروبا منذ عام وبعض عام، وما زال المنتصرون عاجزين عن أن يقروا السلم وينظموه؛ لأنهم عاجزون عن أن يتفقوا فيما بينهم، وليس الخلاف بينهم مقصورا على تقسيم الغنائم وتوزيع الأسلاب، ولكنه أبعد من ذلك مدى وأشد من ذلك عنفا؛ لأنه يتجاوز الدول المنتصرة نفسها لما تملك من حول وطول ومن قوة وأيد، إلى الشعوب التي تمثلها هذه الدول.
فالشعوب نفسها مختلفة فيما بينها أشد الاختلاف، يريد بعضها أن يسلك طريق الحرية على أن يكون العدل تابعا للحرية لا متبوعا، ويريد بعضها الآخر أن يسلك طريق العدل على أن تكون الحرية نافلة تتحقق إن سمح العدل بتحقيقها، ويضحى بها إذا لم يكن بد من التضحية بها في سبيل العدل الشامل والمساواة الكاملة بين الناس.
ثم تختلف الشعوب في حياتها الداخلية نفس هذا الاختلاف بين الدول، فتكون فيها الأحزاب المتباينة التي يذهب بعضها مذهب الحرية الكاملة، ولا يتردد في التضحية بالعدل إذا اقتضت الحرية هذه التضحية، ويذهب بعضها مذهب العدل الشامل، ولا يتردد في إهدار الحرية إذا اقتضى تحقيق العدل إهدارها.
وكذلك يشهد العالم هذا المنظر الرائع الغريب: دول تختلف فيما بينها تختصم حول الحرية والعدل، وأحزاب تختلف فيما بينها تصطرع حول الحرية والعدل، وأفراد يختلفون فيما بينهم يتمارون في الحرية والعدل.
والحياة تمضي متعثرة في طريقها لا تكاد تخطو خطوات إلى أمام حتى تضطر إلى أن تنحرف إلى يمين أو إلى شمال، وقد تضطر أحيانا إلى أن ترجع القهقرى، وتعيد للناس نظما كانوا يظنون أنها قد ذهبت إلى غير رجعة ومضت إلى غير مآب.
وقد يبلغ من اضطراب الشخص الواحد أن يذهب إلى مذهب الحرية إذا أصبح، فلا يكاد يمسي حتى يذهب مذهب العدل، وقد يبلغ من اضطراب الشعب الواحد أيضا أن ينحرف اليوم إلى يمين ليؤيد الحرية، فإذا كان الغد انحرف إلى شمال ليؤيد العدل، وهو بهذا التذبذب بين اليمين والشمال لا يحقق حرية ولا عدلا، وإنما يمضي في الاضطراب ويغرق في الارتباك إلى أذنيه، وقد يغرق معه أمما وشعوبا أخرى؛ لأنها خاضعة له أو متأثرة به قليلا أو كثيرا.
هذه كلها حقائق يسيرة قريبة يلاحظها الإنسان حين يقرأ صحف الصباح، وحين يقرأ صحف المساء، وكل ما في الأمر أنه ينظر إليها نظرة سريعة غير متعمقة ولا مستأنية، ينظر إليها كما ينظر إلى أحداث الحياة اليومية التي يغيرها مر الغداة وكر العشي.
فالشعب الإنجليزي مثلا حين تخلص من سلطان المحافظين في العام الماضي وألقى بمقاليد الأمر إلى العمال، لم يزد على أن انحرف من طريق الحرية المحافظة إلى الشمال حيث العدل، أو قل - إن شئت - حيث الطموح إلى العدل، وحيث التضحية، أو قل - إن شئت - حيث الاستعداد للتضحية بكثير من حرية الفرد والجماعة في سبيل تحقيق هذا العدل، ولكن الشعب الإنجليزي نفسه حين يضطر حكومة العمال إلى أن تلتزم سياسة محافظة خارج بريطانيا العظمى، فلا تفرط في شيء من مستعمراتها، ولا تتخلى عن قليل من مصالحها في البلاد التي تخضع لنفوذها قليلا أو كثيرا، وإنما تستمسك بالإمبراطورية كما تلقتها من حكومة المحافظين، وتحافظ على مصالحها في أقطار العالم كله على نفس النحو الذي كان يصطنعه المحافظون، أقول: إن الشعب البريطاني حين يضطر حكومة العمال إلى أن تسلك هذه الطريقة لا يزيد على أن يتراجع فينحرف من شمال إلى يمين، ويضحي بشيء من العدل ليستبقي حريته تلك التي أتاحت له أن يستذل ويستغل جزءا عظيما من الأرض.
والشعب البريطاني حين يتخلص من سلطان المحافظين ويجعل أمره إلى العمال، ويتيح لرئيس وزرائه ووزير خارجيته أن يتحدثا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن حق العالم في أن يخلص من الاستعباد والاستبداد، يخطو خطوة إلى الشمال في سبيل العدل الدولي، ولكنه لا يلبث أن يعود أدراجه ويخطو خطوة إلى يمين في سبيل الاحتفاظ بحريته القديمة التي كانت تتيح له أن يتحكم في مصير الشعوب، وإذا هو يذهب في سياسته مع اليونان ويوجوسلافيا نفس المذهب الذي كان يذهبه المحافظون.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوة إلى شمال حين يعلن رئيس وزرائه ووزير خارجيته أنه يريد الجلاء عن مصر بلا قيد ولا شرط، ثم لا يلبث أن يعود أدراجه بتأثير المحافظين، وإذا هو يشترط للجلاء شروطا تلغيه، ويقيده بقيود تمنعه من الحركة والنشاط؛ لأنه يضحي بالعدل الدولي في سبيل حريته التي تتيح له أن يتحكم في مصير مصر، فلا يجلو عنها إلا حين يريد وبالشروط والقيود التي يريد أن يعرضها.
وهذا الشعب البريطاني نفسه يخطو خطوات إلى الشمالي حين «يؤمم» طائفة من المرافق البريطانية، ثم يتردد ويتراجع حين يعرض لتأميم طائفة أخرى من المرافق، يلغي حرية الأفراد والجماعات في سبيل العدل، ولكنه يلغيها بمقدار لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانا كافيا، ويحتفظ بهذه الحرية للأفراد والجماعات بالقياس إلى بعض المرافق الأخرى؛ لأنه لم يؤمن بالعدل إيمانا كافيا أيضا؛ فهو مذبذب بين الطموح إلى العدل والاحتفاظ بالحرية، وكل المصاعب التي يلقاها وكل المشكلات التي تأتلف منها حياته إنما تأتيه من هذا التذبذب بين العدل الذي يقتضيه التضحية بحرية التسلط على الأمم والشعوب والتحكم في مصير الدول والأقطار، وبين الحرية التي تحتفظ له بالقدرة على أن يتحكم في مصير هذه الأمم والشعوب.
والشعب الفرنسي يذهب هذا المذهب نفسه، فهو يتذبذب بين الحرية والعدل، يقبل على انتخاباته العامة في أكتوبر الماضي فيندفع اندفاعا قويا إلى شمال، ويؤلف الكثرة في جماعته التأسيسية من الشيوعيين والاشتراكيين، وإذا هو يؤمم طائفة من مرافقه، ثم لا يلبث أن يأخذه الخوف ويملكه الذعر، وإذا هو يرفض الدستور الذي وضعته له هذه الجماعة التأسيسية الشمالية، فإذا طلب إليه أن ينتخب جماعة تأسيسية أخرى انحرف إلى يمين فألف كثرتها من المعتدلين وجعل اليساريين لهم تبعا أو شيئا يشبه التبع، ودل بذلك على أنه يريد العدل ولكن بمقدار، ويحرص على الحرية أكثر مما يحرص على أي شيء آخر.
وقد أنسى أشياء كثيرة قبل أن أنسى حديثين دار أحدهما بيني وبين رجل من عامة الشعب في مارسيليا قبل رفض الدستور بيوم واحد؛ فقد قال لي هذا الرجل إنه سيرفض الدستور إذا كان الغد لأنه لا يريد دستورا يساريا، ولكنه سيصوت لليساريين بعد ذلك؛ لأنه يريد الإصلاح الاجتماعي، ولا يريد برلمانا رجعيا أو حكومة مسرفة في الاعتدال.
ودار الآخر بيني وبين أستاذ من أساتذة السوربون في باريس بعد أن رفض الدستور بيومين، وهذا الأستاذ يساري الميل متطرف في حبه لليسار، ولكنه رفض الدستور مع أصحاب اليمين، فلما كلمته في ذلك قال: نعم؛ رفضت الدستور لأني لا أريد أن أخضع للرقابة فيما أنشر من الكتب وما أذيع من الفصول وما ألقي من الدروس والمحاضرات. فهو إذن يريد العدل، ولكن بشرط ألا يقيد هذا العدل حريته حين يكتب أو يقول.
وصاحب الصناعة يستطيع أن يقول كما قال هذا الأستاذ نفسه، رفض الدستور اليساري لأنه لا يريد أن يخضع للرقابة فيما تنتج مصانعه وفيما تغل عليه من ربح، وكذلك يتردد الفرنسيون كما يتردد جيرانهم البريطانيون بين العدل والحرية؛ يطمحون إلى العدل ولكنهم يخافون منه إذا كمل وشمل كل شيء، ويحرصون على الحرية ولكنهم لا يكرهون تقييدها حين تضطرهم الظروف إلى ذلك.
وقل إن شئت إنهم يؤثرون الحرية على كل شيء، ولا يضحون بقليل منها إلا ليحتفظوا بما يستطيعون أن يحتفظوا به؛ فهم يتحدثون عن العدل كما كان مستر تشرشل يتحدث عن استقلال الشعوب أثناء الحرب.
يتحدثون عن العدل على أنه من هذه المثل العليا التي يتوق الإنسان إليها ويجد في تحقيقها، ولكنه لا يبلغها لأنها من الظرف واللطف والأناقة بحيث تحسن الدلال وتمتنع على الطامحين إليها والطامعين فيها، تغريهم بنفسها وتدعوهم إلى محاسنها، ولكنها تنأى عنهم كلما دنوا منها، وتتركهم يتمثلون قول جميل لبثينة:
ومنيتني حتى إذا ما ملكتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حيلة
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
وهم يحبون من المثل العليا هذا التدلل والامتناع، وهم يستمتعون بلذة هذه النار التي تضطرم بين جوانحهم وتحرق قلوبهم شوقا إلى العدل، وهم يكرهون أن تخمد هذه النار وأن تبرد جوانحهم، وأن يبلغوا العدل فيطمئنوا إلى أنهم بلغوه.
وهم يحبون الحرية على نحو آخر، يحبون أن يأخذوها بين أيديهم ويضموها إلى صدورهم ويستمتعوا منها بأعظم حظ ممكن، لا ينالون منها حظا إلا طمعوا في حظ أعظم منه، ولا يفقدون منها شيئا إلا تقطعت قلوبهم عليه حسرات.
ذلك لأن هناك فرقا خطيرا جدا بين الاستمتاع بالحرية والاستمتاع بالعدل؛ فالاستمتاع بالحرية يثير هذه اللذة المتعبة؛ لأنه يدفع إلى العمل والنشاط، ويغري بالكد والجد، ويمنع الإنسان من أن يريح ويستريح، أما الاستمتاع بالعدل فمريح حقا؛ لأنه يقتل الطمع ويغري بالرضا ويزين القناعة في القلوب، أو قل يفرض القناعة على القلوب فرضا.
فأي غرابة في أن يكون الإنسان أشد إيثارا للحرية التي تملؤه قوة ونشاطا وتدفعه إلى الأمل والعمل، وتمسكه في هذا القلق الحلو المتصل الذي لا يعرف الرضا ولا يحب الاطمئنان، منه للعدل الذي لا يثير قوة ولا نشاطا، ولا يدفع إلى مزيد من أمل أو عمل، والذي يملأ القلوب أمنا ورضا ويعصمها من القلق والخوف!
والأمر في سائر أوروبا الغربية كالأمر في فرنسا وبريطانيا العظمى: حب مؤكد للحرية، وحرص مصمم عليها، وطموح إلى العدل كما يطمح العشاق العذريون إلى من يعشقون.
وحسبك أن تنظر إلى بلجيكا وهولندا، فهما كبريطانيا العظمى وفرنسا تمجدان العدل وتغنيان بمحاسنه، ولا تكرهان أن تحققا منه شيئا في الأرض البلجيكية والهولندية مختارتين أو مضطرتين، ولكنهما في الوقت نفسه تؤثران الحرية أشد الإيثار: تؤثرانها في السياسة الخارجية؛ فالعدل لم يخلق لأندونسيا مثلا ولا للكونجو البلجيكية، كما أنه لم يخلق للمستعمرات البريطانية والفرنسية وللشعوب الضعيفة بوجه عام. وهو إن كان قد خلق لأوروبا، فإنما خلق لها لتصيب منه بمقدار كالملح الذي يصلح قليله الطعام، فإذا كثر فسد له الطعام فسادا شديدا.
ولذلك تحتفظ بلجيكا وهولندا، كما تحتفظ فرنسا وبريطانيا العظمى بحرية واسعة شديدة السعة للأفراد والجماعات، وتحاولان تحقيق شيء من العدل لتسكتا هؤلاء الطامعين فيه المطالبين به الذين لا ينفكون يجأرون بطلب العدل الاجتماعي حين يمسون وحين يصبحون.
وليس من اليسير أن نتبين ميول ألمانيا المنهزمة؛ فهي لم تظفر بعد بهذا القدر اليسير من الحرية لتعرب عما تريد في مستقبلها القاتم، ولكنها على كل حال قد قسمت بين المنتصرين يحتل كل منهم جزءا من أرضها، وهؤلاء المنتصرون يهيئون الشعب الألماني أو يحاولون تهيئته لما يحبون ويألفون من مذهب في السياسة والاجتماع؛ فأوروبا الغربية وأمريكا تهيئان جزءا من الشعب الألماني أو تحاولان تهيئته لهذه الديمقراطية التقليدية التي تؤثر الحرية على العدل، وتتخذ الإصلاح الاجتماعي وسيلة إلى إرضاء الطبقات البائسة من جهة، وإلى الدفاع عن نفسها والاحتفاظ بما بقي لها من السلطان والقوة من جهة أخرى.
ولكن روسيا السوفيتية تحتل جزءا عظيما من ألمانيا، وهي تهيئه أو تحاول تهيئته لمذهبها في السياسة والاجتماع، ومذهبها واضح معروف؛ فهي تؤثر العدل والمساواة وإلغاء التنافس والتزاحم والتفوق والامتياز على الحرية وما تستتبع من اصطراع بين الأفراد والجماعات واستباق، إلى تحقيق المنافع واستئثار بهذه المنافع إذا تم تحقيقها.
وهذا الخلاف العنيف القائم بين هاتين القوتين - قوة الحرية في أمريكا وغرب أوروبا، وقوة العدل في روسيا - هو الذي جعل حياة المنتصرين عسيرة منذ وضعت الحرب أوزارها في الشرق والغرب، وهو الذي حال بينهم وبين الاتفاق حين اجتمعوا في أكتوبر الماضي، وحين اجتمعوا في أبريل ومايو، ويوشك أن يحول بينهم وبين الاتفاق حين يجتمعون بعد أيام قليلة في باريس.
وليس الستار الحديدي الذي يقال إن روسيا قد ألقته من دون جزء عظيم من أوروبا الشرقية والجنوبية إلا سورا منيعا يحول بين الحرية والعدل، وبين أن يلتقيا وجها لوجه، ويصطدما في ميدان واحد؛ فأوروبا الغربية خاضعة للحرية، وما تستتبع من تنافس وخصام، وأوروبا الشرقية خاضعة للعدل وما يستتبع من تسلط وقهر وكبح لجماح المنافع والأطماع.
وإذا أجرت الأمة اليونانية انتخاباتها بأعين الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين وكانت نتيجة هذه الانتخابات ميامنة لا مياسرة، قال الروسيون: إن هذه الانتخابات لم تجر حرة، ولم تكن بمأمن من تدخل الديمقراطية الغربية، وما يسندها من رأس المال.
فإذا دبرت بلغاريا ورومانيا والمجر ويوجسلافيا وتشكوسلوفاكيا شئونها بالانتخابات أو بإقامة الحكومات المؤقتة، وكانت نتيجة هذا كله انحراف هذه الأمم إلى اليسار، قال الإنجليز والأمريكيون والفرنسيون معهم: إن هذه الأمم ليست حرة في تقرير مصيرها، وإنما هي متأثرة بالسلطان الروسي العنيف في كل ما تعمل وفي كل ما تقول.
وليس لهذا كله معنى إلا أن الشعوب الصغيرة في أوروبا قد اضطرت هي أيضا إلى التذبذب بين مذاهب الأقوياء من أنصار الحرية والعدل، فهي في غرب أوروبا منحازة إلى الحرية؛ لأن الأقوياء من المنتصرين هناك ينحازون إليها، وهي في شرق أوروبا وجنوبها منحازة إلى العدل؛ لأن الأقوياء هناك ينحازون إليه.
والواقع أن إرادة هذه الشعوب لم يتح لها ما ينبغي أن يتاح لها من الفرص لتظهر جلية لا يشوبها لبس ولا غموض، وقد يكون الموقف الإسباني من أوضح الأشياء دلالة على هذه الخصومة بين العدل والحرية.
ويجب أن نلاحظ أن التسلط والقهر هما الأداتان اللتان يصطنعهما العدل كما تصطنعهما الحرية، يدافع بهما كل منهما عن نفسه، ويثبت بهما كل منهما سلطانه؛ فالجيش البريطاني هو الذي أيد الحرية في اليونان على حساب العدل، والجيش الروسي هو الذي أيد العدل في شرق أوروبا على حساب الحرية.
وليس لأحد من المنتصرين جيش في إسبانيا الفاشية، ولو قد وجد هذا الجيش لانحازت إسبانيا الفاشية إلى مذهب الحرية إن كان الجيش بريطانيا أو أمريكيا، وإلى مذهب العدل إن كان الجيش روسيا.
ولكن إسبانيا ليست محتلة؛ ولذلك كان موقفها دليلا واضحا على اشتداد الخصومة بين هذين المذهبين؛ فأما أنصار العدل وهم الروسيون والفرنسيون حين كان الأمر في فرنسا إلى اليسار، فيريدون إلغاء النظام الفاشي في إسبانيا، وإن أدى ذلك إلى التدخل العسكري في الشئون الإسبانية.
وأيسر ما يطلبونه أن تقطع العلاقات السياسية بين جميع الدول المنتصرة على اختلاف مذاهبها وبين إسبانيا الفاشية، وأن تعترف الدول المنتصرة بالحكومة الإسبانية المنفية التي أقامت في أمريكا اللاتينية حينا وتريد أن تنتقل إلى فرنسا في هذه الأيام، وهم يعتمدون فيما يطلبون على أن الديمقراطية المنتصرة لا ينبغي أن تسمح للفاشية بالبقاء، على أن نظام الأمم المتحدة وميثاق سان فرنسسكو يفرضان ذلك فرضا، وعلى أن إسبانيا الفاشية قد ظاهرت ألمانيا وإيطاليا لأنها مدينة لهما بالوجود.
ولكن البريطانيين والأمريكيين يؤمنون هنا بحرية الشعوب إيمانا يوشك أن يكون تعصبا؛ فالشعب الإسباني حر في اختيار الحكومة التي تسيطر على أمره، وما ينبغي للسلطان الخارجي أن يتدخل في الشئون الإسبانية الخالصة، ولا أن يفرض على إسبانيا حكومة وإن كانت ديمقراطية، ولا أن يخلص إسبانيا من حكومة وإن كانت فاشية قد حاربت الديمقراطية وأعانت عليها ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
ونتيجة هذا كله أن الشعب الإسباني نفسه منقسم في ظاهر الأمر على الأقل فريق منه يريد أن يعود إلى نظام الجمهوري اليساري، وفريق آخر يريد أن يحتفظ بالنظام الفاشي الميامن. فأما قبل الحرب فقد أقبلت ألمانيا وإيطاليا في غير تردد على تأييد النظام الفاشي في إسبانيا بالسلاح، وأما بعد الحرب وبعد انتصار الديمقراطية، فإن بريطانيا العظمى وأمريكا تأبيان حتى قطع العلاقات السياسية مع الفاشية الإسبانية التي أعانت على الديمقراطية ودبرت لها ألوان الكيد.
فالأمر كله إذن إنما يرجع، قبل كل شيء وبعد كل شيء، إلى الصراع بين هذين المذهبين: مذهب الحرية الذي يعتمد على رأس المال، ومذهب العدل الذي يعتمد على الشيوعية.
وكما أن روسيا ألقت ستارا حديديا من دون الشرق الأوروبي والجنوب الأوروبي؛ فإن بريطانيا العظمى وأمريكا تلقيان ستارا حديديا آخر من دون الغرب الأوروبي، وكل هذا قد يكون له خطره في مستقبل العالم.
ولكن هناك ما هو أشد خطرا من هذا كله، وهو أن الشعوب نفسها منقسمة في حياتها الداخلية أشد الانقسام، ينحاز فريق منها إلى الحرية فيتبع بريطانيا العظمى وأمريكا، ويستعين بهما على خصومه إن احتاج إلى ذلك، وينحاز فريق آخر إلى العدل فيتبع روسيا، ويستعين بها على خصومه إن احتاج إلى ذلك وينشأ عن هذا أن تصبح كلمة الاستقلال من الكلمات الجوفاء التي لا تدل الآن على معنى محقق في حياة هذه الشعوب.
وقد كان من المضحك حقا أثناء الصراع الانتخابي في فرنسا أن يتهم أنصار الحرية خصومهم بأنهم يتلقون الأمر من موسكو، ويريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلا لروسيا، وأن يتهم أنصار العدل خصومهم بأنهم يتلقون الأمر من واشنطن ويريدون أن يجعلوا فرنسا ذيلا لأمريكا.
والواقع أن أولئك وهؤلاء كانوا يسرفون، ويعلمون أنهم يسرفون؛ فقد أصبحت فكرة العدل أساسا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينا، وأصبحت فكرة الحرية أساسا لمذهب من المذاهب يوشك أن يكون دينا أيضا؛ فالذين ينحازون إلى هذا المذهب أو ذاك ويؤمنون بهذا الدين أو ذاك، مضطرون بالطبع إلى أن يظاهروا شركاءهم في الرأي وإخوانهم في الدين.
فانحياز أنصار العدل في فرنسا إلى روسيا كانحياز أنصار الحرية فيها إلى أمريكا، ظاهرة يمكن أن تقاس إلى انحياز المسلمين في وقت من الأوقات إلى عاصمة الخلافة، وإلى انحياز النصارى في وقت من الأوقات إلى عاصمة المسيحية في روما.
على أن هذا الاختلاف بين المذهبين لم يلبث أن تعقد بعد الحرب العالمية الأولى بظهور مذهب وسط يريد أن يحتفظ بالحرية وأن يحقق العدل في الأرض، ولكنه لم ينظر إلى الحرية من حيث هي ولا إلى العدل من حيث هو، وإنما نظر إليهما جميعا من ناحية خاصة هي ناحية الدين.
فأنصار العدل من الشيوعين والاشتراكيين يعتمدون قبل كل شيء على المادية التي تجحد الديانات جحودا تاما، وتنظر إلى الحياة الاجتماعية على أنها نتيجة لازمة لتطور تاريخي محتوم، وأصحاب الحرية، ولا سيما منذ الثورة الفرنسية، لا يكادون يحفلون بالدين، ولا يكادون يلقون إليه بالا.
فإذا أمكن أن ينشأ مذهب ثالث بين هذين المذهبين يلائم بين الحرية والعدل من جهة وبين الدين من جهة أخرى، ويتخذ الدين أساسا لحياة إنسانية جديدة ترتفع عن المادة، وترقى إلى المثل العليا، وتؤمن بأن في الإنسان قوة لا تستطيع أن تحيا ولا أن تثمر ولا أن تتيح للإنسان حظه في الرقي إلا إذا اتصلت بمصدرها القدسي الأول من طريق الإيمان والثقة والأمل، أقول: إذا أمكن أن ينشأ هذا المذهب كان في نشوئه الخير كل الخير؛ لأنه يصلح ما أفسدت الثورة، فيرد إلى الدين مكانته في القلوب وسلطانه على النفوس، ويعصم الناس من المادية الجامحة والإلحاد المتمرد، ويكفل لهم في الوقت نفسه نصيبا معتدلا من الحرية، ويتيح لهم في الوقت نفسه سعيا متصلا إلى تحقيق العدل في الأرض.
وكذلك نشأت الاشتراكية المسيحية التي لا تقيم العدل على الجبر التاريخي، ولا تجعل الإصلاح نتيجة للتطور المادي، ولا تلغي حرية الفرد ولا حرية الجماعات، وإنما تقيم أمور الناس على التعاطف والتعاون والحب، وتجمع قلوبهم حول هذه المثل الإنسانية والإلهية العليا.
وليس من شك في أن أهوال الحربين العالميتين كان لها أعظم الأثر في إنشاء هذا المذهب وانتشاره وانتصاره في بعض الأقطار، فهذه الأهوال التي صبتها الحرب على الناس، وهذه الكوارث التي تغلغلت في حياة الأفراد والجماعات، وهذه القسوة التي قطعت ما بين الناس من أرحام أمر الله أن توصل، كل هذا قد زهد الناس في الإيمان بسلطان العلم وتفوقه، وصرفهم عن هذه الفتنة التي ملأت قلوبهم وملكت أمرهم في القرن الماضي، واضطرهم إلى التفكير في أن العلم ليس كل شيء، وفي أن العقل ليس كل شيء، وفي أن الإنسان لا يأتلف من العقل والجسم فحسب، ولكن له ملكات أخرى لا ينبغي أن تهمل وحاجات أخرى لا ينبغي أن تزدرى.
ومن أهم هذه الملكات ملكة الشعور، ومن أهم هذه الحاجات الحاجة إلى الإيمان بقوة قدسية مدبرة لشئون الإنسان تسمو به إلى الخير، وتنهاه عن الشر، وتنأى به عن الموبقات.
وقد أعان على انتشار هذا المذهب وانتصاره بعد الحرب العالمية الثانية، أن أتيح حق الانتخاب للنساء في أكثر الشعوب الأوروبية بعد أن كان هذا الحق مقصورا على الرجال؛ ولذلك انتصرت الاشتراكية المسيحية في فرنسا أخيرا بانتصار الحركة الجمهورية الشعبية على حساب الاشتراكيين الماركسيين، وانتصرت الديمقراطية المسيحية في إيطاليا على حساب الاشتراكية الماركسية أيضا، وأصبحت هذه الاشتراكية المسيحية الجديدة قوة لها خطرها في الحياة السياسية لأوروبا الغربية بوجه عام.
ولست أدري أيتاح لهذه الاشتراكية المسيحية فوز متصل أم هي أعقاب الحرب لا تكاد تمضي عليها الأعوام حتى تعود الحياة الأوروبية إلى طبيعتها، ويستأنف الصراع عنيفا بين هذين المذهبين: مذهب الحرية ومذهب العدل، ذلك أن هذا المذهب الاشتراكي المسيحي جميل رائع في نفسه، مثله في ذلك مثل مذهب العدل ومذهب الحرية، ولكنه لا يكاد يخرج إلى الوجود اليومي ويعالج مشكلات الحياة الطارئة حتى يصيبه ما يصيب المذهبين من هذه الأعراض التي تبغضه إلى فريق من الناس وتحببه إلى فريق.
فالاشتراكية المسيحية لا تلغي رأس المال، وإذن فسيطمئن إليها رأس المال، وسينفر منها طلاب المساواة الخالصة والعدل المطلق. والاشتراكية المسيحية لا تنكر الإصلاح الاجتماعي، وإنما تدفع إليه دفعا وقد تتطرف فيه أحيانا، وإذن فسيستغلها المتطرفون لتحقيق بعض ما يريدون، وسيشفق منها المحافظون؛ لأنها تكلفهم أكثر مما يريدون أن يتكلفوا.
والاشتراكية المسيحية بحكم عنوانها واستمساكها بالدين مضطرة إلى مصانعة الكنيسة، أو قل إلى طاعة الكنيسة وإرضائها، وإذن فسينفر منها جمهور ضخم من الأوروبيين ومن المفكرين الذين قطعوا ما بينهم وبين الكنيسة من الأسباب منذ وقت طويل.
وخذ مثلا واحدا لهذا الموقف الوسط الذي يضطر الاشتراكية المسيحية إلى الحرج في بلد كفرنسا؛ فهذه الاشتراكية المسيحية تطالب بحرية التعليم التي يطالب بها المحافظون الغلاة، وحرية التعليم هذه ينكرها عدد ضخم من الفرنسيين الذين ناصروا الفصل بين الكنيسة والدولة، والذين حملوا الجمهورية الفرنسية الثالثة على أن تجعل التعليم من شأن الدولة خاضعا لسلطانها ملتزما للحيدة الدينية الكاملة.
فليس بد إذن من أن تجد الاشتراكية المسيحية كثيرا جدا من العناء حين تعالج هذه المسألة؛ لأن أنصار العدل الماركسي لم يضعفوا ولم يستيئسوا، وإنما هم محتفظون بقوتهم التي تزداد انتشارا وانتصارا من يوم إلى يوم؛ فالاشتراكية المسيحية في حقيقة الأمر توشك أن تكون طورا من هذه الأطوار الانتقالية التي تطمئن إليها الشعوب حين تجهدها الحرب وتكلفها الأزمات من الجهد والمشقة ما لا تطيق.
فإذا ما استجمعت واستردت قوتها ونشاطها ضاقت بالمواقف المتوسطة واستأنفت الصراع بين القديم والجديد، بين المحافظة والتطرف، أو قل - إن شئت - بين الاستمساك بالحرية والطموح إلى العدل.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن طبيعة الإنسان تدفعه دائما إلى الترقي؛ فهو لا يبلغ من الرقي طورا حتى يسمو إلى طور خير منه «وحاجة من عاش لا تنقضي» كما يقول شاعرنا العظيم.
والحضارة الإسبانية المادية مسرعة إلى التطور وإلى تيسير الترف وإذاعته وجعله في متناول الناس جميعا. فليس للإنسانية بد من أن تلقي على نفسها دائما هذا السؤال: لماذا يتاح النعيم لفريق من الناس ويحظر على فريق آخر؟ لماذا يفرق بين الناس في الاستمتاع بالحياة على حين يسوى بينهم في الدخول إلى الحياة والخروج منها؟ لماذا يعمل العامل ويزرع الزارع ويملأ كلاهما الأرض بأسباب الترف ووسائل النعيم لينتفع بنتيجة هذا العمل فريق من الناس لا يعملون ولا يزرعون ولا يبذلون جهدا ولا يحتملون في الحياة عناء؟ ولماذا يتاح الفراغ لقلة من الناس ويفرض العناء على كثرتهم؟
هذه الأسئلة ألقيت على الناس منذ أقدم العصور، ولكنهم لم يحققوها في أنفسهم كما يحققونها الآن، وهم يعتقدون مصيبين أو مخطئين، راضين أو كارهين أن العدل يجب أن يكون هو الغاية الأخيرة للحياة، وأن المساواة الصحيحة في تمكين الناس من أن ينتفعوا بهذا العدل هي الوسيلة إلى تحقيق هذه الغاية الكبرى.
فإذا ذكرت لهم الحرية ومآثرها ومحاسنها - وما أكثر ما للحرية من مآثر ومحاسن! - فسيقولون لك: إن الحرية لن تطعم الجائع ولن تكسو العاري ولن تسقي الظمآن، وسيقولون لك: إن الرجل البائس لا يستطيع أن ينتفع بحريته؛ لأن الحرية لا تغني إلا مع الاستطاعة، وسيقولون لك: إن الحرية خير - ما في ذلك شك - ولكن بشرط أن تمنح للناس بعد أن تتحقق بينهم المساواة ويستقر بينهم العدل ويصبح بمأمن من كل عبث ومن كل طغيان.
وسيقولون لك: إن الحرية إذا منحت للناس قبل أن يستقر بينهم العدل أثارت بينهم التنافس وأذاعت بينهم البغض، وأشاعت فيهم الطمع والحسد والحقد، وجعلت بعضهم لبعض عدوا. وسيستدلون بالتاريخ كله على هذا كله.
وسيقولون: يجب أن يتحقق العدل أولا، وأن يتساوى الناس في الانتفاع بالحياة كما تساووا في الدخول إليها والخروج منها؛ فإذا تم لهم ذلك فامنحهم الحرية إن شئت، فلن تعرضهم للشر، ولن تثير بينهم كيدا ولا مكرا ولا غدرا ولا عداء.
وقد تعترض عليهم بأن تحقيق العدل الذي يريدونه، والمساواة التي يطمحون إليها ويطمعون فيها يدعو إلى الكثير من الشر، وأول هذا الشر إلغاء الحرية وإنزال القوي عن قوته، والمتفوق عن تفوقه، والغني عن غناه، وحمل الناس على ألوان من الحياة متشابهة بغيضة لتشابهها، وأخذهم بالعنف حتى يحملوا على الجادة ويهتدوا إلى الصراط المستقيم.
وقد تضرب لهم الأمثال بما يجري هنا وهناك في البيئات التي حاولت تحقيق العدل والمساواة من العنف المنكر والتسلط الذي لا يطاق، ولكنهم سيجيبونك دائما بأن الإنسانية مريضة، وبأن شفاء المريض لا يكون بمداعبته وتدليله، وإنما يكون بحمله على تعاطي الدواء مهما يكن مرا بغيضا، وبحمله أحيانا على ما هو أشق مشقة وأجهد جهدا، وأثقل ثقلا من الدواء المر البغيض.
فالإنسانية بين اثنتين: إما أن تريد الشفاء، فتسلك إليه طريقه المستقيمة، وإما أن تؤثر المرض، فتشقى بآلامه وأثقاله حتى يدركها الفناء.
وكذلك ستظل الإنسانية مضطربة بين هذين المذهبين: مذهب العدل وما يقتضي من وسائل قد تكون منكرة في كثير من الأحيان، ومذهب الحرية وما يستتبع من نتائج ليست أقل من وسائل العدل نكرا، ومن يدري! لعل يوما من الأيام قريبا أو بعيدا يرى ذلك الفيلسوف الذي يبتكر للإنسانية مزاجا معتدلا من الحياة يتحقق فيه العدل من غير عنف، وتتحقق فيه الحرية من غير ظلم، ويذوق الناس فيه سعادة لا يشوبها بؤس ولا شقاء.
ويرحم الله عمر، فقد أراد أن يحمل المسلمين على ذلك، ومضى بهم في سبيله قدما، وحقق لهم منه شيئا كثيرا. ولكن الشاعر الذي رثاه لم يخطئ حين قال:
عليك سلام من إمام وباركت
يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة
ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أمورا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق
فرانز كفكا
مر بهذا العالم مرا سريعا، فلم يعش فيه إلا أربعين عاما، أنفق جزءا غير قليل منها في الطفولة والصبا، متأثرا بما حوله غير مؤثر فيه، متلقيا ما ينحدر إليه من أبويه اللذين منحاه الحياة، وما يقدم إليه أبواه أثناء التربية من ألوان التصور للأشياء، والتقدير لها، والحكم عليها، والوقوف أمامها، قابلا حينا ورافضا حينا آخر، متلقيا كذلك ما تقدم إليه بيئته الخاصة التي تحيط به وبأسرته في مدينة براج، في أواخر القرن الماضي، من ألوان الحضارة وفنون الحياة التي كانت الطبقة الوسطى تحياها في ذلك الوقت.
ثم أنفق بعض هذا الأمد طالبا في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، مندفعا بميله الأول إلى العلم، ثم متحولا عن العلم التجريبي إلى الفقه والقانون، حتى إذا أتم دراسته التمس عملا يكسب منه القوت، ليظفر بشيء من الحياة المستقلة، فوجد هذا العمل في شركة من شركات التأمين.
وهو في أثناء ذلك يتكلف أسفارا قصيرة في وطنه وفي ألمانيا وسويسرا، وإيطاليا وفرنسا. ثم لا يكاد القرن العشرون يتقدم قليلا، حتى يقضي عليه الموت سنة 1924. وقد ولد 1883.
فحياته العاملة الظاهرة كما ترى قصيرة جدا، بسيطة جدا، ليس فيها عوج ولا التواء، وليس فيها تكلف ولا تعقيد، ومع ذلك فلم يعرف التاريخ الأدبي كثيرا من الأدباء تعقدت حياتهم النفسية، والتوت بهم طرق الإحساس والشعور والتفكير، كهذا الأديب، والذين يدرسون حياته النفسية هذه في آثاره الكثيرة يردون تعقيدها إلى طائفة من المؤثرات، قريبة في نفسها، ولكنها بعيدة أشد البعد فيما نشأ عنها من ضروب الشعور والتفكير.
فقد كان أديبنا من أسرة يهودية تعمل في التجارة، متأثرة أشد التأثر، وأيسره في الوقت نفسه، بالتقاليد اليهودية المتوارثة، في شرق أوروبا ووسطها؛ فهي محافظه أشد المحافظة على هذه التقاليد السطحية التي يحافظ عليها اليهود، وهي في الوقت نفسه متهاونة أشد التهاون في حقائق الدين ودقائقه، ترى أنها قد أدت الواجب على وجهه إذا اختلفت إلى المعبد في أوقات معلومة، فسمعت ما يسمع الناس، وقالت ما يقولون، وأتت من الحركات والأعمال ما يأتون، دون أن يتجاوز شيء من هذا كله أطراف اللسان وأعضاء الجسم، إلى دخائل النفوس وأعماق القلوب فدينها ظاهر من الأمر، كدين غيرها من عامة الناس، صور وأشكال لا تمس الضمير، ولا تؤثر في السيرة اليومية، ولا توجه الحياة الداخلية والخارجية إلى وجه دون وجه، وإنما الحياة الداخلية والخارجية موجهتان دائما بما وجه حياة الناس، على اختلاف أديانهم وعقائدهم.
من هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تدفع الناس إلى العناية بمنافعهم القريبة العاجلة، أكثر من العناية بحقائق الدين ودقائقه، وبتعمق الحياة وما يكون فيها من الأحداث، وما يمكن أن يكون لها من الأغراض العليا والغايات البعيدة.
ولذلك لم يلبث أديبنا أن ضاق بهذه الحياة الدينية الظاهرة المتكلفة، التي تقوم على النفاق أكثر مما تقوم على الإيمان؛ فجحد دين الأسرة والشعب اليهودي أولا، ثم جحد الدين نفسه بحقائقه ودقائقه بعد ذلك، وأقام حائرا لا يستطيع أن يعود إلى دين آبائه؛ لأن عقله لا يطمئن إلى هذا الدين، ولا يستطيع أن يستغني عن حياة دينية صادقة تعمر القلب، وتملأ الضمير ثقة واطمئنانا؛ فهو ينكر من جهة أشد الإنكار، ويسعى من جهة أخرى أشد السعي، إلى أن يجد ما يؤمن به قلبه، وترتاح نفسه إليه.
وهذه المحنة القاسية التي امتحن بها في إيمانه، قد نشأت عنها محنة أخرى ليست أقل منها قسوة وعنفا، وليست أيسر منها تأثيرا في حياته الداخلية؛ فقد امتحن أديبنا في الصلة بينه وبين أبيه، أنكر سيرة أبيه في الدين؛ لأنه لم ير فيها صدقا ولا إخلاصا، ثم أنكر سيرة أبيه في الأسرة؛ لأنه رآها تقوم على التسلط والاستطالة وعلى القوة والقهر أكثر مما تقوم على الرحمة والحب وعلى البر والعطف والحنان، ثم أنكر سيرة أبيه في تدبير منافعه التجارية المختلفة؛ لأنه رآها تقوم على الحرص والأثرة وانتهاز الفرص، أكثر مما تقوم على القصد والعدل والإنصاف، فنظر إلى أبيه على أنه طاغية مخيف، ولم يستطع أن ينظر إليه إلا على هذا النحو، وأقام الصلة بينه وبين أبيه على الإشفاق والخوف، ثم على المصانعة والمداراة، ولم يستطع أن يقيمها على شيء آخر من هذا التعاطف الرقيق الرفيق الذي يكون بين الأبناء والآباء.
فهو إذن منكر للدين وسلطانه، وهو في الوقت نفسه ضيق بالأبوة وسلطانها، وهو لا يلبث أن يوحد بين هذين النوعين اللذين ينكرهما من السلطان: سلطان الدين، وسلطان الأبوة. فيقف منهما موقفا قوامه القلق والفزع والهول، وهو يشقى بهذا الموقف حياته كلها، قد حاول ما وسعته المحاولة، أن يخلص من الشك إلى الثقة، ومن الخوف إلى الأمن، فلم يجد إلى ذلك سبيلا.
ثم تنشأ من محنته في الدين وفي الصلة بينه وبين أسرته، محنة أخرى ليست أقل منهما قسوة ولا تعقيدا، وهي المحنة التي تمس حقه في أن يحيا حياة الآباء، فيتخذ الزوج ويمنح الوجود للولد، كما اتخذ أبوه الزوج وكما منحه ومنح إخوته الوجود، فهو يشعر بأنه مدين لأبيه بوجوده، لا يشك في ذلك، ولا يشك في أن الدين يجب أن يؤدى، ولا يشك في أن الوسيلة الوحيدة إلى أن يؤدي الابن ما عليه لأبيه من الدين إنما أن يمنح الوجود الذي تلقاه من أبيه لأبناء يتلقونه منه ويمنحونه بعد ذلك لأبنائهم، فإذا اتخذ الزوج ورزق الولد، فليس عليه لأبيه دين. هو يؤمن بهذا كله، ولكنه في الوقت نفسه يقف من هذه القضية موقفا يشبه موقف أبي العلاء في البيت المشهور:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
ذلك أنه يرى الحياة التي تلقاها من أبيه شرا لا خيرا؛ لأنها لم تمنحه رضا القلب، ولا هدوء النفس، ولا راحة الضمير، ولا هذه الثقة الباسمة التي تنشأ عنها كل هذه الخصال، هو مدين لأبيه بالوجود، وما في ذلك شك، وليس أحب إليه من أن يؤدي ما عليه من الدين ، ولكن بشرط ألا يكون أداء الدين مصدرا للشر، ولا سبيلا إلى الأذى، وبشرط ألا يجني على أبنائه، ما جنى عليه أبوه من هذا القلق المتصل، والخوف الملح، واليأس المقيم.
وإلى جانب هذه المحن الثلاث، في الدين والأبوة والزواج، تضاف محنة أخرى لعلها أن تكون هي التي أسبغت لونها القاتم على محنه الأخرى كلها، وهي محنة المرض، المرض الذي لا يظهر فجاءة ولا يثقل على المريض ثقلا طويلا، وإنما يداوره ويناوره، ويسعى إليه سعيا خفيا بطيئا متلكئا، يدنو منه لينأى عنه، ويلم به ليفارقه، ويقفه من الحياة موقفا غريبا لا هو باليأس الخالص ولا هو بالأمل الخالص، وإنما هو شيء بين ذلك، يملأ القلب حسرة ولوعة، ويملأ النفس شقاء وعناء؛ حتى إذا استبان أنه قد نهك فريسته وكلفها من الجهد أقصاه ولم يبق فيها قدرة على المقاومة، أنشب فيها أظفاره، وصب عليها آلاما ثقالا وأهوالا طوالا، ثم قضى عليها الموت في ساعة من ساعات الليل أو من ساعات النهار.
فأنت ترى أن أديبنا عليل قد ألحت عليه العلة، وأن علته معقدة أشد التعقيد، بعضها يتصل بالدين، وقد عجز أطباء اللاهوت عن علاجه؛ فهو قد قرأ التوراة وتعمق دراسة التلمود، ودرس المسيحية ودرس فلسفة الفلاسفة المؤمنين والملحدين، فلم يجد لعلته الدينية هذه طبا ولا شفاء.
وبعضها يتصل بالوراثة والصلة بين الابن وأبويه، فهو إلى علم النفس التحليلي أقرب منه إلى أي شيء آخر، وقد عجز علم النفس التحليلي عن علاجه، فلم يستطع أحد ولم يستطع شيء أن يصلح رأيه في أبيه، أو يصلح العلاقة بينه وبين أبيه، وإنما ظل طول حياته واقفا من أبيه موقف الطفل الخائف المروع الذي يرى تفوق أبيه وتسلطه، ويحاول أن يخلص من سلطانه فلا يستطيع، ويحاول أن يحبه وأن يظفر منه بالحب فلا يستطيع.
وبعضها يتصل برأيه في الحياة، وموقفه منها، ورغبته في أن يحياها كما تعود الناس أن يحيوها، وخوفه مع ذلك من العجز عن احتمال أثقالها، وخوفه بنوع خاص من أن يحمل هذه الأثقال قوما آخرين أبرياء، لم يجنوا ما يستحقون من أجله احتمال الأثقال، وهم الزوج والولد.
وبعض علته جسمي يتصل بالفسيولوجيا، وقد عجز الأطباء عن علاجه؛ فما زال السل يداوره ويناوئه حتى قضى عليه آخر الأمر.
فإذا قدرنا هذه المحن كلها، وقدرنا أنها لم تصب على رجل عادي، وإنما صبت على رجل ممتاز له من القلوب أذكاها، ومن العقول أصفاها، ومن الأذواق أرقها، ومن المشاعر أدقها، ومن الحس أشده إرهافا، وله بعد ذلك إرادة حازمة صارمة، وقدرة مدهشة على الملاحظة، وعلى ملاحظة نفسه أكثر من ملاحظة غيره من الناس، وبراعة خارقة للعادة في أن يجعل نفسه موضوعا للدرس والبحث والتحليل، وأن يكون هو الدارس الباحث المحلل، وأن يسجل ما ينتهي إليه درسه وبحثه وتحليله، في آثار مكتوبة طوال وقصار، أقول: إذا قدرنا هذا كله، لم نر غريبا أن يكون أديبنا هذا بهذه المنزلة التي شغلت الناس، ويظهر أنها ستشغلهم وقتا طويلا.
وربما كان أخص ما يمتاز به فرانز كفكا أشد الامتياز، أنه كان أصدق الناس لهجة، وأشدهم إخلاصا، وأبغضهم للتكلف، وأبعدهم عن التصنع، وأعظمهم حظا من التواضع الذي يأتي من معرفة الإنسان قدر نفسه بعد الدرس المتصل والاستقصاء العميق، وهو من أجل ذلك كان يكتب لنفسه أكثر مما كان يكتب للناس؛ فقد كان من أشد الناس زهدا في نشر آثاره وأعظمهم إخفاء لها وضنا، لا لأنه كان يكبرها أو يغالي بها، بل لأنه كان يزدريها كما كان يزدري نفسه.
وقد نشر قليل من آثاره أثناء حياته في المجلات، ولم ينشر في أكثر الأحيان إلا على كره منه، كان صديقه ماكس برود يختطف هذه الآثار اختطافا، ويدفعه إلى نشرها دفعا، فلما أدركه الموت وقرئت وصيته، تبين أنه قد اختار صديقه هذا - ماكس برود - وصيا، وأنه يطلب إليه أن يحرق آثاره كلها، وألا ينشر منها في الناس شيئا.
وقد وقف الوصي من هذه الوصية موقف الحيرة التي لم تتصل، فشك غير طويل ثم خالف عن أمر صديقه، وأخذ في نشر آثاره ملتمسا لذلك ما شاء من العلل والمعاذير.
وقد مات فرانز كفكا سنة 1924، ولم تمض على وفاته أعوام حتى كانت آثاره بعيدة الانتشار في ألمانيا، بل في أوروبا الوسطى كلها، ثم تجاوزت حدود أوروبا الوسطى إلى أوروبا الغربية، فتلقاها الفرنسيون لقاء غريبا.
وربما كان من طرائف الأشياء، أن آثار فرانز كفكا، كانت تستقبل أحسن استقبال في غرب أوروبا؛ وينكل بها أبشع تنكيل في أوروبا الوسطى؛ فكان الفرنسيون والإنجليز يترجمونها ويفسرونها، على حين كان الألمانيون الهتلريون يحرقونها جهرة في الميادين.
وقد يكون من الخير أن نلاحظ، قبل أن نتحدث عن آثار فرانز كفكا، أن ظروف الحياة الأوروبية كانت ملائمة كل الملاءمة لظهور هذه الآثار؛ فقد بدأ كفكا يشعر ويفكر قبيل الحرب العالمية الأولى، فكان كل شيء من حوله يؤذن بالكارثة، ويدفع إلى البؤس واليأس.
ثم مضى في تفكيره وإنتاجه أثناء الحرب العالمية الأولى، فكان في تلاحق الكوارث والفواجع من حوله ما يزيد إمعانه في البؤس واليأس، ثم نظر ذات يوم فإذا كل شيء من حوله ينهار؛ فإمبراطورية النمسا والمجر تتفرق أيدي سبا، والإمبراطورية الألمانية العظيمة تلقي السلاح وتركع متلقية شروط المنتصر، فلا يزيده هذا كله إلا إيغالا في البؤس واليأس، ثم يمضي في تفكيره وإنتاجه وقد تم الصلح.
ولم تلبث الإنسانية بعد إمضائه أن استشعرت خيبة الأمل وكذب الظن، فلم يتحقق العدل الذي قيل إن الحرب أثيرت لتحقيقه، وإنما عادت الإنسانية بعد الحرب، كما كانت قبل الحرب، بائسة يائسة، متخبطة لا تدري إلى أي وجه تتجه، ولا في أي طريق تسير.
حياة خاصة كلها نكر وشر، وحياة عامة كلها بؤس ويأس؛ فأي غرابة في أن يكون الأدب الذي ينتجه فرانز كفكا في هذه الظروف كلها هو الأدب الأسود بأدق معاني هذه الكلمة وأشدها سوادا وحلوكا؟!
وواضح جدا أن هذا القلب الذكي ذا الحس المرهف والشعور الدقيق، لم يصور الحياة كما رآها من حوله فحسب، وإنما صور هذه الحياة، وصور آثارها القريبة؛ فكان في أدبه هذا المظلم، شيء من التنبؤ المزعج، بما ستتعرض له الإنسانية من الكوارث والأخطار.
وكان من أجل هذا بغيضا إلى الذين كانوا يريدون أن يعيدوا الحرب جذعة، مثيرا للشوق وحب الاستطلاع عند الذين كانوا يخافون الحرب ويشفقون من أن يدفعوا إليها كارهين.
ومن أجل هذا كانت آثار فرانز كفكا في وقت واحد تترجم في باريس، وتحرق في برلين، والآثار الأدبية التي تركها فرانز كفكا كثيرة منوعة، لم تنشر كلها بعد، وإنما نشر أكثرها، وأظهر ما تمتاز به من الخصائص أنها تصور القلق الذي يوشك أن يبلغ اليأس، وتصور الغموض الذي يضطر القارئ إلى حيرة لا تنقضي، ويدفعه إلى كثير من المذاهب في فهم هذه الآثار وتأويلها، وحل ما تشتمل عليه من الألغاز والرموز، فقد كان فرانز كفكا أشد الناس صراحة وأعظمهم إخلاصا في حياته اليومية، وفيما كان ينشأ من الصلات بينه وبين أصدقائه وذوي معرفته، وفيما كان يسجل لنفسه من الخواطر والمذكرات في يومياته المتصلة، ولكنه بعد هذا كله كان أبعد الناس عن الصراحة وأنآهم عن الوضوح، فيما كان ينتج من القصص الطوال والقصار.
وليس المهم أن نلتمس العلل المختلفة لهذا الغموض؛ فالأدب الرمزي في نفسه ظاهرة سائغة طبيعية، ليست في حاجة إلى أن تلتمس لها العلل والمعاذير، وإنما هي أثر من آثار بعض الأمزجة، ولون من ألوان الفن، في كثير من الآداب القديمة والحديثة، على اختلاف البيئات والعصور.
فقل بعد ذلك إن فرانز كفكا قد أمعن في درس التلمود، وتعمق ما في آداب إسرائيل من الأسرار والألغاز، وتأثر بهذا كله في فنه؛ فهذا حق من غير شك، ولكنه ليس كل شيء، فما أكثر الأدباء الرمزيين الذين يستمدون رمزيتهم من مزاجهم الفني وحده، لا من دراسة التلمود، ولا من تعمق الأسرار والألغاز في أدب إسرائيل!
والغموض في أدب فرانز كفكا من نوع خاص؛ فالرجل المثقف حين يقرأ هذا الأثر أو ذاك من آثاره، لا يشعر بالغموض لأول وهلة، وإنما يخيل إليه أنه يقرأ شيئا يسيرا سائغا قريب الفهم، لا يتكلف في تذوقه جهدا ولا عناء، ولكنه لا يلبث أن يحس شيئا من الغرابة ، أو قل شيئا من الغرابة في هذا الذي يقرأ؛ لأنه يرى أشياء مسرفة في البساطة مألوفة أشد الإلف، ليس من شأنها أن ترتفع إلى حيث تكون أدبا ينتجه الفن الرفيع، وإنما هي من هذه الأشياء التي يراها الإنسان في كل يوم وفي كل مكان، وفي الطبقات الساذجة العادية من الناس؛ فيسأل القارئ نفسه، أو قل يقنع القارئ نفسه، بأن الكاتب لم يرد إلى هذه البسائط، وإنما اتخذها وسائل قريبة لغايات بعيدة.
وهنا يدفع القارئ إلى التماس هذه الغايات، فيذهب في التماسها كل مذهب، ويسلك إلى استكشافها كل سبيل، وقد يصل إلى شيء يحسبه الغاية التي قصد إليها الكاتب، ولكنه لا يكاد يفكر ويروي، حتى يشك فيما انتهى إليه، وحتى يسأل نفسه ألا يمكن أن يكون الكاتب قد أراد إلى غاية أخرى أو إلى غايات أخر، غير هذه التي انتهى هو إليها؟ وكذلك تستطيع أن تقول: إن قارئ فرانز كفكا، معلق دائما، يخيل إليه أنه يفهم ما يقرأ، وهو يفهم معانيه القريبة من غير شك، ولكنه يشعر شعورا قويا بأن هذا الذي يفهمه ليس هو الذي قصد الكاتب إليه.
وإلى جانب هذا الشعور بالتعليق المتصل يجد القارئ أثناء قراءته حرجا مرهقا وضيقا شديدا؛ لأنه يرى نفسه في بيئة مهما تكن قريبة في ظاهر الأمر فهي غريبة في حقائق الأشياء، وهو من أجل ذلك لا يحس يسرا ولا سهولة ولا سعة، وإنما هو يشعر بضيق الصدر وقلق النفس، وهذا الجهد العنيف الذي يفرض على العقل.
فقارئ فرانز كفكا في الدنيا وليس فيها، هو في عالم غريب، لا هو بالواقعي ولا هو بالوهمي، وإنما هو شيء بين الواقع والوهم يملأ النفس حيرة وشوقا وسأما وإلحاحا في وقت واحد.
تأخذ في قراءة القصة فيفجؤك قربها وتدهشك غرابتها، وأنت لا تكاد تطمئن إلى هذا القرب اليسير المألوف، ولو قد اطمأننت إليه لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب، ورأيت أنك لست في حاجة إلى تكلف الجهد لتفهم ما لا يحتاج إلى فهم، وأنت لا تطمئن إلى هذه الغرابة، ولو قد اطمأننت إليها لتركت القصة وأعرضت عن الكتاب يائسا من القدرة على الفهم، ضنينا بوقتك وجهدك على إنفاقهما فيما ليس إلى فهمه سبيل. فأنت إذن معلق بين الوضوح الذي يملأ نفسك سأما، وبين الغموض الذي يملأ نفسك شوقا، وما تزال في هذه الحال المعلقة منذ تبدأ الكتاب أو القصة إلى أن تفرغ منهما.
وأغرب من ذلك أنك حين تفرغ من القراءة، لا تنتهي إلى ما يحسن الاطمئنان إليه والسكوت عليه، وإنما أنت معلق بعد الفراغ من القراءة، كما كانت معلقا في أولها وفي وسطها، ذلك لأن الكاتب لا يتم قصته، وإنما يقتضبها اقتضابا، وينتهي بها إلى شيء لا يصلح أن يكون غاية لقصة أو كتاب.
ومصدر ذلك في أكبر الظن أن الكاتب نفسه لا يعرف لنفسه غاية يقف عندها أو أمدا ينتهي إليه، وإنما هو يمضي بقصته في طريقها ما وسعه المضي، حتى إذا أدركه الإعياء أو انتهى إلى بعض الطريق، وجد أمامه سدا منيعا لا يستطيع أن يتجاوزه، فوقف حيث ينتهي به السعي، واستأنف السير في طريق أخرى، وانتهى من هذه الطريق الأخرى إلى مثل ما انتهى إليه في الطريق الأولى، فوقف ثم استأنف السير في طريق ثالثة. وما يزال كذلك يبدأ الطرق ولكنه لا ينتهي منها إلى غاية؛ لأنه هو فيما بينه وبين نفسه يائس من الغاية أو كاليائس منها.
فخذ مثلا قصصه الثلاث الكبرى؛ وهي: القضية، والقصر، وأمريكا. فستراه يبدأ قصته الأولى بدءا قريبا كل القرب، غريبا كل الغرابة، فيفرض عليك أن تصحبه في هذه الطريق التي يريد أن يمضي فيها؛ فهذا رجل لم تتقدم به السن، ولكنه قد جاوز الشباب شيئا، يفيق من نومه ذات صباح، وينتظر أن تحمل إليه الخادم طعام الإفطار، ولكن الخادم لا تحمل إليه شيئا، بل لا تدخل عليه، وإنما يدخل عليه رجلان يزعمان له أنهما يمثلان الشرطة، وأنهما قد أقبلا للقبض عليه، وهما يدعوانه في شيء من العنف إلى أن ينهض من سريره ويدخل في ثيابه، ويلحق بهما في غرفة مجاورة ليبدآ معه التحقيق.
وهو دهش لهذا الحادث منكر له، ضيق بهذين الشرطيين، ولكنه مع ذلك مضطر إلى أن يطيع؛ فإذا لحق بالشرطيين في الغرفة المجاورة وجدهما قد أكلا طعامه غير حافلين به ولا آبهين له.
ثم تلقى عليه أسئلة سخيفة لا خطر لها، ثم ترد إليه حريته، ويقال له إنه يستطيع أن يذهب إلى حيث يشاء، وأن يمارس عمله في المصرف الذي يعمل فيه، ولكن عليه أن يعلم أنه متهم، وأنه سيدعى ذات يوم للمثول بين يدي القضاة ليسألوه عن التهمة الموجهة إليه.
والشرطيان ينصرفان عنه، ويثوب هو إلى نفسه، حائرا أول الأمر، ثم ساخطا، ثم منكرا لهذا التصرف، ولكنه قلق يريد أن يتبين جلية هذه القصة، وهو يسأل نفسه فيطيل السؤال دون أن يظفر بجواب، وهو يقبل على عمله كما تعود أن يفعل، ولكن قلقا قد استقر في نفسه، إن أمكن أن يستقر القلق في النفوس.
والشيء الذي لا شك فيه أنه يسعى قليلا قليلا إلى الثقة بأنه متهم، وبأن من الحق عليه ومن الحق له أن يدافع عن نفسه، وفي ذات يوم يدعى إلى التليفون ، فيقال له إن عليه أن يحضر إلى المحكمة يوم كذا، ويدل على مكان هذه المحكمة، وهو مكان غريب لا صلة بينه وبين الأماكن المعروفة للمحاكم ودور الشرطة.
فإذا كان اليوم الموعود ذهب إلى حيث طلب إليه أن يذهب، فرأى عجبا أي عجب؛ رأى دارا كبيرة قذرة متداعية، تكثر فيها السلالم والدهاليز، ولا يهتدي الناس فيها إلى طريقهم إلا بعد جهد شديد، وهي على ذلك دار مسكونة كغيرها من الدور التي يسكنها الفقراء وأوساط الناس، وما يزال يسأل ويبحث ويستقصي، حتى يصل إلى غرفة المحكمة، فيرى جمهورا من الناس غريبا، ويرى جماعة من الموظفين قد جلسوا مجلس القضاء، فيقول لهم ويسمع منهم، وهو لا يفهم عنهم، كما أنهم لا يفهمون عنه، وكما أن النظارة لا يفهمون عنه، ولا عن هؤلاء الموظفين.
ثم ينصرف وقد استقر في نفسه أنه متهم وإن لم يعرف طبيعة التهمة، وقد استقر في نفسه أن من الحق أن يبرئ نفسه أمام القضاة، ولكنه لا يعرف من هؤلاء القضاة، ولا أين يكونون، ولا كيف يصل إليهم! لأنه لم ير في المحكمة إلا جماعة من صغار الموظفين.
وهو ينفق حياته في محاولات شاقة مرهقة ليعرف تهمته وليدافع عن نفسه، فيتصل بكبار المحامين وصغارهم، وبقوم آخرين ليسوا من المحاماة في شيء، وأولئك وهؤلاء يعدونه بالدفاع عنه وتبرئته إن وجدوا إلى تبرئته سبيلا، ولكن أحدا منهم لا يبين له طبيعة تهمته، ولا يدله على مكان القضاة، ولا يلمح له بطريقة الدفاع عنه، وإنما هو أمل يتبعه يأس، ويأس يتبعه أمل، وحيرة مهلكة للنفوس.
وفي ذات مساء يقبل عليه رجلان في زي رسمي دقيق، يدعوانه فيستجيب لهما، وهو لا يعرف لماذا أقبلا عليه وإلام يدعوانه، وقد خطر له - لا أدري لماذا - أنهما مغنيان، وهو يخرج معهما على كل حال، فيأخذه كل منهما من إحدى ذراعيه ويمضيان به لا يلويان على شيء.
حتى إذا تجاوزا المدينة دفعاه إلى مقطع من مقاطع الأحجار، ثم طرحاه على الأرض، ثم أقبلا عليه فذبحاه، وهو يرى ذلك لا يقاوم ولا يحاول المقاومة، حتى إذا أحس وقع الخنجر وعرف أنه الموت قال هذه الجملة التي تنتهي بها القصة: «كما يموت الكلب.»
ولم أعرض عليك شيئا من تفصيل القصة، وإنما عرضت عليك خلاصتها في كثير جدا من الإيجاز، ولو قد عرضت عليك تفصيلها لتنقلت بك من شيء سخيف إلى شيء سخيف، ولتنقلت بك في الوقت نفسه من لغز غامض إلى لغز غامض ومن رمز خفي إلى رمز أشد منه خفاء.
وبطل هذه القصة رجل لا نعرف من اسمه إلا حرفا واحدا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب نفسه؛ فإذا سألت عما أراد إليه الكاتب بقصته هذه الرائعة، فأكبر الظن أنه إنما أراد إلى أن يصور الإنسان الخاطئ الذي لا يشك في خطيئته، ولكنه لا يعرف طبيعة هذه الخطيئة، ولا يعرف كيف دفع إليها ولا كيف تورط فيها ، ولا يعرف كيف يخلص منها، ولا أمام من يستطيع أن يحاول الدفاع عن نفسه.
فهو موقن بأنه خاطئ، وموقن بأن هناك قاضيا يستطيع أن يعاقب على الخطيئة كما يستطيع أن يبرئ منها، وموقن أن هناك قانونا ينظم تبعة الخاطئين، وما يترتب عليها من عقاب، ولكنه يجهل طبيعة الخطيئة، ويجهل طبيعة القانون، ولا يعرف المكان الذي استقر فيه القاضي، ولا يجد الوسيلة التي توصله إليه، وبعبارة واضحة: إنما أراد الكاتب إلى أن يصور الإنسان البائس اليائس الذي أجبر على الحياة دون أن يريدها، وأجبر على الموت دون أن يريده، وخيل إليه أنه حر بين ذلك.
وانقطعت الصلة الدقيقة الأمينة بينه وبين الإله الذي يدخله في الحياة ويخرجه منها، ويحمله ما يحمله من الأوزار والتبعات، لا يؤامره في شيء من ذلك ولا يشاوره، ولا يتيح له حتى أن يلقاه ليستعفيه من التبعة، ويطلب إليه الصفح والمغفرة.
فكاتبنا إذن لا يجحد الإله، ولكنه لا يعرفه ولا يعرف السبيل إليه، وهو مشوق أشد الشوق إلى أن يعرفه ويعرف السبيل إليه، وهو يبذل في سبيل ذلك الجهد كل الجهد دون أن يظفر بشيء، أترى إلى أننا لسنا بعيدين من حيرة أبي العلاء على اختلاف ما بين الرجلين في الزمان والمكان والبيئة والثقافة والوراثة!
فإذا تركت هذه القصة، وعمدت إلى قصة أخرى - وهي القصر - انتهيت إلى نفس النتيجة الموئسة التي انتهيت إليها في القصة الأولى. ولكن الكاتب يسلك بك إلى اليأس طريقا أخرى؛ فبطل هذه القصة الثانية رجل لا نعرف من اسمه إلا حرفا واحدا هو «الكاف» التي هي الحرف الأول من اسم الكاتب، وهو قد أقبل من مكان مجهول إلى قرية مجهولة، يشرف عليها قصر ضخم فخم، وهو يعتقد ويقول للناس إنه قد دعي إلى هذه القرية بأمر من القصر ليشغل فيها منصب المساح، وهو يريد أن يتصل بالموظف المختص في القصر ليتسلم عمله، ولكنه لا يجد سبيلا إلى هذا الاتصال، يحاول أن يتصل من طريق التليفون فلا يسمع إلا أصواتا غامضة لا تدل على شيء، ويحاول أن يتصل بالعمدة، فلا يجد عنده علما بهذا المنصب ولا باختياره له.
ويحاول أن يسعى إلى القصر فلا يجد سبيلا إليه، ويحاول أن يتصل بالقصر بوساطة السعاة الذين يسعون بين سادة القصر وبين القرية، فلا يظفر بشيء، وإنما هو الخداع يتبعه الخداع، والحيرة تتبعها الحيرة، والعناء المتصل والشقاء المقيم.
وتنتهي القصة إلى غير غاية كما ترى؛ أنفق صاحبنا حياته في القرية، لا هو بالموظف فيتسلم عمله ويعيش مع أهل القرية كما يعيشون، ولا هو باليائس فيعود من حيث جاء، وإنما معلق بين اليأس والرجاء حتى يدركه الموت.
ولم أعرض عليك تفصيل هذه القصة، كما أني لم أعرض عليك تفصيل القصة الأولى، وإنما اكتفيت هنا كما اكتفيت هناك بهذه الخلاصة اليسيرة التي تصور لك ما أراد إليه الكاتب من تصوير الإنسان إليه غريبا معلقا لا يدري من أين جاء، ولا إلى أين يمضي، وإنما يخيل إليه أنه قد دعي وأن له عملا ينبغي أن يؤديه، ثم يحال بينه وبين هذا العمل، وتضيع حياته في هذه الجهود المجدبة التي لا تغني عن أصحابها شيئا.
ولو قد استطاع أن يصل إلى القصر ويتحدث إلى من فيه، لعرف جلية الأمر، ولكن الأسباب منقطعة بينه وبين القصر، فهو لا يستطيع أن يصل إليه، القصر موجود، ما في ذلك شك، يسكنه أهله وسادته، ما في ذلك شك، وهو يدبر أمر القرية والمقيمين فيها والطارئين عليها، ما في ذلك شك، ولكنه يدبر هذا الأمر من بعيد، ولا يتيح للمقيمين ولا للطارئين أن يتصلوا به أو يراجعوه في قليل أو كثير.
فموقف الكاتب هنا كموقفه هناك، لا ينكر وجود القوة القاهرة المدبرة، ولكنه لا يعرف كيف يتصل بها، ليتبين جلية أمره، وليعرف لماذا يجب عليه أن يفعل، ولماذا يجب عليه أن يترك، ولماذا يحتمل ما يحتمل من التبعات.
أما القصة الثالثة «أمريكا» فلعلها أن تكون أقل إحراجا وإرهاقا من هاتين القصتين، ولكنها على ذلك لا تخلو من الحرج والضيق والألم، وهي كذلك لا تنتهي إلى غاية ، ويستطيع ماكس برود - صديق الكاتب - كما يستطيع غيره من النقاد أن يرى في هذه القصة شيئا من أمل، وأن يظن أنها تدل على أن الكاتب قد ثاب إلى الثقة قبل أن يموت.
أما أنا فلا أرى من ذلك شيئا، وكل ما في الأمر أن بطل القصة صبي لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، فأمره رفيق بعض الشيء، ولكنه منته إلى مثل ما ينتهي إليه أمر غيره من هذا الغموض الذي لا غاية له.
واسم هذا الصبي كامل غير منقوص، وهو كارل روسمان، وأوله «الكاف» كما ترى، وقد سخط عليه أبواه؛ لأن خادما أغوته فنفياه من أوروبا إلى أمريكا، وفي أمريكا تختلف عليه الأحداث، فمن نعيم ويسر إلى بؤس وعسر، ومن استقامة ووضوح إلى التواء وغموض. ثم ينتهي الأمر به بعد كثير من الخطوب إلى أن يقبل عاملا في فرقة تمثيلية غامضة أشد الغموض، وقد وضع مع زملائه في قطار يذهب به إلى غير غاية معروفة.
فأنت ترى أن المذهب هو هو، لم يتغير، هذا الصبي عبثت به خادم، وقسا عليه أبواه فنفياه، وتلقته أحداث غامضة مبهمة متناقضة مضادة لأخلاقه وآماله، ثم يوضع آخر الأمر في قطار يمضي به إلى مكان مجهول، ثم نحن لا نعلم من أمره بعد ذلك شيئا، أتراه وصل إلى المدينة التي أرسل إليها أم لم يصل؟ وما عسى أن يكون عرض له من الأحداث أثناء السفر قبل أن ينتهي القطار إلى غايته إن كان قد انتهى إليها؟ أتراه قد قبل حقا في هذه الفرقة التمثيلية، فقد كان قبوله الأول مبدئيا، أريد به إلى التجربة لا إلى الاستقرار.
كل هذه أمور مجهولة يخيل إلينا الكاتب أن جهلها ناشئ من أنه لم يتم القصة؛ ولكن لم لم يتم القصة؟ لأنه لم يعرف كيف يتمها، وهو لم يعرف كيف يتمها لأنه لا يعرف كيف تتم قصة الإنسان مهما يكن أمره، ومهما تكن الظروف التي تحيط به، ولأنه لا يعرف كيف تتم قصته هو؛ فهو غير مطمئن إلى أن الموت يختم قصة الإنسان، ولكنه لا يعرف عما يكون بعد الموت شيئا.
وهو غير مطمئن إلى أن هذه الحياة التي نحياها لم يقصد بها إلا إلى هذه الأغراض اليومية التافهة التي نحاول تحقيقها فنحقق أقلها، ونعجز عن تحقيق أكثرها، ولكنه لا يعرف عن الأغراض العليا التي يمكن أن تكون الحياة وسيلة إليها شيئا.
محنته الكبرى ومشكلته التي لم يجد لها حلا، هي أنه لم يستطع أن يستكشف الصلة بين الإنسان وبين الإله، وما مصدر العجز عن استكشاف هذه الصلة؟ إن الإنسان يشعر شعورا قويا متصلا بوجود الإله، ويحاول محاولة مستمرة ملحة أن يسمع كلمته ويتلقى أمره ليصدع بهذا الأمر، فيبرأ من الإثم، ويخرج من الخطيئة، ويتخفف من ثقل التهمة التي ألقيت عليه، فلا يجد إلى ذلك سبيلا.
أمصدر ذلك أن الإنسان أعجز من أن يرقى إلى الإله؟ أم مصدر ذلك أن الإله لا يريد، عن عجز أو عن عمد، أن يهبط إلى الإنسان؟ أم مصدر ذلك قصور في الإنسان وفي الإله نفسه عن أن يلتقيا؟ وإذن ففيم التهمة وفيم التبعة وفيم العقاب؟
هذه هي المشكلات الكبرى التي فرضت على فرانز كفكا منذ امتحن في إيمانه فجحد دين آبائه، ولم يستطع أن يهتدي إلى دين غيره يرد إليه هذا الإيمان، وهي فيما أعتقد نفس المشكلة التي فرضت على أبي العلاء، لا فرق بين الرجلين إلا هذه القرون العشرة التي أتاحت للمعاصرين ضروبا من العلم وفنونا من الفلسفة وألوانا من الحرية لم تتح لشيخ المعرة.
ومع ذلك فقراءة اللزوميات، وقراءة الفصول والغايات في تعمق واستقصاء، تنتهي بك إلى نفس الموقف الذي تنتهي بك إليه قراءة «القضية» و«القصر» و«أمريكا»؛ فشيخ المعرة يرى كما يرى فتى مدينة براج أن للعالم خالقا حكيما، لا يشك أحد منهما في ذلك، ولكنهما لا يفقهان حكمة هذا الخالق ولا يعرفان إلى فقهها سبيلا.
وهما من أجل ذلك يمتنعان عن الشر أو عما يريان أنه الشر ما استطاعا، ويقبلان على الخير أو على ما يريان أنه الخير ما استطاعا؛ يكفان أذاهما عن الناس ويتجنبان السعي إلى مخالطتهم والاضطراب معهم فيما يضطربون فيه، ويحرمان على أنفسهم الزواج والنسل، ويشقيان بقلبين يريدان الإيمان ويحاولان الوصول إليه ما أطاقا المحاولة، وبعقلين يعترفان بما فرض عليهما من الضعف والعجز والقصور، لا يستسلمان إلى اليأس المطلق، ولكنهما لا يطمئنان إلى الأمل، وإنما يعيشان في هذه الدار عيشة معلقة بين الرجاء والقنوط.
وهما ينظران إلى العالم من حولهما يريدان أن يفهماه ويستكشفا دقائقه وعلله، فلا يبلغان من ذلك شيئا، لا يرضيهما موقف العالم المتواضع الذي يستكشف قوانين الكون فيسجلها، وينتفع بها وينفع بها الناس، ولكنهما يريدان أن يعرفا علة هذه القوانين، وبينهما وبين معرفة هذه العلة آماد بعيدة لا يستطيعان لها عبورا، وهما من أجل ذلك ينكران العلة الغائية، ولا يطمئنان إلى ما تعود الناس أن يطمئنوا إليه من أن العالم لم يخلق عبثا، ومن أن لكل ما يحدث في هذا العالم غاية بينة أو غامضة، وليس معنى ذلك أنهما يجحدان حكمة الخالق وما يمكن أن يكون لها من غايات، ولكن معناه أنهما لا يعرفان هذه الحكمة، ولا يستطيعان أن يعرفاها، ولا يقبلان هذه العلل الغائية التي يقبلها الناس، وإنما يجيزان أشياء كثيرة لا يراها الناس جائزة ولا ممكنة؛ لأنها تخالف ما تواضعوا عليه من العلل والغايات.
فأبو العلاء يرى أنه من الممكن أن يشم الإنسان بغير أنفه، ويرى بغير عينيه، ويذوق بغير لسانه، ويمشي على غير قدميه؛ ذلك كله ممكن لأن الذي خلق الإنسان على هذا النحو الذي نعرفه، وصوره في هذه الصورة التي نألفها، يستطيع أن يخلقه على نحو آخر، ويصوره في صورة أخرى، ويمنحه مزاجا آخر، ويركب حسه في حيث يشاء من أعضائه.
وفرانز كفكا يحدثنا في قصة المسخ عن هذا الفتى الذي أفاق من نومه ذات صباح فلم ير نفسه كما رآها قبل أن ينام، وإنما رأى صورته قد مسخت إلى حشرة قذرة كأبشع ما تكون الحشرات، وهو على ذلك محتفظ بشيء من عقله وقلبه، يفكر ويشعر ويحس، ويميز بين الخير والشر، ويقدر اللذة والألم، ويعرف الرضا والسخط، وهو يرى مكانه بعد المسخ من أهله ومن الناس، يقدر قسوة أبيه، وحنان أمه، وعطف أخته، ثم ما يزال يلاحظ ازدياد القسوة في نفس أبيه، وفتور الحنان في قلب أمه، وتناقص العطف في قلب أخته، وقد سعى السأم إليهم جميعا من هذه الحياة المرة البائسة المخزية، حتى تتمنى الأخت لو تخلصت الأسرة من هذا العبء الثقيل، ويقرها أبوها في صراحة، ولا تجرؤ الأم على أن تقول نعم أو لا.
ويبلغ منه هذا كله حتى ينتهي به إلى موت سخيف حقير، وما الذي يمنع أن يمسخ الإنسان إلى حشرة قذرة، أو إلى حيوان جميل؟ فالذي ركب العقل في هذه الصورة الإنسانية التي نراها، يستطيع أن يركب العقل فيما شاء من الصور الجميلة والقبيحة، الحية وغير الحية.
ومن يدري! لعل الإنسان كما هو أن يكون حشرة بشعة، بغيضة بالقياس إلى كائنات أخرى في هذا العالم لا نعرفها، أو في عالم آخر لا نعرفه، بل من يدري! لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة التي تفكر وتقدر وتحصي وتستقصي، وتطمح إلى الحق والخير والجمال، لعل الإنسان بالقياس إلى نفسه العاقلة هذه أن يكون حشرة بشعة بغيضة، حين يرضي حاجاته الطبيعية على اختلافها وتباينها؛ ففي الإنسان كثير من طباع الحشرات، وفيه في الوقت نفسه شيء آخر يرفعه عن هذه الطبيعة الدنيئة.
ولو قد خلص الإنسان لإحدى هاتين الطبيعتين من دون الأخرى لما أحس شقاء ولا بؤسا، ولما ذاق طعم الخطيئة، ولما احتاج إلى أن يبرئ نفسه من هذه التهمة التي لا يعرفها أمام هذا القاضي الذي لا يصل إليه، لو خلص الإنسان لطبيعة الحشرة وحدها، لما فرق بين الخير والشر، ولا بين الإساءة والإحسان، ولو خلص لطبيعة العقل المجرد لما احتاج إلى أن يفرق بين الخير والشر؛ لأنه في حاله تلك لا يعرف إلا الخير، ولا يطمح إلا إليه.
فالمحنة كل المحنة هو هذا الازدواج بين طبيعة الحشرة القذرة، وطبيعة النفس الممتازة العاقلة، وهنا أيضا يلتقي فتى براج فرانز كفكا، وشيخ المعرة أبو العلاء.
والنقمة الكبرى عند أبي العلاء هي الحياة، والنعمة الكبرى هي فقدان الحياة، والذي يجعل النقمة نقمة هو هذا العقل الذي ركب في هذه الصورة الإنسانية فرأى الشر من قريب ولم يستطع أن يخلص منه، ولا أن يتخفف من أثقاله، ولا أن يتصور حياة إنسانية عاقلة تبرأ من التبعات.
فأنت ترى إلى الآن أن أدب فرانز كفكا يقوم، أو قد يدور حول هذه الأصول الثلاثة: وهي العجز عن الاتصال بالإله من جهة، والعجز عن فهم الخطيئة والتبرؤ منها مع الثقة بالتورط فيها من جهة ثانية، والعجز عن فهم العلل الغائية لما يكون في العالم من الخطوب والأحداث من جهة ثالثة.
وأنت إذا قرأت هذه الآثار الكثيرة التي نشرت لفرانز كفكا على اختلافها في الطول والقصر، وتفاوتها في الوضوح والغموض، رأيتها كلها تدور حول هذه الأصول، وقد يلح هذا الأثر أو ذاك في تجلية هذا الأصل أو ذاك، ولكن مجموعتها تنتهي بك دائما إلى هذه الخلاصة القاتمة السلبية، التي تجعل حياة الإنسان كلها عجزا وقصورا ويأسا أو شيئا قريبا جدا من اليأس.
ومن أجل هذا وصف أدب فرانز كفكا كما وصف أدب أبي العلاء بأنه أدب قاتم حالك، يفل العزائم ويثبط الهمم، ويصد الإنسان عن العمل ويرده عن الأمل، ويدفعه إلى نشاط عقلي عقيم، يدور حول نفسه أكثر مما يدور حول غيره، ولا يحفز الناس إلى طمع أو طموح، وإنما يمسكهم في لون من الخوف المنكر، الذي لا أمن معه ولا اطمئنان.
ومن أجل هذا حرقت كتب كفكا في برلين أثناء الحكم الهتلري، ومن أجل هذا أيضا كان اليساريون في فرنسا يبغضون هذه الكتب أشد البغض، ويودون لو يحال بينها وبين الشباب، ويعبرون عن هذا كله بهذه الجملة التي كثر حولها الحديث في فرنسا أثناء الصيف الماضي: «يجب أن يحرق فرانز كفكا.»
وواضح جدا أن هذه العبارة ليست إلا رمزا؛ فتحريق الكتب لا يغني شيئا، ويكفي أن تحرق الكتب ليزداد انتشارها، إنما المهم هو أن هذا الأدب القاتم مثبط لهمم الشباب، فلا ينبغي أن يخلى بينه وبين الشباب.
والقارئ العربي يعرف حق المعرفة أن آثار أبي العلاء تعرضت لمثل هذا الشر الذي تعرضت له آثار فرانز كفكا، ولكن الشرق قد يكون أعظم تجربة من الغرب في بعض الظروف.
وقد رأى الشرق العربي أن آثار أبي العلاء على غلوها في التشاؤم والحلوكة لم تثبط الهمم، ولم تفل العزائم، ولم تصرف عن العمل، ولم ترد عن الأمل، وإنما منحت النفوس خصبا وفطنة وذكاء، وحالت بين العقل الإنساني وبين الغرور الذي يطغيه ويدفعه إلى كبرياء عقيمة مهلكة فاضطرته إلى أن يضع نفسه حيث وضعه الله، فلا يسرف على نفسه بالبغي والطغيان، ولا يزعم لنفسه القدرة على فهم كل شيء والنفوذ إلى دقائق ما في الكون من أسرار.
وسواء رضي الناس أم سخطوا، فإن التشاؤم ظاهرة طبيعية في حياة العقل والشعور تبدو في ظروف معينة ملائمة لها، كالظروف التي أحاطت بفرانز كفكا، وما زالت تحيط بكثير من كتاب الأدب المظلم في أوروبا وأمريكا، وكالظروف التي أحاطت بحياة أبي العلاء منذ عشرة قرون.
ولعل القراء يلاحظون أن أدب أبي العلاء قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وأنه كان تنبؤا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صبت على العالم الإسلامي حين أغار عليه الصليبيون، وأن أدب فرانز كفكا قد نشأ في عصر فساد وفتنة واضطراب، وكان تنبؤا مروعا بكوارث خطيرة لم تلبث أن صبت على العالم بإعلان الحرب العالمية الثانية.
وقد احتفل العرب منذ أعوام بالعيد الألفي لأبي العلاء، وأكبر الظن أن الأوروبيين لن ينتظروا ألف سنة ليحتفلوا بفرانز كفكا، ولكنهم سينتهزون أقرب الفرص للاحتفال به، وسيتبينون - إن لم يكونوا قد أخذوا يتبينون بالفعل - أن أدب فرانز كفكا قد كان من الخصب والقوة بحيث أخذ يترك في الآداب العالمية آثارا بعيدة عميقة، ليس إلى محوها من سبيل.
ملاحظات
ما زال الأدباء الفرنسيون يجادل بعضهم بعضا، حول موضوع يراه بعضهم خطيرا، ويراه أكثرهم لا خطر له، وهو التزام الأديب حين ينشئ أدبه ، واحتماله تبعة ما يكتب بأوسع معاني هذه الكلمة، كلمة التبعة، واتصاله حين يكتب بحقائق الحياة الواقعة التي تحيط به.
وقد عرضت هذا الموضوع عرضا مفصلا في هذا المكان نفسه من «الكاتب المصري» في أول شهر أغسطس الماضي، وكنت أظن أنها خصومة قد انقضت أو توشك أن تنقضي، ولكنها فيما يظهر ما تزال قائمة، وما يزال الكتاب الفرنسيون يبدئون فيها ويعيدون.
وصاحب هذا الرأي هو جان بول سارتر أديب «الوجوديين» الفرنسيين في هذه الأيام؛ فهو الذي يكتب في هذا الموضوع فيطيل، وهو الذي لا يسأم التكرار في هذه القضية، حتى كأنه يتحدى خصومه ويريدهم على أن يجادلوه أو يعطوه أيديهم وينزلوا عند رأيه.
وقد استأنف الحديث في هذه القضية في مجلته «العصر الحديث» منذ أشهر، فبدأ في نشر دراسة مفصلة، عنوانها «ما الأدب؟» وموضوعها الدقيق هو التزام الأديب حين يكتب، واحتماله تبعة ما يكتب، ووجوب أن يكون متصلا حين يكتب بما يحيط به من واقع الحياة.
وقد وصل إلي أكثر ما كتب في هذه الدراسة الأخيرة، وقد نشر في عددي فبراير ومارس من هذا العام، وما زالت لهذه الدراسة بقية نشرت في عدد أبريل الذي لم يصل إلى الآن، ولعلها تجاوزت هذا العدد إلى عدد مايو أيضا، وما كان بي أن أعود إلى هذا الحديث لولا أن الدراسة التي ينشرها جان بول سارتر، قيمة حقا، فمن النافع أن يلم بها قراء اللغة العربية، ولولا أن في هذه الدراسة القيمة ملاحظات مختلفة يتصل بعضها بالفن الخالص ويتصل بعضها بالأدب ويتصل بعضها بالفلسفة، ويمس بعضها ما يكون بين الكاتب وقارئه من صلة، ومن النافع كذلك أن يظهر قراء العربية على مثل هذه الملاحظات، ولولا أن في هذه الدراسة القيمة أيضا أحكاما يخيل إلي أنها أرسلت إرسالا، أو أنها نشأت عن التكلف والتحذق والحرص على تحدي الخصوم، ومن النافع لقراء العربية أن يظهروا على بعض هذه الأحكام، وأن يحذروا منها ومن أمثالها.
وقد قسم الكاتب دراسته ثلاثة أقسام، الأول عنوانه: ماذا نكتب؟ والثاني عنوانه : لماذا نكتب؟ والثالث عنوانه: لمن نكتب؟
وقد يكون من الطريف أن يرى القارئ كيف يبدأ جان بول سارتر دراسته عنيفا متحديا لخصومه ساخرا منهم غير حافل بهم وغير متردد في أن يتهمهم بالعناد أو بالغباء؛ فهو يقول في أول بحثه: «كتب إلي مغفل يقول: «إذا أردت أن تلتزم فما يمنعك أن تنضم إلى الحزب الشيوعي؟» وقال لي كاتب كبير التزم كثيرا، وتحرر أكثر مما التزم، ولكنه نسي التزامه وتحرره: «إن أسخف الفنانين أشدهم التزاما، وانظر إلى المصورين السوفييتيين.»
وشكا ناقد شيخ في هدوء قائلا: «إنك تريد أن تقتل الأدب؛ فإن ازدراء الأدب الرفيع يشيع وقحا بغيضا في مجلتك.» ويصفني صاحب عقل صغير بأني قوي العقل، وهو وصف يرادف عنده الإهانة كل الإهانة، وكاتب آخر يزحف متثاقلا من حرب إلى حرب ويثير اسمه ذكريات متهالكة عند الشيوخ يلومني لأني لا أحفل بالخلود، وهو يعرف والحمد لله كثيرا من كرام الناس يعقدون به أعظم آمالهم.
ويرى صحفي أمريكي ضئيل أن خطيئتي هي أني لم أقرأ برجسون ولا فرويد، أما فلوبير الذي لم يلتزم فيظهر أنه يساورني كأنه الندم، وبعض الماكرين يغمضون عيونهم قائلين: «والشعر؟ والموسيقى؟ والتصوير؟ أتريد أن تلزمها هي أيضا؟» وبعض أصحاب العقول المتهيئة للحرب يقولون: ما القصة؟ أتريد الأدب الملتزم؟ فهي إذن طريقة الاشتراكيين المحققين القدماء إلا أن يكون تجديدا عنيفا للشعبية القديمة. «ما أكثر الحماقات! وما أسرع ما يقرأ الناس وما أقل ما يفهمون! وما أكثر ما يحكمون قبل أن يفهموا! فلنستأنف الحديث إذن، وهو حديث لا يسلي أحدا، ولكن يجب أن نثبت المسمار».»
على هذا النحو العنيف الساخر، يبدأ جان بول سارتر دراسته، وهو يهاجم النقاد؛ لأنهم يتحدثون دائما عن الأدب دون أن يبينوا ما يريدون بهذه الكلمة، وهو يريد أن يعيد تحديد الأدب من جديد على طريقة ديكارت الذي يتخفف قبل كل شيء من أثقال الأوهام والتقاليد، وما اتفق الناس على تسميته بالحقائق المقررة.
وأول هذه الأوهام التي يريد الكاتب أن يتخفف منها قبل أن يعرف الأدب هو هذا الوهم الذي يدفع كثيرا من الناس إلى إيجاد صلة دقيقة لازمة بين الأدب والفنون الرفيعة؛ فبعض الأدباء يتحدثون عن الموسيقى والتصوير حين يذكرون أدبهم، وبعض الموسيقيين والمصورين يذكرون الأدب حين يتحدثون عن موسيقاهم وتصويرهم.
وما من شك في أن هذه الفنون الرفيعة تتشابه من حيث إنها وسائل للتعبير عن إحساس الجمال والشعور به، ووسائل أيضا لإشراك غيرك معك فيما تحس من جمال بواسطة تعبيرك عن هذا الإحساس.
ولكن هذا شيء والاتصال الدقيق بين هذه الفنون بحيث تصدق عليها كلها أحكام دقيقة مشتركة شيء آخر؛ فإذا قيل إن الأدب يجب أن يلتزم ويحتمل التبعات ويتصل بحقائق الحياة، فليس معنى هذا أن الفنون الرفيعة الأخرى يجب أن تخضع لهذا الحكم؛ لأن هذه الفنون الرفيعة الأخرى تغاير الأدب مغايرة جوهرية.
فالموسيقى قوامها الأصوات الخالصة، والتصوير قوامه الألوان، والأدب قوامه الألفاظ، وهذه المواد متغايرة في جوهرها، فيجب أن تتغاير في آثارها وفيما تخضع له من الأحكام؛ فالأصوات التي تتألف منها الموسيقى، والألوان التي تأتلف منها الصورة، ليست علامات يراد بها شيء آخر غيرها، وإنما هي أشياء قائمة بنفسها مستغنية بنفسها، تأتلف فتدل على شيء، أو بعبارة أصح: تأتلف فتنشئ شيئا هو القطعة الموسيقية أو الصورة.
على حين أن الألفاظ في نفسها ليست أشياء مستقلة، وإنما هي علامات يدل بها على أشياء أخرى غيرها، والمصور حين ينشئ صورة بيت حقير لا يدل بصورته هذه على شيء أكثر من البيت الحقير الذي عرضه، وهو لا يوحي إليك بما قد يكون في هذا البيت الحقير من بؤس وضنك وحرمان وعذاب؛ لأنه لم يرد إلى ذلك، وإنما أراد إلى أن ينشئ بيتا حقيرا فأنشأه، على حين يدل الكاتب حين يصف هذا البيت الحقير على أكثر من البيت، يدل على ما يحتويه هذا البيت من آلام وأحزان وحسرات ويأس، وقد يبلغ بك إلى أبعد من هذا، فيثير في نفسك عواطف الإشفاق والرحمة، أو عواطف الغيظ والغضب، ويثير في نفسك بعد ذلك الرغبة في الإصلاح الاجتماعي، وقد يدفعك إلى محاولة الإصلاح دفعا.
فالألفاظ إذن وسائل غايتها المعاني التي هي عواطف وأحكام وحقائق خارجية، وليس هناك أمل في أن تطلب الألفاظ لنفسها أو يعنى بها الإنسان من حيث هي ألفاظ، إلا أن يكون مريضا أو مجنونا، وإذن فلا غرابة في أن يطلب إلى الكاتب أشياء لا تطلب إلى المصور ولا إلى الموسيقي؛ لأن فن الكاتب مغاير في مادته وجوهره لفن المصور والموسيقي.
إلى أي حد تستقيم هذه الملاحظة أو يستقيم هذا الحكم المطلق الذي يقرره جان بول سارتر واثقا به مطمئنا إليه، مستعليا به على خصومه؟ أما أن يبين الألفاظ التي يأتلف منها الأدب، والأصوات والألوان التي يأتلف منها التصوير والموسيقى تغايرا في المادة، فشيء ليس فيه شك ولا معنى للمراء فيه.
وإنما الذي أشك فيه شكا كثيرا، هو أن المصور حين يرسم البيت الحقير لا يزيد على أن يرسم بيتا حقيرا، ولا يزيد على أن يشعرك بأنه قد أتقن التصوير أو لم يتقنه.
وأكبر الظن أن كثيرا من آيات المصورين لا تثير الإعجاب بالجمال وحده، ولكنها تثير وراء هذا الإعجاب عواطف أخرى قد تغير من اتجاه الإنسان في حياته، وقد تحوله عن طريق إلى طريق، وقد تدفعه إلى محاولات عملية تغير من حياته ومن حياة الناس من حوله، وأمر الموسيقى كأمر التصوير وغيره من الفنون الرفيعة المختلفة.
وكل ما يمكن أن يسلم للكاتب، هو أن الأدب أصرح وأفصح وأوضح دلالة من الفنون الأخرى التي تعتمد على الرمز والإيماء أكثر مما تعتمد على التعمق والاستقصاء الدقيق؛ فإذا استباح جان بول سارتر لنفسه أن يلزم الأدب ويحمله التبعات لأنه يعيش في بيئة، فيجب أن يصور هذه البيئة ويصلحها ويحتمل معها تبعاتها، فقد يجوز أن نطالب المصورين والموسيقيين والمثالين بمثل ما نطالب به الأدباء من الالتزام واحتمال التبعات، ويخيل إلي أنهم لم ينتظروا أن نطالبهم بهذا الالتزام! فالذين صوروا مشاهد الدين وأقاموا المساجد والكنائس والتماثيل التي تصور هذا الشخص أو ذاك وهذه الفكرة أو تلك، مهما تكن شخصيتهم وعبقريتهم واستقلالهم، قد تأثروا بالبيئة التي عاشوا فيها وأثروا في هذه البيئة وفي البيئات الأخرى التي عاصرتها أو تبعتها؛ فهم إذن ملتزمون مشاركون في احتمال التبعات.
وقد يكون الفرق عظيما هائلا بين تصريح الأدب وتلميح التصوير، ولكن الشيء المحقق أن تأثير الفن في إذكاء العواطف الدينية مثلا، ليس أقل من تأثير الكلام.
وملاحظة أخرى: يخيل إلي أن جان بول سارتر لم يوفق فيها للصواب كله، وهي التي تتصل بالشعر؛ فهو يريد أن يلزم الشعر كما يلزم النثر، وهو يتوسل إلى ذلك بنفس المنهج الذي أعفى به الفنون الرفيعة الأخرى من الالتزام، وهو يعترف بأن الشعر يأتلف من الألفاظ التي يأتلف منها النثر، ولكنه يرى مصيبا أن نظر الشاعر إلى الألفاظ مخالف أشد المخالفة لنظر الناثر إليها؛ فالألفاظ عند الناثر وسائل لا أكثر، وهي عند الشاعر غايات يريد الكاتب بألفاظه أن يؤدي المعاني، ويريد الشاعر أن يجد في الألفاظ نفسها جمالا خاصا يستكشفه ويحققه بما يحدث بين هذه الألفاظ من الائتلاف.
ولا يستطيع جان بول سارتر أن يقصر عناية الشاعر على الألفاظ وما يكون من ائتلافها واختلافها؛ فهناك معان وحقائق يحاول الشاعر أن يدل عليها بشعره، ولكن هذه المعاني والحقائق ليست هي الأشياء التي يقصد إليها الشاعر مباشرة حين ينظم الشعر، وإنما هو يجد هذه المعاني في نفسه ويجد هذه الحقائق في الخارج، ويحاول أن يتخذ من الألفاظ رموزا لها وصورا تدل عليها من بعيد.
وإذن فلا حرج على الشاعر إذا لم يلتزم، ولم يحتمل التبعات، ولم يتصل بحقائق الحياة الواقعة الإنسانية متأثرا بها مؤثرا فيها دافعا إلى تغييرها إن احتاجت إلى التغيير، وإلى صيانتها إن احتاجت إلى الصيانة والبقاء، وهذا حق في جملته، ولكن جان بول سارتر إنما يتحدث عن الشعر المعاصر عند بعض الأوروبيين، أو عن بعض المذاهب لبعض الشعراء المعاصرين.
وأمامه مشكلة خطيرة لم يحلها، بل لم يحاول أن يحلها، بل لم يشر إليها من قريب أو بعيد، وهي أن الإنسانية المثقفة تكلمت شعرا قبل أن تتكلم نثرا، وأدت بالشعر أغراض الحضارة كلها في وقت من الأوقات؛ فقد كان الشعراء إذن يلتزمون ويحتملون التبعات، يتأثرون بالحياة الواقعة، ويؤثرون فيها إلى حد أن كان الشعر بالقياس إلى الإنسانية القديمة مصدرا خطيرا من مصادر التاريخ.
ومن أسخف السخف أن يقال إن شعراء الإلياذة والأودسة والشعراء الغنائيين والممثلين عند اليونان والرومان وفي العصر الحديث، لم يكونوا يلتزمون ولم يكونوا يقصدون إلى المعاني في أنفسها، ولم يكونوا يتخذون الألفاظ وسائل إلى هذه المعاني.
وهناك حقيقة أدبية أخرى لم يلتفت إليها جان بول سارتر مريدا أو غير مريد ألا يلتفت إليها، وهي أن الكتاب الناثرين قد يذهبون مذهب الشعراء، فيعنون بالألفاظ في أنفسها ويتخذونها غاية فنية، ومظهرا من مظاهر الجمال، ووسيلة إلى إثارة الإعجاب والبهجة اللذين يثيرهما الشعر.
وسواء أكان هذا الفن النثري مشروعا كما يقول أصحاب القانون، أم غير مشروع، فإنه موجود وموجود في الآداب الكبرى كلها قديمها وحديثها.
والباحث المنصف يجب عليه أن يأخذ الظواهر كما يريد أن تكون، ومن الظواهر الأدبية الواقعة المحققة أن الشعراء قد يقصدون إلى المعاني ويتخذون الألفاظ وسائل إليها، وأن الكتاب قد يعنون بالألفاظ ويتخذونها في أنفسها مادة للفن.
فإذا كان الالتزام واحتمال التبعات منوطا باعتبار الألفاظ وسائل والمعاني غايات، فأصحاب المعاني من الشعراء والكتاب سواء في الالتزام، وأصحاب الألفاظ من الشعراء والكتاب سواء في التحرر من هذا الالتزام.
والنتيجة البسيطة الواضحة التي ننتهي إليها، هو: أن كاتبنا الوجودي العظيم قد يكون موفقا في الفلسفة، وإن كان الفلاسفة لا يعترفون له بهذا التوفيق، ولكن المحقق أنه ليس موفقا في الأدب، وأن أحكامه على الشعر والنثر والفنون الرفيعة حين تتصل بقضية الالتزام هذه تقوم على التحكم أكثر مما تقوم على أي شيء آخر.
وقد رأيت أن المصورين والمثالين والبنائين والموسيقيين يمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات، وأن الشعراء يمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات قبل أن يوجد النثر، وبعد أن وجد النثر، وفي العصر الذي نعيش فيه، وفي البيئة التي يعيش فيها جان بول سارتر نفسه.
فشعراء المقاومة الفرنسية قد التزموا بشعرهم، وعرضوا أنفسهم بهذا الشعر لأخطار هائلة، فاحتملوا من التبعات المعنوية والمادية ما يعرفه جان بول سارتر حق المعرفة، ولست أدري أيكون هؤلاء الشعراء منتمين إلى أحزابهم السياسية اليسارية لأنهم التزموا بشعرهم ففرض عليهم هذا الشعر أن يكونوا يساريين، أم يكون هؤلاء الشعراء شعراء ملتزمين محتملين للتبعات لأنهم يساريون دفعتهم تبعات أحزابهم إلى أن يقولوا ما قالوا من الشعر.
ولكني حسن الظن بالإنسانية، وبالإنسانية المثقفة الممتازة، وأنا أرى من أجل ذلك أن أراجون مثلا شيوعي؛ لأن شعره دفعه إلى الشيوعية، لا أنه شاعر لأن شيوعيته دفعته إلى الشعر أو فرضت عليه الشعر فرضا.
فالفن الرفيع سواء أكان أدبا منثورا أم منظوما أم شيئا آخر غير الأدب أوسع جوا من هذه الأغراض الضئيلة التي يختصم حولها الناس؛ فأراجون مثلا له شعره السياسي، ولكن له أيضا شعره الخالص الذي لا يتصل بالسياسة من قريب أو بعيد، ولا يمس الإصلاح الاجتماعي أو النظام السياسي، وهو ملتزم دائما، ملتزم حين يمس السياسة والاجتماع أمام الفن أولا وأمام الجماعة ثانيا، وملتزم حين لا يمس السياسة ولا الاجتماع أمام الفن نفسه، وحسبك بالفن محاسبا عسيرا يعرف كيف يأخذ الفنانين بما يجب أن يحتملوا من التبعات.
وملاحظة أخرى لجان بول سارتر لم يوفق فيها للصواب كله، وإنما وفق فيها لسخرية ظريفة طريفة لعلها أن تعفيه من تبعات الخطأ الذي تورط فيه؛ فهو قد عرض للنقد والنقاد عرضا رائعا حقا، ولكنه بعيد عن الإنصاف أيضا.
وأكبر الظن أن مصدر جوره على النقاد أنهم لا يرفقون به ولا يرقون له ولا يعطفون عليه؛ فهو يزعم أن النقاد إنما يعنون بالموت أكثر مما يعنون بالحياة، وبالأموات أكثر مما يعنون بالأحياء.
وهو يصور لنا الناقد ضيقا بامرأته التي تعنف به، وبأبنائه الذين يثقلون عليه، هاربا منهم إلى خزانة كتبه حيث يعاشر الموتى من الكتاب، يفزع إلى معاشرتهم، ويأنس بهذه المعاشرة ويستعين بها على كسب القوت حين ينقضي الشهر.
وهذا في نفسه كلام ظريف قد تكون له روعته وجماله، ولكنه في حقيقة الأمر كلام فارغ لا يدل على شيء، فسواء أراد جان بول سارتر أم لم يرد، فقدماء الكتاب والشعراء والفلاسفة قد ماتت أجسامهم، ولكن نثرهم وفلسفتهم لم تمت، والنقاد يعيشون على هذه الآثار الخالدة الحية كما يعيش عليها جان بول سارتر نفسه.
وهو في هذه الدراسة نفسها يذكر كانت وهيجل، وقد ماتا منذ زمن طويل، ولكن فلسفتهما ما زالت حية تغذوه هو وتغذو غيره من الوجوديين، كما تغذو النقاد الذين لا يحبهم جان بول سارتر؛ لأنهم لا يحبونه ولا يهدون إليه الثناء.
ومن أسخف السخف أن يقول قائل: إن معاشرة أفلاطون وسيسيرون والجاحظ وڤولتير إنما هي حياة مع الموتى وإقامة بين القبور؛ فإن هذا الكلام إن دل على شيء فإنما يدل على الحنق والغيظ والغرور، وأكبر الظن أن جان بول سارتر لم يرد به إلا إلى أن يغيظ النقاد ويحفظهم ويسخر منهم شفاء لبعض ما في صدره من موجدة.
على أن من الحق أن جان بول سارتر قد أتيح له التوفيق حين عرض للقسم الثاني من دراسته، وهو «لماذا نكتب»، وإن كان يغلو فيما يقرر في هذا القسم من الأحكام كما يغلو في أكثر أحكامه؛ فهو مثلا لا يؤمن بأن الكاتب قد يكتب لنفسه لا للناس، ومن المحقق أن الكاتب يكتب للناس، ولكن من المحقق أيضا أن كثيرا من الكتاب والشعراء يخدعون أنفسهم أو يخدعون عن أنفسهم فيعتقدون مخلصين أنهم لا يكتبون لأحد غير أنفسهم، وأنهم لم يريدوا أن يذيعوا ما كتبوا، وإنما أكرهوا على ذلك إكراها؛ أكرههم على ذلك أصدقاؤهم والمعجبون بهم، واختلست منهم آثارهم اختلاسا، فنشرت على غير رضا منهم، وأذيعت على غير رغبة منهم في أن تذاع.
ولست أدري أين قرأت أن بول فاليري أنشأ مقبرته البحرية، وجعل يعيد النظر فيها وقتا طويلا مغيرا ومبدلا، يحذف من هنا ويضيف إلى هناك، حتى زاره جاك ريفيير، فاختطف القصيدة منه اختطافا، وكان هذا أول إذاعتها.
وما أشك في أن الكتاب والشعراء والفنانين يخدعون أنفسهم، ولكني لا أشك في أنهم كثيرا ما يخلصون في هذا الخداع أو الانخداع، ومن الناس من لا يكره إطالة النظر في المرآة، ومنهم من لا يكره إطالة العكوف على نفسه والانحناء على أعماقها، فليس ما يمنع أن يكتب بعض الكتاب ليتخفف مما يثقله من الخواطر والآراء، ثم يجد اللذة في أن ينظر فيما كتب مصلحا له يلتمس الكمال، أو محدقا فيه كما يحدق في المرآة.
ولكن أكثر الكتاب والشعراء والفنانين ينتجون للناس قبل أن ينتجوا لأنفسهم، أو قل مع جان بول سارتر؛ إنهم ينتجون لأنفسهم وللناس. فالإنتاج الأدبي عندهم مشاركة متصلة بين الكاتب والقارئ، أو بين المنتج والمستهلك، كما يقول أصحاب الاقتصاد.
ولكن لماذا يكتب الكاتب؟ ولماذا يقرأ القارئ؟ وما عسى أن تكون القوانين التي تنظم الصلة بين القارئ والكاتب، أو التي تصف هذه الصلة وصفا دقيقا وتصورها تصويرا صادقا كما تصف قوانين العلم ظواهر الحياة؟ يلاحظ جان بول سارتر أمرين يدفعان الكاتب إلى أن يكتب، بل يدفعان الفنان إلى أن ينتج على اختلاف الفنون؛ أحدهما: أن الفنان يريد أن يشعر نفسه بأنه كائن أساسي في هذا العالم الذي يعيش فيه؛ فحقائق الحياة وحقائق الطبيعة موجودة سواء أعرفها الإنسان أم لم يعرفها، ولكن وجودها إغراق في النوم، وإغراق في النوم العميق السخيف، إلى أن يظهر عليها الإنسان فيعطيها معنى ويرسم لها أغراضا وغايات.
فالزهرة الجميلة زهرة ما، لا قيمة لها ولا لجمالها إلا أن تعرف وتقوم ويصور جمالها، والإنسان هو الذي يستطيع أن يعرفها وأن يقومها وأن يخلع عليها هذا الجمال، وهو لا يخلع عليها جمالها الموضوعي الذي لا قيمة له في نفسه، وإنما يخلع عليها جمالا ذاتيا ينشئه هو في نفسه إنشاء ويضفيه على الزهرة إضفاء.
فلون الزهرة وتكوينها وائتلاف أوراقها على نحو ما من الائتلاف، كل هذه أشياء يعللها علم النبات تعليله الموضوعي الخالص الذي لا يثير إعجابا ولا شعورا بالجمال، وإنما يحقق معرفة، والفنان هو الذي يجد في هذا اللون، وفي هذا التكوين، وفي هذا النوع من ائتلاف الأوراق، شيئا آخر غير التعليل الموضوعي العلمي يخلعه عليها من جهة، ثم يسترده منها من جهة أخرى فينشئ بينها وبينه صلة هي الحركة الأولى من حركات الفن.
وقل مثل ذلك في الشجرة القائمة على شاطئ النهر، ومن حولها الشجيرات والأزهار، والعشب قد انبسط على الأرض، والطير قد استقرت على الغصون متأرجحة متغنية، على ما في هذا المنظر أو المناظر كلها من اختلاف وائتلاف؛ فهي في نفسها ليست شيئا إذا لم يعرفها الإنسان، وهي في نفسها إذا عرفها الإنسان ليست شيئا جميلا إذا لم ينظر إليها إلا هذه النظرة الموضوعية التي ترد الظواهر إلى أصولها وأسبابها، ولكنها تصبح شيئا ذا خطر، تصبح شيئا يعني الفن حين ينظر إليها الإنسان نظرته الذاتية، فيجد فيها ما يثير عواطفه المختلفة وأهواءه المتباينة.
فالإنسان إذن حريص على أن يزيل عن الكائنات ما يحجبها عن نفسه وقلبه وعقله وضميره؛ فحركته الفنية الأولى هي التجريد أو التعرية أو إزالة الحجب ورفع الأستار، وهو إنما يصنع هذا لأنه يريد أو لأنه يشعر بالحاجة الملحة إلى أن يرى نفسه كائنا أساسيا لا يستغني عنه العالم لتظهر دقائقه وتتجلى أسراره.
الأمر الثاني: حاجة الإنسان بطبعه إلى أن يشرك نظراءه فيما يجد من حس وشعور، وما يستكشف من فكرة ورأي؛ فهو لا يجرد الكائنات لنفسه وحدها، وإنما يريد أن يحس غيره مثل ما يحس، وأن يرى غيره مثل ما يرى، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الفن؛ فالإنسان يكتب لأنه يريد أن يجرد العالم، ولأنه يريد أن يشرك غيره في النظر إلى هذا العالم المجرد العريان.
وتجريد الإنسان للعالم عمل حر يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد، وإشراك النظراء في النظر إلى هذا العالم المجرد عمل حر أيضا يأتيه الإنسان عن إرادة وعمد؛ فالإنتاج الأدبي - في رأي جان بول سارتر - مظهر من مظاهر الحرية، أما القارئ فهو يستجيب لدعاء الكاتب؛ لأن كتابة الكاتب ليست إلا ادعاء أنه يحس ويشعر، ويدعو غيره إلى أن يشاركه في الحس والشعور.
وهنا يلح جان بول سارتر فيما قدمت الاعتراض من أن الكاتب لا يكتب لنفسه؛ ذلك أنه حين يكتب لا يرى ما يكتبه إلا شيئا فشيئا بمقدار ما تتصور كلماته في الصحف؛ فهو لا يتنبأ بآخر ما يكتب، وإنما يسعى إليه سعيا قد تصوره جملة قبل أن يكتب أو لم يتصوره، ولكنه على كل حال يجد لذة هي لذة الكتابة لا لذة القراءة.
وهو من أجل هذا يشعر بأن عمله ناقص لا يتم ولا ينتهي إلى غايته إلا إذا أعانه القارئ على إتمامه والوصول به إلى غايته؛ فإذا استجاب القارئ للكاتب تم عمله، وإذا لم يستجب له ظل هذا العمل ناقصا مبتورا.
والقارئ لا يستجيب للكاتب مكرها، وإنما يستجيب له حرا مريدا عامدا إلى هذه الاستجابة، والقارئ لا ينشئ عملا مستقلا عن الكاتب، فلولا الكاتب ما قرأ القارئ؛ فهو إذن يعاون الكاتب ويتممه بأدق معاني كلمة المعاونة والإتمام؛ ذلك أن الكاتب لا يودع الصحف كل ما في نفسه لأنه لا يستطيع ذلك ولا يريده، وإنما هو يرسم ما في نفسه رسما تخطيطيا يرشد به القارئ إلى أن يملأ ما بين الخطوط .
فالقارئ إذن ليس قابلا فحسب، ولكنه قابل من جهة وفاعل من جهة أخرى، أمره في ذلك كأمر الكاتب بالضبط؛ لأن الكاتب قابل حين يتأثر بالعالم الخارجي، وفاعل حين يعيد إنشاء هذا العالم الخارجي.
والقارئ متأثر حين يتلقى الرسم التخطيطي الذي دعاه الكاتب إلى النظر فيه، وهو منشئ حين يملأ ما بين الخطوط، ويتمم ما بدأ الكاتب من الرسم والإنشاء.
وإذن فالأدب حرية كله، حرية حين ينشئه الكاتب، وحرية حين يتم القارئ إنشاءه، وهذه الحرية الفاعلة تتخذ الانفعال وسيلة إلى الفعل، وتتخذ التأثر والخضوع وسيلة إلى الإنشاء والتأثير؛ فالكاتب متأثر، وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره، والقارئ متأثر وتأثره هذا وسيلة إلى تأثيره أيضا.
وأنا معتذر إلى القارئ العربي مما قد يكون في هذا الكلام من الغموض، ومن ترديد ألفاظ بعينها أكثر مما ينبغي، ولكني أحب أن يلاحظ القارئ أني ألخص له دراسة لجان بول سارتر أديب الوجوديين الفرنسيين، وصاحب كتاب «الكون والعدم».
وهناك شيء لم يقف عنده جان بول سارتر، مع أنه خليق بالعناية، وهو أن الكاتب واحد، وأن قراءه كثيرون يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا في الأمزجة والطباع والاستعداد والذوق والثقافة، وينشأ من ذلك اختلافهم في تقدير الأشياء والحكم عليها.
وهؤلاء القراء يعاصرون الكاتب دائما، وقد يعيشون بعده أزمانا تقصر وتطول بمقدار ما يقدر لأثره من البقاء، وهم يختلفون حين يعاصرونه، ويختلفون بعد أن يموت، وكلما أتيح للأثر الفني الخلود عظم حظه من اختلاف القراء بالتأثر والحكم والتقدير.
وإذن فالكاتب لا ينشئ أثرا واحدا حين يؤلف كتابا واحدا، وإنما ينشئ آثارا لا تحصى، أو قل: آثارا بمقدار ما يتاح له من القراء.
وواضح جدا أن قصة من قصص شكسبير تترك في نفوس القراء آثارا تتفق في جملتها، ولكنها تختلف في تفصيلها اختلافا لا سبيل إلى ضبطه، وواضح جدا أن هذا التمثال اليوناني قد ترك في نفوس اليونان أنفسهم آثارا متباينة، وترك في نفوس المحدثين آثارا تختلف باختلاف القرون.
فالكاتب إذن ينشئ ولكنه يدعو الأجيال المختلفة إلى الإنشاء، ومن هنا تظهر قيمة الالتزام الذي يدعو إليه جان بول سارتر؛ فيجب على الكاتب أن يقدر عمله ونتائجه، وأن يحتمل تبعات هذا العمل وهذه النتائج، والكاتب مدفوع إلى الكتابة بحريته التي تدفعه إلى شيء من الكرم والجود والتنزه عن الأثرة والبخل.
والقارئ مدفوع إلى القراءة لحاجته إلى أن يتلقى أولا وإلى أن يعطي ثانيا، وإذن فالتبعة الأدبية ليست مقصورة على الكاتب وحده، ولكنها شركة بينه وبين قرائه.
وهنا يصل جان بول سارتر إلى نتيجة لا تخلو من روعة، وهي أن الأدب ما دام مصدره الحرية والإيثار واحتمال التبعات، فلا يمكن أن يكون شرا ولا أن يدعو إلى الشر مهما تكن مادته وموضوعه؛ ذلك أن الحرية خير والإيثار خير، وما يصدر عن الخير يجب أن يكون خيرا آخر الأمر.
فما يسميه الغربيون أدبا أسود لا حظ له في حقيقة الأمر من السواد؛ لأن منتج هذا الأدب إنما رأى شرا فأراد إصلاحه، وقارئ هذا الأدب إنما رأى ابتداء الإصلاح فأراد إتمامه.
ونتيجة أخرى لا تخلو من روعة يصل إليها جان بول سارتر، وهو أن الأدب حر فلا يمكن أن يتجه إلى العبيد، وآية ذلك أن القارئ لا يقرأ إلا عن حرية، وإذا ذكرنا القارئ الحر فإنما نريد القارئ بأدق معاني هذه الكلمة، القارئ الذي يتعمد القراءة ويتعمد الفهم، ويتعمد إذاعة ما قرأ وما فهم، ومن هنا يقول جان بول سارتر: إن الديمقراطية هي أشد النظم ملاءمة للأدب.
وهذا الكلام قد يكون صحيحا، ولكن بشرط أن نتوسع في معنى الديمقراطية شيئا ما، وأن نتجاوز بها حدودها السياسية التي ترسم لها في كتب السياسة والقانون؛ فقد كان عصر بيركليس ديمقراطيا، ولكن عصر أغسطس والرشيد ولويس الرابع عشر لم تكن عصورا ديمقراطية وقد ازدهر فيها الأدب ازدهارا عظيما.
وربما كانت كلمة الحرية هنا أشد ملاءمة من كلمة الديمقراطية، فهؤلاء الملوك المتسلطون المستبدون كانوا يتسلطون ويستبدون في حدود لا يكادون يتجاوزونها، وكانوا يتركون للعقول والقلوب والألسنة حرية لعلها لا تقل عما تستمتع به الآن.
والفكرة التي يرمي إليها جان بول سارتر هي أن الأدب والدكتاتورية لا يتفقان؛ لأن الدكتاتورية لا تعرف حدودا للتسلط والاستبداد، وإنما تتدخل في كل شيء، وتفرض نفسها على كل شيء، وتريد أن تنظم كل شيء، فتهدر بذلك حرية الأفراد والجماعات إهدارا.
وبعد فكل هذه الخصائص التي صورها جان بول سارتر للإنتاج الأدبي، والتي يبين لنا بها لماذا نكتب، ليست مقصورة على النثر من دون الشعر، وليست مقصورة على الأدب من دون الفنون الرفيعة كلها، وإنما هي شائعة بين هذه الفنون جميعا؛ فإذا كان من شأنها أن تفرض على الكتاب أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، فمن شأنها أن تفرض على الشعراء والموسيقيين والمصورين والمثالين وغيرهم من أصحاب الفن الرفيع كائنا ما يكون الفن، أن يلتزموا ويحتملوا التبعات.
وربما كان وجه الحق في هذه القضية هو أن لكل شيء موضعه، وأن كل صاحب فن ملتزم محتمل تبعاته أمام الفن أولا ، وأمام الذوق العام ثانيا، ثم أمام طوائف بعينها من الناس إذا كان من شأن موضوعه أن يلزمه ويحمله التبعات أمام هذه الطوائف من الناس.
فالأديب الذي يعرض للسياسة ملتزم أمام فنه الأدبي وأمام مذهبه السياسي، وقل مثل ذلك في الأديب الذي يعرض لشئون الاجتماع، ولم يحظر أحد على أديب ولا على صاحب فن أن يعالج من الموضوعات ما لا يلزمه إلا أمام الفن والذوق وحدهما.
وقد أعود إلى هذا الموضوع بعد أن أتم قراءة ما كتب جان بول سارتر عن القسم الثالث من دراسته، وهو: «لمن نكتب؟»
إجازة
لا أريد تلك الإجازة التي كان القدماء من علمائنا يهدونها إلى تلاميذهم؛ فتكون إذنا لهم بأن ينقلوا عنهم هذا الكتاب أو ذاك، مما نقلوا من غيرهم أو أنشأوا من عند أنفسهم، والتي ظل المحافظون من علمائنا يتلقونها من أساتذتهم، ويهدونها إلى تلاميذهم، ولا سيما فيما يتصل بالحديث، يكتبونها نثرا في أكثر الأحيان، ويتأنقون فينظمونها شعرا بين حين وحين.
ولا أريد الإجازة التي نشأت عن هذا المعنى القديم، واستعملت في العصر الحديث لتدل على شيء محدث لم يكن مألوفا فيما مضى من الزمان، وهو هذا الإذن الرسمي الذي تمنحه الجامعات، ومعاهد العلم للذين يتخرجون فيها من التلاميذ، وتبيح لهم به أن يعلموا الأجيال الناشئة ما تعلموا من الأجيال الماضية.
لا أريد إجازة الأستاذ القديم لتلميذه القديم، ولا إجازة التدريس التي تمنحها الجامعات الحديثة للتلاميذ المحدثين، متأثرة في تسميتها بالجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، أكثر من تأثرها بسنتنا الموروثة وتقليدنا القديم.
ولا أريد الإجازة التي تصدر عن الملوك والأمراء وأشباه الملوك والأمراء إلى الشعراء والكتاب، فتمنحهم الجوائز السنية من الذهب والفضة والجوهر، ومن الإبل والشاء والطعام والثياب، وإنما أريد الإجازة بمعناها الشائع الحديث بين الموظفين من جهة، وبين الطلاب والتلاميذ نقلا عن الموظفين من جهة أخرى؛ فلم نكن أيام الشباب نطلق لفظ الإجازة على ما يتاح للمعلمين والمتعلمين من أيام الفراغ، وإنما كنا نسمي ذلك تسمية أخرى يسيرة واضحة قريبة الدلالة، كنا نسميها «المسامحة ».
وكنا نعرف المسامحات الطوال حين يقبل فصل الصيف، وحين يظل شهر رمضان أساتذة الأزهر وتلاميذه أثناء الشتاء، والمسامحات القصار حين تعود الأعياد وتظل المواسم.
وكنا نفهم من هذه الكلمة أن النظام الأزهري أو المدرسي يسامح المعلمين والمتعلمين، ويأذن لهم في أن يستريحوا من جهد الدرس ومشقة الطلب وخشونة الحياة، وفي أن يعودوا إلى أهلهم في المدن والقرى؛ ليجدوا عندهم أياما فارغة، تستريح فيها العقول، وتنمو فيها الأجسام، وتستمتع فيها النفوس بشيء من الروح والهدوء.
وكانت كلمة المسامحة هذه تؤدي معناها في قوة ويسر، لا نكاد ننطق بها حتى نفهم منها الراحة والدعة والحرية والنوم إلى أن يرتفع الضحى، لا نستيقظ قبل أن ندعى إلى صلاة الفجر لنشهد الصلاة ونسمع الدروس، والنوم إذا زالت الشمس واجتمعنا حول مائدة الغداء وتفرقنا عنها، لا نعجل عن ذلك بدرس النحو أو درس البلاغة، والسهر حتى يتقدم الليل فيبلغ نصفه أو يتجاوز النصف، نسمر أثناء ذلك بما يسلي ويلهي، ولا نشق على أنفسنا بتلك المشكلات العلمية التي كانت تكلفنا ألوان العناء.
ولست أدري كيف أعرضنا عن كلمة المسامحة تلك السمحة الحلوة التي يمتد بها الصوت ويشارك في النطق بها الحلق واللسان والشفتان، إلى كلمة الإجازة هذه القصيرة التي اجتمع بعض حروفها على بعض فلا يكاد الصوت يمتد بها، ولا تكاد النفس تجد حين يجري بها اللسان شيئا من راحة أو دعة أو هدوء.
وأكبر الظن أن الموظفين هم الذين أدوا هذه الكلمة إلى أبنائهم، فاصطنعوها ليدلوا بها على أيام الراحة والفراغ، يرون في اصطناعها شيئا من ترف، ويقلدون آباءهم حين يدلون بهذه الكلمة على ما تمنحهم الدولة من أيام الفراغ في كل عام.
ومهما يكن من شيء، فإني أريد أن أتحدث عن الإجازة بهذا المعنى الذي يستعملها فيه الموظفون والمحدثون من الطلاب والتلاميذ، وهو هذه الأيام الطوال أو القصار التي تمنح للموظفين والطلاب والتلاميذ، والتي نمنحها نحن لأنفسنا حين نكون أحرارا لا من أولئك ولا من هؤلاء، نرفه فيها على أنفسنا، ونستريح فيها من عناء الأعمال، كما يقال.
وواضح أني إنما أتحدث عن هذه الإجازة؛ لأني منحت نفسي إجازة أريح فيها وأستريح من هذا العناء الطويل الثقيل الذي أنفقت فيه العام، فتعبت وأتعبت، وشقيت وأشقيت، وأحسست الحاجة إلى أن أريح نفسي من التعب والإتعاب، ومن الشقاء والإشقاء، وأريح الناس الذين يتصلون بي من قرب أو بعد أشهرا أو أسابيع، فلا أفكر فيهم ولا يفكرون في، ولا أشقى بالكتابة لهم ولا يشقون بالقراءة لي، ولا أضني نفسي بالاتصال بهم ولا يضنون أنفسهم بالاتصال بي.
وقد يخيل إلى كثير جدا من الناس أن معنى الإجازة مختصر قصير كلفظها، فهي أيام راحة ودعة وفراغ لا أكثر ولا أقل.
ولكنهم لو فكروا قليلا لتبينوا أن معنى الإجازة أوسع وأعمق وأطول من لفظها، وأنه أدق وأشد تعقيدا مما يظنون، ولو لم يكن أمامنا إلا هذه الألفاظ الثلاثة نحللها ونستقصي معانيها لنفهم معنى الإجازة، لكان هذا في نفسه عسيرا شاقا، فكيف وأمامنا أشياء أخرى أكثر وأعسر من هذه الألفاظ الثلاثة وكلها يحتاج إلى التحليل، وكلها يحتاج إلى الاستقصاء!
فلنكتف الآن بهذه الألفاظ الثلاثة لا لنستقصي معانيها بل لنلم بهذه المعاني؛ فالإجازة أيام راحة، فما عسى أن تكون الراحة؟ ما موضوعها وما طبيعتها؟ وما وسائلها وما غايتها؟
تريد أن تستريح، فمم تريد أن تستريح؟ وممن تريد أن تستريح؟ ألست ترى أن الجواب عن هذين السؤالين يختلف أشد الاختلاف ويتفاوت بتفاوت الأشخاص وطبائعهم، وما يمارسون من أعمال، وما ينعمون أو يشقون به من ألوان الحياة منذ يسفر الصبح إلى أن يتقدم الليل؟ أما أنا فإذا ذكرت الإجازة وذكرت أنها أيام راحة لي، وحاولت أن أعرف مم أريد أن أستريح، فقد يكون أول ما يخطر لي أني أريد أن أستريح من ثلاثة أشياء أشقى بها في مصر شقاء لا يكاد أحد يتصوره أو يقدره؛ أولها: التليفون الذي يصلصل جرسه منذ تشرق الشمس إلى أن تشرق الشمس، لا ينقطع عن الصلصلة إلا ليستأنفها، ولا يكف عنها إلا ليعود إليها. وصلصلة جرس التليفون هذه مختلفة متنوعة معقدة، فيها كثير من العسر، وفيها كثير من الهم، وفيها كثير من العناء، وفيها قليل جدا من النعيم الذي تبتهج له النفوس وتطمئن إليه القلوب.
فهذه صلصلة تستلك من السرير استلالا ولما تشرق الشمس، فإذا قطعتها واستمعت إلى هذا الصوت الذي يدعوك من أقصى الخيط، كما يقول الفرنسيون، فقد تقع أذنك أو يقع على أذنك صوت لا عهد لك به ولا أرب لك فيه؛ صوت مخطئ أراد أن يهدي إلى غيرك خيرا أو شرا، وأبى سوء الظن إلا أن يغلط به، فما زال يلح على أداة التليفون، وما زال الجرس يصلصل حتى أزعجك عن راحتك وأخرجك من نومك، واستلك من سريرك. ثم تسمع ثم تنكر، ثم ترد مغضبا أو غير مغضب، ثم تضع أداة التليفون كما ينبغي لها أن توضع عنيفا بها أو رفيقا، ثم تعود إلى نفسك، وإذا أنت تجد شيئا مرا بغيضا يصور الحنق على من أخرجك من نومك الهادئ المطمئن، وأزعجك عن راحتك واستقرارك، ويصور خيبة الأمل لأنك لم تجد من وراء هذا كله إلا هباء لا خطر له ولا غناء فيه.
وقد يصلصل جرس التليفون فيزعجك عن راحتك ويصرفك عن حلم لذيذ ويذود عنك نوما هنيئا، فإذا بلغت أداة التليفون سمعت صوتا تعرفه فأنبأك في أكثر الأحيان بما لا تحب، وابتدأ لك يوما منكرا؛ لأن الناس يبخلون عادة بما يسر من الأنباء، وتطيب أنفسهم عن الأنباء السيئة يعجلون بها إليك في غير أناة ولا رفق ولا استحياء.
وقد يصلصل جرس التليفون فيزعجك ويثقل عليك، ويكلفك من المشقة فنونا ومن الجهد ألوانا، حتى إذا سمعت لصوت من دعاك ضقت بالدنيا وضاقت الدنيا بك؛ لأنك تجد نفسك بإزاء رجل سخيف يسألك عن شيء سخيف أو يحمل إليك نبأ سخيفا، وإذا ابتدأت هذه الصلصلة المختلفة المتنوعة فهيهات أن تسكن أو تهدأ أو تقطع، وإنما هي متصلة ملحة، حتى تصبح جلجلة لا صلصلة، وحتى تبغض إليك الحياة والأحياء وما حولك من الأشياء.
ولست أدري أحاول بعض الناس أن يقارنوا بين اصطناع التليفون في مصر واصطناعه في غيرها من البلاد، ولكن الشيء الذي أحققه هو أن أهل القاهرة خاصة يسرفون على أنفسهم وعلى الناس في اصطناع التليفون إسرافا شديدا، لا يرفق أحد منهم بنفسه ولا يرفق أحد منهم بغيره، لا يفرقون بين العجلة والريث ولا بين ما ينبغي أن يؤدى من الرسائل في سرعة، وما يمكن أن ينتظر به إلى وقت يقصر أو يطول.
والمصريون أصحاب فصاحة ولسن وفيهم غرور وعجب، وهم يحبون أصواتهم ويحبون ألفاظهم ويحبون ما يصدر عنهم من قول أو عمل، وهم إذا بدءوا الحديث لم يعرفوا كيف يفرغون منه، وهم لا يفرقون بين الحديث الذي يسوقونه إليك وجها لوجه، والحديث الذي يسوقونه إليك من أقصى الخيط.
وهم يؤمنون بأنفسهم وبحقوقهم وبمنافعهم وبجدهم ولعبهم، ولا يكادون يؤمنون لأحد غيرهم بشيء من ذلك، وهم من أجل ذلك لا يقدرون أن التليفون أداة عامة قد أنشئت لينتفع بها الناس جميعا لا لينتفع بها إنسان بعينه دون غيره من سائر الناس، وهم من أجل ذلك لا يقدرون أن التليفون أداة قصد بها إلى التيسير والسرعة؛ فلا ينبغي أن تستخدم إلا عند الضرورة الملجئة وإلا أقصر وقت ممكن.
وهم من أجل هذا كله يتحدثون بغير حساب ويطيلون في غير رفق، لا يعنيهم أن يصدوا غيرهم عن التليفون، ولا يعنيهم أن يشقوا عليك بحديثهم الطويل المتصل، حسبهم أن يقولوا وأن يحسوا أنك تسمع لما يقولون، وهم لا يرون وجهك حين يربد، ولا يرون جسمك حين يضطرب، ولا يرون ما تدفع إليه من حركات الغيظ والضيق، فهم يقولون ويقولون، وكل شيء يدعوهم إلى القول، وكل شيء يدعوهم إلى إطالة القول.
وكذلك يصلصل التليفون منذ أن تشرق الشمس إلى أن تشرق الشمس، ولولا أن النوم فرض محتوم على الناس جميعا لكان التليفون وإلحاح المصريين في اصطناعه مصدرا خطيرا من مصادر الجنون، وهو على كل حال مصدر خطير من مصادر اضطراب الأعصاب.
فإذا ذكرت الراحة التي أطمع فيها أو أطمح إليها، فقد يكون أول شيء أفكر فيه هو صلصلة التليفون، وشيء آخر أفكر فيه إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها، وهو هذه الزيارات المفاجئة التي تصب عليك صبا بغير حساب وفي غير تقدير وعلى غير إيذان بها وانتظار لها؛ فأنت متى عنيت من قريب أو بعيد بالحياة العامة فلست ملكا لنفسك ولست ملكا لأهلك ولست ملكا لعملك، وإنما أنت ملك الشعب كله، يدبر أمرك كما يريد لا كما تريد، وعلى ما يشتهي لا على ما تحب.
وليس بالشيء المهم ولا بالشيء ذي الخطر أن تكون رجلا مثقلا بالأعباء التي تتصل بمصلحتك ومصلحة الناس، أو أن تكون رجلا محبا لهذا اللون أو ذاك من ألوان النشاط تريد أن تفرغ له وتعكف عليه، وإنما المهم كل المهم والخطير كل الخطير هو أن تكون رجلا سمحا سهلا مفتوح الباب مؤدب الخدام، لا ترد ملما إن ألم ولا تمتنع على زائر إن زار.
وقد يكون أظرف شيء في هذه الخطوب أن يسعى إليك الرجل لم تعرفه قط ولم تتصل أسبابك بأسبابه، وليس بينك وبينه ما يدعو إلى اتصال الأسباب، ولكنه قرأ لك كتابا أو جزءا من كتاب أو فصلا في مجلة أو مقالا في صحيفة أو استمع لبعض أحاديثك في الراديو أو سمع الناس يتحدثون عنك، فأحب أن يراك وأن يجلس إليك ساعة من نهار أو من ليل، لم يؤامرك في ذلك ولم يشاورك، وليس يعنيه أن تكون الساعة ملائمة أو غير ملائمة، وإنما يعنيه أن يراك ويقول لك ويسمع منك، ولا عليه بعد ذلك أن يضيع وقتك أو يفسد عملك، فذلك آخر ما يفكر فيه.
والغريب أن الناس الذين يشقون عليك ويكلفونك هذه الألوان من الجهد ولا يحسبون لوقتك ولا لعملك حسابا هم الذين يلحون عليك في أن تكتب في كل يوم مقالا، وفي كل أسبوع فصلا وفي كل شهر كتابا، فإن لم تفعل فأنت مسرف في الكسل بخيل بالأدب غارق في البخل إلى أذنيك، وإياك أن تجمع لهم فصولا متفرقة وتنشرها في سفر مستقل، فإنهم لا ينتظرون منك ذلك ولا يرضونه لك ولا يرضونه لأنفسهم، وإنما هم ينتظرون منك أن تقدم إليهم في كل يوم شيئا جديدا مبتكرا، وألا تقرئهم أثرا من آثارك مرتين مرة في الصحف والمجلات ومرة أخرى في الكتب والأسفار.
هم إذن يضيعون وقتك ويحاسبونك على هذا الوقت الذي أضاعوه، وهم على ذلك لا يقدرون أن للجهد الإنساني غاية يقف عندها، وأن الوقت الضائع لا سبيل إلى استئنافه، وأن الكاتب محتاج إلى أن يقرأ فيكثر القراءة، وإلى أن يبحث ويحسن البحث، وإلى أن يفكر ويطيل التفكير، لينتج فيجيد الإنتاج.
هم لا يقدرون ذلك ولا يفترضونه، وإنما ينظرون إليك كما ينظر الطفل الساذج إلى أبيه يحسبه قادرا على كل شيء؛ فلا يتردد في أن يطلب إليه كل شيء.
فأي غرابة في أن أذكر هؤلاء الزائرين المفاجئين إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها؟
وشيء ثالث أذكره مغتبطا به وأفكر فيه مبتهجا له حين أمنح نفسي إجازة وألتمس شيئا من راحة، وهو أني سأفلت وقتا طويلا أو قصيرا من الكتابة فيما لا أحب أن أكتب فيه، ومن العناية بما لا يجب أن أعنى به.
والناس لا يقدرون ما يتعرض له الكاتب من الشر والنكر والشقاء من هذه الناحية؛ فالكاتب المصري قادر بطبعه عند المصريين على أن يكتب في كل شيء، وعلى أن يلم بكل موضوع، وعلى أن ينتج في كل لحظة من لحظات الليل والنهار؛ الناس كلهم محتاجون إلى الراحة إلا هو؛ فإن الراحة لم تخلق له كما أنه لم يخلق لها، كما أن التعب لا يمكن أن يجد إليه سبيلا.
والناس كلهم ميسرون لما خلقوا له إلا الكاتب؛ فإنه ميسر لكل شيء لأنه خلق لكل شيء، وما ينبغي أن تقول لأصحاب العلم إني صاحب أدب، فلا أستبيح لنفسي أن أقدم كتابا في العلم، ولا أن تقول لأصحاب السينما إني لا أعرف من أمر السينما شيئا فلا أستطيع أن أكتب عما يتصل به اتصالا قريبا أو بعيدا.
لا ينبغي أن تقول شيئا من ذلك إذا كنت كاتبا؛ لأنك بحكم صناعتك قادر على أن تكتب في كل شيء، وينبغي أن تكتب في كل شيء، والناس لا يعرفون حين يطلبون إليك المقال أو الفصل أو الحديث أو المقدمة رفقا ولا لينا ولا مياسرة، وأكاد أملي ولا حياء، فهم يطلبون ويطلبون ويلحون ويلحون، فإذا أعياهم أن يبلغوا منك ما أرادوا توسلوا إليك بمن تحب وتشفعوا إليك بمن لا تملك لشفاعته ردا حتى يبغضوا إليك الكتابة ويكرهوا إليك الأدب ويوشكوا أن يزهدوك في الحياة.
وربما يتجاوز الأمر هذا الحد إلى حدود أخرى غير معقولة ولا منتظرة؛ فالناس يعرفون رأيك في السياسة، وأن هواك مع هذا الحزب أو ذاك، ولكنهم لا يترددون في أن يطلبوا إليك أن تكتب حيث لا تحب أن تكتب.
وهم يقولون لك في ابتسام ساذج: إنا لا نطلب إليك أن تقول غير ما ترى، وإنما نطلب إليك أن تكتب ما تشاء، اكتب في الأدب فالأدب فوق السياسة وفوق الأحزاب، ليس له وطن فأحرى ألا تكون له صحيفة ولا حزب، وكذلك تنفق نهارك معرضا لهذه المطالب التي لا تنقضي والتي لا تعرف الرفق، فإذا ذكرت الصحف اليسيرة العابثة فحدث عن إلحاحها عليك وتحرشها بك ولا تخش مبالغة ولا إسرافا.
وأكاد أعتقد أن الله إنما خلق التليفون ليتيح لكتاب الصحف اليسيرة العابثة أن يمطروا عليك وابلا غزيرا من الأسئلة لا ينقضي، وليس بينك وبين محدثك سبب، وليس لك أمل في أن يكون بينك وبينه سبب، ومع ذلك فيجب أن تستجيب للتليفون إذا صلصل جرسه، وأن ترد على محدثك بعد أن تسمع سؤاله الغريب، واعتذر ما شئت أن تعتذر، فلن تخلص من إلحاحه إلا إذا خرجت عما ينبغي لك من الأدب وحسن المجاملة.
وليس من المهم أن يكون لديك من العمل ما هو خليق أن يشغلك عن التليفون، وعن الزيارة وعما يحمل التليفون والزيارة إليك من أسئلة لا رأس لها ولا ذيل، وإنما المهم أنك رجل قد اصطنع الكتابة واحترف الأدب، فنزل عن نفسه للشعب أولا وللصحف والمجلات ثانيا، وإذا لم يتح له أن يرد على أصحابها ومحرريها فلا أقل من أن يسمع لهم.
ومن طرائف هذا الباب أن أصحاب هذه الصحف ومحرريها قد انتهزوا فرصة حياتنا السياسية في هذه الأيام الأخيرة، فطاردوا أصحاب السياسة من الوزراء وأشباه الوزراء، ومن الرؤساء وأشباه الرؤساء، ومن الزعماء وأنصاف الزعماء، وما زالوا بهم حتى أنزلوهم على حكمهم؛ فهم يلمون بدورهم إذا أصبحوا، ويلمون بدورهم إذا أمسوا، ويلحقون بهم في أنديتهم حين يرتفع الضحى أو حين يقبل المساء، يلقون عليهم الأسئلة وينتزعون منهم الأجوبة، وينشرون ذلك في صحفهم متنافسين فيه متهالكين عليه.
فإذا سعوا إليك أنت أو تحدثوا إليك بالتليفون وأحسوا منك إباء وامتناعا كبر ذلك عليهم، وأنكروا أن يستجيب لهم الباشوات من أعضاء نادي محمد علي، وأن يمتنع عليهم كاتب لم يبلغ الوزراء وليس يطمع في الوزارة، ولم تتح له الزعامة وليس يطمع في أن يكون زعيما؛ فأي غرابة في أن أفكر في هذا اللون من العناء البغيض الثقيل إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها.
والحياة في مصر منذ أثيرت أزمتنا السياسية شقاء كلها، بالقياس إلى الرجل المثقف إن كان له قلب أو حظ يسير من العناية بالشئون العامة؛ فهو يشارك مواطنيه قبل كل شيء فيما يجدون من شقاء وما يداعبون من أمل وما يحتملون من ألم، وهو بعد ذلك حريص على أن يحسن العلم بما يقع حوله من الأحداث وما يلم بالناس حوله من الخطوب، وبما يكتب وما يقال في تلك الأحداث وهذه الخطوب.
وهو إذن مضطر إلى أن يقرأ سخفا كثيرا، وإلى أن يسمع سخفا كثيرا، وإلى أن يتحمل سخفا كثيرا، ليس له من ذلك بد إلا أن يكون رجلا قد قسا قلبه وغلظت كبده وآثر نفسه بالسلامة والعافية، واعتزل مواطنيه وازدرى ما يصيبهم من الكوارث والنازلات.
وهو إذا أصبح مضطر إلى أن يتجرع صحفا أربعا أو خمسا، وإذا أمسى مضطر إلى أن يتجرع مثل ذلك، وإذا دار الأسبوع مضطر إلى أن يتجرع في كل يوم صحيفة أو صحيفتين من هذه الصحف التي تقصد إلى المزاح، ولكنها تمعن بمزاحها في الجد إمعانا خطيرا في كثير من الأحيان.
ثم هو إذا لقي الناس مضطر إلى أن يسمع منهم ويقول لهم، وويل لعقله وقلبه مما يسمع! وويل لعقله وقلبه مما يقول! وهو بفضل هذا كله مصروف عن العمل المنتج والقراءة الممتعة والعناية بما يغذو العقول والقلوب، فهو يبدأ يومه بالسخف، ويقضي يومه في السخف، ويختم يومه بالسخف، وهو سعيد إذا لم ينغص عليه السخف راحة النوم ولذة الأحلام.
أليس من الطبيعي أن أفكر في هذا كله إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها، وأن أبتسم لهذه الأيام التي يمكن أن أقضيها دون أن أقرأ الصحف مصبحا وممسيا، ودون أن أتحدث إلى الناس أو أسمع أحاديث الناس عن مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وما يحيط بهما وبنا من الظروف!
كل هذا ولم أذكر العمل الأساسي الذي أقيم حياتي عليه؛ لأني لا أجد في هذا العمل جهدا ولا مشقة ولا عناء، وإنما أجد الجهد والمشقة والعناء في أني مصروف عن هذا العمل على شدة ظمئي إليه وكلفي به، وعلى كثرة دعائه لي وإلحاحه علي؛ فأنا أشبه الناس بالمسافر الذي يكاد قلبه يتقطع من الظمأ، والماء بين يديه عذب صفو زلال، ولكنه لا يستطيع أن يدني منه شفتيه ...
فإذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها فإنما أذكر راضي النفس مطمئن القلب مبتهج الضمير أن هذه الراحة قد تتيح لي شيئا من هذا التعب الحلو الذي أتحرق كلفا به وشوقا إليه. وقد يصدقني القارئ أو لا يصدقني، ولكني أعلم أني أنفقت أيام السفينة عاكفا على قراءة كتاب في حياة عثمان لا صلة بينه وبين الراحة والدعة والفراغ، وما أعرف أني استمتعت بشيء طوال هذا العام كما استمتعت بهذه القراءة التي استطعت أن أفرغ لها دون أن تصرفني عنها صلصلة التليفون، أو الزيارة المفاجئة، أو الأسئلة التي لا غناء فيها، أو قراءة السخف السياسي والمشاركة فيه.
أترى إلى هذا النوع من معاني الراحة كما عرضته عليك في هذه السذاجة التي لا تكلف فيها أنه معنى إضافي مقصور علي أو يوشك أن يكون مقصورا علي، فغيري من الناس يذهبون في الراحة غير مذهبي، ويبتغون بها غير ما أبتغي، وينتظرون منها غير ما أنتظر، تتقارب آراؤنا وأهواؤنا في ذلك وتتباعد، ولكنها تختلف على كل حال باختلاف أمزجتنا وطبائعنا وآمالنا وما نسعد أو نشقى به من ضروب الحياة.
فإذا ذكرت الدعة فأمرها في ذلك كأمر الراحة يختلف معناها باختلاف طلابها، فليست الدعة عندي ترفا ولا شيئا يشبه الترف، وأكاد أقطع بأني أجد من الترف في داري بالقاهرة ما لا أجده بل ما لا أجد قريبا منه في أي مكان آخر من الأرض، وإنما الدعة التي أطمع فيها وأطمح إليها حين أمنح نفسي الإجازة من عام إلى عام هي التخفف من أثقال التكاليف التي تفرضها حياتنا اليومية المنظمة، هي التخلص من العادات المألوفة والنظم المقررة الملحة التي تلقاك إذا خرجت من نومك مع الصبح، وأقبلت على طعامك تصيب منه على نحو لا يتغير أو لا يكاد يتغير، ثم على ثيابك تلبسها على نحو لا ينبغي أن تحيد عنه قليلا ولا كثيرا، ثم على مكتبك ثم على مكانك في هذا المكتب، ثم على عملك في هذا المكان، ثم على ما يلم بك من هذه الأحداث المتشابهة التي تكاد تتنبأ بها قبل أن تنسل من سريرك، وتكاد تحدد لها أوقاتها من النهار أو من الليل لا يفاجئك إلا ما يكون من صلصلة التليفون وزيارة الزائرين، وأنت مع ذلك قد قدرتها وحسبت لها حسابها؛ لأنها أصبحت جزءا من حياتك وقطعة من سيرتك لا سبيل إلى أن تخلص منها أو تتخفف من أثقالها.
هذه الحياة المنظمة المضطربة التي تطرد، ولكنها لا تخلو مع ذلك من الأمت والاعوجاج، والنبو هنا وهناك، والتي تفرض نفسها عليك من أول العام إلى آخره، قد قدرت نفسها ودقائقها تقديرا مفصلا دقيقا مضنيا، هذه الحياة هي التي تضيق بك أو تضيق بها، أو تبادلك ضيقا بضيق حين يتقدم العام، وما تزال بك حتى تعجز عن احتمالها ، وما تزال أنت بها حتى تعجز هي عن احتمالك.
فإذا بلغ العام آخره أصبحت أنت مجهدا مكدودا لا تقدر على شيء، وأصبحت هي فارغة سخيفة لا تصلح لشيء، وأصبحت الدعة هي هذا الشعور الذي يلقي في روعك أنك فارقت هذه الحياة وأنها فارقتك، وأن كليكما قد تخفف من صاحبه إلى حين.
كذلك أفهم الدعة، وعلى هذا النحو أطمع فيها وأطمح إليها، ولا علي بعد ذلك أن تثقل الأعباء أو تخف، وأن يغلظ العيش أو يلين، إنما قصاراي أن أتخفف من هذا الثقل المفروض الذي لا محيد عنه في مصر، وأن أحتمل ثقلا غيره، قد يكون أشد منه تعنية وإضناء، ولكنه ثقل آخر يصور حياة أخرى ويتيح للشخصية أن تجدد نفسها على نحو ما وهذا يكفي.
فإذا أضفت إلى هذا أن من الجائز أن تتيح لك الأيام أثناء الإجازة متعة فنية هنا أو هناك فتقرأ كتابا كان من الممكن ألا تقرأه، وتقرأ هذا الكتاب رغبة في قراءته لا أداء لواجب ولا وفاء بوعد ولا تأهبا لكتابة فصل، وتشهد هذه المسرحية أو تلك، وتسمع للموسيقى هنا أو هناك، وتلقى هذا الأديب أو ذاك من الذين تسمع عنهم وتقرأ لهم ويحول بعد الشقة بينك وبين لقائهم، أقول: إذا أضفت إلى هذا أن الأيام قد تتيح لك أثناء الراحة شيئا من هذا المتاع فقد بلغت الدعة أقصاها وانتهت إلى غايتها.
وقد يفهم غيري من الناس دعتهم على غير هذا النحو، بل من المحقق أن لغيري من الناس صورا من الدعة لعلها لا تخطر لي على بال، ولكن هذا كله إنما يدل على ما قدمت آنفا من أن ألفاظ الراحة والدعة والهدوء تدل على معان أكثر وأعسر وأشد تعقيدا مما نظن.
والهدوء ما هو أو ما عسى أن يكون؟ أهو هذا الهدوء المادي الذي تنعم به حين تستقر في قرية مطمئنة بعيدة عن المدن، وعما يكون فيها من الضجيج والعجيج؟ أهو هذا الهدوء المعنوي الذي تنعم به حين تفرغ لنفسك وتخلو إليها وحين تفرغ نفسك لك وتخلو إليك بعد أن يتاح لكما الإفلات من الحياة المنظمة المطردة؟ أهو مزاج من الهدوء المادي والمعنوي؟ كل ذلك ممكن، بل كل ذلك واقع، ولكن الشيء المحقق أني أجد الهدوء المادي والمعنوي في كل مكان إلا في مصر، فقد أراد الله ألا تتيح الحياة لي في وطننا العزيز الكريم راحة ولا دعة ولا هدوءا.
والناس يذكرون الفراغ حين يذكرون الإجازة، وحين لا يذكرونها أيضا، وقد يكون من الممكن أن نجد لكلمة الفراغ معنى في معاجم اللغة، وأن نجد من النصوص الأدبية في العصور المختلفة ما يبين لنا عن هذا المعنى في وضوح وجلاء، بل قد يكون من الممكن أن نجد بين أصحاب الترف والثراء العريض مثلا قوية صادقة تبين لنا عن معنى الفراغ، أما أنا فأعترف، مع الحزن أو مع السرور لا أدري، أني لم أجد بعد للفراغ معنى أستطيع أن أحققه.
وأكبر الظن أن هذا شيء لن يتاح لي إلى آخر الدهر، إنما يتحقق معنى الفراغ حين تستطيع النفس الإنسانية أن تخلص من الحس والشعور والتفكير والتقدير، والحكم واللذة والألم واليأس والرجاء، وهي إذا خلصت من هذا كله فقد اشتمل عليها الموت، أتراها بعد الموت قادرة على أن تحقق معنى الفراغ!
في هذه المعاني كلها وفي معان أخرى كثيرة من أمثالها فكرت حين منحت نفسي إجازة أقضيها خارج القطر كما يقول الموظفون، فالإجازة عندي إذن هي الخروج من حياة إلى حياة، والتخفف من أثقالها لاحتمال أثقال أخرى، والاستعفاء من بعض الواجبات لالتزام واجبات أخرى؛ فنحن إذن لا نعفي أنفسنا من بعض الالتزام إلا لنفرض عليها التزاما آخر.
ونحن لا نخرج من عمل إلا لندخل في عمل آخر؛ فالخير إذن في أن نعود بالإجازة إلى معناها اللغوي القديم، وهو الانتقال من مكان إلى مكان، والعبور من أحد شاطئي النهر إلى شاطئه الآخر، وإني لأشهد لقد بدأت إجازتي هذا العام كما بدأتها فيما مضى من الأعوام؛ فلم أشعر إلا بأني انتقلت من جهد إلى جهد، ومن جد إلى جد، ومن التزام إلى التزام.
وإني لأفكر في هذه الأسفار الضخمة التي ملأ بها صاحبي حقيبة ضخمة، والتي يجب أن تقرأ لعل قراءتها أن تؤدي إلى شيء يستطيع الناس أن يقرءوه، إني لأفكر في هذه الكتب الضخمة، وفي صلصلة التليفون التي أيقظتني صباح اليوم في باريس كما كانت توقظني كل صباح في القاهرة، وفي المواعيد التي تطلب إلي وفي المواعيد التي أعطيها، فأسأل نفسي حقا أني قد منحتها إجازة تقضيها خارج القطر؟
نعم! إن الإجازات التي تمنح للموظفين والعاملين والتي نمنحها نحن لأنفسنا بين حين وحين، ليست إلا إجازات صغارا أو قل: إنها إجازات بالاستعارة لا بالحقيقة.
فأما الإجازة الكبرى، الإجازة التي يدل لفظها على معناها دلالة لا تتعرض لشك ولا غموض، فهي تلك التي لا يمنحها الناس للناس ولا يمنحها الناس لأنفسهم، وإنما يمنحها الله للناس حين يريح منهم الحياة وحين يريحهم من الحياة!
في الأدب الأمريكي
ريتشارد رايت
أما فرنسا فقد سافرت إليها وأقمت فيها أشهر الصيف، ولكني على ذلك لا أعد هذه الإقامة إلا إلمامة قصيرة، فقد كانت حياتي المادية أثناء هذه الأشهر في فرنسا، ولكن حياتي المعنوية أو العقلية بعبارة أدق، كانت بعيدة عنها أشد البعد، وأكاد أقطع بأني لأول مرة قد أطلت الإقامة في فرنسا دون أن أحيا فيها حياة كاملة، فلم أقرأ من الكتب الفرنسية إلا قليلا أقل مما أقرأ في القاهرة، ولم أتعمق قراءة الصحف الفرنسية، وإنما كنت أمر بها مرا سريعا، كما أمر بالصحف العربية في القاهرة مرا سريعا، أجتزئ بالعنوان في أكثر الأحيان عن قراءة ما بعده، إلا ما كان من النظام الجديد الذي شرع للجزائر فقد أتتبعه في عناية خاصة.
ومصدر ذلك أن الإنتاج الفرنسي الأدبي في هذا العام لم يغرني ولم يستخفني من جهة، وأني قد ذهبت إلى فرنسا هاربا من القاهرة لأخلو فيها إلى طائفة من الكتب ليس بينها وبين الحياة الفرنسية سبب، بل ليس بينها وبين الحياة الحديثة كلها سبب، وإنما هي كتب تتصل بالحياة العربية القديمة.
فلم أكد أبلغ فرنسا حتى خلوت إلى هذه الكتب، فكنت أغرق فيها وجه النهار وآخره، وكنت أرفه على نفسي إذا أقبل الليل بشيء من القراءة المريحة، وأرادت الظروف أن تكون هذه القراءة المريحة متصلة بأشياء لا تمس الحياة الفرنسية من قريب ولا من بعيد، وإنما هي قراءة تمس الآداب الأوروبية غير الفرنسية، أو تمس الآداب الأمريكية.
وقد يكون من الحق أن أعترف بأني قرأت كتابا فرنسيا كثر الكلام عنه جدا في فرنسا، وكاد النقاد الفرنسيون يجمعون على الإعجاب به، ولكنه لم يعجبني، وأكاد أقول إني ضقت به أكثر مما ارتحت إليه، وهو بعد هذا لا يمس الحياة الفرنسية في ظاهر الأمر، وإنما يمس حياة إفريقية الشمالية، وهو كتاب «الطاعون» للكاتب الفرنسي المشهور ألبير كامو.
وأنا أعلم أن الكاتب أراد به إلى الرمز؛ فهو يصف الطاعون الذي تخيل أنه ضرب بجرانه على مدينة وهران، فقطع ما بينها وبين العالم من الأسباب، واضطرها إلى حياة محصورة كثرت فيها الفتن والمحن والخطوب، وصرحت فيها نفوس الناس عن مكنونها، فظهر الضعف الذي ينتهي إلى التهالك، وظهرت القوة التي تنتهي إلى البطولة، وظهر الإخلاص الذي ينتهي إلى الإيثار، وظهر الجبن الذي ينتهي إلى الأثرة المنكرة.
وخلصت المدينة بعد لأي من هذا العناء البغيض، واستأنفت حياة عرجاء تحاول أن تستقل وتستقيم.
وأنا أعلم أن الكاتب أراد أن يتخذ وهران وأهلها والطاعون رمزا لفرنسا وأهلها والحرب، أو رمزا للأرض كلها وللحرب، وأنه إنما أراد أن يصور الإنسانية حين تلم بها الخطوب الفادحة، فتمحص من الناس من تمحص وتمحق منهم من تمحق.
ولست أدري لم لم يعجبني هذا الكتاب مع أن المعنى الذي أراد إليه الكاتب قيم خطير عظيم الشأن، وأكبر الظن أن الأداء هو الذي لم يعجبني، وأن الحوادث التي شهدناها في الحرب الأخيرة كانت أعظم نكرا وأشد هولا، وأصدق تصويرا لقوة الإنسان وضعفه، ولإيثار الإنسان وأثرته، من هذا الكلام الذي لا يكاد يتجاوز في وصفه وتصويره أيسر ما تكتبه الصحف حين تقص الأخبار.
والمهم هو أن هذا الكتاب لم يشعرني حين قرأته بأني كنت أقرأ كتابا رائعا يصور الحياة الأوروبية الرائعة أثناء الحرب تصويرا يلائمها في الروعة، وإنما أشعرني بأني كنت أقرأ كتابا فاترا يريد أن يصور أشياء لا يلائمها الفتور بحال من الأحوال.
لم أقرأ إذن كثيرا من الكتب الفرنسية أثناء إقامتي في فرنسا، وإنما قرأت كتبا إيطالية وأمريكية وروسية، وأعود فأقول: إني لم أكن أعمد إلى هذه القراءة إلا وقتا قصيرا حين يقبل الليل وبعد أن ننصرف عن العشاء ونخرج للرياضة وقتا يقصر أو يطول، ثم نعود فنجتمع إلى قارئ منا يعيننا على انتظار النوم الذي لا يحب أن يطول انتظاره في القرى وإن أحب أن يطول انتظاره في المدن وبنوع خاص في باريس.
وقد عرفت أثناء هذه القراءة القصيرة كاتبا أمريكيا أسود، كنت قد سمعت به في باريس في العام الماضي دون أن أقرأ له شيئا، ثم قرأت له بعد عودتي إلى القاهرة في مجلة «العصور الحديثة» التي يصدرها جان بول سارتر قصة قصيرة رضيت عنها كل الرضا، ثم أتيح لي أثناء هذا الصيف أن أقرأ له كتابين قد كثر عنهما الحديث في فرنسا، نشر أحدهما متفرقا في مجلة العصور الحديثة وعنوانه: «غلام أسود»
Black Boy
ونشر الآخر جملة وعنوانه «ابن البلد»
Native son ، وله كتاب ثالث قد نشر في فرنسا ولم أقرأه بعد، وأرجو أن تتاح لي قراءته قبل أن أعود، وعنوانه: «أبناء العم توم».
وهذا الكاتب الأمريكي الأسود ريتشارد رايت الذي أريد أن أجعل فنه موضوعا لهذا الحديث.
لم يكد ريتشارد رايت يبلغ الأربعين من عمره وهو على ذلك يقرأ في أوروبا وأمريكا جميعا، وأرجو أن يقرأ في الشرق العربي بعد حين؛ فما أعرف أن الشرق العربي يحتاج إلى قراءة كما يحتاج إلى قراءة آثار ريتشارد رايت.
أما كتابه الأول «غلام أسود» فليس إلا ترجمة لحياته منذ عرف نفسه إلى أن أتم السابعة عشرة من عمره، وهو قد عرف نفسه صبيا لا يكاد يميز الأشياء، يعيش بين أب أسود وأم سوداء، ويعيش معه أخ أصغر منه سنا ، والحياة في هذه الأسرة ضيقة ضئيلة ذليلة، ثم لا تلبث أن تزداد ضيقا وضآلة وذلا؛ فقد هجر الأب زوجه وابنيه، وعاش مع امرأة أخرى سوداء، وترك هذه الأم البائسة تسعى على رزقها ورزق ابنيها، تجد في ذلك ما شاء البؤس والذل وفساد النظام الاجتماعي واستعلاء البيض على السود أن تجد من الجهد والمشقة والعناء.
وهي حين تسعى على رزقها ورزق ابنيها تترك هذين الصبيين البائسين لأنفسهما أكثر النهار، فهما يعيشان في الشارع يخالطان أمثالهما من أبناء السود البائسين، ويشاركانهم في كل ما يتعرضون له مما يفسد التربية وينحط بالأخلاق إلى الدرك الأسفل، فهم يعبثون عبثا مرذولا، وهم يسرقون ويختلسون، وهم يتعرضون لضروب من الإهانة والازدراء والتغرير والتضليل لا تطاق.
وهذا الصبي ريتشارد رايت نفسه يحدثنا عن وقوفه أمام قهوة من القهوات الوضيعة، التي يختلف إليها السود ليشربوا فيها شرابا بغيضا، ثم عن استدراج الكبار له حتى يدخل القهوة، وعن عبثهم به حتى يشرب ما لا يلائم سنه ولا صحته، وحتى يضطر إلى السكر قبل أن يتجاوز السادسة من عمره، وحتى يتعلم منهم أبشع اللفظ وأقبح الفعل، وهم يشجعونه على ذلك ليعبثوا به وليضحكوا من سخفه في القول والعمل، حين يأخذ منه السكر مأخذه.
والصبي يحب هذا النوع من الحياة؛ لأنه وحيد ضعيف أولا، ولأنه جائع بعد ذلك، ولأن العابثين به يتيحون له شيئا من طعام ويلهونه عن نفسه وعن جوعه وبؤسه بما يلقونه في جوفه من شراب، والحياة تثقل على أمه فتسلمه إلى ملجأ من ملاجئ اليتامى، تحاول أن تضمن له شيئا من التربية والمراقبة والتعليم، ولكن الصبي لا يطيق الحياة في هذا الملجأ؛ لأنه لا يطيق فراق أمه، ولأنه ألف الحياة الفارغة المتسكعة فهو يفر من الملجأ، وتضطر أمه إلى أن تمسكه في بيتها دون أن تجد إلى ذلك سبيلا.
وتعجز هذه المرأة آخر الأمر عن النهوض وحدها بهذا الثقل الثقيل فتنتقل بابنيها في مدن القسم الجنوبي من الولايات المتحدة ساعية على رزقها ورزقهما ما وسعها السعي، فإذا لم تجد إلى الاحتمال سبيلا لجأت بابنيها البائسين إلى أسرتها الحقيرة الفقيرة فعاشت وعاشا بين أمها وأبيها، وأختها المعلمة في مدارس السود.
وتحاول أن ترسل الصبي إلى المدرسة التي تعلم فيها أختها، ولكن الصبي لا يحب المدرسة ولا يحب خالته، يضيق بالنظام ويضيق بظلم خالته له، وما يزال يضيق بخالته وتضيق به خالته حتى يترك المدرسة ويعود إلى حياة التسكع والفراغ.
ثم تلم العلة بأمه حتى تثقل، ويرسل الفتى إلى أحد أخواله ليعيش في ظله، ولكن الأمور لا تستقيم له في هذا البيت الجديد؛ لأنه حر مسرف في الحرية لا يحب أن يسمع ولا أن يطيع، وإذا هو يعود إلى بيت الأسرة ليعيش بين أمه المريضة المثقلة وجدته البغيضة المتهالكة على الدين، وجده الساخط الذي انحاز إلى نفسه ولزم حجرته فلا تراه الأسرة إلا قليلا.
والصبي يثقل على نفسه ويثقل على أسرته، والخطوب تتقاذفه والجوع يلح عليه، وجدته تحاول أن تخضعه لشيء من النظام؛ فلا تستطيع، وتحاول أن تميل به نحو الدين فلا تجد منه إلا إباء ونفورا.
وهو على ذلك خال إلى نفسه عاكف عليها، قد استقر في قلبه أن كل من حوله من الناس وكل ما حوله من الأشياء عدو له، وأشد ما يؤثر في نفسه الناشئة ما يرى من استعلاء البيض على السود وظلمهم لهم واستعبادهم إياهم والاستخفاف بأمنهم وسلامتهم وحياتهم نفسها؛ فليس أيسر على البيض من شتم الرجل الأسود ولكزه ووكزه وقتله لأيسر الأمور وأحقر الهنات.
قد استقر في قلوب البيض أن السود لهم عدو خطر ضعيف، فيجب أن يستذلوهم وأن يمسكوهم في الفقر والجوع والهوان والحياة الخسيسة من كل نواحيها، واستقر في نفوس السود أن البيض لهم عدو قوي، فيجب أن يكبروهم ويخافوهم ويرهبوا بأسهم ويتنحوا لهم عن الطريق، ويخفضوا الأصوات إذا حدثوهم، ثم لا يحدثوهم إلا بما يصور الخوف والإكبار والإجلال، ولكن الصبي يرى هذا كله ويفهمه حق الفهم ويشعر به أشد الشعور وأدقه، دون أن تطمئن نفسه إلى شيء منه؛ فهو لا يستطيع أن يؤمن بأن بينه وبين غيره من الناس فرقا سواء أكانوا بيضا أم سودا، وهو من أجل ذلك يبغض الناس جميعا، ويعكف على نفسه حتى كأنه يعيش في عالم مقصور عليه، يبغض البيض لظلمهم وكبريائهم، ويبغض السود لذلهم واستخذائهم، وهو من أجل هذا يعيش عيشة منكرة حقا: لا يطمئن إلى أهله ولا إلى رفاقه لأنهم سود مستذلون والذلة لا تجد إلى نفسه سبيلا، ولا يطمئن إلى البيض لأنهم طغاة مستكبرون، ولم تخضع نفسه للطغيان ولا للاستكبار.
وهو من أجل ذلك ومن أجل إصراره على بغض النظام ومباعدة الدين قد فقد عطف أسرته جميعا إلا عطف هذه الأم المريضة، التي تثقل عليها العلة أحيانا، وترفه عليها بين حين وحين.
وقد انتهى الأمر بالصبي إلى أن يسعى إلى المدرسة ويأخذ نفسه بنظامها في كثير جدا من المشقة والعناء، وما أسرع ما يتفوق على رفاقه السود ويمتاز منهم! وما أسرع ما يحب الدرس! ولكنه جائع عار وبائس يائس، فلا بد من أن يسعى على رزقه ورزق أمه، ولا بد مع ذلك من أن يمضي في درسه.
وهو من أجل ذلك يخدم البيض أول النهار وآخره، ويختلف إلى المدرسة فيما بين ذلك، وخدمته للبيض لا تستقيم؛ فهو لا يقبل الأوضاع المألوفة بينهم وبين السود، وهو يطرد مرة ويترك العمل من تلقاء نفسه مرة أخرى، وهو على ذلك يسعى على رزقه وتعليمه، ويشقى بهذا السعي حتى يتم المرحلة الأولى من مراحل التعليم.
والعادة أن المبرز من التلاميذ يلقي خطبة يوم توزيع الإجازات، وهو المبرز في سنته تلك، فسيكون إليه إذن إلقاء الخطبة، وهو يعد خطبته، ولكن ناظر المدرسة يدعوه ذات يوم ويدفع إليه خطبة أعدها هو ليلقيها كشأنه مع التلاميذ جميعا في كل عام، غير أن الغلام يرفض خطبة الناظر ويأبى إلا أن يلقي خطبته هو، والناظر دهش لهذا الإباء ثم ضيق به ثم ساخط عليه ثم منذر للغلام؛ لأنه معرض مستقبله للخطر إن أصر على هذا الإباء.
ورفاقه يلحون عليه في أن يفعل كما فعل المبرزون من قبله وكما سيفعل المبرزون من بعده، وأهله يلحون عليه كذلك، ولكنه يأبى ويستمسك بالإباء، ولا يعنيه أن يضيع مستقبله، ولا يعنيه أن يصرف عنه منصب التعليم في مدرسة من مدارس السود؛ فقد ألقى خطبته هو إذن لا خطبة الناظر، وظفر بشيء قليل من التصفيق وصافحه نفر قليل من رفاقه، ثم عاد إلى أهله وقد صرف عنه منصب التعليم، وليس له بد من أن يسعى على رزقه ومعونة أسرته، وهو مع ذلك طامع في أن يبلغ حظه من التعليم الجامعي، ولكن كيف السبيل إلى هذا التعليم؟
هو إذن مضطر إلى أن يستأنف خدمة البيض؛ فهو يتنقل من دار إلى دار ومن متجر إلى متجر، لا يتاح له الاستقرار إلا ريثما يفرض عليه القلق والاضطراب، حتى استيقن آخر الأمر أن لا مقام له في هذه البيئة التي يعيش فيها، وأنه مضطر إلى أن يتغرب ليحيا حياة ممكنة محتملة.
ولكن كيف السبيل إلى التغرب وليس له حظ من مال؟ فهو يعمل كثيرا ويكسب قليلا، وينفق على نفسه وعلى أسرته ما يكسب، ويجوع دائما، لا سبيل له إلى أن يغترب إلا إذا سرق، وهو يرد هذا الخاطر عن نفسه ردا عنيفا، ولكن هذا الخاطر يلح عليه إلحاحا عنيفا، ويزداد إلحاحه عليه كلما تعرض - وما أكثر ما كان يتعرض! - للإهانة والعسف يأتيانه من البيض.
وهو ينتهي آخر الأمر إلى أن يسرق: يختلس مسدسا من دار الجيران، ويختلس نقودا من دار السينما التي كان يعمل فيها، ثم يأخذ القطار ذات صباح أو ذات مساء فيخرج من هذه المدينة التي يعيش فيها الظلم والذل جميعا.
ويصل إلى مدينة ممفيس ومعه شيء من مال قد أخفاه في منطقته، وهو يريد أن يعمل في هذه المدينة حتى يجد من المال ما يمكنه من أن يدعو أمه وأخاه ليلحقا به، ثم يعمل بعد ذلك حتى يجمع من المال ما يمكنه من أن ينتقل معهما إلى شمال الولايات المتحدة حيث يستطيع السود أن يعيشوا دون أن يتعرضوا لما يتعرضون له في الجنوب من الذلة والهوان.
وقد أتيح له هذا العمل الذي كان يبتغيه، وأتيح له كسب ملائم، ولكنه يؤدي في سبيل ذلك العمل وهذا الكسب جهدا أي جهد، ويلقى في سبيلهما عناء أي عناء؛ فهو محتقر منذ يصبح إلى أن يمسي، وهو أقل شقاء بما يلقى من هذا الاحتقار منه بما يرى من اطمئنان أمثاله السود إلى هذا الاحتقار واتخاذه سبيلا إلى الكسب، ويتملقون البيض ويمكنونهم من المبالغة في إذلالهم ليكسبوا قليلا من المال.
وربما كان أشد ما أمضه وثقل عليه إسراف البيض في الاستهزاء بالسود، وإغراء بعضهم ببعض حتى يقتتلوا أو يصطرعوا أبشع الاصطراع وهم ينظرون إليهم، ويسخرون منهم ويلهون بهم، وقد تعرض هو لبعض ذلك؛ فما زال سادته الذين كان يعمل عندهم يخوفونه زميلا له أسود ويخوفون منه هذا الزميل ويغرون أحدهما بصاحبه، ولكنهما قاوما ما وسعتهما المقاومة ثم أذعنا آخر الأمر؛ لأن زميله قبل أن يلاكمه ويأخذ على ذلك أجرا خمسة دولارات.
وقد حاول ريتشارد رايت أن يرفض هذه الملاكمة، ولكن زميله ما زال به يرغبه في الدولارات ويرهبه بأسه، ويخيل إليه أن الملاكمة لن تكون إلا ظاهرة مموهة حتى استجاب له، ثم كانت الملاكمة واجتمع السادة البيض لها كما يجتمع الذين يلعبون باختصام الديكة، ولم تكن الملاكمة خيالية مموهة وإنما كانت مرهقة مهلكة أشرفت بهما على الموت.
وفي المصنع الذي كان ريتشارد رايت يعمل فيه كان يعمل أيرلندي كاثوليكي وكان رفيقا بالسود وبرايت خاصة، وبفضله استطاع رايت أن يستعير بعض القصص من مكتبة المدينة التي كانت وقفا على البيض، فلم يكد يقرأ في هذه القصص حتى فتحت له آفاق جديدة لم يكن يقدرها ولا يفترض لها وجودا، وإذا هو يصرف إلى القراءة عن كل شيء إلا عن العمل الذي يكسب منه قوته وقوت أسرته، ويستعين به على اقتصاد ما يتيح له السفر إلى الشمال. وهو يستكشف في هذه القراءة شيئين؛ أحدهما: هذه الآفاق الجديدة التي كان يجهلها، آفاق تصوير الحياة ونقدها وتحليلها، وآفاق هذه الأنواع الكثيرة المختلفة من الحياة التي يحياها الناس في أمريكا وفي أوروبا، والتي يصورها كتاب كثيرون أمريكيون وأوروبيون تنقل آثارهم أو يتحدث عنها فيما يقرأ من الكتب.
والثاني: هذه النفس التي كان يشقى بها، والتي لم يستطع قط أن يذلها أو أن يخضعها للذل، أو أن يتصور أنها أقل من نفوس البيض خطرا أو أهون منها شأنا، استكشف إذن في قراءته هذه الناس ونفسه، ولم يكن يعدل رضاه عن هذا الاستكشاف إلا تكفله للإقامة على حياته المألوفة حتى لا يفطن البيض إلى أن شيئا من سيرته الظاهرة أو الخفية قد تغير، وحتى لا يحولوا بينه وبين ما يسمو إليه من الهرب بنفسه إلى جو تستطيع أن تنمو فيه نموا حرا ليس فيه عسف ولا إكراه.
وقد أتيح له ذلك آخر الأمر؛ فهو يختم كتابه الرائع بما كان يدور في رأسه من الخواطر حين كان القطار يمضي به نحو الشمال، ولم تكن هذه الخواطر تصور سخطا ولا يأسا ولا جزعا، وإنما كانت تصور الرضا والأمل وحب الخير الذي يشمل السود والبيض جميعا.
وقد لخصت لك هذا الكتاب تلخيصا لا أقول إنه دقيق، ولا أقول إنه مقارب، ولكنه على ذلك يصور أمرين خطيرين؛ أحدهما: هذا الجهاد العنيف الذي جاهده ريتشارد رايت منذ صباه الأول؛ ليقاوم هذه المؤثرات الهائلة التي أفسدت على ملايين السود في أمريكا حياتهم واضطرتهم إلى ألوان من الذل والهوان، أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة الإنسان، وأنها تكذب هذا الغرور الذي يحمل كثيرا من أمم الغرب على أن تزهى بما أتيح لها من الرقي والتفوق والامتياز في حياة العقل والشعور.
فليس من الحضارة في شيء، وليس من رقي العقل والشعور في شيء أن يستعلي فريق من الناس على فريق فيستذلوهم ويعنفوا بهم أكثر مما يعنفون بالحيوان الأعجمي والآلة المسخرة، لا لشيء إلا لأنهم بيض، ولأن خصومهم سود.
وهذه المؤثرات قد انتهت بالسود في أمريكا أو بكثرتهم الساحقة إلى نتائجها الطبيعية، طال عليهم الاستذلال فهم أذلاء، وطال عليهم الاستعباد فهم يحيون حياة العبيد، وهم من أجل ذلك يغرقون في الرذائل التي تقتضيها حياة الذل والخسف؛ فهم يكذبون ويسرقون ويقارفون آثاما لا تحصى ولا تقدر، وهم يخافون، ويدفعهم الخوف المنكر المتصل إلى ضروب من الجبن وهوان النفس ودناءة السيرة لا تكاد تخطر لأحد منا على بال.
وهم يتخذون هذه الحياة المنكرة نظاما يرضونه ويطمئنون إليه ويتنافسون فيه، فإذا شذ منهم شاذ فامتنع على هذا النظام أو أظهر الامتناع عليه فهم ينكرونه ويقاومونه، كما ينكره البيض ويقاومونه.
وقد استطاع ريتشارد رايت منذ صباه الأول أن يقاوم هذه المؤثرات ويثبت لهذه المقاومة على ما لقي في هذا الثبات من خطوب آذت نفسه وجسمه جميعا؛ فهو لم يعرف الأمن ولا الرضا ولا اطمئنان القلب في يوم من أيام صباه، كما أنه لم يعرف الشبع ولم يأمن غائلة الحر والبرد، ولم يفلت من سخر الساخرين وعبث العابثين يوما من أيام صباه أيضا.
أما الأمر الثاني: فهو هذه الغفلة التي يعيش فيها العالم المتحضر في الشرق والغرب، بالقياس إلى هذه الدولة الضخمة الفخمة الهائلة التي تريد الآن أن تسود العالم، وتوشك أن تبلغ ما تريد؛ فالناس في الشرق والغرب يرونها نموذج الحضارة، ويتخذونها مثالا للرقي، وهي مع ذلك ترى ملايين من الناس يسامون أشنع ما يسام الناس من ضروب الذل والخسف والعسف والهوان، ثم لا تنكر ذلك ولا تغيره، بل لا تحاول إنكار ذلك ولا تغييره محاولة مجدية.
والأمريكيون البيض من أهل الولايات المتحدة قد هاجر آباؤهم من أوروبا فرارا بحريتهم من العسف والخسف والهوان؛ فالاضطهاد في الدين والرأي هو الذي دفع كثيرا من الأوروبيين إلى أن يهجروا وطنهم القديم إلى العالم الجديد؛ ليعيشوا فيه عيشة قوامها العزة والحرية والاحتفاظ بكرامة الإنسان؛ فانظر إليهم كيف يحرزون هذه الخصال لأنفسهم ثم يضنون بها على غيرهم من الناس، وما أنكر وما ينكر أن الأمريكيين قد ألغوا الرق الفردي وجاهدوا في سبيل إلغائه، وبلغوا من ذلك مع أوروبا ما حاولوا.
ولكن من المضحك حقا، والشر يضحك في كثير من الأحيان، وأبغض الشر ما يضحك، من المضحك حقا أن يلغى بيع الإنسان وشراؤه ثم يتاح لفريق من الناس أن يسوموا فريقا آخر من الناس خطة ليست أقل شرا ولا نكرا من تعريضهم للبيع والشراء.
فالأمريكي الأبيض لا يستطيع أن يشتري الأمريكي الأسود أو يبيعه، ولكنه يستطيع أن يعرضه للجوع والبؤس والمرض، ويفرض عليه حياة تضطره إلى اقتراف الجرائم المنكرة، ويضربه متى شاء، ويقتله إن شاء أيضا.
وأغرب من هذا كله أن في الأمريكيين البيض من أهل الولايات المتحدة طموحا إلى الخير وسموا إلى المثل العليا لا يتكلفون ذلك ولا يتصنعونه، وإنما تدفعهم إليه نفوسهم الساذجة، فهم يدعون إلى الخير والبر والإحسان وإلى السلم والعافية وإلى التعاون والتضامن، وهم لا يترددون في أن يجاهدوا في سبيل ذلك بنفوسهم وأموالهم، ولكنهم بعد هذا كله ينامون ملء جفونهم ولا يؤرق نومهم الهانئ الهادئ علمهم بأن بضعة عشر مليونا من السود الذين يشاركونهم في الإنسانية والوطن والذين يسامون بينهم سوء العذاب. والأمريكيون البيض هم الذين أذاعوا في الناس أسطورة الحريات الأربع ولكنهم لم يستطيعوا أو لم يريدوا إلى الآن أن يكفلوا بعض هذه الحريات الأربع لهؤلاء الملايين الذين يشاركونهم في الإنسانية والوطن واللغة والدين.
وإنه لمن المضحك حقا أن يحاول الأمريكيون تأمين الناس في الشرق والغرب من العوز والخوف والظلم والعدوان، ثم لا يحاولون تأمين هؤلاء الملايين الذين يقيمون بينهم من هذه الآفات التي يصبونها عليهم صبا حين يسفر النهار وحين يظلم الليل.
وخصلة أخرى ليست أقل روعة مما قدمنا يصورها هذا الكتاب أبرع تصوير وأروعه، وهي طموح هذا الصبي، وقدرته على أن يحتفظ بهذا الطموح، وقدرته على أن يزيد هذا الطموح، وقدرته على أن يبلغ ما كان يطمح إليه من التفوق والامتياز، لا بالقياس إلى أمثاله السود وحدهم بل بالقياس إلى هؤلاء البيض الذين حاولوا استرقاقه فلم يستطيعوا.
على أن ما أتيح لريتشارد رايت من قهر ما قهر من المصاعب وتذليل ما ذلل من العقاب، والتخلص من هذه الجرائم والآثام التي كانت تدعوه دعاء ملحا، لم يتح ولا يمكن أن يتاح لكثير من السود ولا لكثير من البيض إن أحاطت بهم ظروف كالتي تحيط بملايين السود الأمريكيين.
ومن هنا تظهر الصلة القوية الرائعة بين الكتابين اللذين أحللهما في هذا الحديث، وأكاد أثق بأن الكتاب الذي فرغت من تحليله يشبه أن يكون مدخلا أو مقدمة للكتاب الآخر الذي أريد أن آخذ في تحليله.
فالكتاب الأول يصور لنا غلاما قهر ظروف الحياة التي تحيط بالسود في أمريكا، والكتاب الثاني يصور لنا غلاما قهرته هذه الظروف. فهي واحدة بالقياس إلى الغلامين، ولكن أحدهما وهو ريتشارد رايت قد تداركته رحمة الله؛ فأتاحت له النبوغ الذي استنقذه من الشر استنقاذا، على حين أن الغلام الآخر وهو بيجر توماس لم تدركه رحمة الله، وإنما خلت بينه وبين طبيعة الحياة المنكرة التي فرضت على السود الأمريكيين فالتهمه الشر التهاما.
ولست أدري أخطرت هذه الصلة لريتشارد رايت حين كتب هذين الكتابين أم لا، ولكني أعلم بعد التجربة أن هذه الصلة موجودة محققة ليس في وجودها شك؛ فقد رأيت من قرأ الكتاب الثاني فضاق به ونبا عنه، وكاد يلحقه بالقصص البوليسية، فلما قرأ الكتاب الأول فهم الكتاب الثاني على وجهه ورده إلى مكانته الممتازة من الأدب الأمريكي الرفيع.
ذلك أن حياة بيجر توماس توشك أن تكون هي الحياة التي صورها ريتشارد رايت لنفسه في كتاب «الغلام الأسود»؛ فبيجر توماس فتى قد قارب العشرين من عمره، وهو يعيش مع أمه السوداء البلهاء أو التي توشك أن تكون بلهاء، ومع أخ له أصغر منه سنا وأخت تختلف إلى مدرسة تتعلم فيها الخياطة، والأربعة يعيشون في غرفة حقيرة متهالكة تروعهم فيها الجرذان ترويعا شديدا، وهم يعيشون في هذه الغرفة الحقيرة مختلطين أشنع اختلاط وأبشعه، حتى إن بعضهم ليضطر إلى أن يدير وجهه إلى الحائط أو إلى النافذة ليستطيع بعضهم الآخر أن يلبس ثيابه.
وهم يعيشون من الإحسان الذي يصيبهم من جماعة من هذه الجماعات التي توزع الخير على البائسين، وهذا الفتى قد نشأ فيما يظهر نشأة مختلطة مفرقة تشبه نشأة ريتشارد رايت، ولكنه لم يقاوم ظروف السود التي أحاطت به ولم يقهرها، وإنما عرفها وأحس شرها وضاق بها وخضع لها مع ذلك مع إنكاره لها، فهو يسرق ويكذب ويعتدي، ويرى أن هذا كله شر، ولكنه يرى أن هذا الشر لا بد منه لأنه مظلوم؛ فهو يسرق الظالمين ويخادعهم ويمكر بهم ويعتدي عليهم، لا يرى بذلك بأسا بشرط أن يفلت من العقاب.
وهو من أجل ذلك بارع في الحيلة ماهر في الكيد حتى يبلغ ما يريد، وهو قد جمع إلى هذه الخصال المنكرة خصالا أخرى ليست أقل منها نكرا؛ فهو متبطل متعطل محب للكسل مغرق في الأثرة عنيف بأمه وأخته أبغض العنف وأقبحه.
ونحن نراه في أول القصة مترددا، قد عرض عليه عمل يتيح له أن يكسب رزقه ورزق أسرته، فهو لا يدري أيقبل هذا العمل فيصبح سائقا لرجل من أغنياء البيض أم يرفض هذا العمل فينقطع رزقه ورزق أسرته وتكف الجماعة الخيرة عن معونته بما ترزقه في كل أسبوع.
وهو في أثناء هذا التردد ينازع نفسه وينازع جماعة من رفاقه إلى اقتراف جريمة من هذه الجرائم التي تعودوا أن يقترفوها، جريمة السطو على رجل من التجار المتوسطين حين يخلو الشارع من المارة وينفرد هذا الرجل في متجره إذا كانت الساعة الثالثة بعد الظهر، وهؤلاء الفتية قد دبروا جريمتهم واستعدوا لها وكادوا يقدمون عليها، ولكنهم مشفقون من أن يؤخذوا، فنفوسهم تقدم لتحجم، ثم تحجم لتقدم، ثم يكون بينهم شيء من الاختلاف فلا تقترف الجريمة، وينظر الفتى فإذا النهار قد تقدم، وإذا المساء قد أقبل، وإذا الموعد قد أزف للقاء هذا الفتى الأبيض الذي يريد أن يتخذه لسيارته سائقا.
وهو يسعى إلى دار هذا الفتى، ولا يكاد الباب يفتح له وتلقاه الخادم وتقدمه إلى سيدها حتى تثور في قلبه عواطف مختلفة أشد الاختلاف؛ فهو مبغض أشد البغض لهذا الغني الأبيض، محتاج أشد الحاجة للعمل عنده، لو أطاع نفسه لهجم على هذا الرجل فاستلبه الحياة استلابا، ولكنه لا يطيع نفسه، وإنما يطيع حاجته إلى العمل وفقره إلى ما يقيم أوده وأود هؤلاء الثلاثة الذين خلفهم وراءه والذين لا يجدون ما ينفقون.
وهو يسعى خلف هذا الرجل الذي يقوده إلى مكتبه، ولكنه يلقى في طريقه صورة تروعه، وتقع من نفسه موقعا غريبا: امرأة جميلة عمياء قد لبست البياض، وهي تسعى متحسسة من طريقها تصاحب الجدار حتى لا تضع رجلها في غير موضعها، ويراها صاحب الدار فيرفق بها أشد الرفق، فهي إذن زوجه وهي سيدة الدار.
ويبلغ الفتى مكتب هذا الرجل الغني ويأخذ مجلسه ويسمع لسيده الجديد، فإذا هو يتحدث إليه حديثا رقيقا عذبا فيه كثير من العطف، وإذا هو يعده وعودا مغرية فسيدفع إليه أجرا حسنا، وسيكون عمله هينا ويسيرا، وسينزله من داره منزلا وثيرا، وسيعينه على أن يتم تعليمه في مدرسة من مدارس المساء، وهو يسمع هذا كله راضيا به ساخطا عليه في وقت واحد؛ راضيا به لأنه محتاج إليه، ساخطا عليه لأنه يأتيه من غني أبيض.
وإنهما لفي ذلك إذ تدخل فتاة في الثامنة عشرة من عمرها رشيقة أنيقة عذبة الروح خفيفة الظل حلوة الحديث، ولا تكاد ترى الفتى حتى تتحدث إليه في دعابة وتسأله أمتصل هو بإحدى النقابات؟ وقد فهمنا أن هذه الفتاة الخفيفة الذكية الخرقاء مفتونة بحرية السود وبحرية الطبقة العاملة وبالمذهب الشيوعي بوجه عام، وقد انصرفت الفتاة بعد أن ضربت موعدا لهذا الغلام على أن يؤديها في السيارة إلى الجامعة حين يقبل الليل.
وانصرف الفتى إلى المطبخ، فلقيته الخادم فأطعمته وسقته وبينت له من أمر سادته أنهم قوم كرام أخيار لا يبطرهم الثراء الضخم، ثم دلته على غرفته فإذا هي غرفة مترفة حقا، ولكن صورة الفتاة الحسناء قد ارتسمت في نفسه وأحاطت بها هالة من البغض المنكر.
وهو على كل حال قد أخرج السيارة وانتظر الفتاة حتى أقبلت، ولم يكد يخرج بها من الدار حتى وجهته وجهة غير وجهة الجامعة، ثم أفضت إليه في رشاقة وظرف بشيء من سرها وطلبت إليه أن يكتم عليها أمرها؛ فهي لا تذهب إلى الجامعة وإنما تذهب للقاء صديق، وقد وقفت السيارة أمام دار ضخمة، ونزلت الفتاة فغابت لحظة ثم عادت ومعها فتى قدمته إلى الغلام فصافحه الفتى، وأنكر الغلام الأسود هذه المصافحة من فتى أبيض وسيم، ثم لم يلبث أن أنكر منهما كل شيء، فهما يتحدثان إليه حديثا قد برئ من الكلفة، وما يمنعهما من ذلك وهما شيوعيان لا يريان الفرق بين الألوان ولا يريان الفرق بين الطبقات؟ وهما يريدان أن يتخذا من هذا الغلام الأسود رفيقا لهما لا يعنيهما أن يكون أسود ولا أن يكون سائقا لسيارة، بل هما يألفانه من أجل هاتين الخصلتين.
وهما يلحان عليه في أن يؤديهما إلى مطعم من مطاعم السود، وأن يختار لهما من هذه المطاعم مطعما أنيقا، والفتى يطيع، ثم يدعوانه إلى أن يشاركهما في عشائهما، فيأبى فيلحان فيجيب كارها.
وقد جلس ثلاثتهم إلى المائدة فطعموا وشربوا وتحدثوا، والغلام الأسود منكر لهذا كله، مستح من هذا كله، يكره أن يراه نظراؤه السود يؤاكل قوما من الأغنياء البيض، ثم ينصرفون عن المطعم فيمضون للنزهة ويسرف الفتيان على أنفسهما وعلى الغلام الأسود في الشراب؛ فيشربان ويسقيانه حتى يأخذ السكر منهم جميعا.
وقد تقدم الليل حتى كاد يبلغ ثلثيه، وانصرف الفتى الأبيض قريبا من دار الفتاة بعد أن ودع صاحبته وسقاها شيئا من الخمر على أنها شربة الوداع، وقد تواعد الفتيان على أن يلتقيا بعد ثلاثة أيام؛ لأن الفتاة ستسافر من غد في أول النهار.
وبلغ الغلام الأسود بالفتاة دارها ووقفت السيارة، ولكن الفتاة لا تستطيع حراكا قد أخذ السكر منها مأخذا عظيما، يعينها الغلام الأسود على أن تخرج من السيارة، ولكنها لا تستطيع أن ترقى السلم، فيعينها على ذلك، ولكنها لا تستطيع أن تدخل الدار لأنها لا تستطيع أن تستقل على قدميها، فيحملها الغلام الأسود بين ذراعيه، ويبلغ بها غرفتها بعد جهد شديد وقد وضعها على سريرها، ولكنه ليس أقل منها سكرا، وقد رأى بينها وبين صاحبها الأبيض ما أثار في نفسه شيئا من الإغراء، وهو متردد يهم وما يكاد يفعل، والفتاة لا تعقل ولا تقاوم. ولكن باب الغرفة يفتح في رفق وتدخل منه هذه الصورة البيضاء الشاحبة التي تتقدم متحسسة من طريقها، وقد امتلأ قلب الغلام الأسود خوفا وفرقا يشفق أن تنطق الفتاة فتنبئ بمكانه فتكون الكارثة، وأي كارثة أعظم من أن يؤخذ غلام أسود مع فتاة بيضاء في غرفة نومها؟! وهنا يفقد الفتى صوابه وتستأثر به الغريزة، غريزة الدفاع عن النفس، فيأخذ وسادة ويضعها على فم الفتاة حتى لا تنطق، وهو يضغط على الوسادة والفتاة تضغط بأظافرها على يده، والأم تدعو ابنتها، والغلام الأسود يلح في الضغط، والأظافر تتراخى شيئا فشيئا، ثم تنحى الوسادة وينتقل الفتى من مكانه في رفق، والأم تدعو ابنتها وقد ألصق الغلام الأسود جسمه بالجدار والأم تسعى متحسسة من طريقها حتى تبلغ السرير فتمس ابنتها وتنحني عليها، ثم تنصرف محزونة ترى أن ابنتها نائمة، ولكنها تشم رائحة الخمر فيحزنها أن ابنتها قد أمعنت في السكر.
وهي ترجع متحسسة من طريقها حتى تخرج وتغلق الباب من ورائها، ويدنو الفتى من السرير فلا يروعه إلا أن يرى أنه يخلو في هذه الغرفة إلى الموت.
فهؤلاء ثلاثة قد خلا بعضهم إلى بعض: غلام أسود، وليل حالك، وموت لا لون له. وقد أخذ عقل الفتى يثوب إليه شيئا فشيئا ويثوب معه الجزع والهلع، وتثوب معهما الغريزة التي تريد أن تدافع عن نفسها وتفتح للعقل أبوابا مختلفة من الحيل؛ فما عسى أن يصنع الفتى بهذه الفتاة الميتة؟ أيتركها ويمضي لوجهه ويلتمس الهرب؟ ولكن هربه سيثبت عليه الإثم، ولن تلبث الشرطة أن تتعقبه وتأخذه، أيتركها ويذهب إلى غرفته لينفق بقية الليل؟ ولكن أهلها سيجدونها ميتة إذا أصبحوا وسيبحثون ويستقصون وسيكون هو أول من يوجه إليه السؤال. فكيف يجيب؟ وما عسى أن يقول؟ وهنا يذكر الفتى أنه سمع الفتاة تتحدث بسفرها مع الصبي، وتتقدم إليه في أن يقوم مبكرا لينزل حقيبتها وليحملها هي إلى القطار.
فما هي إلا أن تخطر له هذه الخاطرة حتى تتفتح له أبواب من الحيل يرى بعضها واضحا جليا ويتراءى له بعضها الآخر في شيء من الغموض والخفاء، وينظر فإذا الحقيبة بين يديه قد أعدت لتضع فيها الفتاة ما تحتاج إليه من ثياب ومتاع، وما هي إلا أن يعمد إلى جثة الفتاة فيضعها في الحقيبة، ويحمل الحقيبة متكلفا حملها ويسعى متلمسا طريقه مترفقا في سعيه حتى يبلغ أدنى الدار، هناك حيث يقوم الموقد الضخم الذي لا تخمد ناره ليلا ولا نهارا، والذي علمته الخادم كيف يغذيه بالفحم حتى لا تخمد ناره ولا تضعف وكيف يزيل منه الرماد إذا كثر فيه الرماد.
وما هي إلا أن يفتح باب الموقد ويدفع فيه بجثة الفتاة، ولكن الموقد لا يشتمل على الجسم كله فما زال الرأس خارجا منه لا سبيل إلى رده، وينظر الفتى فإذا فأس من هذه الفئوس التي يقطع بها الخشب، فما هي إلا أن يأخذها ويهوي بها إلى الرأس فيبينه من سائر الجسد، ثم يضعه في المكان الملائم له من الموقد ثم يغلق باب الموقد وقد أسلم الجثة إلى نار لا تبقي ولا تذر، ثم يرد أحد شطري الحقيبة إلى شطرها الآخر، ثم ينصرف وقد أحكم رأيه إحكاما.
لقد أمرته الفتاة أن ينزل الحقيبة إلى أسفل الدار وأن يغدو مبكرا ليحملها إلى المحطة فلا عليه من أن ينفذ ما صدر إليه من أمر، فإذا سئل عن الفتاة أجاب بأنه لا يعرف من أمرها أكثر من أنه عاد بها وبصاحبها إلى الدار، وصعد معها ومع صاحبها إلى الغرفة فحمل الحقيبة وأنزلها، وأمر أن يترك السيارة أمام السلم لا يردها إلى مكانها.
وقد أقبل مع الصبح فلقي الخادم وحمل الحقيبة، وسئل فأجاب، ولم تنكر الخادم من جوابه شيئا؛ فالفتاة نزقة طائشة كثيرة العبث والمجون وكل شيء منها ممكن، ويتقدم النهار حتى يوشك أن يبلغ آخره، وإذا صاحبة الدار تسأله فيجيبها بمثل ما أجاب به الخادم، ويسأله صاحب الدار فيعيد عليه نفس الجواب، فإذا كان الغد تلقت الدار دعاء من المحطة إلى أخذ الحقيبة التي تركت في مستودع الودائع، فعرفت الأسرة أن الفتاة لم تسافر، وجعلت الظنون تذهب بها كل مذهب.
وقد تبينت الأسرة أن الفتاة تركت كثيرا من الثياب التي كانت تريد أن تحملها في سفرها، ومهما يكن من شيء فقد استأثر الخوف بالأبوين جميعا، ودعي السائق فتشدد في سؤاله الأب وتشدد معه بعض المتجسسين الذين يعملون له في شركاته الضخمة، وكان هذا المتجسس يريد أن يتهم الفتى، ولكن الأب يدافع عنه، ويرى أنه فتى مستقيم.
وإذن فلتلصق التهمة بهذا الشيوعي الشاب الذي أنفق مع الفتاة ليلته تلك، وقد أخذ هذا الشيوعي فألقي في السجن، واستقامت للغلام الأسود أموره حتى طمع في أكثر مما بلغ.
ويجب أن نلاحظ أن هذا الغلام لم يكد يدفع الخوف عن نفسه ويزيل أثر الجريمة حتى رضي عن كل ما فعل، وأحس أن الجريمة قد كشفت له عن شخصيته، وردت إليه حريته وأتاحت له وجودا لم يعرفه من قبل؛ فهو قد قتل فتاة بيضاء وحرق جسمها في النار، وروع بها أبويها، ودفع فتى أبيض بريئا إلى السجن، وأخذ ما كانت الفتاة تحمل في حقيبة يدها من مال، وهو مع هذا كله مطمئن يذهب ويجيء ويأكل ويشرب وينام.
وهو إذن حر، وهو إذن سيد نفسه، وهو إذن موجود على نحو ما يقول أصحاب الفلسفة الوجودية، وهو إذن محتمل تبعة كل ما أتى وكل ما يأتي من الأعمال. قد كانت شخصيته مغمورة، وكانت قوته وحيلته ومهارته مغمورة مع هذه الشخصية؛ فالآن وقد كشفت له الجريمة عن نفسه وعن قدرته وعن حيلته؛ فهو يستطيع أن يصنع أكثر مما صنع، وأن يقدم على أكثر مما أقدم عليه.
وما يمنعه أن يزور كتابا إلى الأسرة ينبئها فيه بأن الفتاة مخطوفة أسيرة عند خاطفيها وبأن من الممكن أن ترد إلى أهلها إذا وضعوا مقدارا من المال في مكان ما؟ وما يمنعه إذا وضع هذا المقدار من المال في المكان الذي اختاره أن يأخذه وينفي به نفسه من الأرض إلى حيث يعيش آمنا حرا مستمتعا بشخصيته وقوته وذكائه وحيلته؟
ولكنه في حاجة إلى شريك يعينه على إتمام هذا الكيد، وهذا الشريك قريب منه وهو خليلته السوداء التي شاركته في بعض الجرائم، والتي وصلت أسبابها بأسبابه في الخير والشر جميعا؛ فهو يسعى إلى هذه الفتاة السوداء، ويأخذها بما تعود أن يأخذها به من الحب والعبث والسكر ثم يظهرها على بعض الأمر لا على الأمر كله، ثم ينبئها بما دبر من حيلة ليحتاز عشرة آلاف من الدولارات، والفتاة تأبى وتلح في الإباء، وتخوفه العاقبة، ولكنه يرغبها ويرهبها ويلهيها ويسقيها حتى تظهر له الطاعة، وإذا هو يكتب الكتاب ويحمله إلى الدار ويلقيه من وراء الباب، ويسرع إلى غرفته ينتظر فيها الأحداث.
وما هي إلا ساعات حتى يرى نفسه في أدنى الدار أمام الموقد، وقد أقبلت جماعات الصحفيين الذين يريدون أن يعرفوا تفصيل ما ذاع من أنباء هذه الفتاة، وهم يسألون ويلحون في السؤال، والفتى الأسود قائم أمامهم كأنه لا يعرف من الأمر أكثر من أنه رد الفتاة وصاحبها الأبيض إلى الدار حين تقدم الليل، وهما ثملان، والقوم مقتنعون بأن هذه الجريمة الغامضة أثر من آثار الشيوعيين.
ولكن صاحب الدار يقبل فينبئ هؤلاء الصحفيين بأنه تلقى كتابا يحدثه بأن ابنته أسيرة، وبأن عليه أن يفتديها بالمال، ثم ينبئهم بأنه سيدفع هذه الفدية، ثم يتقدم إليهم في أن يحتاطوا فيما ينشرون في صحفهم حتى لا يفسدوا عليه الأمر، فهو لا يريد إلا أن يجد ابنته.
وفي أثناء ذلك تقدم الخادم وقد حملت أقداح القهوة إلى الصحفيين وتطلب إلى السائق أن ينظف الموقد، فقد تراكم فيه الرماد حتى كادت النار أن تخمد، وكان الغلام الأسود سعيدا لما سمع من حديث صاحب الدار، فسيوضع المال في المكان المختار إذن، وستأخذه خليلته السوداء، وسيلقاها بعد ذلك ويفر معها من هذه الأرض، ليس بينه وبين الثراء والحرية إلا ساعة أو بعض ساعة.
ولكن هذا الأمر الذي صدر إليه بتنظيف الموقد يملأ قلبه روعا، فما عسى أن يكون في الموقد؟ وكيف السبيل إلى تنظيفه بمشهد من الصحفيين! وهو يتردد ثم يتثاقل، ولكن النار قد أخذت تخمد وأخذ الدخان يتكاثف، ويفسد على الصحفيين قهوتهم، فيتقدم الفتى ويفتح الموقد ويهم، ولكن يده لا تطيعه، وإذا هو واجم لا يصنع أو لا يكاد يصنع شيئا؛ فينهض أحد الصحفيين ويأخذ المسحاة من يده، ويحرك الرماد ثم يحدق فيه، ثم يدعو زملاءه ثم يأخذون جميعا في التحديق، والغلام الأسود يسمع وكأنه لا يسمع ويرى وكأنه لا يرى، ويرجع أدراجه في رفق كأنما يخلي بين الصحفيين وبين الموقد، ثم ينسل من الدار ولم يشعر به أحد وقد انهارت آماله كلها انهيارا، وعاد الخوف إليه كهيئته حين قتل الفتاة وأسلم جثتها إلى النار.
فقد استكشف الصحفيون في رماد الموقد عظاما، واستكشفوا الفأس التي أبين بها الرأس، واستكشفوا بعض الحلي الذي كانت الفتاة تحمله، ولم يبق للغلام الأسود إلا الهرب، ولكنه كيف السبيل إلى الهرب ومن ورائه شريكته تلك التي ستؤخذ وتسأل وترهق حتى تشهد عليه؛ فليتخفف من هذه الشريكة وقد فعل، فسعى إليها وأنبأها بأمره كله، واقتادها من بيتها تحت الليل إلى دار من هذه الدور الخالية التي تنتظر المستأجرين، وفي هذه الدار خوفها وألهاها وسقاها حتى نامت، ثم عمد إلى لبنة فما زال يضرب بها رأسها حتى شدخه واستيقن أن الفتاة قد ماتت، فألقاها من النافذة وسقط جسمها في فناء الدار.
ووجد مع ذلك سبيلا إلى أن يخرج ويشتري صحيفة، ويعلم منها أن الشرطة تبحث عنه وتدل عليه بصورته، وتحاصر أحياء السود، وتلقي بكثير منهم في السجون، وأن الطرق المؤدية إلى المدينة قد أخذت على الخارجين منها والداخلين فيها، فلن يستطيع من المدينة خروجا.
وهو إذن يحاول أن يستخفي دون أن يخرج من المدينة ودون أن يترك هذه الدور الخالية، ولكن هذه الدور تفتش دارا بعد دار، وقد دخلت الشرطة الدار التي يختبئ فيها فيصعد إلى السطح، وما تزال الشرطة به تطارده من مكان إلى مكان، وهو يطاولها ويراوغها ثم يواجهها بالمسدس، ولكنه يؤخذ آخر الأمر بعد خطوب عرضها الكاتب أبرع عرض وأروعه.
وهو على كل حال قد أخذ؛ والغريب أنه مشفق من الموت، ولكنه لا يحس ندما على شيء مما قدمت يداه.
وقد ظهرت براءة الفتى الشيوعي الذي تجنى عليه هذا الغلام الأسود، فردت إليه حريته، وأقبل ذات يوم مع محام شيوعي على هذا الغلام في سجنه ينبئه بأن صديقه المحامي قد تطوع بالدفاع عنه، وبالدفاع عنه مخلصا مؤمنا بأنه يدافع عن الحق الذي لا شك فيه.
والمدينة كلها ثائرة تريد رأس هذا المجرم، وليست الثورة مقصورة على البيض الذين وقع الاعتداء على فتاة من فتياتهم، وإنما السود يشاركون أيضا في هذه الثورة؛ لأن المجرم قد عرضهم لسخط البيض وانتقامهم وأذاهم المتصل؛ فهم يريدون رأس هذا الفتى الذي أيقظ الشر وقد كان نائما، وجر عليهم عذابا كان قد كف عنهم منذ حين.
وما أريد أن ألخص خير ما في هذا الكتاب، وهو تصوير حياة هذا الغلام الأسود في سجنه، وموقفه أمام قاضي التحقيق ثم أمام القضاة، ولا أن ألخص موقف النيابة منه، ومن القضاء، ومن المحامي الذي تكلف الدفاع عنه، ولا أن ألخص موقف الجماعات التي كانت تزدحم حول السجن لتقتل الفتى حين يخرج منه، أو حول المحكمة لتقتل الفتى حين يصل إليها، حتى كانت الشرطة تجد في حمايته من هذه الجماعة أعظم المشقة وأثقل الجهود.
وإنما أكتفي بتلخيص النظرية التي اعتمد عليها المحامي في الدفاع عن هذا المجرم؛ فهو لم ينكر الجريمة، ولم ينكر استحقاق المجرم للموت، ولكنه طلب إلى القضاة أن يتعمقوا في الظروف التي حملت هذا الغلام على اقتراف جريمته أو جريمتيه.
فهذه الظروف ليست جديدة ولا طارئة، وإنما هي قديمة وهي متصلة أدق الاتصال وأوثقه بهذه الصلة القائمة بين حياة السود والبيض: قوم يستعلون ويستكبرون ويعسفون ويخسفون، وقوم آخرون يخضعون لهذا الاستعلاء والاستكبار، ويذوقون ألوان الذل والهوان، ويحاولون أن يخرجوا من ذلك إلى شيء من الأمن والدعة، فيرى البيض في محاولتهم هذه جموحا وعدوانا ويردونهم إلى حياتهم البغيضة أعنف الرد وأثقله.
لقد حاول هذا الفتى أن يخرج من طوره هذا المنكر، فلم يجد إلى ذلك سبيلا؛ طمع في أن يعمل في الأسطول فعلم أنه لن يعمل فيه إلا خادما، وطمع في أن يعمل في الجيش فعلم أنه لن يعمل فيه إلا خادما، وفكر في أن يعمل في السلاح الجوي فعلم أن لا أمل للسود في هذا السلاح، وهم بأعمال أخرى فرد عنها في عنف كما رد عن هذه الأعمال؛ فاضطر إلى حياته تلك الفارغة إلا من الموجدة والحقد وانتهاز الفرصة لاقتراف الإثم.
هو وأمثاله من السود خائفون من البيض يتربصون بهم الدوائر وينتظرون بهم المكروه، والبيض خائفون منهم يمسكونهم في حياتهم هذه المنكرة ويسرفون عليهم في الإذلال، ويرون الشر كل الشر والنكر كل النكر في كل ما يصدر عنهم من عمل.
وما دام الخوف هو أساس الحياة وقوام الصلات بين السود والبيض؛ فلن يمتنع ارتكاب الجرائم ولا اقتراف الآثام، وموت هذا الفتى إن قضي عليه بالموت لن يمنع من أن ينشأ فتيان آخرون أمثاله يملأون قلوب البيض روعا وجزعا، وينتهزون الفرص ليقتلوا ويسرقوا ويملأوا الأرض شرا، فإذا لم يكن بد من عقاب هذا الفتى، فليمسك في السجن إلى أن يموت، مع أن عقابه لن يغير من الأمر شيئا، وإنما الذي يغير الأمر هو أن تصلح الحياة الأمريكية وتقام الصلات بين الأمريكيين، مهما تختلف ألوانهم، على نظام من العدل والمساواة، وواضح أن القضاة قد سمعوا لهذا الكلام، وقضوا على الفتى بالموت، وواضح كذلك أن المحامي قد التمس تخفيف العقوبة من الحاكم فلم يظفر بشيء، ولكن أوضح من هذا وذاك أن الكاتب قد استطاع بصدق لهجته من جهة، وببراعته الفنية من جهة أخرى، وبدقة تصويره من جهة ثالثة، أن يملأ نفس القارئ بغضا لهذا المجرم في الشطر الأول من كتابه ورحمة له ولأمثاله في الشطر الأخير من كتابه، وأن ينقلك في رفق رفيق من منزلة البغيض التي ليس بعدها بغض إلى منزلة الرثاء الذي ليس بعده رثاء.
وأنت بعد هذا كله تقرأ هذين الكتابين، فما أسرع ما تنغمس مع الكاتب في الحياة الأمريكية حتى كأنك تحياها مع أصحابها لا أنك تقرأ أنباءها وصورها في كتاب!
أتظنني أسرف حين أثني على هذين الكتابين، وحين أتمنى على الذين يحسنون الإنجليزية، أن يتيحوا قراءتهما للذين لا يحسنون هذه اللغة من الشرقيين؟
في الأدب الفرنسي (1)
جان بول سارتر والسينما
تساءل الكاتب الفرنسي المعروف جان بول سارتر عن الأدب ما هو؟ وماذا ينبغي أن يكون؟ ودفعه هذا التساؤل إلى أن يضع كتابا قيما لم يظهر بعد في مجلد، ولكنه نشر تفاريق في مجلة «العصور الحديثة»، وقد عرضنا لهذا البحث بشيء من النقد المفصل، في عدد يونيو الماضي من هذه المجلة.
والفكرة التي دار حولها هذا الكتاب القيم هي مقدار ما يكون بين الأديب وبين قرائه من الاتصال من جهة، ومقدار ما ينبغي أن يحتمل الأديب من تبعة بحكم هذا الاتصال بينه وبين القراء، ومشاركته لهم فيما يعرض من المشكلات التي تأتلف منها الحياة الاجتماعية مهما تكن طبيعة هذه المشكلات، ومن دون تفريق بين ما يتصل منها بالسياسة أو بالنظام الاجتماعي، أو بأي لون من هذه الألوان التي تؤثر في حياة الناس، والتي يجب على الأديب أن يشارك فيها، ويحتمل نصيبه من تبعاتها، كما يجب على الأدب أن يصورها ويصور المشاركة فيها ويصور الوسائل المختلفة لتدبيرها والخروج من ضائقتها واستكشاف ما يمكن استكشافه من الحلول لأزماتها مهما تختلف في الطبيعة والصورة والأثر.
وهذه الفكرة هي ما يسميه جان بول سارتر التزام الأدب، وهي ليست أكثر من أن الأديب يجب أن يعيش مع معاصريه فيشقى بشقائهم ويسعد بسعادتهم، ويواجه مشكلات الحياة كما يواجهونها، ويصور هذا كله في أدبه تصويرا دقيقا خصبا مجديا، دون أن ينفصل عن حياة معاصريه، أو يعتزلهم ليعيش في برجه العاجي، وينتج في هذا البرج أدبا لا يتصل بآلام الناس وآمالهم، وما يعرض لهم من بؤس ونعيم.
وقد استعرض جان بول سارتر في كتابه هذا تاريخ الأدب الفرنسي في عصوره المختلفة، وبين مقدار ما كان بين الأدباء وقرائهم من الصلات والاشتراك في احتمال التبعات على اختلاف العصور وتباين الظروف، ووصل من هذا الاستعراض إلى نتائج رائعة في تاريخ الأدب الفرنسي ليس هنا موضع الحديث عنها.
ولكنه لاحظ أن تطور الحياة الحديثة، ولا سيما في القرن التاسع عشر وفي أوائل هذا القرن، قد انتهى بالأدب إلى أن يكون لونا من ألوان الترف يترفع عن الحياة اليومية العاملة ليعنى بألوان من هذه الحياة الفنية المترفة التي لا تتاح إلا لطبقات ضيقة من الناس.
ثم حاول أن يرسم للأديب المعاصر، ولنفسه وأصحابه بنوع خاص، برنامجا يحققون به الاتصال بينهم وبين قرائهم، ويشاركونهم به في مواجهة ما تمتلئ به الحياة المعاصرة من المشكلات التي تزداد عنفا وتعقدا من يوم إلى يوم.
وقد اضطره هذا إلى أن يستقصي مشكلات الحياة الاجتماعية في هذه الأيام، وينتقد المذاهب السياسية الاجتماعية التي تحاول حل هذه المشكلات، ويختار لنفسه ولأصحابه طريقا وسطا بين مذهب الشيوعيين الذين يلغون حرية الفرد، ومذهب البورجوازيين الذين يبيحون هذه الحرية لفريق من الناس دون فريق.
وأراد أن يصل إلى نوع من النظام يكفل للفرد حريته كاملة، ويكفل للجماعة عدلا شاملا، ويكفل للأديب حريته الكاملة في التفكير والتصوير والتعبير، دون أن يخضع لما تفرضه الأحزاب على أعضائها من قيود وأغلال تضطرهم إلى أن يفكروا ويصوروا ويعبروا كما يريد نظام الحزب، لا كما تريد حرية الفرد ولا كما تريد طبيعة الأشياء وحقائق الحياة.
وقد استعرض جان بول سارتر وسائل الاتصال بين الأديب المنتج والجمهور المستهلك، فلاحظ كما يلاحظ غيره من الناس أن العصر الحديث قد ابتكر لهذا الاتصال وسائل لم تكن معروفة من قبل، وأن هذه الوسائل قد طغت وأسرفت في الطغيان على الوسائل القديمة؛ فالصحف والمجلات أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الكتب، والراديو أكثر اتصالا بالجماعات وتغلغلا بين طبقاتها من الصحف والمجلات فضلا عن الكتب، والسينما أكثر دعاء وأشد استهواء للجماعات على اختلاف طبقاتها من التمثيل.
وإذن فما ينبغي للأديب الذي يقدر الحياة الاجتماعية ويشارك فيها، وفي احتمال تبعاتها أن يهمل هذه الوسائل المستحدثة ، ويفرغ لاستخدام الوسائل القديمة التي لم تفقد قيمتها وخطرها، ولا ينتطر أن تفقد قيمتها وخطرها، ولكنها لا تستطيع أن تظفر من الشيوع والشمول والتغلغل في الطبقات المختلفة المتفاوتة بمثل ما تظفر به الوسائل المستحدثة، فستؤلف الكتب، وسيقرؤها القراء، وستنشأ المسرحيات وسيشهدها النظارة، ولكن الصحف والراديو والسينما ستكون أكثر انتشارا وأشد اتصالا بالجماعات وأعظم تغلغلا في طبقاتها من الكتب والمسرحيات.
وقد لاحظ جان بول سارتر في شيء من الدعابة أن مسرحية قصيرة من مسرحياته حظر تمثيلها في بريطانيا العظمى، ولكنها أذيعت في الراديو البريطاني، فكانت النتيجة أن الذين استمعوا لها من الإنجليز كانوا أكثر مرات كثيرة من الذين كان يمكن أن يشهدوها في ملعب التمثيل.
على أن الرقابة البريطانية قد فطنت آخر الأمر لهذه الملاحظة، فأباحت عرض هذه القصة في الملاعب، والمهم هو أن جان بول سارتر يريد بلا ريب أن يساير الحياة الحديثة، وأن يتصل بقرائه أو بمستهلكيه من طريق الوسائل المختلفة التي تستحدث لهذا الاتصال.
وقد سلك هو هذه الطريق؛ فهو يؤلف الكتب على اختلافها، يؤلف الكتب التي يقصد بها إلى الخاصة ليتحدث إليهم في الفلسفة الوجودية أو في هذا الموضوع أو ذاك من موضوعات الدراسة الأدبية. ويؤلف الكتب التي يتجه فيها إلى الجماعات الضخمة ليذيع فيها ما يريد أن يذيعه من تصوره للمشكلات وتصويره لها ومذهبه في حلها، يسلك في ذلك طريق القصص الطويل والقصير.
وهو يصدر مجلته ليتجه فيها مع أعوانه إلى جماعات من القراء قد تؤثر الدراسات الميسرة، التي لا تنحرف مع ذلك عن مناهج البحث الدقيق على الكتب الفلسفية الجافة وعلى القصص السهل اليسير، ثم هو بعد ذلك ينشئ المسرحيات التي يتجه فيها إلى جماعات تحب أن تأتيها متعة المعرفة والفن لا من طريق القراءة وحدها، ولكن من طريق القراءة والنظر لحركات الممثلين والاستماع لهم حين يتحاورون.
ثم هو لا يكره أن يتحدث إلى المستمعين في الردايو أو ينشئ لهم من الآثار ما يتلى عليهم من طريق الراديو ليستمعوا له غير مقبلين عليه كل الإقبال ، ولا متوفرين له كل التوفر، ولا معرضين عنه كل الإعراض.
ولم يبق من هذه الوسائل المستحدثة إلا السينما؛ فقد حاول جان بول سارتر أن يتخذ هذه الوسيلة ليتصل بالجماعات الضخمة المتباينة في البلاد المختلفة المتنائية في وقت واحد، وواضح جدا أن الكتاب والصحيفة والمجلة لا تقرؤها الجماهير مجتمعة، وإنما يخلو فيها القارئ إلى نفسه وإلى الأديب الذي يقرأ كتابه أو مقاله في الصحيفة أو فصله في المجلة، وواضح كذلك أن المسرحية لا تعرض في غير ملعب واحد في المدينة الواحدة، ولا يشهدها من أجل ذلك إلا جمهور من النظارة مهما يكن ضخما فهو محدود.
والذين يمثلون المسرحية أو ينشئون أدوارها، كما يقول أصحاب التمثيل، مضطرون إذا نجحت المسرحية أن ينفقوا في تمثيلها الأشهر ليشهدها أكبر عدد ممكن من النظارة، وأن يتنقلوا بها بعد ذلك في كثير من المدن بل في كثير من البلاد؛ ليظهروا عليها أضخم عدد ممكن من الناس، وفي ذلك من الجهد والمشقة والعسر ما فيه، ثم هو بعد ذلك لا يبلغ من إذاعة المسرحية ما يريد صاحبها وما يريد ممثلوها، وما يريد الناس أنفسهم.
أما السينما فهو يملك من وسائل التيسير ما لا تملكه الكتب ولا الصحف ولا الراديو ولا التمثيل؛ فالقصة الواحدة إذا أعدت للعرض تستطيع بعد إعدادها أن تغزو الأرض كلها في وقت واحد، وأن تشهدها جماعات النظارة في جميع أقطار الأرض كلها في غير مشقة يحتملها الكاتب أو المخرج أو الممثل، شأنها في ذلك شأن الكتاب المطبوع، ولكنها تتحدث إلى الجماعات حين يتحدث الكتاب إلى الفرد، ثم هي تتحدث إلى الجماعات من طريق العين ومن طريق الأذن حين يتحدث الكتاب من طريق العين وحدها أو من طريق الأذن وحدها، ثم هي تستعين على الحديث من طريق العين والأذن بأشياء لا يستطيع الكتاب أن يستعين بها لأنه لا يستطيع أن يحققها؛ ففيها الحركة، وفيها اختلاف المناظر، وفيها ما تمتاز به المناظر من الروعة والقدرة على التأثير المباشر من طريق الأشياء نفسها، لا من طريق الألفاظ التي تدل عليها بالرمز الذي يخطئ حينا ويصيب حينا آخر.
وقد تصحبها الموسيقى فتستأثر بملكات النظارة كلها؛ فالأديب الذي لا يرى الأدب ترفا ولا فكاهة ولا تلهية، وإنما يراه جدا من الجد، ويراه مشاركة في الحياة ونهوضا بأعبائها واحتمالا لتبعاتها، لا ينبغي له أن يهمل السينما كما لا ينبغي له أن يهمل أية وسيلة تمكنه من أن يتصل بالجماعات ويؤثر فيها فيوجهها إلى ما يريد أن يوجهها إليه، ويصدها عما يريد أن يصدها عنه، ويغريها بما يحب أن يغريها به، ويزهدها فيما يحب أن يزهدها فيه.
والأديب من بعد ذلك أو من قبل ذلك مضطر إلى أن يصطنع هذه الوسائل ليحمي نفسه من الفناء وليحمي نفوس الجماعات من الفساد؛ فهذه الوسائل المستحدثة قد وجدت وأصبحت من ضروريات الحياة الحديثة؛ فليس من سبيل إلى إلغاء الصحف، ولا إلى إسكات الراديو، ولا إلى تحريم السينما، فالأديب بين اثنتين: إما أن يغزو هذه الوسائل ويتخذها أدوات لإذاعة الأدب وما يحمل إلى النفوس من خير ورشد وإصلاح، وإما أن يهمل هذه الوسائل فيقضي على أدبه بالتزام الحدود التي لا يتجاوزها الكتاب، ويعرض نفوس الجماعات لشر عظيم تحمله إليها الصحف والراديو والسينما التي ستكون أداة لقوم ليس لهم حظ من أدب، ولا من فلسفة ولا من فن ولا من فقه بالحياة ومشكلاتها، وإنما همهم كله أن يلهوا الجماعات بما يذيعون فيها من سخف رخيص، وأن يستزلوا الجماعات بما ينشرون فيها من دعوة إلى أشياء لعلها لا تلائم ذوقا ولا منفعة ولا رقيا ولا ميلا إلى الإصلاح.
والخلاصة أن الأديب إذا آمن بأنه فرد من الجماعة التي يعيش فيها، يشاركها في حياتها، ويتضامن معها في النهوض بأعباء هذه الحياة، ويحتمل معها تبعات الجهاد مهما تختلف، فليس له بد من أن يصطنع كل هذه الوسائل، قديمها وحديثها، وما يمكن أن يستحدث منها في مستقبل الأيام، ليحقق اتصاله بالجماعات، ويحقق اتصال الجماعات به.
وكما أن الأديب لا ينبغي أن يعتزل في برجه العاجي وأن يوحي منه إلى الجماعات كتبا أو فصولا لا تتصل بحياتها اتصالا مباشرا، وإنما ينبغي أن يعيش مع الناس في الأرض، ويشتق كتبه من نفوسهم، فهو كذلك لا ينبغي أن يعتزل في برجه العاجي ليوحي إلى الناس قصصا تعرض عليهم في السينما، دون أن تكون هذه القصص مشتقة من حياتهم، مصورة أدق تصوير وأصدقه لما يجدون من ألم ولذة، وما يحسون من أمل ويأس، وما يثور في قلوبهم من عاطفة وشعور.
فليست الحياة لهوا ولا لعبا، وإنما الحياة جهاد، يحتاج الناس في أثنائه إلى شيء من اللهو وفنون من التسلية؛ ليستعينوا بذلك على احتمال الحياة والمضي في جهادهم في غير سأم أو ملل أو فتور.
وإذن فيجب أن يلتزم السينما كما يلتزم الأدب؛ أي: يجب أن يعرض السينما على النظارة حياتهم، وما يملؤها من المشكلات وما يمكن أن يواجهوا به هذه المشكلات من حزم وعزم، ومن رفق وأناة، ومن صبر واحتمال، ومن حيلة وتصرف، وما يمكن أن يجدوا لهذه المشكلات من حلول تريحهم منها ليستقبلوا غيرها.
فحياة الناس لم تخل ولا يمكن أن تخلو من المشكلات، ولا سيما حين يكون لهؤلاء الناس حظ من رقي العقل، وذكاء القلب، ودقة الحس، وقوة الضمير.
وقد حاول جان بول سارتر اصطناع السينما لإذاعة أدبه أول ما حاول بعرض قصته تلك القصيرة التي حظرت في بريطانيا العظمى وأذيعت في الراديو، وهي القصة التي عنوانها:
Huis Clos ، والتي أستطيع أن أسميها من «وراء السور».
فالقصة تعرض أمر نفر من الناس دفعوا بعد الموت إلى الجحيم، وضرب من دونهم بسور ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وليس في جحيمهم هذا الذي دفعوا إليه نار تتلظى، ولا سعير تصهر فيه الجلود وتذاب فيه الأجسام، بل ليس فيه ألم مادي ما، وإنما هم مدفوعون إلى حجرة من الحجرات التي ألفوها في حياتهم الدنيا، وهم مكرهون على أن يقيموا في هذه الحجرة إلى آخر الأبد، إن كان للأبد آخر.
وهم يصلون متتابعين إلى حجرتهم هذه، لا يعرفون أنهم موتى، وإنما يخيل إلى كل واحد منهم أنه قد أقبل على فندق من الفنادق، وقاده الخادم إلى حجرة من حجراته، فهم يتفقدون في هذه الحجرة مرافقهم التي ألفوها في الحياة الدنيا، وهم يتبينون شيئا فشيئا أنهم قد ماتوا، وأنهم يلقون في هذه الحجرة جزاء ما قدموا بين أيديهم من الأعمال.
وليس هذا الجزاء ألما ماديا، كما قدمت، وإنما هو ألم معنوي يتبينون إحساسهم له شيئا فشيئا؛ يتبينون ذلك حين يتعرف بعضهم إلى بعض، وحين يذكر كل واحد منهم لنفسه أولا ولرفاقه بعد ذلك، ما قدم من أعمال منكرة وما اقترف من آثام استحق عليها العقاب، ثم حين يكون بينهم الاختلاف والتناكر، وحين يستبين كل واحد منهم أنه لا يستطيع أن يعاشر رفاقه راضيا عن عشرتهم، ولا يستطيع أن يفلت من هذه المعاشرة؛ فهو مكره إذن على معاشرة لا يطيقها ولا يطمئن إليها، ولا يستطيع أن يخلص منها إلا إذا عكف على نفسه وأهمل طائعا أو كارها من حوله من الرفاق.
وسواء أراد أو لم يرد، فهو يرى هؤلاء الرفاق ويتأذى بمنظرهم، وهو يسمعهم ويتأذى بما يسمع منهم، وهو يحاول أن يفر منهم إلى نفسه، فلا يرى في نفسه إلا نكرا، وهو لا يستطيع أن ينسى هذا النكر الذي يراه في نفسه؛ لأن أعماله كلها تعرض عليه وآثامه كلها تمر أمامه من وراء هذه الأسوار؛ فيتحدث عنها فيؤذيه حديثه ويؤذي رفاقه، ويسكت عنها فيؤذيه سكوته ويؤذي رفاقه؛ لأن كل واحد منهم في حاجة إلى أن يشغل نفسه عن نفسه، ولأن كل واحد منهم يؤذيه أن يشغل نفسه عن نفسه، كما يؤذيه ما يحاول من الفراغ لنفسه والانصراف إليها عمن حوله من الناس.
فكل واحد منهم إذن إنما يحمل جحيمه في نفسه، وليست جهنم شيئا منفصلا عن الإنسان، وإنما هي شيء مستقر في ضميره حيا وميتا، وكل ما في الأمر أن الإنسان في حياته الأولى قد يخدع ضميره، أو يخدع عن ضميره، بما يكسب من عمل، وبمن يعاشر من الناس، وبما يعرض له من المشكلات التي يشغله بعضها عن بعض، ومن اللذات التي قد تشغله عن آلامه وقتا يقصر أو يطول.
فأما بعد الموت فليس يشغله عن نفسه شيء، وليس يصرفه عن آلامه وآثامه شيء، وهو يعلم حق العلم أنه موقوف على هذه الآلام والآثام، وأن هذه الآلام والآثام موقوفة عليه أبد الآباد أو أبد الآبدين.
وقد يخطر لك أن هذه الفكرة الفلسفية المجردة قد تكون في نفسها قيمة عظيمة الخطر بعيدة الأثر في نفس الذين يظهرون عليها من النظارة حين يشهدون التمثيل أو من القراء حين يقرءون القصة، ولكنك تسأل: كيف عرضت هذه الفكرة على المسرح، وعلى الشاشة البيضاء، كما يقول أصحاب السينما؟ وهذا بالطبع حديث لا أريد أن أقف عنده الآن، وقد ألم به في مقال آخر حين أعرض لمسرحيات جان بول سارتر، وإنما يكفي أن تعلم أن التمثيل إنما يقوم على ما يكون بين هؤلاء النفر حين يلتقون من حوار فيه العسر واليسر، وفيه العنف واللين، وفيه الخلاف والوفاق.
وكله منته آخر الأمر إلى العجز واليأس اللذين ينتهيان بأصحابهما إلى الجنون، إلا أن الموتى لا يصيبهم الجنون، فأما السينما فإنه يصور هذا كله ويؤديه أداء حسنا، ولكنه يعرض مع هذا كله تلك الآلام والآثام التي اقترفها هؤلاء النفر في حياتهم الأولى، والتي يتحدث بها بعضهم إلى بعض في ملعب التمثيل، فلا تظهر النظارة عليها إلا من طريق اللفظ الذي تسمعه الأذن. فأما في السينما فيظهر النظارة عليها من طريق العين لأنها تمر أمامهم مرا كلما عرض لها أصحابها في الحديث.
وكأن نجاح هذه القصة في السينما قد أغرى الكاتب إغراء شديدا بأن يعنى بالسينما من حيث هو سينما، فلا يعيره قصة كتبت للملعب، وإنما يمنحه قصصا تكتب له خاصة.
ومن الكتاب الفرنسيين الممتازين من حاول وما زال يحاول هذا الفن السينمائي الخالص فيظفر بكثير من النجاح والتوفيق، والناس كلهم يذكرون روائع جان كوكتو ومارسيل بانيول، ولكن هذين الكاتبين وغيرهما لا يتجاوزون بآثارهم محاولة التوفيق بين السينما والفن؛ فليس يعنيهم أن يذيعوا فكرة فلسفية أو أدبية ما ، وإنما يعنيهم أن يمتعوا النظارة بالسينما كما تعودوا أن يمتعوهم بالتمثيل فأما جان بول سارتر، فهو لا يكره أن يمتع النظارة ولكنه لا يكتفي بإمتاعهم، وهو لا يكره أن يعظ النظارة ولكنه لا يكتفي بوعظهم، وإنما يحاول فوق الإمتاع والوعظ أن يعرض عليهم مشكلات عنيفة، بعضها يعرض للإنسان من حيث هو إنسان يفكر في حياته ومصيره تفكيرا فلسفيا، وبعضها يعرض له من حيث هو إنسان يدبر حياته تدبيرا سياسيا واجتماعيا، فيلقى في هذا كله ما يلقى من المصاعب والعقاب.
وقد كتب جان بول سارتر للسينما قصتين إلى الآن، عرضت إحداهما في كان ولم تعرض على الجمهور بعد، ونشرت الثانية في مجلة من مجلات السينما، ولست أعلم أن المخرجين قد هموا بإخراجها بعد.
فأما القصة التي أخرجت وعرضت بالفعل فعنوانها الفرنسي
Les jeux sont faits
وتستطيع أن تترجم هذا العنوان بهذه الكلمة العربية: «لقد تمت اللعبة»، كما تستطيع أن تترجمه بكلمة واحدة، وهي «هيهات». وهذا العنوان الفرنسي ليس إلا الجملة التي ينطق بها محرك «الروليت» في أندية القمار قبل أن يحرك هذه الأداة، وبعد أن يضع اللاعبون ما يضعون من النقد على ما يختارون من الأرقام.
وإذا نطق صاحب الأداة بهذه الجملة فهو إنما ينبه اللاعبين إلى أن أحدهم لا يستطيع أن يختار رقما غير الرقم الذي اختاره، ولا يستطيع أن يسترد النقد الذي وضعه على هذا الرقم؛ فقد تمت اللعبة ولم يبق إلا أن تجري الكرة وتختار اللاعبين أو تختار من اللاعبين صاحب الرقم الذي أتيح له الكسب، فإذا قلت: تمت اللعبة، أو قلت: هيهات، أو قلت: سبق السيف العذل، أو قلت: لا سبيل إلى استدراك ما فات، فقد أديت المعنى الفلسفي الذي قصد إليه الكاتب حين أنشأ قصته.
ويقول النقاد الذين شهدوا عرض هذه القصة في مدينة كان إنها لم تظفر بشيء من النجاح، ثم يختلفون بعد ذلك في مصدر هذا الإخفاق؛ فبعضهم يحمل تبعته على جان بول سارتر لأنه كلف السينما ما لا يطيق، وعرض على النظارة مشاهد لا يحبون أن يروها ولم يتعودوا أن يروها، وكلفهم أن يخادعوا أنفسهم خداعا عظيما قوامه التحكم الخالص ليفرقوا بين أشخاص ومشاهد لم يألفوا التفريق بينها.
وبعضهم يحمل تبعة هذا الإخفاق على المخرجين والممثلين لأنهم لم يحسنوا الإخراج والعرض والتمثيل، ومن المحقق أني لن أحاول القضاء بين هؤلاء المختصمين؛ فلست من السينما في شيء، وليس السينما مني في شيء، ولكن من المحقق أيضا أني قرأت هذه القصة التي أذيعت في الناس تمهيدا لعرضها عليهم، وقرأتها ثلاث مرات، فلم تزدني قراءتها إلا إعجابا بها ورضا عنها لا لما فيها من آراء فلسفية فحسب، ولا لما لها من قيمة أدبية فنية فحسب، ولكن لهاتين الخصلتين جميعا ولخصلة ثالثة، وهي طريقة العرض التي يقتضيها السينما والتي تدفع الكاتب والقارئ جميعا إلى شيء من النشاط والحركة والتنقل السريع المفاجئ من بيئة إلى بيئة، ومن طور إلى طور، بل من عالم إلى عالم كما سترى.
وليس يعنيني أن تظفر هذه القصة بالنجاح على الشاشة البيضاء أو لا تظفر به، وإنما الذي يعنيني أنا قبل كل شيء هو أن هذا اللون من الكتابة القصصية يمكن أن يقصد إليه الكاتب في نفسه، سواء عرض على النظارة أو لم يعرض، فهو في نفسه فن طريف حي خصب يستطيع أن يكون أداة قيمة جدا لإبلاغ ما يريد الأدباء أن يبلغوه إلى قرائهم من طريق الكتاب، ولا عليهم بعد ذلك أن يستغله السينما فينجح في استغلاله أو يخفق، ولا عليه ألا يستغله السينما أصلا.
وقد أستطيع أن أضرب لك مثلا مقاربا، فالأدب التمثيلي القديم اليوناني واللاتيني ممتع حين تقرؤه، خالد بحكم هذا الإمتاع، وقليل منه يمكن أن يمثل في الملاعب ويظفر برضا النظارة ولكن أكثره قد فقد هذه الخصلة، وأصبح ممتعا بقراءته ليس غير.
وقد يستطيع الممثلون المعاصرون أن يعرضوا على النظارة «أنتيجون»، أو «أوديب» أو الكنز من آثار سوفوكل، ولكني أشك أعظم الشك في أنهم يستطيعون أن يعرضوا على النظارة «فيلوكتيت» أو «إياس»، من آثار هذا الشاعر نفسه، وأن يظفروا بشيء من إعجاب النظارة المحدثين.
وكل رجل مثقف يجد المتاع كل المتاع في قراءة هاتين القصتين، بل قد حاول أندريه جيد في كثير من التوفيق أن يجدد قصة «فيلوكتيت»، كما جدد قصة «أوديب»، وكما جدد كتاب آخرون قصصا أخرى لسوفوكل وغيره من القدماء، فالكتاب الذين يستعيرون من السينما طريقته في العرض والحركة والتنقل السريع يجددون في الأدب تجديدا خطيرا، ويفتحون للأدباء آفاقا واسعة سواء وفق المخرجون أم لم يوفقوا في إخراج ما يكتبون.
والذين قرءوا «طريق الحرية»، أو ما ظهر من «طريق الحرية»، لجان بول سارتر، يلاحظون أنه لم يصل إلى هذا اللون من الفن فجاءة ولا عن إرادة وتعمد، وإنما وصل إليه شيئا فشيئا من طريق التطور الفني الرفيق، تأثر في ذلك ببعض الكتاب الأمريكيين، وتأثر فيه بالسينما، وتأثر فيه بالحياة الحديثة نفسها.
فهو في طريق الحرية قاص، ولكنه لا يقص أحداثه كما تعود الكتاب أن يفعلوا، وإنما هو أمام أشخاص كثيرين جدا مختلفين أشد الاختلاف، يعيشون في أقطار متنائية متباعدة، وتحدث لكل واحد منهم ألوان مختلفة من الأحداث، كلها متأثر بذلك الروع الذي ملأ الأرض قبيل الحرب العالمية الثانية.
وهو يلقي إليك أطرافا من هذه الأحداث في شيء يشبه أن يكون فوضى، ولكنه قد نظم أدق تنظيم وأمتنه، فهو يحدثك عن رجل مروع في هذه المدينة من مدن تشيكوسلوفاكيا، ثم يثب بك إلى مدينة ميونيخ حيث الاستعداد للقاء هتلر وتشمبرلين، ثم أنت في باريس في ناد من أندية اللهو، ثم أنت في باريس في غرفة خاصة حيث يتناجى عاشقان.
وهو كذلك يتنقل بك في أقطار أوروبا، وربما نقلك إلى إفريقية، وربما عبر بك البحر بين مراكش وفرنسا، وأنت لا تستقر في مكان من هذه الأماكن إلا ريثما ينقلك منه إلى مكان آخر.
ولكنه على كل حال مغرق في هذا الروع الذي ملأ الأرض قبيل الحرب، مفكر في الحرب، مستحضر لها ولأهوالها، شاهد لآياتها وبوادرها، متأثر بعد ذلك بما لكل قصة من هذه القصص الكثيرة المختلفة المختلطة من عبرة تتصل بالسياسة أو بالخلق أو بالفلسفة أو بنظام الاجتماع.
فهو لا يقص عليك الأحداث، وإنما يعرضها عليك عرضا، قد استعار للكتابة فن السينما في العرض، فأتقن الكتابة والعرض جميعا، بحيث يمكن أن يعرض هذان الجزءان اللذان ظهرا من كتابه عرضا سينمائيا في غير مشقة ولا عناء.
فلا غرابة إذن في أن يستقبل الكتابة الأدبية الفلسفية للسينما، ولا غرابة كذلك في أن يجد الفنيون مشقة في الإخراج، ويجد النظارة عسرا في الفهم والاستمتاع.
والقصة التي نحن بإزائها، تعتمد على شخصين اثنين، هما البطلان، ومن حولهما أشخاص كثيرون، لكل منهم مكانه وأثره، وهذان الشخصان رجل وامرأة، فأما الرجل فهو بيير دومين وهو عامل ممتاز بين زملائه، قد أسس مع جماعة من رفاقه جماعة الحرية التي تنظم مقاومة الطاغية منذ أعوام، وهي تستعد للثورة من غد، وأما المرأة فهي إيف شارلييه، وهي بالطبع جميلة رائعة الجمال، غنية واسعة الغنى، تشغل مع زوجها في الطبقة الممتازة مكانا رفيعا.
فإذا بدأت القصة، فإيف هذه مريضة تراها في سريرها مكدودة، وقد أقبل زوجها مترفقا، فدنا منها وتبين أنها لم تحس مقدمه لأنها مغرقة في النوم، ثم يعرض عليك منظر غرفة حقيرة في بيت متواضع، وقد اجتمع رؤساء العمال حول رئيسهم بيير، وقرروا بعد مناقشة أن تبدأ الثورة من غد.
ثم نترك هذه الغرفة، ونرى بيير في الشارع يركب دراجته، ويدنو منه غلام يعتذر من بعض الخطأ، ونفهم أنه قد وشى بالجماعة إلى الشرطة بعد أن عذبته الشرطة عذابا شديدا، ونفهم كذلك أن بيير لا يريد أن يعفو عنه، وإنما يزدريه أشد الازدراء، فيمتلئ قلب الفتى حفيظة وموجدة وخزيا.
ثم نرى بيير قد وصل إلى مكان خارج المدينة حيث تعمل طوائف من العمال والفتى يتبعه، حتى إذا بلغ قريبا من أصحابه أطلق الفتى عليه مسدسه فخر صريعا، وأقبل العمال من كل صوب حين سمعوا انطلاق المسدس.
ثم نعود إلى الغرفة التي تمرض فيها إيف، فنرى زوجها قد انحنى ينظر في وجهها، حتى إذا استيقن أنها نائمة استخرج من جيبه زجاجة صغيرة وصب منها قطرات في قدح من الماء وضع إلى جانب السرير، ثم انسل إلى الصالون حيث كانت تنتظره لوست أخت امرأته، وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، مشفقة أشد الإشفاق على أختها، فلا تكاد تسأله عن حالها حتى يهيئها للنبأ الخطير، والفتاة جزعة أشد الجزع، ولكن الرجل يهدئ من روعها في رفق، ونفهم أنه يتملقها ويريد أن يخيل إليها شيئا يشبه الحب.
ثم نعود إلى خارج المدينة فنرى بيير صريعا قد أحاط به العمال، وقد أقبلت فرقة من الجند فالعمال يتحرشون بها، ويريدون أن يرجموها بالحجارة، والجند يتهيأون لإطلاق النار، ثم نعود إلى الغرفة التي تمرض فيها إيف فنراها قد أفاقت من نومها وأخذت الكأس وشربت ما فيها، ثم نهضت متثاقلة فسعت إلى الصالون ودعت زوجها، ثم عادت إلى سريرها وجعلت تحذر زوجها في صوت خافت متهالك من أن يعرض لأختها بشر، وتنبئه بأنها ستبرأ وستحمي أختها منه، وبأنه لم يتزوجها إلا رغبة في ثروتها، وبأنه الآن يطمع في ثروة أختها، وزوجها يسمع لها غير حافل ولا مكترث، ثم لا تلبث أن تموت.
ونعود إلى خارج المدينة فنرى العمال مزدحمين حول الصريع يتأهبون لرشق الجند بما في أيديهم من حجارة وحديد، ويأبون أن يفسحوا لهم الطريق، والجند يريدون إطلاق النار، ولكن بيير ينهض من مصرعه ويتخطى جثته التي لا تزال في مكانها، وينصح للعمال بأن يتفرقوا ملحا عليهم أشد الإلحاح، ولكن أحدا من العمال لا يسمع صوته ولا يرى شخصه، فإذا استيأس منهم رفع كتفيه ومضى لوجهه.
ونعود إلى غرفة المريضة التي صرعها الموت، فنراها قد نهضت وجعلت تسعى من الغرفة حتى تبلغ الصالون، فترى أختها الفتاة منتحبة قد وضعت رأسها على كتف الزوج الذي جعل يهدئها ويواسيها متلطفا مترفقا متحببا أيضا، وهي تقف أمامهما فلا يريانها وتتحدث إليهما فلا يسمعانها، حتى إذا استيأست منهما تركتهما ومضت نحو الباب، فتلقى الخادم في طريقها فتتحدث إليها، ولكن الخادم لا تراها ولا تسمعها، وهي تمر أمام المرآة فتنظر إليها، ولكن المرآة لا ترد إليها صورتها، وهي تنظر فترى المرآة ترد صورة الخادم ولا ترد صورتها هي، فتنطلق.
ونحن في الشارع نرى حركة الناس وازدحامهم واضطرابهم فيما يضطربون فيه، ونرى في الوقت نفسه بيير يسعى في بعض الطريق وإيف تسعى في بعض الطريق أيضا، وكلاهما يرى الناس ويسمع منهم، ويحاول أن يعرض لهم فلا يراه أحد، وأن يتحدث إليهم فلا يسمع منه أحد.
وكلاهما يمضي في طريقه يسأل عن شارع بعينه؛ لأنه على موعد في هذا الشارع، ولكنه يسأل في غير طائل؛ فالناس لا يرونه ولا يسمعونه ولا يجيبونه، وكلاهما يسعى مع ذلك حتى يصل إلى زقاق ضيق غريب قد كتب عليه اسم الشارع الذي يسأل عنه، وكلاهما يدخل في هذا الزقاق، فإذا جماعة من الناس قد وقفت أمام باب مغلق في أقصى الزقاق، وهذا الباب يفتح بين حين وآخر فيدخل منه أحد هؤلاء الناس، ثم يغلق حينا ثم يفتح ليدخل منه شخص آخر.
ويلاحظ بيير وإيف أنهما يريان هؤلاء الناس ويسمعان منهم، وأن هؤلاء الناس يرونهما ويسمعون منهما، والباب يفتح فيدخل بيير، وإذا هو في حجرة ضيقة يمضي فيها حتى يبلغ أقصاها، فإذا سيدة نصف قد جلست أمام مائدة وعلى المائدة دفتر ضخم.
فإذا انتهى بيير إلى هذه السيدة سألها في أدب: أهي تنتظره؟ فتنبئه السيدة بأنها تنتظره، ثم تنبئه باسمه وتاريخ مولده، ولا يكاد يدهش لذلك حتى تنبئه بأنه قد مات مقتولا، ثم تطلب منه إمضاءه على الدفتر، فإذا فعل أذنت له في الانطلاق، ولكن على أن يخرج من باب غير الباب الذي دخل منه؛ فإذا سألها: إلى أين أذهب؟ وماذا يجب أن أعمل؟ أنبأته بأن الموتى أحرار يذهبون إلى حيث يشاءون ويعملون ما يشاءون.
وتجري القصة نفسها لإيف بعد حين، فتعلم من السيدة أنها قد ماتت مسمومة، وتمضي على الدفتر، وتمضي حرة تذهب إلى حيث تشاء وتعمل ما تشاء لأن الموتى أحرار بعد أن يوقعوا بأسمائهم في سجل الأموات.
ولست أقص عليك تفصيل ما يعرض لهذين الميتين بعد خروجهما من هذه الحجرة وانطلاقهما في المدينة يريان الأحياء ويسمعانهم، ولكن الأحياء لا يرونهما، ويلقيان الموتى فنونا وأشكالا، منهم المحدثون ومنهم الذين بعد عهدهم بالموت.
وهما يستطيعان أن يتحدثا إلى الموتى، وأن يسمعا منهم، وأن يتندرا معهم بالأحياء وما يعملون، لا أقص عليك ما يعرض لهما من خطوب، فذلك شيء يطول، وإنما أسجل شيئين اثنين؛ أحدهما: أن بيير يذهب مع دليل له من الموتى إلى قصر الطاغية، فيدخل القصر وينسل إلى غرفة الطاغية، فيراه متبذلا متهيئا لاتخاذ ثيابه الرسمية، ويتناول طعامه ومن حوله موتى كثيرون، كلهم مبغض له ساخط عليه يريد أن يصيبه بالمكروه، ولكنه لا يبلغ مما يريد شيئا لأن الموتى لا يبلغون مما يريدون شيئا.
وقد أنبأهم بيير بأن الطاغية سيموت من غد حين تشب الثورة التي دبرها، والموتى لا يصدقونه، ولكنه يلح حتى يوشك أن يقنع بعضهم بصدق ما يقول، ولكن رئيس الشرطة يدخل فينبئ الطاغية بأن زعيم الثورة قد قتل، ويغضب الطاغية لذلك غضبا شديدا؛ فهو قد كان أعد للثورة جيشا ضخما، وقرر أن يسحقها سحقا وأن يريح نفسه منها عشر سنين على الأقل.
وإذن فقد استيقن بيير بأن الثورة ستسحق، وأن الطاغية لن يفاجأ، والموتى يضحكون منه ويحاولون تعزيته، ولكنه يمضي مغضبا لا يلوي على شيء، حتى يبلغ الغرفة التي كان يأتمر فيها مع أصحابه، فيراهم ويسمعهم، ويعلم أن مصرعه قد بلغهم، ويحاول أن يتحدث إليهم ليردهم عن الثورة، ويحملهم على تأجيلها، ولكنهم لا يرونه ولا يسمعون منه، فينصرف عنهم يائسا مستيقنا بوقوع الكارثة من غد.
هذا أحد الأمرين، أما الأمر الثاني: فهو أن بيير يلقى إيف فينظر إليها ويدنو منها ويكون بينه وبينها حديث ثم شيء يشبه الألفة، وهما يذهبان معا إلى إحدى الحدائق، وإلى ناد من أندية اللهو في هذه الحديقة تغشاه الطبقة الممتازة من أصحاب إيف، وهما يريان ويسمعان، ولكن أحدا لا يراهما ولا يسمعهما، وقد استحالت ألفتهما إلى تعاطف، ثم إلى شيء يشبه الحب، وهما يتراقصان، ولكنهما لا يجدان لذة الرقص لأن الموتى لا يجدون لذة لشيء.
وكلاهما يود لو بذل نفسه ثمنا للحظة قصيرة ينفقها مع صاحبه كما ينفق الأحياء أوقاتهم حين يكون بينهم الحب، ولكن كليهما يحس كأنه مدعو إلى موعد، فينطلقان حتى يبلغا تلك السيدة التي تسجل الموتى، فتنبئهما بأنها كانت تنتظرهما، وبأنها قد علمت أن كليهما يظن أن قد غلط به في الحياة، وأن كلا منهما قد خلق لصاحبه، وأن المادة الأربعين بعد المائة من القانون تقضي في مثل هذه الحال بتصحيح الخطأ ورد الحياة إليهما أربعا وعشرين ساعة.
فإذا استطاعا أن يستأنف كل منهما حياة قوامها الحب الصحيح مدت لهما أسباب الحياة، وإلا عادا إلى الموت، وهما يزعمان لهذه السيدة أن قد غلط بهما وأن كلا منهما قد خلق لصاحبه فترد إليهما الحياة، ويودعان الموتى الذين يتمنون لهما الخير، ومنهم من يكلفهما بعض الأعمال في عالم الدنيا.
ثم نعود إلى خارج المدينة؛ فإذا جثة بيير في مكانها، وإذ العمال من حولها يتأهبون لرشق الجند بالحجارة، والجند يتهيأون لإطلاق النار، فقد حدثت كل هذه الأحداث على كثرتها في لحظة قصيرة؛ لأن الزمن لا حساب له بالقياس إلى الموتى، وقد جلس بيير بعد أن ردت إليه الحياة، وتحدث إلى العمال فاستيقن أنهم يرونه ويسمعونه، وآية ذلك أنهم أطاعوه وتفرقوا، ولكنه ينهض في شيء من ذهول ويعمد إلى دراجته فيركبها ويعود إلى المدينة، وقد أرسل العمال من ورائه أحدهم ليتبعه ويعينه إن احتاج إلى شيء من عون.
ونعود إلى الغرفة التي ماتت فيها إيف، فنراها على سريرها وقد جثت أختها منتحبة إلى جانب السرير، ولكن إيف تتحرك ثم تتكلم ثم تنهض، وقد حدثت كل هذه الأحداث في أقصر لحظة ممكنة؛ لأن الزمن لا قيمة له بالقياس إلى الموتى، وقد ابتهجت أختها الفتاة حين رأتها تفيق، وسقط في يد الزوج فخرج يلتمس لها الطبيب، وجعلت إيف تتحدث إلى أختها محذرة لها من هذا الزوج الخائن الذي يخدعها ليظفر بثروتها، والفتاة تدافع عن هذا الزوج لأنها لم تر منه إلا خيرا.
ونحن أمام الدار التي تسكنها وهي دار أنيقة فخمة، قد أقبل عليها بيير، حتى إذا بلغها نزل عن دراجته ودخل وسأل البواب عن الطابق الذي تسكنه إيف شارلييه، فيدله عليه مزدريا له، ويأمره بأن يرقى إليه من سلم الخدم، ثم نرى الخادم قد أقبلت تنبئ سيدتها بمكان هذا العامل، وبأنه يريد أن يلقاها، وبأنه ينتظر في المطبخ.
فتذكر إيف كل ما حدث لها أثناء الموت وتأذن لبيير، فإذا أقبل راعه ما في هذه الدار من ترف لم ير مثله قط، وهو على كل حال يلقى صاحبته ويتحدث إليها ويدعوها إلى أن ترافقه، وهي تتردد شيئا، ثم تذكر ما زعمت لمسجلة الموتى، فتهم أن تخرج، ولكن الزوج يقبل، فيراهما وقد ظهر تفوقه على امرأته، فقد رآها في غرفتها مع رجل غريب من غير طبقتها، ورأى بينهما صلات لا تكون إلا بين العاشقين، فهو يريد أن يطردها، ولكنها تخرج مع رفيقها وفي نفسها شيء من حب، وفي نفسها كثير من حسرة وخوف على أختها.
وهما يستأنفان في الشارع كل ما حدث لهما أثناء الموت، فيسعيان إلى الحديقة، وإلى النادي، ويريان أصحاب إيف ويسمعانهم، ولكن أصحاب إيف يرونهما هذه المرة وينكرون مكانهما ويسخرون منهما، وهما يشقيان بذلك شقاء مختلفا مصدره استخذاء المرأة من رفيقها العامل الوضيع أمام هذه الطبقة الممتازة، واستخذاء الرجل من ضعة هيئته، ومما بينه وبين صاحبته من الفرق الهائل في الطبقة وفي الفقر والغنى.
ولكنهما كليهما حريصان مع ذلك على أن يستأنفا حياة قوامها الحب؛ فقد أعطيا بذلك عهدا في دار الموتى؛ فهما يعرضان عن كل ما يلقاهما من المصاعب، وهما يتراقصان في نفس المكان الذي تراقصا فيه ميتين، ولكنهما يجدان لذة الرقص في هذه المرة، ويكادان ينعمان بهذه اللذة لولا هذه البيئة التي تنغص عليهما كل شيء.
وقد وقع الشر بين بيير وبين رجل من هذه البيئة، وأقبل جندي يريد أن يعنف بيير، فتظهر إيف بطاقتها للجندي، ويعلم بيير لأول مرة أن زوجها يشغل منصبا خطيرا في الشرطة؛ فينصرف عنها هاربا، ألم ينفق حياته كلها في مقاومة هذه الشرطة والكيد لها؟
فالنظام الاجتماعي كله، والنظام السياسي كله، والنظام الاقتصادي كله، يحول بينه وبين هذه المرأة التي زعمت أنها خلقت له، والتي زعم أنه خلق لها، ولكن إيف تدركه وما تزال به حتى ترده إلى بعض الهدوء، ثم يتعاونان على إنفاذ ما أوصاهما به بعض الموتى فيقرب ذلك بينهما شيئا ما، ثم يذهبان إلى دار بيير ويفترقان حين يبلغانها، يريد بيير أن تستأنس صاحبته إلى هذه الدار وحدها من جهة، وأن يسرع إلى أصحابه فينبههم إلى الخطر الذي ينتظرهم من جهة أخرى، فأما هي فتصعد إلى الغرفة التي يعيش فيها بيير، وتجد شيئا من الحرج في الاطمئنان إليها والاستقرار فيها، ولكنها مع ذلك تذعن لما ليس منه بد فتأخذ في إصلاح الغرفة.
وأما هو فيذهب إلى أصحابه، فإذا لقيهم أنكروه أشد الإنكار، لأنهم عرفوا دخوله دار هذا الموظف الكبير من موظفي الشرطة وخروجه مع امرأته، ثم لم يكتفوا بالشك فيه، وإنما اتهموه بالتجسس عليهم بأنه قد أفضى بأمرهم كله إلى حكومة الطاغية.
وقد انصرف عنهم يائسا منهم، وعاد إلى صاحبته حزينا كئيبا؛ فهي تواسيه وتسليه وترفق به وتذكره الحب وما أعطيا من عهد وما ضرب لهما من موعد سينتهي إذا كان الغد، وبينما هما كذلك إذ يأتي أحد العمال فينبئ بيير بأن أصحابه قد ائتمروا به ليقتلوه، ويحثه على الهرب بأنهم قادمون لإنفاذ ما أزمعوا، والعامل ينصرف وبيير ينبئ صاحبته بأنه مقتول بعد حين ويأبى الهرب، وهذه أقدام يسمع وقعها، وإذا العاشقان يعتنقان والباب يطرق ثم يطرق، ثم ينصرف الطارقون فلا يشك العاشقان في أن النصر قد كتب لحبهما، وفي أن الموت قد صرف عنهما لينعما بهذا الحب السعيد.
فإذا أصبحا من الغد فهما راضيان بعض الرضا لا كله، لا يشك أحدهما في أنه يحب صاحبه، ولكن بيير يذكر الثورة التي ستسحق بعد حين وأصحابه الذين سيمحقون محقا، ويريد أن يبذل آخر جهد لينقذ الثورة من الإخفاق، وينقذ أصحابه من الموت ، وإيف تذكر أختها التي توشك أن تكون فريسة لهذا الرجل الذي لا يحبها وإنما يحب ثروتها، وهي تريد أن تبذل آخر جهد ممكن لإنقاذها.
وهما مع ذلك يحاولان أن يستمسكا بالحب والحياة، ولكنهما يفترقان على أن يلتقيا بعد ساعة قبل أن يحين الموعد الذي ضرب لهما في دار الموتى.
فأما هي فلا تكاد تدخل دارها حتى ترى أختها وزوجها قد جلسا إلى طعامهما جلسة لا تخلو من ريبة، فتخرج المسدس وتأمرهما ألا يتحركا حتى تقص على أختها خيانة زوجها، ثم تأمرها بأن تستخرج من مكتب زوجها رسائل الحب التي تثبت خيانته.
وأما بيير فقد ذهب إلى أصحابه في نفس ذلك الوقت، وقد اجتمع إليهم زعماء العمال، وقد أخذ أصحابه ينكرونه، وأخذ هو يدافع عن نفسه حتى اطمأنت إليه الجماعة بعد لأي وهمت أن تؤجل الثورة، ولكن الثورة قد بدأت في مواضع كثيرة، وهم يتداولون فيما ينبغي أن يتخذوا من قرار لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وقد دنا الموعد الذي ضرب لبيير وصاحبته في دار الموتى؛ فهو يسرع إلى التليفون لينبئ صاحبته بأنه لا يستطيع فراق زملائه، وهو يحاورها حوارا شديدا في التليفون نسمعه نحن، والوقت يمضي ويمضي، وقد أقبل الجند فحاصروا المجتمعين، وتطلق رصاصة فيخر لها بيير صريعا والجند يقتحمون الدار ويقهرون من فيها.
ثم نرى بيير يتخطى جثته ويمضي لا يراه أحد ولا يسمعه أحد، ثم نراه بعد ذلك وقد لقي إيف ميتين، وكلاهما يتحدث إلى صاحبه كأنهما قد خدعا عن أنفسهما وعن الحب، وبأن التجربة قد أخفقت، وبأنهما قد عادا إلى الموت؛ لأن بيير لم يتمن الحياة إلا لينقذ الثورة وأصحابه، ولأن إيف لم تتمن الحياة إلا لتنقذ أختها من زوجها الخائن الأثيم.
وقد أخفقا جميعا، فلم يستطع بيير أن ينقذ الثورة ولم تستطع إيف أن تنقذ أختها، ويلقاهما أحد الموتى فيسألهما دهشا: ألم تنجحا فيما حاولتما؟ فيجبيه بيير: كلا يا سيدي، لقد تمت اللعبة، فليس لأحد اللاعبين أن يختار، ويلقاهما مع ذلك ميتان آخران فتى وفتاة يخيل إليهما أن كلا منهما قد خلق لصاحبه، وأنه قد غلط بهما في الحياة الأولى، وأنهما يستطيعان إن أتيح لهما الانتفاع بالمادة الأربعين بعد المائة أن يستأنفا حياة سعيدة قوامها الحب، فيشير عليهما بيير وإيف بأن يحاولا، فمن يدري لعلهما أن يظفرا بما لم يتح لهما الظفر به.
وكذلك تنتهي هذه القصة التي لم أرسم لك منها إلا أيسر ما فيها، وهي على ذلك تصور لك ما قصد إليه جان بول سارتر من عرض هذه الظروف القاسية المحتومة التي يفرضها النظام الاجتماعي والسياسي، والتي تفرق بين الناس تفريقا محتوما لا سبيل إلى التخلص منه، إلا إذا تغير النظام السياسي والاجتماعي، وزالت هذه الفروق التي تجعل من الناس أقوياء وضعفاء وفقراء وأغنياء، لا سبيل إلى أن يلتقوا ولا إلى أن ينعموا بالحياة ما دامت قائمة.
فهم يجدون المساواة إذا ماتوا ويطمحون إليها مخلصين ويودون لو ردوا إلى الحياة ليحققوها، ولكنهم لا يستطيعون تحقيقها إذا ردوا إلى الحياة؛ لأن اليد الواحدة لا تستطيع التصفيق، ولأن النظام السياسي والاجتماعي لا تغيره إرادة أو فرد أو أفراد، وإنما تغيره إرادة إجماعية لا تتحقق إلا بالتطور، ومن يدري! لعل التطور لا يكفي لتحقيقها، ولعلها تحتاج لشيء أشد عنفا من التطور وهو الثورة.
وليس هنا موضع الحديث عما يمكن أن يكون بين هذا التفكير الفلسفي، وبين الفلسفة الوجودية من تقارب أو تباعد، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذا النحو من التفكير ملائم لما أشرت إليه آنفا من رأي الكاتب في بحثه عن الصلة بين الأديب وبين الجماعات؛ فجان بول سارتر يريد أن يجعل المساواة بين الناس حقيقة واقعة تريدها الجماعة كلها ولا يريدها لأفراد متفرقين، وأحسبك توافقني على أنه قد صور من ذلك ما أراد تصويره، فبلغ من هذا التصوير ما أحب.
أما القصة الثانية فعنوانها «الأنوف المستعارة» وهي تدور بالفعل حول أنوف مستعارة يخفي بها أصحابها أنوفهم التي ركبها الله في وجوههم. والقصة فكاهة، ولكنها فكاهة مرة تضحك ولكن من حماقة الإنسان وسخفه وضعفه وتعلقه بالمنافع العاجلة، وانقياده للوهم، واستسلامه للسلطان وإن كان ضعيفا لا يعتمد على قوة تسنده أو تجعله مصدرا للخوف.
فأنت حين تبدأ القصة في دهليز من دهاليز القصر الملكي في مورافيا، وهذا الدهليز قذر مهمل قد ضربت عليه العنكبوت بنسجها، ورجل قائم على سلم يحاول أن يرد إلى سقف الدهليز وجدرانه نظافتها ويزيل عنها نسج العنكبوت، ثم تعرض عليك صورة أخرى ترى فيها حجرة العرش، وقد اجتمعت فيها حاشية الملك ووجوه الدولة وفي موقدها نار ضئيلة تخمد شيئا فشيئا.
ولكنك تلاحظ على كل من ترى في القصر من رجال ونساء ومن سادة وخدم أنهم يحملون في وجوههم أنوفا ضخمة مسرفة في الضخامة تجعل هذه الوجوه قبيحة مضحكة.
ثم يقبل الملك والملكة فتنهض الحاشية، ويحاول الملك أن يجلس على عرشه فإذا هو مضطرب لا يثبت قد قصرت بعض قوائمه، فيضطر بعض الحجاب إلى أن يتموا هذه القوائم القصيرة بقطع من الخشب يزجونها بينها وبين الأرض، حتى إذا ثبت عرش الملك واستطاع أن يجلس جرت القصة نفسها لعرش الملكة.
وقد أخذ الملك يتحدث إلى وجوه دولته، فيعلن إليهم أن ابنه الأمير أندريه سيقترن بالأميرة أجات بنت ملك القوقاز، وأن هذه الأميرة في طريقها الآن إلى عاصمة مورافيا ومعها حاشيتها وتتبعها عربات ضخمة قد ملئت ذهبا، وستمتلئ خزائن مورافيا، وسيجعل الله لهذه الدولة الضخمة الفقيرة يسرا بعد عسر وغنى بعد فقر وفرجا بعد حرج. ثم يشير الملك إلى صورة مغطاة قد علقت إلى أحد الجدران فيرفع عنها غطاؤها، وتظهر الأميرة من ورائه رائعة الجمال، بارعة الحسن ليس فيها إلا عيب واحد وهو أن أنفها طبيعي جميل، فإذا نبه الملك إلى ذلك دعا رسام القصر فأمره بأن يصلح هذا الأنف؛ فيقبل الرسام على الصورة يضخم أنفها ويفخمه ويسبغ عليه من القبح ما تمتاز به الأنوف في مملكة مورافيا.
هنالك يرضى الملك ورجال الدولة عن الصورة، ويدعى الأمير الشاب ليراها، فإذا أقبل نظر إلى الصورة في تكره واشمئزاز ثم انصرف عنها معرضا يظهر الإذعان للقضاء المحتوم أكثر مما يظهر الشوق إلى خطبه التي شغفت قلبه حبا.
وفي أثناء هذا كله يلاحظ الملك أن خدم القصر قد تركوا أعمالهم وأبوا أن يستجيبوا له إذا دعا، فإذا سأل عن ذلك أنبأه وزير العمل بأن خدم القصر قد قرروا الإضراب إذا تمت الساعة الحادية عشرة؛ لأنهم لم يقبضوا أجورهم منذ ستة أشهر، وقد حاولت الحكومة إقناعهم بأن زواج الأمير سيملأ الخزائن ذهبا وسيقبضون رواتبهم ومكافآت أخرى، ولكنهم لم يحفلوا بهذه الوعود.
هنالك يعلن الملك أن لا بد مما ليس منه بد، وأن رجال القصر كلهم ومعهم وجوه الدولة يجب أن يتناوبوا فيما بينهم أعمال الخدم، ثم ينهض الملك نفسه فيقدم الأسوة الصالحة ويأخذ في ترتيب الحجرة، ويضطر وجوه الدولة إلى أن يصنعوا صنيعه، فهم ينقلون الأثاث القديم الموروث ليضعوا مكانه أثاثا جديدا أنيقا قد استعاره الملك من أعضاء حاشيته.
وربما كان من المضحك أن نلاحظ أن الملك في أثناء حديثه إلى وجوه دولته يرى سيدة تصطك أسنانها من البرد، فإذا نهاها عن ذلك حاولت أن تملك نفسها ولكنها لا تستطيع، فيأمرها الملك بالخروج ويمضي في حديثه ، ولكنه يسمع أسنانا أخرى تصطك فيهم أن يغضب، ولكنه ينظر فإذا الملكة هي التي تصطك أسنانها من البرد؛ هنالك يأذن بالنهوض وضرب الأرض بالأرجل طلبا لبعض الدفء، وكذلك ينهض هو وتنهض معه حاشيته ويأخذون في طرق الأرض بأرجلهم، حتى إذا ظفروا ببعض الدفء، عادوا إلى مقاعدهم ومضى الملك في حديثه.
ثم يعرض علينا المطبخ، وقد أخذ رجال ونساء من وجوه الدولة يعملون فيه، يهيئون الوليمة التي ستدعى إليها الأميرة إذا كان المساء، وهم يختصمون فيما بينهم خصومات مضحكة تدل كلها على أنهم محنقون من هذا العمل الذي اضطروا إليه والذي لا يحبونه، ولا يحسنونه، ولا يعملونه في قصورهم، وإنما هو فقر الدولة قد اضطرهم إلى هذا الهوان؛ لأن هذا الزواج سيجلب للدولة مالا كثيرا فيعود أمرها إلى اليسر والثراء، ولكنهم على ذلك قد ضاقوا بالملك وابنه وبهذه الحياة المنكرة التي تفرض عليهم وعلى الشعب.
فهذه الأنوف الضخمة الفخمة البشعة، إنما فرض عليهم وعلى الشعب كله حملها؛ لأن الأمير قد ولد كبير الأنف بشعه، فأراد الملك ألا يحس الأمير أنه منفرد بهذه البشاعة ممتاز بهذا القبح، فشرع قانونا يفرض على الشعب كله أن يتخذ الأنوف الضخام، ومضى الشعب على هذه السنة المنكرة حتى ألفها وحتى أصبحت الأنوف الطبيعية عورة يجب أن تستر، وحتى تهالك الناس على التماس هذه الأنوف الطبيعية، يختلسون النظر إليها خفية ومن وراء الحجب، ويتحدثون عن أماكن اللهو التي يمكن أن يغشوها وأن ينفقوا فيها النفقات الضخمة ليروا أنفا طبيعيا جميلا، وليستطيعوا مسه، فأما تقبيله فشيء لا يتاح إلا للذين ينفقون في سبيله أضخم النفقات.
وللملك أخ ضيق بهذه الحياة، طامع في العرش، يدبر ثورة يخلع بها أخاه ويطرد بها ابن أخيه، ويرقى بها إلى الملك، ويزيل عن الناس أنوفهم هذه المستعارة، ويبيح لأنوفهم الطبيعية أن تظهر للهواء والنور وتستمتع بحريتها كاملة، وهو يتحدث في المطبخ إلى أعوانه من وجوه الدولة بما دبر من هذه الثورة، فيقرونه على خطته، ويتفقون على إفساد خطة الملك، ومنع زواج ابنه، وعلى أن وسيلتهم إلى ذلك ستكون إفساد الوليمة أولا، فسيقدم إلى المدعوين أقبح طعام وأردؤه، وستكون الخدمة منكرة مخالفة للمراسم والتقاليد، وسيتعمدون حين يدورون بالصحاف والشراب على المدعوين أن يسيئوا الخدمة، فيصبوا النبيذ والمرق على ثيابهم الجميلة وعلى أكتاف السيدات العارية، ثم سيفسدون على الضيف نومهم، فيضعون الضفادع في الأسرة، حتى إذا كان الغد واحتشد الأشراف والشعب لإمضاء عقد الزواج صدرت إشارة، فألقى كل إنسان أنفه الصناعي، وأظهر الأشراف جميعا أنوفهم الطبيعية وأعلنت الثورة، ورأى الأمير أنه وحده صاحب الأنف الضخم القبيح.
وهم يتفقون على هذا كله، وقد استمع الأمير لبعضه أثناء مروره أمام المطبخ فابتهج له؛ لأنه كاره لهذا الزواج، يريد ألا يتم.
ثم يعرض علينا مقدم الأميرة، وقد خرج الملك لاستقبالها في بعض الطريق، فلم يكد يتلقاها ويتحدث إليها، ويظهر لها صورة الأمير حتى تراع الفتاة حين ترى هذا الأنف، وحين تعلم أن الأنوف كلها في مورافيا على هذا النحو من البشاعة، ويزداد جزعها حين يعرض عليها الملك أنفا صناعيا تخفي به أنفها الصغير الجميل، وهي تثور وتمتنع وتحاول أن ترفض هذا الزواج، ولكن وزير أبيها يذكرها بأنه الزواج أو الدير، فتذعن كارهة، وتضع أنفها الصناعي كما يضع رجال حاشيتها ووصائفها أنوفهم الصناعية.
وتصل إلى القصر وهي تتمنى ألا يتم هذا الزواج بشرط ألا تكون هي مصدر هذا الإخفاق حتى لا تضطر إلى الدير، وقد احتاط أبوها الملك واحتاطت معه دولة القوقاز لهذا النكر الذي ستدفع إليه الفتاة، فألحق بحاشيتها ضابط رشيق وسيم ليكون في خدمتها وليعزيها عن حياتها تلك المنكرة. وقد أخذ هذا الضابط يتقرب إليها، وأخذت هي تطمئن إلى دعابته، ولكنها ربما فكرت في أن تهرب مع هذا الضابط إلى حيث يعيشان عيشة الحب والسعادة بعيدين عن هذه الأنوف الكبار.
وقد بلغت الأميرة القصر واستقبلها الأمير استقبالا فاترا متكلفا، أنكر أنفها، وأنكرت أنفه، وتمنى كلاهما ألا يتم هذا الزواج، ثم كانت الوليمة، وأقبل الخدم وهم من وجوه الدولة، فقدموا أردأ طعام وخدموا أسوأ خدمة، وهم بعضهم أن يصب النبيذ على الأميرة فيتقيه الأمير بيده، وهم آخر أن يميل قنديله ليسقط على كتف الأميرة الشمع المذاب، فيضع الأمير يده على كتفها ليتلقى هذا الشمع، وتذعر الأميرة لذلك فتلطمه، ويوشك الأمر أن يفسد لولا أن الوزير يرمق الفتاة فتذكر الدير، ولولا أن المرضع تمس الأمير فيذكر حاجة الدولة إلى المال.
وتمضي السهرة على شر حال، وتمر الأميرة بالمطبخ مستخفية حين يتقدم الليل، فتسمع الأشراف وهم يتخذون قراراتهم الأخيرة لإتمام الثورة، فتبتهج بهذه القرارات، وتنضم إلى المؤتمرين؛ لأنها لا تريد أن يتم الزواج، ولأنها لن تحتمل تبعة الإخفاق إذا كانت الثورة.
ولكن وزير أبيها مختبئ كما كانت مختبئة، وهو يسمع لما سمعت له ويندس بين المؤتمرين، حتى إذا أجمعوا أمرهم أعلن إليهم أنه مكلف أن يزوج الأميرة من وارث العرش في مورافيا كائنا من يكون، فإما أن يقبل أخو الملك، أن يتخذ الأميرة لنفسه زوجا، وإما أن يفضح هذه الثورة قبل وقوعها.
هنالك يتقدم أخو الملك معلنا اغتباطه بهذا الزوج، ويسقط في يد الأميرة، فهي بين اثنتين: إما أن تتزوج الأمير الشاب وأنفه الكبير، وإما أن تتزوج الأمير الشيخ وسنه التي تشرف به على الهرم والفناء؛ فإن لم تقبل هذا ولا ذاك، فهو الدير، وهي مقتنعة بأن ليس لها بد من الهرب، فهي تأمر الضابط بأن يهيئ لها وسائل الفرار، والضابط كاره لذلك، فهو لم يرسل ليحتمل تبعات الحب الحر، وإنما أرسل ليكون خليلا لولية العهد، ثم خليلا للملكة حين يرقى زوجها الأمير إلى العرش.
ولكنه مع ذلك يظهر الطاعة ويسرع إلى الوزير فيظهره على جلية الأمر، ويطلب إليه أن يحتاط لمنعهما من الهرب، وقد خلت الأميرة إلى نفسها آخر الليل في غرفة من غرفات القصر، ولم تكد تدخل هذه الغرفة حتى رأت جماعة من التماثيل قد وضعت لها أنوف ضخام، وهي ثائرة فتضرب أنوف هذه التماثيل حتى تسقط وتنزع أنفها الصناعي وتمعن في البكاء.
ويمر الأمير فيسمع نحيبها فيدخل الغرفة، ولا يكاد ينظر إلى الفتاة ويرى أنفها الطبيعي الصغير الجميل، حتى يأخذه دهش، وإذا هو ينزع أنفه المستعار، وترى الفتاة فيه شابا أنيقا وسيما، وهو يعطف على الأميرة عطفا لا حد له، فقد عرف أنها مثله قد ابتليت بأنف صغير، وأنها تخفي هذه الآفة بأنفها الصناعي، فهو يحبها لأنها شريكته في هذه المحنة، فأنوف الناس كلهم كبار إلا أنفه هو، وهو من أجل ذلك مضطر إلى أن يتخذ هذا الأنف الصناعي ليخفي به عاهته.
وتحاول الأميرة أن تقنعه بأن أنوف الناس كلهم صغار ولكنه لا يقتنع، والمهم هو أنه أحبها لأن لها أنفا صغيرا كأنفه الذي كان يخفيه، وهي تحبه لأن له أنفا طبيعيا كأنوف غيره من الناس، ويقبل الضابط وقد هيأ للهرب كل شيء، ولكنها تعلن إليه أنها لن تقبل.
ثم نرى الجمع قد احتشد من غد لإمضاء عقد الزواج، ونرى عرش الملك مضطربا كما رأيناه من قبل، ونراه يسند بقطع الخشب، ونرى المائدة التي سيمضي عليها العقد مضطربة قد قصرت قوائمها، فما تزال تسند بقطع الخشب والمجلدات الضخام حتى تستقر وقد ارتفعت فلم يحتج الملك أن يجلس ليمضي العقد، وإنما هو يمضيه قائما متطاولا.
ثم تصدر الإشارة التي اتفق عليها فتلقى الأنوف الصناعية كلها ويظهر الناس بأنوفهم الطبيعية الصغار، ويطلب أخو الملك إلى الأمير الشاب أن يعتزل ولاية العهد؛ فما ينبغي لملك مورافيا أن يكون مشوه الخلق، وما ينبغي أن يملك على هذه الأرض من أكره الشعب في سبيله عشرين عاما على حمل هذه الأنوف المستعارة البشعة.
هنالك يلقي الأمير أنفه الصناعي ويظهر كما خلقه الله شابا وسيما جميل الأنف، فيضطرب الناس ويميلون إليه، ولكن أخا الملك يعلن أن هذا الفتى ليس ولي العهد؛ فقد ولد ولي العهد كبير الأنف، وأثبت الأطباء ذلك وصدر القانون بحمل الأنوف الكبار من أجل ذلك.
والملك نفسه دهش فهو يعلم أن ابنه ولد كبير الأنف، ولكن المرضع تعلن الحقيقة، وهي أن ابن الملك قد مات بعد ولادته بأشهر قليلة، وأن أمه الملكة التي ماتت منذ عشر سنين قد اتخذت مكان ابنها طفلا صغيرا، واتخذت له هذا الأنف الصناعي، فعلت ذلك كله حبا للملك وإشفاقا عليه أن تنتقل ولاية العهد من ذريته، فيورثه ذلك حزنا عظيما، وقد نهضت الأميرة فألقت أنفها الصناعي، وأعلنت أنها لن تتزوج إلا هذا الفتى، وأنها إن صرفت عنه فستؤثر الدير.
هنالك يتجه الملك إلى الشعب والأشراف سائلا: ماذا تريدون؟ أتريدون ملكا من الأسرة المالكة، أم تريدون ذهب القوقاز؟ فيتلقى الجواب الإجماعي بأن الشعب يريد مال القوقاز، ويعلن الملك أنه تبنى هذا الفتى؛ فأصبح أميرا شرعيا وليا للعهد.
وكذلك تنتهي هذه القصة، وقد عرضت عليك خلاصتها موجزة، ولم أعرض عليك شيئا من خصائصها الفنية التي تتصل بالإخراج والعرض، وتلائم السينما بوجه عام، وقد رأيت ما في هذه القصة من مغزى سياسي واجتماعي وخلقي، ورأيت أن جان بول سارتر قد استطاع أن يذيع في القصة الأولى من طريق الجد آراء فلسفية هي بعينها التي تؤلف فيها الكتب وتكتب فيها الفصول وتنشأ فيها المسرحيات، واستطاع في القصة الثانية أن يذيع من طريق الفكاهة آراء فلسفية ليست أقل خطرا من الآراء التي أذاعها في القصة الأولى من طريق الجد؛ فجد السينما وهزله كجد التمثيل وهزله، وكجد الكتاب والمقالة وهزلهما يمكن أن يكونا وسيلة من وسائل التصوير والتعبير التي تحقق الصلة المنتجة المجدية بين الجماعة وبين الأديب.
في الأدب الفرنسي (2)
الوباء
هذا كتاب أتيح له في العام الماضي من النجح، ما لم يتح لكتاب فرنسي منذ أعوام طويلة، أجمع النقاد الفرنسيون، أو كادوا يجمعون على الرضا عنه والإعجاب به، ولعله ظفر بأضخم طبعة عرفتها الكتب الفرنسية، منذ الحرب العالمية الثانية.
وقد قدمه ناشره لجائزة خطيرة من جوائز الأدب في فرنسا، وهي جائزة النقد، فظفر بها في غير مشقة، أو قل: ظفر بها في غير امتحان؛ فقد صرح بعض المحكمين للصحف بأنه صوت لهذا الكتاب دون أن يقرأه، لأنه يمنح مؤلفه ألبير كامو من حبه وثقته وإعجابه ما يعفيه من قراءة كتابه قبل أن يمنحه الجائزة.
ولست أدري إلى أي حد يسوغ هذا في قضية العقل، وفي قضية النقد الأدبي الصحيح، ولكنه على كل حال يدل على المكانة الرفيعة الممتازة التي يرقى إليها ألبير كامو في نفوس النقاد الفرنسيين، بل في نفوس الأدباء والمثقفين والمفكرين الفرنسيين بوجه عام.
وسيرة المؤلف أثناء الحرب هي التي رفعته إلى هذه المنزلة؛ فقد وفى لوطنه أثناء المحنة، كأحسن ما يفي الناس لأوطانهم، وكأحسن ما يفي المثقفون لأوطانهم، واحتمل في سبيل هذا الوفاء من الجهد والمشقة والعسر، ما لم يحتمله كثير من المثقفين الفرنسيين؛ ثم هو إلى ذلك نافذ البصيرة، دقيق الفطنة، صارم الرأي، مؤمن بالحرية، وبالحرية الواضحة الصريحة المستقيمة، التي لا تحب غموضا ولا التواء.
وهو بعد هذا كله، أو مع هذا كله، كاتب ممتاز، قد أخضع اللغة الفرنسية لسلطانه الصارم السمح معا؛ فبرع في الوصف إلى حيث لا يكاد يباريه أحد من معاصريه، وبرع في اليسر إلى حيث لا يشق فهمه على أحد، ثم هو بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ليس صاحب امتياز في البيان وحده، ولكنه صاحب امتياز في التفكير أيضا؛ فهو أديب بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها، وهو فيلسوف بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها أيضا، له محاولات رائعة في فهم الحياة وتفسيرها، وفي استكشاف الصلة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، وفي تفسير الوجود من حيث هو وجود، وفي تفسير المصير الذي أتيح للإنسان أن ينتهي إليه.
والمثقفون جميعا يعرفون مذهب ألبير كامو في العبث، وكثير منهم قرءوا دون شك كتابه الرائع المشهور أسطورة «سيزيف». وأسطورة هذا البطل اليوناني معروفة؛ فقد قضي عليه أن يظل في دار الموتى مقبلا على صخرة عظيمة، يرفعها من سفح الجبل إلى قمته، يلقى في ذلك الجهد والنصب والعناء، حتى إذا ارتقى بالصخرة إلى القمة رآها تدفع إلى الانحدار بقوة لا يملك لها ردا، حتى تصل إلى حيث كانت من القاع، ورأى نفسه مضطرا بحكم القضاء إلى أن يستأنف الجهد والنصب والعناء، فيدفع الصخرة ليرفعها إلى القمة، وما يزال يرقى بها إلى أعلى الجبل، وما تزال تنحدر به إلى القاع، إلى آخر الدهر، إن كان للدهر آخر.
فهذا الجهد الذي يبذله، وهذا النصب الذي يلقاه، وهذا العناء الذي يشقى به، عبث متصل ليست له غاية يقف عندها ولا حد ينتهي إليه، ولا غرض يبتغى منه.
والعالم عند ألبير كامو شيء يشبه هذا الجهد الذي يبذله البطل اليوناني في غير طائل، فليس للعالم غاية ينتهي إليها، ولا حد يقف عنده، ولا غرض يبتغى منه، وإنما هو ماض في هذا الوجود العابث إلى غير غاية، ولا أمد، وإلى آخر الدهر إن كان للدهر آخر.
والإنسان في هذا العالم مدفوع إلى مثل ما دفع إليه العالم، من هذا العبث الذي لا ينتهي إلى غاية، ولا يحقق غرضا، وليس بينه وبين غيره من الكائنات التي يأتلف منها العالم فرق إلا أن له شعورا وعقلا؛ فهو يحس الجهد العنيف الذي يبذله، ويجد النصب الناصب الذي يلقاه، ويأسى للعناء البغيض الذي يشقى به، ويحاول أن يفهم جهده ونصبه وعناءه، فلا يصل إلى شيء، أو يصل إلى ما يخيل إليه أنه حل للمشكلة، وتفسير للغز، ولكنه إذا تعمق ما يصل إليه من حل وتفسير لم يجد وراءه شيئا؛ فهو مصعد في الجبل دائما وأمامه صخرته تلك، وهو مصوب في الجبل دائما وأمامه صخرته تلك، وهو ينفق الدهر كله في تصعيد وتصويب تتابع أجياله على ذلك، رافعة للصخرة إلى القمة، منحدرة معها إلى القاع.
ومهما يفعل الإنسان فلن يستطيع أن يغير من هذا العبث شيئا، ولكنه مع ذلك حر في حدود هذا العبث، يستطيع أن يلائم بينه وبين نفسه، وأن يختار من أطوار الحياة والتفكير والعمل ما يريد، وأن يحقق ما يختار مما تساعده الظروف على تحقيقه.
يستطيع أن يؤثر لونا من الحياة على لون، وضربا من التفكير على ضرب، وفنا من التصرف على فن، ولكنه لا يستطيع أن يجعل للوجود غاية أو غرضا، ولا يستطيع أن يغير أنه دفع إلى الحياة غير مختار، وسيدفع إلى الموت غير مختار، فحريته محدودة بهذين النوعين من الجبر ، فليصطنع الحكمة إن شاء، وليصطنع الحمق إن أحب، فلن يخرج من هذه الحلقة المفرغة بحال من الأحوال.
ويمضي ألبير كامو في الملاءمة بين مذهبه هذا اليائس، وبين الحياة التي يحياها الناس على اختلافها وتباين منازلهم فيها وحظوظهم منها، ثم هو لا يكتفي بهذا الكتاب، ولكنه ينتقل بمذهبه هذا إلى القصص، وإلى التمثيل؛ فقصة الغريب، ومسرحية كاليجولا، وسوء التفاهم، ليست في حقيقة الأمر إلا محاولات للملاءمة بين هذا العبث الأساسي، وبين حرية الإنسان.
والكتاب الذي أتحدث عنه يعرض هذه المشكلة عرضا واضحا جليا، وهو من أجل ذلك يثير الرغبة كل الرغبة في البحث والجدل والاستقصاء.
ويجب أن أقول: إن العنوان الذي اتخذته لهذا الحديث، ليس هو العنوان الدقيق لهذا الكتاب؛ فعنوان الكتاب هو «الطاعون». وقد كرهت أن أجعل هذا اللفظ البشع عنوانا لهذا الحديث، وكنت أريد أن أتحدث إلى القارئ عن هذا الكتاب ، إثر عودتي من فرنسا، في أول الخريف الماضي، ولكني وجدت مصر موبوءة بالكوليرا، ووجدت حديث الوباء فيها شائعا مستفيضا، كما كان الوباء نفسه شائعا مستفيضا؛ فكرهت أن أتحدث عن الوباء، وأجلت الحديث إلى فرصة أخرى، ثم أنسيته، ثم شغلت عن تذكره حتى كان شهر مارس.
فإذا حديثان يلقيان إلى الجمهور المثقف باللغة الفرنسية عن هذا الكتاب، يلقيهما حبران جليلان من أحبار المسيحية الكاثوليكية، أحدهما: الأب زوندل، وقد ألقى حديثه في دار السلام، والآخر: الأب بونتيه، وقد ألقى حديثه في نادي الشبيبة.
وقد استمعت لهذين الحديثين، فذكرت ما كنت قد أنسيت، ورأيت أن أتحدث إلى قراء هذه المجلة عن هذا الكتاب، على نحو ما كنت أريد أن أتحدث إليهم عنه في الخريف، وليس غريبا أن يثير هذا الكتاب اهتمام المسيحيين، واهتمام أحبارهم خاصة، بل من الطبيعي أن يثير أحبار الديانات كلها؛ لأنه يضع موضع البحث مصير الإنسان من جهة، ويضع موضع البحث موقف العقل من الدين، أو موقف العقل من الإله من جهة أخرى.
وهو يضع هذه المشكلة وضعا صريحا في هذا الكتاب؛ لأنه ينطق حبرا من أحبار الكاثوليكية برأيه في الصلة بين الإنسان وخالقه، ثم ينطق فريقا من الذين لا يؤمنون بما ينقض آراء هذا الحبر المسيحي، ففي الكتاب شيء من التحدي لم يوجد في الكتب الأخرى التي عرض فيها ألبير كامو مذهبه هذا في الوجود.
ولاحظ قبل كل شيء أني قد قرأت هذا الكتاب أثناء الصيف الماضي، وأقبلت على قراءته مشغوفا بها، مشوقا إليها أشد الشوق؛ لأني أحب الكاتب وأعجب بفنه، ولكني لم أكد أمضي في قراءة الكتاب، حتى أدركني شيء من خيبة الأمل، ثم أخذت أضيق به وأمضي في قراءته كارها للمضي فيها.
ولو قد استجبت لميولي الأدبية لما أتممت قراءة الكتاب، ولكني لا أكاد أبدأ كتابا حتى أفرض على نفسي إتمامه، مهما يكن رضاي عنه، أو سخطي عليه، تفرض ذلك علي طبيعتي التي تحب الاستقصاء، وصناعتي التي تفرض علي الاستقصاء فرضا، وتدفعني إلى أن أتهم نفسي ولا أحفل بما يثور فيها من رضا أو سخط، ولا أجعل رضاها أو سخطها وسيلة إلى الحكم للكتاب أو الحكم عليه.
ومصدر هذا الضيق الذي وجدته أثناء هذه القراءة أن الكاتب أخلف ظني، فقد كنت أنتظر أن أقرأ آية أدبية ك «الغريب»، أو ك «اليجولا»، أو «سوء تفاهم»، أو كنت أنتظر أن أقرأ دراسة فلسفية متقنة كأسطورة سيزيف، فإذا أنا أمام شيء ليس هو بالقصص الخالص، ولا هو بالفلسفة الخالصة، وإنما هو محاولة لشيء بين ذلك، يريد أن تكون قصة تروع بالفن الأدبي فلا يبلغ ما يريد، ويريد أن يكون درسا يروع بدقة البحث وحسن الاستقصاء فلا يبلغ ما يريد.
وقد عرض علينا ألبير كامو في كتابه هذا مدينة بعينها هي مدينة وهران في الجزائر، تصور أنها قد امتحنت ذات يوم بوباء الطاعون؛ فهو يعرض علينا كيف استقبلت المدينة هذا الوباء شاكة فيه ساخرة منه أول الأمر، وكيف استقبلت هذا الوباء بعد أن انجلى الشك وأبانت الكارثة عن نفسها في غير غموض، فكان الذعر والهلع، وكان تردد الحكومة وتلكؤها وتقصيرها.
ثم كيف استقبلت المدينة هذا الوباء حين عظم أمره ، واشتد فتكه وأصبح خطره شنيعا، فقطعت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي، وضرب عليها حصار شديد قاس يمنع الخروج منها والدخول إليها، ويعزلها عن العالم عزلا تاما، لولا البرق الذي ينقل أطرافا من أخبارها إلى الدنيا، وينقل إليها أطرافا من أخبار الدنيا، ويتيح لبعض أهلها في كثير من المشقة والجهد، أن يتصلوا بذوي قرباهم في المواضع النائية عنهم.
وكل هذا التصوير صادق كل الصدق، دقيق كل الدقة، قد شهدناه إلى حد ما في الأشهر القليلة الماضية، وتصوير آخر لحال المدينة ليس أقل صدقا ولا دقة من هذا التصوير، وذلك حين يعرض الكاتب ما يكون من الصلة بين الحكومة وبين الشعب أثناء المحنة، فالحكومة في أول الأمر قد فوجئت بالكارثة، لم تكن تنتظرها ولم تكن قد استعدت لها؛ وهي من أجل ذلك تنكر الكارثة مخلصة، ثم متكلفة، ثم مكابرة، ثم تضطر إلى الاعتراف بما ليس بد من الاعتراف به، ثم تتخبط في مواجهة الكارثة، فيكثر خطؤها ويقل صوابها، ثم تلتجئ إلى العالم الخارجي تطلب منه المعونة والغوث، ثم تنتهي آخر الأمر إلى الحزم الجاد حتى يزول الوباء. وهي في أثناء هذا كله لا تقول للناس من أمر الكارثة وتطورها وفتكها وضحاياها إلا ما تريد هي أن تقول، وبين ما تقوله للناس وبين الحقائق الواقعة بون شاسع وأمد بعيد دائما.
وليست حال الشعب نفسه بخير من حال الحكومة؛ فالشعب يشك ثم ينكر، ثم يتكلف ثم يكابر، ثم يذعن للحقيقة الواقعة، ثم تختلف به المذاهب بعد ذلك، فأما الفقراء فيذعنون في غير مقاومة ويؤدون إلى الوباء ضريبته فادحة؛ وأما الأغنياء فيؤثرون أنفسهم بأسباب الوقاية والعلاج ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وأما أوساط الناس فيتذبذبون بين أولئك وهؤلاء بمقدار حظهم من اليسر وسعة ذات اليد، وقد حوصرت المدينة، وفرضت عليها الأحكام العرفية وقتر على أهلها في الرزق؛ فشقي الفقراء إلى غير حد، ونعم الأغنياء ما استطاعوا أن ينعموا، واضطرب أوساط الناس بين الشقاء والنعيم.
وتكشفت الأخلاق عن مكنونها، فكانت الأثرة، وكان الاحتكار، وكان ما ينشأ عنهما من التنافس والتباغض والاحتيال إلى آخر هذه الرذائل التي تتكشف عنها الإنسانية حين تلم بها الخطوب، وتلح عليها الكوارث.
وفي أثناء هذا الشر كله يظهر شيء من خير قليل، ولكنه قيم منتج قوي، يستطيع أن يقهر الشر شيئا فشيئا حتى يمحوه وحتى يطرد الوباء عن المدينة، ويرد الناس إلى ما ألفوا من حياة، أو يرد إلى الناس ما ألفوا من حياة. فهؤلاء الأطباء الذين يعرفون الوباء ويحققون خطره، ويصممون على مقاومته ما وسعتهم هذه المقاومة، لا يدخرون في سبيل ذلك جهدا، ولا يبخلون بقوتهم مهما تكن، ولا يترددون في التضحية براحتهم وأمنهم»، وفي التعرض للخطر مصبحين وممسين، ولا يبتغون على ذلك أجرا لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولأنهم يرون أن أجور الدنيا ليست بذات خطر ولا غناء، فهم أعداء الوباء لأنه الوباء، وهم حماة الحياة والصحة لأنهما الحياة والصحة، لا أكثر ولا أقل.
هذه هي الخلاصة الظاهرة للكتاب، وهي كما ترى يسيرة قريبة، لا عسر فيها ولا بعد، وهي كما ترى لا تدل على عمق في التفكير ولا على براعة في الابتكار، ولكن هذه الخلاصة الظاهرة ليست إلا أيسر ما في الكتاب، بل قل: إنها ليست إلا رمزا ضئيلا للحقيقة التي أراد إليها الكاتب حين ألف الكتاب؛ فهو لم يرد إلى مدينة وهران ولا إلى غيرها من المدن، وهو لم يقصد إلى الطاعون ولا إلى غيره من هذه الأوبئة التي تلم بالناس بين حين وحين، وإنما أراد إلى ما هو أعظم من ذلك شأنا، وأجل خطرا، وأكثر شمولا.
فمدينة وهران رمز لفرنسا وغيرها من البلاد الأوروبية التي اجتاحتها الحرب، واحتلها العدو وعزلها من العالم الخارجي عزلا تاما، والطاعون هو الحرب والاحتلال والبطش والنكال. والشعب الذي انقسم هذا الانقسام، وتفرقت طوائفه هذا التفرق، وتكشفت أخلاقه عن هذه السيئات الكثيرة والحسنات القليلة، واحتمل ما احتمل، وقاوم ما قاوم حتى انجلت عنه الغمرة، هو هذه الأمم التي اصطلت نار الحرب، وخضعت لنكر الاحتلال، والأطباء والمتطوعون الذين جاهدوا بأنفسهم وضحوا بحياتهم حتى جلوا هذه الغمرة، لم ينتظروا على ذلك أجرا هم قادة المقاومة وزعماء الجهاد.
بل إن هذه الحقيقة نفسها ليست إلا رمزا لحقيقة أخرى أعم منها وأكثر شمولا؛ فمدينة وهران ليست في حقيقة الأمر إلا الأرض كلها، وشعب وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الإنسانية كلها، وطاعون وهران ليس في حقيقة الأمر إلا الشر الذي يلم بالناس في جميع المواطن والعصور، وأطباء وهران ومتطوعوها ليسوا إلا المفكرين والمثقفين والمصلحين والفلاسفة، الذين يبذلون ما يملكون من جهد لوقاية الإنسانية وحمايتها مما يلم بها من الشر، ويصعب عليها من المكروه.
فالكتاب - كما ترى - يسير قريب في ظاهره، ولكنه أشد عمقا وأبعد مدى مما يخيل إلينا هذا اليسر؛ لأنه في أيسر صورتيه الرمزيتين، إنما يعرض جزءا غير صغير من العالم الذي اصطلى نار الحرب، وما ألم بهذا الجزء من الخطوب والمشكلات، وما بدا فيه من مظاهر الضعف والقوة وألوان الجبن والبطولة، وهو في أشد صورتيه عمقا وتعقيدا، إنما يضع قصة الإنسانية كلها موضع البحث، ويعرض قضية الخير والشر كلها على العقل، ويحاول أن يجد جوابا لهذا السؤال الذي تلقيه الإنسانية العاقلة على نفسها منذ عقلت، وهو: ما مصير الإنسان؟
وهنا يسأل القارئ نفسه قبل كل شيء: هل وفق الكاتب توفيقا أدبيا حين اختار هذا الرمز الضئيل النحيل لهذه المشكلة الكبيرة الخطيرة، وهي حال العالم الذي اصطلى نار الحرب؟ ثم هل وفق الكاتب توفيقا أدبيا حين اختار هذا الرمز الضئيل النحيل لهذه القضية الكبرى؛ قضية الإنسان بين الخير والشر، وقضية الإنسان بين العقل والدين؟
أما أنا فأعتقد أن التوفيق الأدبي قد أخطأه إلى حد بعيد، لا لأن الرمز ضئيل نحيل، فمن طبيعة الرمز أن يكون ضئيلا نحيلا بالقياس إلى ما يرمز إليه الكاتب من المسائل الكبرى والمشكلات الضخام، ولكن لأن هذا الرمز الضئيل النحيل قد احتاج إلى تفصيل كثير لا يلائم ضآلته ونحولته؛ فمدينة وهران قد فجأها الطاعون كما أن العالم قد فجأته الحرب، ومدينة وهران قد شقيت بالطاعون، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهلها من خصال الخير والشر، كما أن جزءا من العالم قد شقي بالحرب التي أذلته، وأظهر هذا الشقاء ما في نفوس أهله من خصال أهله من الذلة والعزة، والضعف والقوة والخور والجلد، والأثرة والإيثار.
كل هذا حق لا شك فيه، ولكن دقائق الرمز قد احتاجت إلى إغراق في التفصيل، أخرجه عن أن يكون رمزا؛ فوصف الطاعون وصفا مفصلا، يصور أعراض العلة ومظاهرها وتطورها، ودقائق علاجها وأعقابها وعقابيلها، وآثارها في نفوس القريبين منها والبعيدين عنها، كل ذلك يبعدنا عن الرمز ليغرقنا في دقائق الحياة الخاصة؛ فنحن في مدينة قد ألم بها الطاعون وألح عليها، ونحن مشغولون بهذه المدينة البائسة المعذبة، وبهذا الوباء الذي تفصل دقائقه تفصيلا، عن التفكير في أوروبا المغلوبة على أمرها، الممتحنة بالبطش والعسف والاحتلال.
بل نحن مصروفون إلى هذه المدينة البائسة المعذبة، وما تلقى من هذه الأهوال اليومية الذي تفصل دقائقها تفصيلا، عن التفكير في الإنسانية حين يلم بها الشر وتدلهم من حولها الخطوب، لولا أن الكاتب يضطرنا إلى هذا التفكير بما يدير حول بعض الأشخاص من حوار يتجاوز المحنة الخاصة إلى الشر العام، وبما يسجل هو من ملاحظات تتجاوز مدينة وهران ومحنتها، إلى طبيعة الحياة الإنسانية وما يختلف عليها من الكوارث والأحداث.
فالقارئ قلق مضطرب متردد لا يدري أهو بإزاء رمز مجمل يشير إلى أحداث خطيرة وقضايا عويصة، أم هو بإزاء قضية بعينها لا يريد الكاتب أن يبعد به عنها، وإنما يريد أن يتعمقها معه تعمقا، وهي امتحان وهران بهذا الوباء.
ذلك أن الكاتب أراد أن يكون موضوعيا - كما يقال - فجعل نفسه قاصا يروي أحداثا سجلها أثناء هذه المحنة، وقد برأ نفسه من الذاتية التي تجعل للعواطف والأهواء والميول والفن أثرا أي أثر فيما يروي من الأحداث.
وهذا النوع من تكلف الإعراض عن الفن والإلحاح في الرواية الموضوعية، قد يكون في نفسه فنا رائعا، ولكن الكاتب لم يحسنه، فقصصه ممل في كثير من المواضع كأنه يتكلف شيئا لا يتقنه، وهو من أجل هذا يثقل على القارئ بعض الشيء، وما أحب أن أظلم الكاتب، فقد ينبغي أن أسجل أنه برع البراعة كلها في القسم الأول من كتابه، فأنشأ البيئة الفنية أحسن إنشاء وأجوده.
وقد تحدث إلي غير قارئ من الفرنسيين في باريس عن هذا الكتاب حين بدأت قراءته؛ فقال لي غير واحد منهم: لن تستطيع أن تفتن بالكتاب قبل أن تفرغ من ثلثه الأول، ولكني فرغت من ثلثه الأول والثاني والثالث، ونظرت فإذا أنا مفتون بثلثه الأول دون ثلثيه الأخيرين؛ ذلك لأن الكاتب أرسل نفسه على سجيتها حين ابتدأ كتابه؛ فهذا طبيب يخرج من منزله في طابق من الدار الكبيرة التي يسكنها، فيرى في الدهليز فأرا ميتا، ويلفت البواب إلى مكانه؛ فيغضب البواب لأن داره نظيفة لا يمكن أن يوجد فيها فأر ميت.
ثم تمضي الأحداث في يسر يسير على هذا النحو، حتى يعود الطبيب ذات يوم، فإذا البواب يعترف بكثرة الجرذان التي تموت، ثم يعود ذات يوم فإذا البواب نفسه عليل؛ فيحاول علاجه؛ حتى إذا ثقل نقله إلى المستشفى، فمات في أثناء الطريق، كل هذا يصور ابتداء رائعا لكتاب يريد أن يصف إلمام الطاعون بمدينة من المدن، وأمر هذا الطبيب والبواب ليس إلا مثلا؛ ففي المدينة قوم آخرون يمرون بالجرذان الميتة، فينكرون ثم يرتابون ثم يذعرون، والحكومة تتنبه شيئا فشيئا، فتنكر وترتاب وتذعر، وتحاول أن تهدئ الشعب، ثم ترى نفسها أمام الحقيقة الواقعة، فتأخذ الشعب بالقوة والحزم.
وهذا كله يذكر القارئ بما كان من نذر الحرب الأخيرة حين كانت الأحداث اليسيرة تحدث فيلتفت إليها أصحاب الأنظار البعيدة، ويعرض عنها أصحاب الأنظار القصيرة، وتكون الحكومات بين هؤلاء، ولكن الأحداث الصغيرة تكثر وتنتشر، كما تكثر الجرذان الميتة وتنتشر، فيكون الشك، ثم يكون الخوف، ثم يكون الذعر، ثم تكون مواجهة الحقيقة الواقعة البشعة.
ولو أن الكاتب مضى في سائر كتابه على النحو الذي مضى عليه في أوله لأهدى إلينا كتابا رائعا، ولكنه لم يلبث أن تعثر في التفصيلات والدقائق الخاصة، فأفسد الكتاب على نفسه وعلينا جميعا .
وأخرى لا بد من تسجيلها رعاية لما ينبغي من الإنصاف؛ فقد صور الكاتب جماعة من أشخاص الكتاب تصويرا دقيقا صادقا حقا، فهذا الطبيب الذي رأى الجرذ الميت، وسبق إلى الإنذار بوباء الطاعون، واستقبل الجهاد في ثبات وأناة، وتضحية وتواضع لا ينتظر أجرا، ولا يريد إلا أن يقهر الوباء وينقذ الحياة من شره، وهذا الصحفي الذي فجأه الوباء في المدينة، وهم أن يخرج منها ليلحق بمن يحب، واحتال في هذا الخروج وبذل فيه الممكن وغير الممكن من الجهد، فلما استيأس من ترك المدينة أقبل على الطبيب، فتطوع للجهاد وأبلى فيه أحسن البلاء.
وهذا الشاب الطموح إلى المثل العليا ذو الآمال البعيدة والأماني العراض، والذي أقبل متطوعا فأشاع الحماسة من حوله، ونظم الجهاد فأحسن تنظيمه، ومضى بعد الانتصار ضحية أخيرة للوباء، وهذا الموظف المتواضع الذي يداعب الغرور الفني، ويحاول في سذاجة أن يكون كاتبا يضع قصة غرامية يتعزى بها عما أصابه من المحن، ويتقنها حتى يرقى بها إلى أرفع منازل الفن، والذي يترك هذه القصة في يسر وفي غير تكلف ليعنى بالجهاد حتى يبلي فيه أحسن البلاء، لا يشعر بأنه يجاهد، ولا بأنه يضحي، ولا بأنه يتعرض للخطر، وإنما يشعر بأنه يؤدي واجب التضامن الاجتماعي في أيسر اليسر. كل هؤلاء الأشخاص وأشخاص آخرون قد صورهم الكاتب فأجاد تصويرهم وبرع فيه، ولكنهم يظهرون في أثناء هذا الكتاب، كأنهم الواحة التي يرتاح إليها القارئ بين حين وحين، وكأن القصة من حولهم طريق وعرة مضنية، لا يمضي القارئ فيها إلا متكرها يحتاج إلى أن يستريح.
هذه هي الناحية الأدبية لهذا الكتاب، وهي أيسر الناحيتين بالقياس إلى الكاتب من جهة، وإلى القارئ من جهة أخرى، وإلى التفكير الفلسفي من جهة خاصة، فقد يمكن أن يقال: إن الكاتب لم يرد إلى إنشاء قصة بالمعنى الذي ألفه الناس، وقد يمكن أن يقال: إن القراء جميعا ليسوا من العسر بحيث يحاسبون الكاتب حسابا يسيرا أو عسيرا، على ما أتيح له وما لم يتح له من التوفيق.
فأما الناحية الفلسفية فهي الغاية التي من أجلها كتب الكتاب، وهي لا تحتمل تسامحا ولا تهاونا ولا تفريطا، فالدقة فيها هي الأصل، واستقامة التفكير شرط أساسي لكل فلسفة، وقد قدمت أني لست مقتنعا، بل إني بعيد كل البعد عن الاقتناع بالمذهب الفلسفي العام لألبير كامو، وهو مذهب العبث.
ويخيل إلي بعد ذلك أنه لم يوفق في عرض مذهبه في هذا الكتاب، وأحب قبل كل شيء أن ألاحظ شيئا من التحكم دفع الكاتب إليه حين أراد أن يبين موقف الإنسان بين العقل والدين؛ فهو قد أنشأ شخصا جعله حبرا من أحبار اليسوعيين، وأنطقه بما ظن أنه يصور مذهب أصحاب الديانات فيما يلم بالإنسان من الشر، ثم مضى بعد ذلك ينكر ما قاله هذا الحبر اليسوعي، مخيلا أو معتقدا أنه بالرد على هذا الحبر يرد على أصحاب الديانات جميعا.
وهذا الحبر اليسوعي قد أنشأه ألبير كامو نفسه بالطبع، وأنطقه بما أراد أن ينطقه به، وأكاد أعتقد أنه لم يخلص من بعض الظلم حين صنع حبره على هذا النحو، وحين أنطقه بما أنطقه به من القول، وآية ذلك أن أحبار المسيحيين أنفسهم ينكرون هذا الحبر الذي صنعه ألبير كامو، ويراه بعضهم مسرفا على الدين، ويراه بعضهم خارجا على الدين.
وخلاصة ما يقوله الحبر للمؤمنين الذين أقبلوا يستمعون إليه في الكنيسة، أنهم يمتحنون بكارثة خطيرة كبيرة، وأنهم أهل لما ألم بهم من هذه الكارثة؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم بمعصية الله والخلاف عن أمره، فهو يعاقبهم بما يصب عليهم من الهول، ويجب عليهم أن يتلقوا هذا العقاب راضين به مذعنين له مطمئنين إليه، تائبين إلى الله مما أسرفوا على أنفسهم في الخطايا والموبقات.
فالإله عند هذا الحبر الذي صنعه ألبير كامو سيد متكبر متجبر عزيز منتقم، يضع الإنسان أمام سيئاته دون أن يفتح له بابا من أبواب الرحمة، أو يمسه بجناح من الرفق، وهو يأخذ البريء بذنب المسيء، ويعاقب الصغار بذنوب الكبار، كذلك صور هذا الحبر موقف الإنسان من إلهه موقف العبد الخاضع المذعن الذي يجب أن يمعن في الخضوع والإذعان، من السيد الكبير المتجبر الذي يستطيع أن يمعن في الجبرية والكبرياء.
وواضح أن الذين لا يؤمنون من الملحدين ينكرون هذا الإله المتكبر المتجبر، ويرون أن في كبريائه وجبريته قسوة عنيفة، وغلظة غليظة، وتجافيا عن العدل؛ فما ذنب الأطفال الذين عذبهم الطاعون وهم لم يعصوا للإله أمرا ولم يخالفوا عن قانونه؛ لأنهم لم يعرفوا هذا القانون ولم يبلغوا سن التكليف.
ومن يكفل أن يكون الثواب الذي يدخره هذا الإله لمن يدخره له من الناس قائما على العدل، ما دام العقاب فيما يرون ليس قائما على العدل؛ فالمتكبر المتجبر قادر على أن يتحكم فيما يدخر للناس من مثوبة، كما يتحكم فيما يصب عليهم من عقوبة.
وهم من أجل ذلك لا يؤمنون بهذه الصلة التي لا تقوم على العدل، ولا على الحرية، وإذا كانوا لا يعرفون طريقا إلى الإله غير هذه الطريق التي رسمها الدين، كما صوره هذا الحبر، فهم لا يؤمنون بشيء بعد الطبيعة، وهم من أجل ذلك يعملون لا ينتظرون على عملهم أجرا في الآخرة؛ لأنهم لا يعرفون الآخرة.
كما أنهم لا يخافون عقوبة في الآخرة إن لم يعملوا؛ لأنهم لا يعرفون الآخرة، وهم من أجل ذلك يمضون في محاولة الخير إلى أقصى غاية ممكنة، حتى يقول بعضهم لبعض: أليس من الممكن أن يصير بعض الناس قديسا مدنيا، دون أن يؤمن بالله الذي يتلقى القديسين بما أعد لهم من أجر ومثوبة، فيما يقول رجال الدين؟
كذلك عرض ألبير كامو هذه المشكلة عرضا يظهر فيه التحكم والسذاجة كما ترى؛ فأما التحكم فلأن حبره هذا ليس من الضروري أن يكون قد نطق بلسان أصحاب الديانات، فأحسن الإعراب عنهم، وآية ذلك أن رجال الدين أنفسهم ينكرونه، وآية ذلك بوجه خاص أن الديانات السماوية كلها لا تحدثنا على الإله المتكبر المتجبر المنتقم الباطش فحسب، ولكنها تحدثنا كذلك عن الإله الرحمن الرحيم العفو الغفور الذي يقبل الحسنة، ويتوب على المذنب، وتسع رحمته كل شيء وكل إنسان.
فمن التحكم إذن والتعسف أن يقال: إن صلة الإله بالإنسان هي صلة السيد المتجبر المتكبر بالعبد الذي يجب أن يذعن ويستكين ليس غير. وإنما الديانات تقول إنها كذلك صلة القوي الرحيم بالضعيف الذي يحتاج إلى الرحمة.
وأخص ما يؤخذ به ألبير كامو من التحكم في هذه القضية أنه ما زال يفكر بعقل القرن التاسع عشر حين كان هذا العقل ثملا مغرورا لكثرة ما استكشف من العلم وابتكر من المخترعات، حتى ظن أنه قد عرف كل شيء وأحاط بكل شيء، وأصبح قادرا على أن يحكم على كل شيء، ويقول كلمته في كل شيء.
ولكن العقل فيما يظهر قد ثاب إلى شيء من الرشد والتواضع منذ أواخر القرن الماضي، وقد استبان له أنه ما دام يعترف بأنه يجهل من حقائق هذا العالم أكثر مما يعلم، وبأنه يستكشف من حقائق هذا العالم قليلا، ويستكشفها في كثير من الحذر والاحتياط، فمن الجراءة أن ينكر ما عدا هذا العالم، وأن يقول فيما ليس له به علم، وما ليس له سبيل إلى القول فيه.
فهو لم يعرف الإله، ولم يستطع أن يجد الطريق إلى معرفته من طريق الحس والتجربة والملاحظة، كما يعرف ما يعرف من حقائقه العلمية، ولكنه يلاحظ - في غير شك - أن من الناس من يسلك إلى معرفة الإله طرقا غير طرق الحس والتجربة والملاحظة، ويجد في سلوك هذه الطرق رضا وأمنا وثقة واطمئنانا؛ فأيسر ما تفرضه عليه الدقة أن يقف موقف الانتظار، لا يتجاوزه إلى الجحود والإنكار، فضلا عن أن يتجاوزه إلى موقف الحكم على ما يوصف به الإله من صفات، وما يصدر عنه من أعمال.
فكل هذا تجاوز للقصد وخروج على قوانين العقل نفسه؛ فالعقل لا يحكم إلا عن علم، ومتى أخطأه العلم وجب عليه أن ينتظر؛ فالذين يعدون أطوارهم، ويصفون الإله بالقسوة والعنف أو بالغلظة والظلم، لا يسرفون عن أنفسهم فحسب، وإنما يدفعونها إلى السخف والهذيان؛ لأنهم يقولون عن غير علم، ويحكمون عن غير بصيرة.
وما من شك في أن الذين يعملون الصالحات لا يبتغون بها إلا الخير، ولا ينتظرون عليها أجرا في الدنيا والآخرة قوم أخيار من حق الإنسانية لنفسها أن تكبرهم وتتخذهم أسوة وقدوة في حب الخير والسعي إليه والجد فيه، غير مبتغية عليه جزاء ولا شكورا.
ولكن ليس من شك في أننا لا نعلم مصير هؤلاء الأخيار، كما أننا لا نعلم مصير الأشرار بالعقل؛ لأن العقل لا يعرف مما بعد الطبيعة شيئا.
وإذا كان الأمر كذلك بالقياس إلى هذه القضية، فمذهب العبث كله معرض لهذا النقد نفسه؛ لأن من الجراءة والإسراف في الكبرياء والغرور أن يقول إنسان لست أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضا، فيجب أن يكون هذا الوجود عبثا، وإنما الذي يجب أن يقال: لست أعرف لهذا الوجود غاية ولا حكمة ولا غرضا، فيجب أن أنتظر لعلي أستكشف أنا، أو لعل غيري أن يستكشف لهذا الوجود حكمة وغاية وغرضا.
والشيء المحقق هو: أن مذهب العبث هذا، لون من ألوان اليأس الذي تدفع الإنسانية إليه، حين تشتد عليها الأزمات، وتأخذها الخطوب والأهوال من جميع وجوهها.
وقد عرفت الإنسانية هذا اليأس في كثير من عصورها المختلفة التي تعرضت فيها لأنواع الهول، وعرفت ما نشأ عن هذا اليأس من مذاهب الشك والتشاؤم والجموح، ومهما يكن من شيء فلو لم يكن لهذا الكتاب إلا أنه يدعو قارئه إلى أن يفكر ويطيل التفكير في مسائل ليست هي من هذه الهنات اليومية، التي تملك عليه أمره وتفسد عليه حياته، لكان خليقا أن يقدر ويقرأ في إعجاب بصاحبه واعتراف له بالجميل؛ لأنه يرفعنا من طور الحياة اليومية السخيفة، إلى طور التفكير في المشكلات العليا، وما أقل ما يرقى بنا إلى هذا الطور من التفكير الرفيع في هذه الأيام!
حول رسائل سيسرون
لست في حاجة إلى أن أعرف إليك سيسرون، كما ينطق به الفرنسيون، أو تشتشيرون، كما ينطق به الإيطاليون، أو كيكيرون، كما ينطق به اللاتينيون فيما يقال. فهو زعيم الخطابة اللاتينية غير منازع، وهو الزعيم الثاني للخطابة العالمية غير منازع أيضا بعد ديموستين الخطيب اليوناني العظيم.
والعلم بمكانته في الخطابة ، وبمكانته في السياسة، وبمكانته في الفلسفة، وبمركزه الممتاز في حياة الجمهورية الرومانية، وجهاده في الاحتفاظ بهذه الجمهورية، وموته في هذا الجهاد، من أوليات الثقافة التي تلقى إلى الشباب في مدارسهم الثانوية، ولكني مع ذلك سأحدثك عن سيسرون لأعرض عليك منه صورة أقل ما توصف به أنها مخالفة كل المخالفة لما توارثت الأجيال من أمره منذ عشرين قرنا.
ولست أنا الذي أستكشف هذه الصورة أو أبتكرها، فلست من هذا كله في شيء، وإنما الذي استكشف هذه الصورة وعرضها على الناس، عالم فرنسي عظيم، هو الأستاذ جيروم كاركوبينو عضو المجمع العلمي الفرنسي ومدير مدرسة المعلمين العليا في باريس سابقا، والذي امتحن امتحانا قاسيا أثناء الحرب الأخيرة؛ لأنه تولى وزارة التربية الوطنية في حكومة الماريشال بيتان، فخرج من هذا الامتحان نقيا رضيا، وهو يعرض علينا هذه الصورة في كتاب ضخم يأتلف من مجلدين، وتنيف صفحاته على تسعمائة صفحة.
وقد ظهر هذا الكتاب في أوائل هذا العام، فتلقاه النقاد أحسن لقاء، وقدموه إلى القراء تقديما مختلفا؛ فمنهم من قدمه تقديما فيه شيء من دعابة وعبث، ومنهم من قدمه تقديما فيه شيء من غضب وغيظ، ولكن الكتاب أرفع مكانة من عبث العابثين، وغضب الغاضبين؛ لأنه آية من آيات البحث العلمي الرفيع بأدق معاني هذه الكلمة وأعمقها وأوسعها في وقت واحد.
فأما الذين قدموا الكتاب في شيء من دعابة، فهم النقاد الأدباء الذين ورثوا عن الأجيال هذه الصورة التقليدية لسيسرون، وأقاموا حياتهم الثقافية عليها، وشقوا أثناء التعلم والطلب بما كان الأساتذة يفرضون عليهم من ترجمة النصوص التي تركها هذا الكاتب العظيم.
فهؤلاء قد نشأوا على أن سيسرون هو الصورة الصادقة للجد الذي ليس بعده جد، والحزم الذي ليس بعده حزم، والارتفاع عن صغائر الأمور، والتنزه عما يشين رجل الصدق.
وهو الذي تولى منصب القضاء الأعلى في الجمهورية، فكان أنزه القضاة وأعفهم وأكرمهم وأحرصهم على العدل وأشدهم توخيا للإنصاف، وتولى رياسة الجمهورية، فكان حازما صارما، بعيد النظر نافذ البصيرة، سديد الرأي، منقذا للوطن من شر عظيم.
وتولى الحكم في أحد الأقاليم، فكان مثالا ممتازا للنزاهة والعدل والصرامة، والضرب على أيدي الذين يستغلون أهل الأقاليم ويستذلونهم ويتخذون أموالهم معونة بينهم، كما كان عمر بن الخطاب رحمه الله يقول.
واشتغل بين ذلك كله بالمحاماة، فكان أفصح المحامين لسانا، وأرفعهم بيانا، وأمضاهم حجة، وأبعدهم عما يجانب كرامة المحاماة، وأرحمهم للضعيف، وأرأفهم بالمظلوم، وكان إلى هذا كله أستاذا ممتازا من أساتذة البيان، وفيلسوفا موفقا، وحكيما مهذبا، معتدل الرأي، معتدل السيرة، معتدل المزاج.
وقد امتحنت الجمهورية الرومانية بدكتاتورية قيصر، وطغيان أنطوان، واستبداد أوكتاف، فقاوم الدكتاتورية والطغيان والاستبداد بيده ولسانه وقلبه، ولقي حتفه في هذه المقاومة حين ائتلف الطاغيتان أنطوان وأوكتاف، وأهدرت بهذا الائتلاف دماء كثير من أعلام الجمهورية وأنصار النظام الموروث.
هذه هي الصورة التي توارثتها الأجيال عن سيسرون منذ ألفي عام، والتي نشأ عليها الأدباء والمعلمون والمتعلمون والمؤرخون، فلما ظهر هذا الكتاب، وعرض على الناس صورة مخالفة لهذه الصورة كل المخالفة، لم يملك بعض النقاد نفسه، فتلقى الكتاب وقدمه إلى الناس في دعابة شامتة أو شماتة مداعبة.
وكتب الأستاذ إميل هنريو عضو المجمع اللغوي الفرنسي، في جريدة «الموند» يظهر شماتته هذه المتفكهة المداعبة، بهذا الكاتب العظيم الذي أشقى الشباب وما زال يشقيهم بنصوصه العسيرة، وأشقى الناس وما زال يشقيهم بسيرته القاسية الصارمة، وجده المروع البشع.
ثم هو يظهر الآن بفضل هذا الكتاب رجلا من الناس، فيه ما في الناس من ضعف، وفيه ما فيهم من عيوب، وأما العلماء والمؤرخون منهم خاصة، فقد ضاقوا بهذه الصورة التي تغض من هذا الرجل الذي توارثت الأجيال رفعته وامتيازه.
وكتب الأستاذ مارو في جريدة «الموند» الأسبوعية يقول: «إن سيسرون رجل مكذوب عليه.» والشيء الذي لا شك فيه، هو أن الشامتين بسيسرون والغاضبين له، إنما أظهروا ما أظهروا من الشماتة والغضب؛ لأنهم لم ينظروا في الكتاب إلا أيسر النظر وأقله تعمقا واستقصاء.
فالكتاب - كما رأيت آنفا - ضخم توشك صفحاته أن تبلغ الألف، وهو على ذلك كتاب علم، قد التزم صاحبه دقائق المنهج التاريخي في عرض ما أراد عرضه من الحقائق، وحل ما أراد حله من المشكلات، وقراءته ليست يسيرة ولا هينة، وهي تحتاج إلى كثير من الأناة والصبر وحسن التأني.
والحكم له أو عليه لا ينبغي أن يصدر إلا بعد هذه القراءة المستأنية المستقصية الصابرة، التي لا تحتاج إلى الأيام، وإنما تحتاج إلى الأسابيع، والتي لا تكتفي بنفسها وإنما تكلف القارئ كثيرا من مراجعة النصوص وامتحان الأحكام التي يصدرها المؤلف بالرجوع إلى ما يستشهد به من المصادر، وهذه المصادر كثيرة مختلفة، منها القديم والحديث، ومنها ما كتب باللاتينية وما كتب باليونانية، ومنها ما كتب في اللغات الحية على اختلافها.
ولست أزعم أني قد نهضت بهذه القراءة المستأنية المستبصرة، ولكني لست أزعم كذلك أني سأحكم لهذا الكتاب أو أحكم عليه، فلست أحسن هذا العلم، ولست أبيح لنفسي أن أحكم بين المختصمين فيه، وإنما أنا رجل متواضع، معتدل المذهب والرأي والغاية، لا أريد إلا إلى شيء يسير جدا، هو أن أعرض على قراء العربية لونا من ألوان البحث الذي يفرغ له بعض الناس في أوروبا وأمريكا، وينفقون فيه حياتهم، وينعمون إن أتيح لهم أن ينفقوا حياتهم فيه، ويجدون بعد ذلك جماعة من أكفائهم يتلقون ما يكتبون بالنقد والبحث فينكرون ويعرفون، وجماعات أخرى من عامة المثقفين يتلقون ما يكتبون على أنه غذاء للعقول والقلوب، ومتاع يستريحون إليه مما يملأ حياتهم من الهموم والخطوب.
وأنا أرجو أن يكون في إظهار قرائنا على هذا اللون من ألوان البحث ما يغري شبابنا بالدرس الهادئ المستأني الذي تخلص النية فيه للعلم وحده، والذي لا تلتمس به منفعة قريبة أو بعيدة، ولا تبتغى به شهرة واسعة أو ضيقة، وإنما يقصد به إلى هذه المتعة العليا، متعة المعرفة الخالصة التي تكشف الحق وتصحح التاريخ.
وينبغي أن أعرض هذا الكتاب مبتدئا من آخره لا من أوله، ذلك أجدر أن يجعل فهمه يسيرا، والعلم به محببا إلى النفوس.
فنحن في أواسط القرن الأول قبل المسيح حين لم يبق من هذا القرن إلا ثلثه، وقد تم الائتلاف بين أوكتاف وأنطوان على الاستئثار بأمر الجمهورية الرومانية وأقاليمها، وذهب في سبيل هذا الائتلاف كثير من أنصار الجمهورية، مات بعضهم في الحرب ومات بعضهم بأمر المؤتلفين، الذي صدر إما عن رغبة في الانتقام، وإما عن رغبة في تثبيت النظام الجديد.
وكان سيسرون من الذين قاوموا النظام الجديد، بل كان على رأس المدبرين لهذه المقاومة في مجلس الشيوخ، عن أمره كانت جيوش الجمهورية تصدر في مقاومتها للطغاة والمستأثرين في البر والبحر وفي الشرق والغرب.
فلما تم الائتلاف وأتيح الانتصار للمؤتلفين، أهدر دم سيسرون فيما أهدر من الدماء، فقتل سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح، وكان لسيسرون صديق حميم، أحبه منذ عهد الصبا، ودرس العلم معه أثناء الشباب، ثم تفرقت بهما طرق الحياة، فمضى سيسرون في طريق السياسة، ومضى صديقه أتيكوس في طريق المال.
وامتاز كل من الرجلين فيما اختار لنفسه من طريق، فامتاز سيسرون في السياسة حتى أصبح في بعض أوقاته رئيسا للجمهورية، وظل في أكثر حياته زعيما للديمقراطية المعتدلة، وامتاز أتيكوس في المال حتى أصبح أضخم أهل روما ثراء وأوسعهم غناء، وأعظمهم من أجل ذلك سلطانا على الأغنياء والفقراء جميعا.
ولكن الرجلين على هذا التفرق احتفظا بالمودة الخالصة والصداقة الصافية، واشتركا بحكم هذه المودة، في حب العلم والأدب والفن، وهذا الترف الرفيع الذي يتصل بحياة العقول والقلوب، وقد ورث أتيكوس عن أسرته ثروة ضخمة، فلم يكد يجاوز طور الطلب حتى فرغ لهذه الثروة يدبرها ويثمرها وينميها، وأقام بينه وبين السياسة سورا كثيفا حرم على نفسه أن يعبره أو ينفذ منه، وحرم على السياسة أن تنفذ إليه مهما تحدث الأحداث ومهما تكن الخطوب.
وهو من أجل ذلك يهجر مدينة روما حين تعصف بها الثورة السياسية في أيام سولا، ويعبر البحر إلى بلاد اليونان؛ فيقيم في أتينا وفي غيرها من المدن اليونانية ما شاء الله أن يقيم، حتى إذا هدأت الثورة واستقرت الأمور عاد إلى روما وقد أضاف إلى ثرائه ثراء، وإلى علمه علما، وقد استقر في نفوس الساسة أنه ليس من السياسة في شيء، وأنه لا يريد أن يكون منها في شيء، وإنما هو رجل مال وعلم، لا يريد أن يزيد على المال والعلم شيئا.
وهو من أجل ذلك صديق للساسة جميعا مهما تكن أحزابهم، ومهما يحسنوا أو يسيئوا، ومهما تختلف بهم الظروف، قد زهد في مناصب الحكم فتركها لهم، وزهد في مجلس الشيوخ فتركه لهم، وزهد في الطبقة الأرستقراطية الممتازة فتركها للذين يسعون إليها من أصحاب الطمع والطموح، وقنع بأن يثمر ثروته، وينشئ في روما وفي الأقاليم مصرفا هو أعظم المصارف وأكثرها تشعبا وأكثرها عملاء.
فهو يقرض المحتاجين إلى أن يقترضوا، ويدبر لأصحاب الثراء ثراءهم، ويحفظ على أصحاب الأموال أموالهم، يعتدل فيما يأخذ على القروض من فائدة، ويسخو فيما يرد على أصحاب الأموال من ربح، ويكفل بذلك لنفسه حب الموسرين والمعسرين جميعا.
وقد شغف أتيكوس بالفلسفة والأدب والفن، فلم يلبث أن شغف بالكتب وجعل يجمعها وينشئ لنفسه خزانة كتب ممتازة، ويسرت له ذلك إقامته في بلاد اليونان وثروته الضخمة، فجعل يجمع المخطوطات القديمة ونفائس الآثار ما وجد إلى ذلك سبيلا.
وانتقل بهذا كله إلى روما، ودعا الناس إلى داره، فرأوا وقرءوا وأعجبوا، وأحبوا أن يكون لهم مثل ما رأوا من آيات الأدب والفن والفلسفة، وما هي إلا أن يصبح أتيكوس خبيرا يشير على المثقفين والمترفين، ثم وسيطا يشتري لهم من الكتب والآثار وطرائف الفن ما يريدون، وعنده كتب كثيرة نادرة ليس من اليسير أن تقتنى، وهو لا يعير شيئا من كتبه، فالناس مخيرون بين أن يسعوا إلى داره لينظروا في هذه الكتب، وبين أن يستنسخوا هذه الكتب إن أرادوا أن يملكوها.
وإذا أتيكوس يؤلف جماعة من الرقيق المثقفين، منهم من أتقن تنظيم خزانات الكتب والقيام عليها، ومنهم من أتقن النسخ والمراجعة والمعارضة، وإذا هو قد أنشأ دارا للنشر عظيمة الخطر في روما، يعمل فيها النساخ والمراجعون ينسخون للأدباء ما يحتاجون إلى استنساخه من الكتب، ويسبقون إلى نسخ طائفة من الكتب اليونانية واللاتينية تشتد إليها حاجة القراء.
وما هي إلا أن تتسع دار النشر هذه، فلا تكتفي بنسخ القديم وإذاعته، وإنما تضيف إلى ذلك نشر الآثار التي ينشئها المحدثون، وإذا هذه الدار قد أصبحت أشبه شيء بدور النشر الحديثة التي نعرفها الآن، لا يكاد الشاعر ينشئ ديوانا ولا يكاد الكاتب يؤلف كتابا حتى يدفعه إلى أتيكوس، فإذا هو ينسخ وينشر، لا في روما وحدها، بل في إيطاليا، ثم في الأقاليم الرومانية في الشرق والغرب.
وكذلك أصبح أتيكوس أكبر رجال المال في روما، ويسر له ذلك الاتصال برجال السياسة على اختلاف أحزابهم وبأكبر رجال النشر القديم والحديث، ويسر له ذلك الاتصال برجال الثقافة على اختلاف أحزابهم أيضا.
وإذ كان سيسرون من الممتازين في السياسة والثقافة جميعا - وسنرى أنه كان من الممتازين في المال أيضا - فقد اتصلت الأسباب الوثيقة اليومية بينه وبين أتيكوس، وقد أشرت آنفا إلى أنهما كانا صديقين منذ أيام الطلب في عهد الصبا والشباب ، فقد زادت صداقتهما قوة وتوثقا على مر الأيام وتعاقب الأحداث، ومن المحقق أن أتيكوس كان أشد الناس بسيسرون صلة، وأدناهم منه مكانة، وأعرفهم بدخائل أمره كلها، سواء منها ما يتصل بالحياة العامة وما يتصل بالحياة الخاصة في أدق خفاياها.
وكان أتيكوس قد أحب مذهب أبيقور واتخذه لنفسه دينا، وتأثرت به حياته العقلية، كما تأثرت به سيرته اليومية أشد التأثر وأقواه، والقراء يعلمون أن أخص ما يمتاز به مذهب أبيقور من الناحية الخلقية، هو أن يجعل اللذة غاية الغايات للإنسان، ويرى أن هذه اللذة لا تخلص ولا تستقيم لطلابها إلا إذا برئت من الألم، فلم تعقبه ولم تورط فيه.
فالرجل الحكيم في هذا المذهب خليق قبل كل شيء أن يتجنب الألم ما وجد إلى ذلك سبيلا، وأن يبتغي اللذة ما وجد إليها سبيلا أيضا، وإذا كانت اللذات في أكثر الأحيان مصادر للألم ودوافع إليه، فالرجل الحكيم خليق أن يتجنب اللذات نفسها ليتجنب ما تعقب من الألم.
وخير للرجل الحكيم أن يفرض على نفسه حياة غليظة ساذجة فيها شيء من شظف وقسوة، من أن يقبل على الحياة الهينة اللينة ويستجيب للمغريات، فيستمتع بلذات كثيرة تدفعه إلى آلام كثيرة.
ومذهب أبيقور يمتاز كذلك بأنه حرر الإنسان من خوف الموت وما يمكن أن يكون بعد الموت؛ فالآلهة لا يحفلون بالإنسان ولا يسألونه عن عمله، ولا يجزونه بالخير خيرا ولا بالشر شرا، وإنما الإنسان مسئول عن نفسه أمام نفسه أثناء الحياة، فإذا أدركه الموت فقد عاد إلى العدم الذي خرج منه حين دخل الحياة.
وإذن فليس للإنسان أن يفكر إلا في حياته هذه التي يحياها، يلتمس فيها لنفسه الخير والمنفعة، ويصرف فيها عن نفسه الشر والمضرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. والصداقة نفسها عرض من أعراض هذه الحياة، لا تلتمس لنفسها، وإنما تلتمس لما تتيح للإنسان من لذة ومنفعة؛ فالإنسان خليق أن يلتمسها ويستمسك بها ما أتاحت له لذة ومنفعة، وهو خليق أن يجتنبها ويتخلص منها إن عرضته لشر أو ضر، وهو خليق ألا يحفل بها ولا يلتفت إليها إن لم تغن عنه شيئا.
كذلك كانت الصداقة التي ادخرها أتيكوس لخليله الوفي الحميم سيسرون، صداقة قوية متينة ما جلبت له نفعا ولذة، وكان سيسرون مصدرا للذة والنفع جميعا، مصدرا للنفع لمكانه من السياسة والسلطان، ومصدرا للذة لمكانه من الثقافة العليا، وما امتاز به من رقة الشمائل وعذوبة الحديث، وجمال المحضر والمغيب.
ومن أجل ذلك كان الرجلان يلتقيان في كل يوم إن أتيح لهما اللقاء، فإن حيل بينهما وبينه عمدا إلى الرسائل تغنيهما عن هذا اللقاء، ولم يقف الأمر بين الرجلين عند هذه الصداقة، وإنما نشأت بينهما صلات المصاهرة، فتزوج كنتوس سيسرون أخو أديبنا العظيم من بونبونيا أخت أتيكوس مالينا العظيم أيضا.
فليس من الغريب أن يلجأ سيسرون إلى صديقه وصاحب صهره في كل ما ينوبه من الأمر؛ فهو مدبر ثروته ومستشاره في السياسة، وناشر كتبه ومنظم مكتبته، والداخل في الجليل واليسير من أمره كله، حتى يقتل سيسرون في أواخر سنة ثلاث وأربعين قبل المسيح.
وقد يسأل القارئ: ما حاجتنا إلى هذا التفصيل الطويل؟ فلينتظر قليلا، فستظهر الحاجة إلى هذا التفصيل واضحة كل الوضوح ، بعد أن نضيف له تفصيلا آخر يتصل بحياة أتيكوس نفسه، فقد أشرت إلى تأثره بمذهب أبيقور، واضطراره بحكم هذا المذهب إلى أن يتجنب الانغماس في الترف واللذة، وقد دفعه ذلك إلى أن يعيش أعزب دهرا من حياته، ثم اختار لنفسه زوجا ليست ممتازة الطبقة، وإنما هي من أسرة ضئيلة فقيرة ليست بذات خطر، ورزق من هذا الزواج طفلة لم يمنحها من عنايته إلا مقدارا معتدلا.
ولكن ثراءه وحياده وثقافته وامتياز مكانته في روما، كل ذلك قرب منه أوكتاف، حين استقامت له الأمور وأصبح مستأثرا مع أنطوان بالسلطان الروماني، وإذا هو صديق لأتيكوس، وإذا هو يتجاوز الصداقة إلى الصهر، فيصبح حفيده ختنا لأتيكوس، وحفيده هذا هو الذي سيخلف أوغسطس على عرش الإمبراطورية الرومانية، بعد موته، وسيسمى تيبيريوس.
هذه الصلات التي توثقت بين أوكتاف عظيم السياسة الرومانية، وأتيكوس عظيم المال الروماني، هي التي دفعت أتيكوس إلى نشر الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون، والتي اتخذها الأستاذ جيروم كاكوبينو موضوعا لكتابه، واستخرج منها الصورة الجديدة لسيسرون، فأثارت ما أثارت من الرضا والسخط ومن الوفاق والخلاف.
والفكرة الأساسية لهذا الكتاب، وهي التي لم يلتفت إليها النقاد الأدباء لأنها تعني العلم أكثر مما تعني الأدب، هي أولا أن رسائل سيسرون إنما نشرت في عهد أوكتاف قبل أن ينفرد بالحكم، وأثناء التنافس الشديد بينه وبين أنطوان، وأنها نشرت بواسطة أتيكوس، وصدرت عن داره تلك التي أشرنا إليها منذ حين، ونشرت على دفعتين؛ إحداهما: بين سنة خمس وثلاثين واثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون لأتيكوس.
والثانية: سنة اثنتين وثلاثين قبل المسيح، وهي تشتمل على الرسائل الخاصة التي كتبها سيسرون إلى ابنه وأخيه وصديقه بروتوس ونفر آخرين من الأصدقاء.
فأما الجزء الأول من هذه الرسائل، فقد نشر دفاعا عن أوكتاف وأنطوان اللذين قتلا سيسرون. وأما الجزء الثاني فقد نشر مبالغة في إذاعة الدعوة لأوكتاف حين اشتدت الخصومة والمنافسة بينه وبين أنطوان.
وكان سيسرون ضحية لنشر الجزأين جميعا، فهو نشر قصد به إلى السياسة لا إلى الأدب، وإلى الغض من سيسرون لا إلى التنويه بذكره والإحسان إليه، قصد بالجزء الأول إلى إظهار ما امتلأت به حياة سيسرون من الاضطراب الشديد الذي يتصل بالسياسة، ويتصل بالمال، ويتصل بالأخلاق، ليتبين الناس أن الذين قتلوا سيسرون لم يقتلوا فيلسوفا مصلحا عظيما ممتازا في خلقه وسيرته ورأيه، وإنما قتلوا سياسيا متقلبا مسرفا في التقلب، أنفق حياته كلها ملتمسا لمنفعته الخاصة القريبة الحقيرة، مخادعا للناس عن نفسه وعن آرائه وعن سيرته.
فهو يزعم أنه أنقذ الجمهورية حين كان رئيسا لها من خطر الثورة، مع أن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه كان صديقا لكاتلينا زعيم الثورة، ولم يهاجمه إلا حين عجز عن أن ينتفع به.
وهو يزعم أنه كان نصيرا للنظام الجمهوري حين ظهر يوليوس قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تقرب إلى قيصر حتى ظفر منه بالعطف والعفو والأمن، وظل يتملقه ما استقامت له الأمور، فلما قتل شمت بقتله وابتهج لموته، وظاهر قاتليه.
وهو يزعم أنه نصير للنظام الجمهوري بعد مقتل قيصر، ولكن كتبه الخاصة تعترف عليه بأنه تملق أنطوان ما وسعه التملق، وتملق أوكتاف ما وجد إلى تملقه سبيلا؛ فإذا كان أوكتاف وأنطوان قد قتلاه لأنه تنكر لهما قبل ائتلافهما، فهما لم يزيدا على أن قتلا خصما سياسيا كاد لهما وألب عليهما، وجد في حربهما بعد أن كان لهما صديقا يبتغي إلى مودتهما الوسائل.
فحبه للنظام الجمهوري كذب إذن؛ لأنه لم يحب إلا نفسه ولم يبتغ إلا منفعته، وأخلاقه لم تكن ذات خطر؛ فقد كان شرها إلى المال، تعترف عليه كتبه بأنه ارتشى من قيصر أولا ومن غير قيصر ثانيا، وبأنه ملك في روما وخارج روما ثماني عشرة دارا، من تلك الدور الفخمة التي كان الأغنياء الرومانيون يملكونها، وكانت قيمة تلك الدور نحو عشرين مليونا من الدراخمات.
وكان مسرفا شديد الإسراف، يدفعه الإسراف إلى الإعسار أحيانا، ويدفعه الإعسار إلى التماس المال من غير وجهه، فهو يطلق امرأته التي عاشت معه خمسة وثلاثين عاما، وولدت له ابنه ماركوس وابنته توليا؛ لسبب واحد وهي أن امرأته لم تمكنه من ثروتها حين احتاج إلى هذه الثروة، فيطلقها، ويتزوج - وقد قارب الستين - فتاة في العشرين من عمرها لا لشيء إلا لثروتها، وهو يدفع ابنته إلى الزواج والطلاق ثلاث مرات للمال وحده، حتى تموت البائسة حزنا.
ثم هو يزعم أنه محام نزيه، حريص على كرامة المهنة، ولكن نزاهته هذه ظاهرة لا تثبت أمام البحث والتمحيص؛ فقد كان قانون المحاماة يحظر على المحامين أن يأخذوا من موكليهم أجورا لما ينهضون به من أعباء الدفاع عنهم أمام القضاء.
وكان سيسرون نفسه يخاصم بعض زملائه، ويزعم أنهم يتقاضون هذه الأجور التي يحظرها القانون، ولكنه هو نفسه كان يتقاضى أجره من موكليه بطرق ملتوية لا تلائم النزاهة ولا الشرف؛ فكتبه تشهد عليه بأنه كان يتفق مع موكليه مشافهة على أن يهدوا إليه الهدايا بعد أن يكسب لهم قضاياهم .
وكانت هذه الهدايا تحمل إليه، ولم تكن يسيرة ولا هينة، وإنما كانت ضخمة عظيمة الخطر، فهو مثلا قد ترافع عن أهل صقلية حين اتهموا حاكمهم بالإسراف عليهم في البغي والظلم، فلما ربح لهم قضيتهم أهدوا إليه سفنا كثيرة قد شحنت قمحا، وكانت روما في حاجة إلى القمح، وكان سيسرون يرشح نفسه للانتخاب في منصب من مناصب الدولة، فما هي إلا أن يوزع القمح على أهل روما وينجح في الانتخاب.
وترافع مرة عن أحد موكليه فأهدى إليه بعد أن ربح القضية خزانة كتب كاملة كان يملكها في بلاد اليونان، واحتاج نقلها مما وراء البحر إلى جهد عظيم وعناء كثير، ثم هو كان يزعم أنه رجل شريف في سيرته السياسية، وفي كل ما يتصل بالانتخاب خاصة، ولكن كتبه تشهد عليه بأن سياسته لم تكن إلا مداورة ومصانعة، وأنه كان يصطنع من إفساد الانتخاب، برشوة الناخبين وأخذ أصواتهم بالترغيب مرة وبالترهيب مرة أخرى، ما كان يصطنعه غيره من المرشحين لمناصب الدولة.
وكان بعد هذا كله، ينصح في كتبه وخطبه بالقصد والاعتدال وإيثار الشظف والخشونة، ولكن رسائله الخاصة تشهد عليه بأنه كان مترفا مسرفا في الترف، يغلو في حب المظاهر، ولا يطمئن إلا إذا نال من مظاهر الثروة والرفعة ما يلائم غروره الذي لا حد له.
وكان على هذا كله شجاعا في القول جبانا في السيرة، يخاف حتى من ظله، ويتملق رغبة في التملق وخوفا على حياته وإيثارا لعافيته، ثم يسخر من هذا كله في رسائله الخاصة؛ لأنه لم يكن يريد إلا أن يحيا ويستمتع بالحياة.
وكان يخاصم الحكام المرتشين ويعرضهم للقضاء عليهم بالغرامات، ولكن كتبه تعترف عليه بأنه حين تولى الحكم في بعض الأقاليم أظهر سيرة حسنة ورفقا بالرعية، ولكنه أضمر مكرا وقسوة، واستغل منصبه استغلالا منكرا.
كل هذه الخصال والآثام تشهد بها الرسائل الخاصة التي أرسلها إلى صديقه أتيكوس، وقد ارتفعت بينهما الكلفة وزال بينهما الحرج، فأفضى كل منهما إلى صاحبه بذات نفسه في غير تحفظ ولا احتياط.
وواضح جدا أن نشر هذه الرسائل بأمر أوكتاف إن قصد به إلى شيء فإنما يقصد به الكيد لسيسرون بعد موته، وإلى الإذاعة التي تظهر من ثنائه على قيصر وأوكتاف وأنطوان ما كان يخفي؛ ليعلم الجمهوريون أنه لم يكن زعيما مخلصا صادقا، وإنما كان طالب منفعة وصاحب رياء.
أما الجزء الثاني من رسائل سيسرون فقد اشترك في نشره ماركوس بن سيسرون وتيرون مولاه، وأشرف على عملهما أتيكوس نفسه، وهو يشتمل على رسائله إلى أعضاء أسرته، وإلى بعض أصدقائه، وإلى بروتوس منهم خاصة، وفي هذه الكتب ذم أي ذم لأنطوان وتحريض عليه، وثناء على قيصر وأوكتاف، وإظهار لتلون سيسرون في السياسة من جهة، ولضعفه وغفلته من جهة أخرى.
فواضح أن نشر هذه الرسائل يؤيد سياسة أوكتاف ويؤلب الناس على أنطوان، وقد نشرت هذه الرسائل بالضبط في الوقت الذي كان الخصمان فيه يتهيآن للحرب التي انتصر فيها أوكتاف.
وهنا تثار مسألتان خطيرتان؛ إحداهما: تتصل بالتاريخ قبل كل شيء، وهي إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى هذه النظرية التي تجعل إذاعة هذه الرسائل مظهرا من مظاهر نشر الدعوة السياسية؟ والجواب عن هذا السؤال يسير ولكنه رائع حقا؛ فقد أظهر الأستاذ كاركوبينو أن السياسة الدكتاتورية في عهد قيصر وابنه أوكتاف، لم تكن أقل مهارة ولا براعة ولا افتنانا في نشر الدعوة من سياسة الدكتاتورية في العصر الحديث؛ فقد ابتكر قيصر لأول مرة في التاريخ، إنشاء الصحيفة اليومية التي تعلن في روما وتذاع في إيطاليا، وترسل إلى الحكام في الأقاليم، ويقرأ الناس فيها الحوادث التي تجد في كل يوم.
وبهذه الطريقة ابتكر قيصر السيطرة على العقول من طريق القراءة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ابتكر قيصر كذلك البلاغات الرسمية التي تعلن إلى الناس أنباء الحرب كما تحب الحكومة أن تعلنها.
ثم ابتكر الرقابة على ما يقرأ الناس من الكتب في المكاتب العامة، فلم يكن يسمح لكتاب أن يعرض للقراءة إلا إذا أقره السلطان وأذن بقراءته ورضي عما فيه، وليس أدل على أن رسائل سيسرون إنما نشرت لإذاعة الدعوة من أن ردود أتيكوس عليها لم تنشر، ومن أن أتيكوس قد ظفر بالحظوة كل الحظوة عند أوكتاف، حتى أصبح صهرا للأسرة الإمبراطورية، ومن أن ماركوس بن سيسرون قد ظفر بالأمن بعد أن كان طريدا أهدر دمه، ثم ظفر بالحظوة عند أوكتاف، حتى بلغ المناصب الرفيعة في الدولة، واستمتع بحياة لاهية مترفة كان يحب الفراغ لها أيام أبيه.
أما المسألة الثانية: فهي إلى أي حد يمكن الاطمئنان إلى أن أتيكوس قد خان صديقه بعد موته على هذا النحو البشع، وإلى أن ماركوس قد خان أباه بعد موته على هذا النحو البشع أيضا؟ فأما أتيكوس فقد رأيت أن مذهبه في الأخلاق كان يعفيه من إثم هذه الخيانة؛ فقد كان سيسرون صديقه حين كان حيا يرتجي نفعه ويتقي شره، فأما بعد أن مات، فقد دخل في العدم المطلق الذي لا يرتجى من أهله خير، ولا يتقى منهم شر.
وليس على أتيكوس بأس أمام مذهبه الخلقي من أن يخون ميتا ليخدم حيا، هو المستأثر بالسلطان الذي يملك النفع كل النفع والضر كل الضر، ويتحكم في حياة الأحياء.
وأما ماركوس فقد كان منذ شبابه الأول صاحب مجون ولهو وفراغ، فهو ضعيف الطبع قصير الهمة، وهو بعد مدين بحياته لأوكتاف، فكيف إذا أضاف أوكتاف إلى حياته شيئا غير قليل من الشرف والترف والجاه؟!
والناس بعد ذلك هم الناس، في أكثرهم الضعف والخور والتهالك والأثرة، وغير هذا كله من الخصال التي تغري بالمكر والغدر، وتدفع إلى الخيانة والإثم، وتورط في أشياء كثيرة تأباها الأخلاق المكتوبة التي يقررها الفلاسفة ويدعو إليها المصلحون، وتجيزها السيرة العاملة، تجاهر بها أحيانا، وتخافت بها أحيانا أخرى، وتلتمس لها دائما ما يقبل وما لا يقبل من التعلات والمعاذير.
أما أنا فقد أنفقت في قراءة هذا الكتاب أسابيع، ووجدت في هذه القراءة فنونا من الأدب والسياسة والتاريخ وفلسفة الأخلاق، ولم تثر هذه القراءة في نفسي شماتة بسيسرون ولا رحمة له ولا إشفاقا عليه؛ فما يضر الموتى أن يشمت بهم الشامتون، ولا ينفعهم أن يشفق عليهم المشفقون، وقد كان سيسرون رجلا من معاصريه، فيه ما في معاصريه من خصال الخير والشر، امتاز من معاصريه بتفوق عقله وقلبه ولسانه، وفرض من أجل ذلك نفسه على الإنسانية كلها إلى آخر الدهر.
والمثقفون يقرءون أطرافا من حياة قيصر وابنه أوكتاف، ثم لا يلبثون أن ينسوا ما قرءوا، ولكن المدارس والجامعات ستكون عقول الصبية والشباب بأدب سيسرون، وليس المهم أن يكون سيسرون رجلا خيرا أو شريرا، وإنما المهم أن يكون سيسرون قد ترك من الآثار ما ينفع الناس.
ثم إن قراءتي لهذا الكتاب لم تثر في نفسي شيئا من السخط قليلا أو كثيرا، على الذين خاصموا سيسرون في حياته، أو خانوه بعد موته؛ فالناس دائما هم الناس، فيهم شر كثير وخير قليل، ولم يصلوا بعد ذلك إلى العصر الذهبي الذي يصبحون فيه أخيارا أطهارا لا يجد الشر إليهم سبيلا.
وإنما الذي أرضاني كل الرضا، وأمتعني كل الإمتاع، وعزى نفسي عما تمتلئ به الحياة الواقعة اليومية، هو التفكير في هذا الأستاذ الشيخ الذي لم تصرفه الأحداث الخطيرة التي يمتحن بها العالم منذ سنين، والتي امتحن بها وطنه أعسر الامتحان وأقساه، والتي امتحن بها هو في ذات نفسه امتحانا أليما، لم تصرفه هذه الأحداث عن أن يفرغ لرسائل سيسرون، فيدرسها هذا الدرس، ويخرج لنا هذا الكتاب الذي إن صور شيئا فإنما يصور الشجاعة والصبر والجلد والتجرد للعلم الخالص، والفراغ لاستكشاف الحق من حيث هو حق، مهما تكن الأحداث والخطوب والظروف. فأما دقة البحث وحسن الاستقصاء وجو الاستنباط، فإنما هي خصال العلماء، وصاحب هذا الكتاب عالم ممتاز بين العلماء.
Unknown page